الأربعاء، 29 مارس 2017

أنا لست المرأة العربية التي تعتقدون *


بقلم: سحر خليفة
ترجمة : سعيد بوخليط

البقاء ضمن إطار صورة الكائن الحقير،المتداولة إعلاميا،حكم على المرأة العربية، وهي متوارية خلف برقع أو تشادور،بتحمل ثقل التقاليد .تؤكد الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة في هذه المقالة،بأن الغرب ساند الإسلاميين بهدف تحطيم القومية التقدمية،على حساب المكتسبات النسائية.   
كما هو معروف جدا في الثقافة العربية وكذا ثقافات أخرى كثيرة،فالمرأة بمثابة الجنس الضعيف،والجنس الآخر،والجنس المتقلب، والجنس الذي لا يرث شيئا،ولو مجرد اسم العائلة،الجنس الذي يمكنه أن يحمل الخَلَف أو العار .لقد استقبلت أسرتي ولادتي بالدموع.كنتُ الفتاة الخامسة ضمن أفرادها،أو خيبة الأمل الخامسة،ثم بالنسبة لأمي،الإخفاق الخامس.
باعتباري فتاة عربية،فقد مررت من مراحل مختلفة.وتحولت نتيجة تأثيرات معينة مع إسهامي في تطورات المجتمع.حاليا،حتى الأسر العربية الأكثر محافظة تبعث بفتياتها إلى المدرسة.ثم أصبحنا بفضل تكوينهن مدرسات، طبيبات، مهندسات، صيدليات، كاتبات،صحافيات، موسيقيات أو فنانات.هكذا،ظهر فيما بعد،  أن الكثير من هؤلاء لاغنى عنهن بالنسبة للجماعة، بل أكثر قوة وخلقا وأهمية من الرجال.   
مع ذلك، يقدمنا الإعلام الغربي مثل كائنات مرعبة مغطاة بتشادور، تكتسي أقنعة جلدية غريبة ،مثلما يقبعن في حريم يختفين وراء حجابهن.أتساءل لماذا ينظرون إلينا على هذا النحو،وقد  وُضعنا ضمن إطار حقيقة أحادية المعنى ودائمة.هل تعتقدون حقا أننا خُلقنا مختلفات عن باقي النوع النسائي،عاجزات عن التغيير؟
في المدرسة،كان لدي مدرسا ممجدا باستمرار ل''التغيير''حاول تنويع  مقام ودلالة الكلمة حسب تجليات الحقيقة العربية التي يتطرق إليها :إعادة توزيع الثروات،وضعية النساء أو الأنظمة السياسية العتيقة.لقد حظي باحترام وتقدير من طرف أفراد محيطي،وتوخى الصغار الاقتداء به،بينما ظل الكبار على استعداد لإخفائه عندما تطارده الشرطة.
لم يكن هذا الأستاذ الرائع الوحيد الذي تكلم عن التغيير والعدالة.أغلب الأشخاص المتعلمين آمنوا بأفكاره ودافعوا عنها.على شاكلته تماما،تعرض آلاف الأشخاص المتنورين للملاحقة البوليسية أو تعفنوا في سجون الأنظمة المدعومة التي تدعمها وتسندها القوة الانجليزية،والفرنسية،ثم الأمريكية. 
عرفت القومية العربية عصرها الذهبي سنوات 1950و1960 ، شوارعنا الثائرة طافحة بآمال التغيير.تبنينا أفقا متمردا ونقديا نحو أنظمتنا السوسيو-سياسية التقليدية  .وتلاقت المثل العليا للحرية والعدالة الاجتماعية في أدبنا،ومسرحنا، وأغانينا،وموسيقانا،بل وامتدت إلى التعابير التي نستعملها في حياتنا العادية.لقد استلهمت ثقافتنا كل آداب العالم.فغمرت خزاناتنا وأزقتنا كتب تدعو إلى الحرية،والثورة أو التغيير : الأدب الوجودي،الاشتراكي،الزنجي..
حماسة مست الجميع،بما في ذلك القرويين الأميين وكذا النساء، اللواتي شرعن يخرجن دون ارتداء الحجاب.عشرات الآلاف منهن تابعن دراساتهن الجامعية،وانخرط بعضهن في صفوف أحزاب سياسية.ليس فقط تخلين تماما عن الحجاب،لكنهن كذلك ارتدين كنزة بدون أكمام وتنورة قصيرة.أيضا من المدهش أن يتجلى هذا،بحيث رقصنا على موسيقى الروك أندرول والتويست،على الرغم من كراهيتنا للغربيين،فقد سعينا كي نعيش مثلهم شريطة عدم سيطرتهم علينا.
مناخ مثالي تبدد حينما تمكنت إسرائيل،بمساندة من الغرب هزم القائد المصري جمال عبد الناصر سنة 1967 .هزيمة لها دلالتها فيما يتعلق بحركتنا الوطنية وقناعاتنا الاشتراكية،فرصة استغلها الأمريكيون وحلفاؤهم في المنطقة.فقدموا سندا قويا للإسلاميين بهدف خنق القومية التقدمية،مقابل ملايين الدولارات.النتيجة، الصعود النافذ للإخوان المسلمون،في غفلة عن الشعب الذي لم يكن يكترث بهم.وضعية منطقتنا إبان سنوات1970 و1980 تشبه كثيرا وضعية أفغانستان حينما دعم الأمريكيون الإسلاميين، لاسيما أسامة بن لادن، بشكل قوي،قصد تصديهم للشيوعيين.  
المؤسسات والإعلام الغربيين،سواء تعلق الأمر بالصحافة المكتوبة أو التلفيزيون،السينما أو الجامعات،تفترض بأن المرأة العربية عاجزة على التنفس أو التفكير تحت تشادور أسود،مجرد طيف يتحرك هائما وسط فراغ مثل ساحرة أو شبح مفزع.لباس هذا الكائن كما نجسده أمام أنظارهم يسمى :''زيا إسلاميا''.مع ذلك،أنا مقتنعة بكونه لاإسلاميا ولاعربيا.
تضع أمي على رأسها قطعة قماش أسود اللون يغطي تقريبا وجهها وشعرها.أما ما تبقى من لباسها فقد شمل تنورة أو فستانا بسيطا يصل إلى ركبتيها،وسِترة قصيرة ترسم صدرها وقوامها،بعيدا عن ما نعتبره حاليا "لباسا إسلاميا"،الذي جعل جسد المرأة كيسا يفتقد شكلا واضحا ،وكتلة مظلمة ثم عمودا أسود.
بداية سنوات 1950 ،انضمت أمي إلى حركة السفور،برفقة العديد من نساء جيلها.انتمى بعضهن مثلها إلى الطبقات المتوسطة للمدن العربية الكبرى،بينما انحدر بعضهن الآخر من أوساط تحظى بامتيازات أقل منتميات إلى مدن صغيرة جدا.يكفي استحضار تسجيلات الحفلات الفنية للمغنية المصرية أم كلثوم أو فنانين آخرين من نفس الحقبة كي نلاحظ غياب أي امرأة بين الجمهور ارتدت هذا الزي المضحك .
الاحتلال الاسرائيلي المشؤوم لفلسطين سنة 1948أحدث تدهورا على مستوى الوضعية الاقتصادية وكان له تأثيرا صادما على حياة النساء.آلاف النساء اللواتي فقدن أراضيهن، ومنازلهن،وسقط أزواجهن صرعى في المعركة،أرغمن كي يبتعدن عن محيط الشأن المنزلي ويغادرن وجهة العمل أو الدراسة.هكذا بدأنا نشاهد آلافا من الشابات الفلسطينيات المتعلمات يسافرن دون غطاء حجاب،ويعشن وحيدات بغير زوج،واحتفظن مع ذلك على تقدير أقاربهن ومجتمعهن :يتكفلن بمتطلبات أسرهن ذات الدخل الهزيل.لقد تطرقتٌ إلى وصف وضعهن في روايتي :الميراث(1997).مع مرور الوقت،لم يتم التسليم بأمرهن بل وأكثر عايننا إشرافهن على مصاريف الدراسات الجامعية لأخواتهن الصغيرات في مصر، سوريا ولبنان، وبفضل ذلك استطعن الحصول على شهادات في الطب والصيدلية والهندسة والقانون وكذا مجالات أخرى.هؤلاء النسوة المتميزات، المتصفات بالشجاعة والمنفتحات على العالم وضعن أسس موجة من التحرر النسائي والمجتمعي.
لكن، مباشرة بعد الهزيمة ضد إسرائيل سنة 1967،تحالفت أنظمة عربية ديكتاتورية،معادية للاشتراكية تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية،مع جماعات إسلامية أصولية، تمولها بسخاء.مثلا، كل من ارتدى، ''اللباس الإسلامي''الشهير يحصل على منحة شهرية تقارب 15 دينار أردني (19يورو)بالنسبة للرجل ثم 10 بالنسبة للأنثى.سيتباهى الرجل بلحية طويلة غير مشذبة،مرتديا جلابية قصيرة وصندلة من الجلد، أما المرأة، فمنديل فضفاض على الرأس وجلباب طويل يمتد إلى أصابع رجليها.يظهر جميعهم ،حاملا لسبحة، ونسخة بهية من القرآن ثم سجادة جميلة للصلاة.  
شرعت، التنظيمات الإسلامية تستهدف الشباب الذين أبانوا سلفا عن قدرات قيادية ويمارسون تأثيرا على الآخرين.كما توخت كذلك الوصول إلى النساء في المنزل.ثم انصب اهتمامهم على المساجد، والمدارس والجامعات.كل ذلك لايمكنه الاشتغال دون دعم – المالي أساسا- الأنظمة العربية التي أبانت عن ولائها،بل إذعانها، للولايات المتحدة الأمريكية بالانحياز إلى جانب استراتجيتها،أملا في أن يتمكن الإسلاميون من القضاء على الاشتراكيين والتقدميين داخل مجتمعاتهم.
مع ذلك، لم يقف الأصوليون عند مستوى فرض ملابسهم، وكذا مرتباتهم الشهرية وأمكنة لقاءاتهم.بهدف استمالة العقول منذ المدرسة الابتدائية والإعدادية،سيعين قبل الجميع في وظائف التدريس إسلاميون،رجال أو نساء،بالتالي منحهم وظيفة ترسيخ إيديولوجيتهم في نفسية وفكر التلاميذ. من أجل هذه التربية،خضع المراهقون لنظام يلقنهم التدريب العسكري والفنون القتالية، وسط مخيمات أقيمت في الصحاري العربية وكذا أفغانستان وباكستان.
لكنها سخرية القدر،عندما أدركت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها طبيعة الفخ الذي نصبته لنفسها،فقد أصبح الشر أمرا قائما،وتطلعت التنظيمات الأصولية إلى إقامة نظام إسلامي معارض للغرب.  
نجتاز حاليا أزمة فكرية واجتماعية وسياسية.إننا نواجه تهديدات على جميع المستويات دون معرفة أي التهديدين التاليين أكثر شراسة :من جهة، الغرب،الذي عانينا أصلا من تلاعباته واستغلاله واستعماره،ثم ثانية الحركة الإسلامية حيث ستعود بنا ادعاءاتها المُبْتدعة إلى عهد الاضطهاد وعصر الحريم.بمفاهيم ثانية،لنا الاختيار بين غرب مرادف للحرية،والعلمانية والعلم،لكن أيضا الاستعمار.ومن جانب آخر،إسلام شرس يدعو إلى التصدي للغرب،لكنه يعادي العلم والحداثة والتحرر النسائي والاجتماعي.   
لايقتصر هذا السديم العام  على منطقتنا،بل يمس الغرب نفسه.بالتالي صار الحجاب و تشادور ضمن أشياء تثير خوفه واشمئزازه إلى درجة أن بعض بلدانه حظرت اللباس الإسلامي وارتداء الحجاب داخل المدارس وفي الفضاءات العمومية.ثم بدؤوا إذلالنا من خلال أحكام قبلية عنصرية. 
فيما يخصني،أخبر المتقاسمين لهذه الرؤية الضيقة أننا أكثر قربا منهم مما يتخيلون .لانكرر القول بأن الكون صار قرية؟ نتدفق نحوكم بأمواج بشرية ونتكسر على شطآنكم.مهما فعلتم بهدف وضع حد للهجرة،فإننا سنعثر باستمرار على الوسائل بغية الوصول إليكم،ونقهر مختلف العقبات التي تضعونها أمامنا كي نعلن عن حضورنا معكم.من جهة أخرى،نحن أصلا هنا.لايمكنكم التنكر لوجودنا،لأننا نشكل طرفا متمما لعالمكم.
تؤطرني وسائل الإعلام الغربية وفق صورة سلبية،تحكم علي بالإدانة وتزيفني.حينما يقدمون امرأة بالبرقع كتجسيد للمرأة العربية،فذلك يعني ضمنيا أن كاتبة مناصرة للنزعة النسوية كما الشأن معي،وكذا آلاف النساء الأخريات المثقفات وملايين النساء العربيات العصريات – مسلمات ومسيحيات- اللواتي يعشن في البلدان العربية،يجسدن هذه الصورة :الوجه داكن،الرأس مطأطأ،الجسد بلا شكل جلي،كائنات عاجزات عن التفكير أو التعبير.
لكنهم مخطئون،لأني بدوري حينما أرى امرأة بالبرقع يغمرني مظهرها خوفا وفزعا.أخشى في يوم من الأيام انبثاق يد من داخل الصورة ثم تجرني إلى جانب ابنتي وحفيداتي،وجهة هذه الأنظمة العربية المنكوبة،التي تبقينا في دوامة الجهل بآليات تستهدف كي نستمر في نطاق مانحن عليه منذ زمن بعيد : 
حقل بيترول في خدمة السوق الغربية.  
هامش :
*سحر خليفة :كاتبة فلسطينية.وهذا النص المنشور في مجلة"Manière de voir "(عدد يناير 2017)ألقي يوم 5مارس 2015 خلال ندوة انعقدت بمركز الدراسات الفلسطينية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية التابع لجامعة لندن.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق