السبت، 13 أغسطس 2016

فلسفة الهنود الحمر[1]

   ترجمة : سعيد بوخليط



اللوحة للفنان الأمريكي جورج كاتلين

تـقديم :
لعالمنا الغربي قاعدة، يحكم بمقتضاها على عبقرية الحضارات، بناء على سعة الآثار التي يخلفها أهلها وراءهم : مآثر، كنائس وتحصينات عسكرية، إلخ. بهذا المقياس، فإن حضارة الهنود الحمر، لا تزن حقا كثيرا. بالتالي، قد يبدو تلاشيها أمرا ثانويا في التاريخ.بيد، أن هذه الشعوب تكلمت، قبل الانهزام كليا. وسننذهل باستمرار، أمام هاته المقتطفات الصوتية، التي نستدل بها على روحانيتهم.
هؤلاء البشر (لم يشيدوا أهرامات أو كاتدرائيات) وجدوا وضعهم الحقيقي داخل الكوسموس، في باطن الطبيعة التي احترموها وعشقوها. لم يلهثوا وراء مراكمة الثروات وأسباب الرفاه. بل سعوا، إلى خلق روح قوية تعيش في تناغم مع العالم. معرفة، كيفية التماهي بجلاء مع عالم الغابات والسهول. إدراكهم، معاني سبل اكتشاف شرارة المقدس في كل قطعة من الحياة ... ذاك هو جوهر فلسفتهم.
حينما، نعرف طبيعة الجشع الذي حرك الغزاة القادمين من أوروبا، نفهم استحالة الحوار بين وجهتي نظر متعارضتين بخصوص تأمل الوجود. مع ذلك، وأمام الزحف الشرس  للمستوطنين. بحث هنود أمريكا دائما على توافق يمكنهم من مواصلة العيش بسلام حسب أسلوبهم العتيق ... . لكن الإنسان الأبيض، يرفض  كل تعايش خارج الإبعاد والاستئصال. بالتأكيد، يمثل ذلك  إحدى المظاهر الأكثر  تأثيرا للنصوص التي وقفنا عليها هنا.  أشخاص  يبحثون على إفهام رأيهم، والتعبير عن موقفهم اتجاه مجموعة من الصم يرفضون الاستماع، ويحكمون مسبقا بنوع من العجرفة على مستواهم من "التحضر" لكي يستأثروا بكل الحقوق.
نعلم إلى أي حد حجم جنازة الجرائم (مذابح، اغتصابات، معاهدات يتم توقيها ثم على الفور يقع الاستهزاء بها...) التي أحدثها الصدام. مع ذلك، لا وقت لدينا الآن، للبكاء عن طمس فيزيائي لعالم الهنود الحمر، وإظهار حنقنا حيال إبادة جماعية حمقاء بقدر ما هي فظيعة.
الأساسي اليوم، يكمن في التساؤل حول ما يمكن لروحانيتهم (سنكتشف بأنها متأصلة بين ثنايا هاته المقولات) أن تحمله للمستقبل الإنساني. في ظل القلق الذي يغمر عالمنا المادي، تتجلى الحكمة الهندية، كمنبع  جد حي دائما. لا يمكن، لهذه "المقولات" إذن، غير وضع لبنة سلسلة تستهدف تقديم الجميع نصوصا تشكل عتبات للروحانية الخالدة.

 (1)

حينما تستيقظ صباحا.
أشكر، نور الصباح. لأجل حياتك وقوتك.
أشكر، طعامك، وبهجة أن تحيا.
إذا لم تجد سببا للشكر، فإن الخطأ يستوطنك.

(2)

الجمال أمامي، علي أن أمشي.
الجمال ورائي، علي أن أمشي.
الجمال فوقي، علي أن أمشي.
الجمال من كل جهة، علي أن أمشي.

(3)

أنظروا إخوتي، لقد أتى الربيع. عانقت الشمس الأرض، وعما قريب سنعاين فواكه هذا الحب !.
كل حبة تستيقظ، ثم كل حيوان يحصل على الحياة. ندين نحن أيضا بوجودنا إلى هذه القوة المدهشة ؛ لذلك علينا منح جيراننا، بل ولجيراننا الحيوانات، الحق نفسه، بأن يعيشوا على هذه الأرض. مع ذلك، استمعوا إلي جميعا، لنا الآن قضية مع جنس آخر، كان صغيرا وضعيفا، لما التقاه آباؤنا للمرة الأولى. لكنه اليوم، ضخما ومتغطرسا. غريب جدا، أن يفكروا في حرث الأرض. عشق التملك،مرض عندهم. هؤلاء الأشخاص، أقاموا قواعد، بإمكان الأغنياء وحدهم، التملص منها وليس الفقراء.يقتطعون ضرائب من الفقراء،لصالح الأغنياء المسيطرين. يطالبون، بأمنا جميعا التي هي الأرض، لاستعمالهم الخاص،ثم يتمترسون على جيرانهم، يشوهونها ببناءاتهم وأوساخهم. هذا الوطن شبيه، بسيل من الثلج الذائب، ينطلق من مرقده لكي يحطم كل شيء  في طريقه.
لا يمكننا العيش جنبا إلى جنب.

(4)

كنا شعبا  بلا قانون، لكن علاقاتنا ظلت جيدة مع الفكر الكبير، مبدع وسيد كل الأشياء. أنتم، أيها البيض، تظنون بأننا من الهمج. إنكم لا تفهمون صلواتنا، ولم تحاولوا فهمها. حينما ننشد  أمداحنا للشمس، القمر والريح، تقولون بأننا نعشق الأوثان. دون إدراككم لحقيقتنا، اتهمتموننا، بأننا أنفس ضائعة. لا لشيء، فقط لأن شعائرنا مختلفة عن تلك التي لكم.
نشاهد يد العقل الكبير، تقريبا على امتداد كل شيء : شمس، قمر، أشجار، روح وجبال. أحيانا نقترب منها عبر كل هاته الأشياء. ما هو السيئ في ذلك ؟ أظن بأننا نؤمن صدقا بالكائن الأعلى ؛ بإيمان أكثر قوة من ذاك الذي للبيض، لكنهم يعاملوننا مثل وثنيين. الهنود، وهم يحيون بالقرب من الطبيعة وسيد الطبيعة، لا يعيشون في الظلام.
هل تعلمون، بأن الأشجار تتكلم ؟ نعم تفعل ذلك. تتكلم فيما بينها، وتخاطبكم، إذا أرخيتم لها السمع. المشكلة، أن البشر البيض لا يستمعون أبدا. لم يتعودوا قط على الإنصات للهنود، كما أشك في كونهم يفعلون ذلك مع أصوات الطبيعة الأخرى. في حين، تعلمت من الأشجار كثيرا : مرة فيما يتعلق بالزمان، ومرة أخرى بخصوص الحيوانات أو العقل الكبير.

(5)

ما هي الحياة ؟
إنها، لمعان قطرب Luciole في الليل.
إنها، تنفس بيسون Bison مع فصل الشتاء.
إنها، ذاك الظل الصغير الذي يجري على امتداد العشب.
ثم يختفي عند غروب الشمس.

(6)

السهول الواسعة المنفتحة، الهضاب الجميلة وهي تتموج، والجداول التي تتلوى، لم يكن ذلك متوحشا أمام أعيننا. فقط عند الرجل الأبيض ظلت الطبيعة همجية. بالنسبة إليه وحده "غزت" الأرض حيوانات "برية" وعشائر "همجية".
كانت الأرض عندنا ناعمة، سخية، ونعيش مفعمين بعطايا اللغز الكبير. لكن، حينما قدم الرجل القوي من الشرق، راكم بجنونه الفظ الأعمال الجائرة في حقنا والعائلات التي نحب، وجعل منا "متوحشين".
أيضا، عندما أخذت حيوانات الغابة تفر هاربة ممن يقترب منها، حينئذ ابتدأ عندنا "الغرب المتوحش".

(7)

شبابنا لا يشتغل أبدا. الناس الذين يعملون، لا يمكنهم الحلم. والحكمة، تتأتى لنا بالأحلام.
ستطلبون مني حرث الأرض. هل من الضروري، أن أحمل سكينا وأمزق بطن أمي ؟ حين، سأموت. سترفض احتضاني لكي أستريح.
تطلبون مني أن أحفر لكي أجد الحجر. هل علي، أن أحفر تحت جلدها للاستحواذ على عظامها ؟ لكن، حينما أموت، لا يمكنني التوحد بجسدها كي أولد ثانية.
تطلبون مني، أن أقطع العشب، وأصنع منه حشيشا، ثم أبيعه لأغدو أكثر غنى من الرجال البيض. كيف لي أن أتجاسر على قطع ضفائر شعر أمي ؟

(8)

لقد سخر البيض دائما من الأرض، والأيل والدب. بينما، نحن الهنود نصطاد الوحيش، ونأكله دون ترك بقايا. حينما، نكشف عن جذور، فإننا لا نترك إلا ثقبا صغيرة. حينما نقيم منازلنا،لا نترك إلا ثقبا صغيرة. حينما نحرق العشب بسبب الجراد، لا نبيد كل شيء.
لكي نسقط البلوط والصنوبر، نحرك الأغصان. لا نقطع الأشجار،  لا نستعمل غير الخشب الميت. البيض يغيرون الأرض، يقطعون الأشجار، يقتلون كل شيء. تقول الشجرة : "توقف، أتألم، لا تجرحني". لكنهم، يقتلعونها ويقسمونها إلى قطع. يكرهون روح الأرض، يزيلون الأشجار، يجعلونها ترتجف إلى أبعد حد.
كيف لروح الأرض، أن تعشق الإنسان الأبيض؟ فأينما لمسها، إلا وأصابها بجرم.

(9)

أيها الفكر الكبير، صوتك الذي أسمعه في الرياح وهبوبها، يعطي الحياة لكل شيء، استمع إلي.
أنا قادم إليك، مثل واحد من أطفالك الكثيرين، أنا ضعيف ... صغير...، أحتاج إلى حكمتك وقوتك.
أتركني، أسير بين الجمال. واجعل أعيني تكتشف دائما احمرارات وكذا أرجوانية كل غروب للشمس.
علم أيادي احترام الأشياء التي خلقت، وآذاني أن تكون مرهفة لسماع صوتك.
اجعلني حكيما، حتى أتمكن من فهم ما لقنته لشعبي، والدروس التي أخفيتها في كل ورقة وصخرة.
أطلب منك القوة والحكمة، ليس لأترفع على إخوتي، ولكن لأصيرا قادرا على محاربة أكبر أعدائي، أي ذاتي.
اجعلني دائـما متأهبا، لكي أتقدم أمامك، بأيادي نقية ورؤية مستقيمة.
هكذا، حينما تنطفئ حياتي مثلما تغرب الشمس، يمكن لفكري الحضور عندك دون خزي.

(10)

ننتج، اعتمادا على أمنا الأرض، التي تغيثنا. ننتج، اعتمادا على الأنهار والجداول التي توفر لنا الماء. ننتج، اعتمادا على كل النبات الذي يعطينا العلاجات لأمراضنا. ننتج، اعتمادا على الذرة الصفراء وأخواتها الفول والقَرَع ،بحيث تمكننا من الحياة. ننتج، اعتمادا على الأسيجة والأشجار،التي تعطينا فواكهها.ننتج، اعتمادا على القمر والنجوم، فهما يمدوننا بنورهما، بعد اختفاء  الشمس. ننتج، اعتمادا على جدنا هي – نو Hé-No، لأنه حمى أطفاله الصغار من السحرة والزواحف، كما منحنا مطره. ننتج، اعتمادا على الشمس، التي تنظر إلى الأرض بعين الخير.
أخيرا، ننتج اعتمادا على الفكر الكبير، الذي يجسد الطيبوبة كلها، ويحمل الأشياء جميعها نحو سعادة أطفاله.

(11)

في بداية الأزمنة.
لم يكن هناك اختلافا بين الإنسان والحيوان.
كل المخلوقات، تعيش على الأرض.
بإمكان إنسان التحول إلى حيوان إذا أراد.
ولحيوان أن يصير إنسانا.
انتفى كل تمايز.
كانت المخلوقات حيوانات أحيانا،
وأحيانا هي بشر.
كل العالم يتكلم لغة واحدة.
حينئذ، كانت الكلمات سحرا. ويتوفر الفكر على قوى مدهشة.
كلمة تقال صدفة، قد تؤدي إلى نتائج عجيبة.
تصير بغتة حية، وتتحقق الرغبات.
يكفي التعبير عنها.
ليس من الضروري إعطاء تأويل.
كان الأمر هكذا.

(12)

الطبيعة الأم، لها القدرة الكلية، إنها الخلود. ما هي اختراعات البشر، المدن المتعالية التي تنمو على تخوم الصحراء.
الأسلحة الفتاكة التي يستعملها، لكي يضمن ويدافع عن غزواته ؟
لا شيء غير حفنة من الغبار المنظم، ستعيده القوى الطبيعية إلى شكله البدائي. أهجروا الحصن، لبعض السنوات. تخلوا لأشهر عن المدفع والرشاش، في المرعى.على الفور، سيكتسح العشب والشوك، الحجر. ثم يأكل الصدأ الفولاذ الصلب. لمرات كثيرة في سالف الزمان. تكاثرت مدن قوية، فوق صحاري واسعة. لم تبق منها اليوم إلا الأطلال، تنتهي بدورها متوحدة بالأرض العذراء دائما.
مهما كان شأن الأفراد الذين يمرون؟ فقط ينفت فيهم  الفكر ثم يندثرون إلى الأبد !  إذن، أبناء الأرض يستعيدون الأرض ثانية. وتعود من جديد،الأزمنة الأولى.

(13)

ما هي الاتفاقية التي احترمها الرجل الأبيض، في حين نقضها الرجل الأحمر ؟ لا واحدة.
ما هي الاتفاقية التي عقدها معنا الرجل الأبيض، وأبقى عليها ؟ لا واحدة.
عندما كنت طفلا، ساد أفراد شعب سيو Les sioux كل العالم. تشرق الشمس وتغرب على أرضهم. يقودون عشرة ألف فرد إلى المعركة.
أين هم اليوم، المحاربون ؟
من الذي قتلهم ؟
أين هي أراضينا ؟
من يملكها ؟
من هو الرجل البيض، الذي يمكنه اتهامي بأنني سرقت لـه أرضه أو حتى أقل فلس ؟ مع ذلك، ينعتونني باللص.
من هي المرأة البيضاء، حتى التي استفردت بها، من تجرؤ على الادعاء أنني استوليت عليها أو أهنتها. رغم ذلك، يتهمونني بكوني هنديا سيئا.
من هو الرجل الأبيض، الذي رآني يوما ما ثملا ؟
من هو الشخص الذي أتاني جائعا، وعاد ببطنه فارغا ؟
من هو الشخص الذي رآني أضرب زوجاتي، أو أقسو على أطفالي؟
أي قانون اخترقت ؟
هل أنا على غير هدى، إذا عشقت نظامي الخاص ؟
هل من السوء، أن يكون جلدي أحمر ؟
لأني واحد من أفراد شعب سيو ؟
لأني ولدت هنا، حيث عاش أبي ؟
لأني مستعد للموت في سبيل شعبي وبلدي ؟

(14)

عاداتنا مختلفة عن عاداتكم. رؤية مدنكم، تؤلم عيون الرجل الأحمر. ربما، لأن الرجل الأحمر متوحش، ولا يفهم أبدا.
لا يوجد موضع وديع في مدن الرجل الأبيض. لا يوجد مكان هناك، قد تستمع فيه للأوراق وهي تنتشر أثناء فصل الربيع أو اندعاك جناح حشرة. ربما، لأنني متوحش لا أفهم شيئا. يبدو، فقط بأن الضجة تهين الأسماع. أية قيمة للحياة، إذا لم يتمكن الإنسان من سماع الصوت الناسك لطير "سبد" l'engoulevent  أو حكايا الضفادع ليلا بالقرب من بركة آسنة ؟ أنا إنسان صاحب بشرة حمراء، ولا أفهم شيئا.
يفضل الهندي، الصوت العذب للريح المندفع كسهم، على سطح بحيرة، وعطر الهواء الذي غسلته أمطار الظهيرة،أو تضمخ بشدى شجر الصنوبر.
الهواء ثمين عند الإنسان الأحمر، فكل الأشياء تتقاسم النَّفَس ذاته : الحيوان، الشجر، الإنسان، الجميع يتوزعه الرمق نفسه.

(15)

حينما سينقرض الإنسان الأحمر، وتصبح ذكرى قبيلتي أسطورة عند الرجل الأبيض. فإن شواطئه، سوف تعج بأموات، عشيرتي اللامرئيين. حينما سيعتقد أطفال أطفالكم، أنهم وحدهم في الحقول والدكاكين أو داخل صمت الغابات دون سبيل، فلن يكونوا بمفردهم. [...] ليلا، حينما تكون أزقة مدنكم هادئة، وتظنونها خالية، فإنها ستمتلئ بحشد من الأشباح. كانت سعيدة هنا في السابق، ولا زالت تعشق هذا البلد الجميل. لن يكون الرجل الأبيض وحده.
أن يكون منصفا ويعامل شعبي بطيبوبة، للأموات سلطتهم.هل قلت الأموات؟  لا توجد موت. فقط صيرورة عوالم.

(16)

هل لازالت تمر بعض الشمس، ولا نراها أبدا هنا. يمتزج ترابنا وعظامنا الميتة في هذه المراعي. أرى، كما لو في رؤيا موت وميض نيران مجلسنا، يصير رمادها باردا وأبيضا. لم أعد أشاهد، تعالي مدارات الدخان فوق خيامنا، أو شذو النساء وهن يهيئن الوليمة. هرب الظبي، أراضي البيسون Bisons مقفرة.لا نسمع أبدا غير شكوى أنين القيوط Coyote. "الطب" عند الإنسان الأبيض، أقوى من الطب الذي نمارسه. حصانه الحديدي، يقتفي آثار البيسون. يتحدث لنا، من خلال "فكره الذي يهمس" [التليفون]. إننا، مثل طيور بأجنحة منكسرة، قلبي بارد داخل ذاتي، أعيني مضطربة، لقد شخت.

(17)

استدعاني أبي، لاحظت بأنه يحتضر. أخذت يداه بين يدي. قال لي : "ابني، سيعود جسدي إلى أمي الأرض، سيتحول فكري عما قريب إلى سيد للفكر الكبير. حينما سأرحل، فكر في بلدك، أنت قائد هذا  الشعب. ينتظرون منك، إرشادهم. تذكر، بأن والدك لم يقم أبدا  ببيع أرضه. عليك، أن ترفض الإصغاء، كلما طلبوا منك التوقيع على اتفاقية لكي تبيع  بلدك الأصلي. سنوات قليلة، وسيعمل الرجال البيض على تطويقكم. إنهم يستهدفون هذه الأرض، لا تنس أبدا، يا بني أقوالي وأنا على فراش الموت. هذه الأرض، تحتضن جسد والدك. لا تبع، أبدا عظام أبيك وأمك".
ضغطت على يده، وعدته بأنني سأحمي قبره بحياتي الخاصة، ابتسم أبي ثم رحل إلى أرض الأرواح.
دفنته في هذا الوادي الجميل، حيث يتموج  الماء. أحب هذه الأرض أكثر من باقي كل العالم. إن إنسانا، لا يحب قبر أبيه، هو بالتأكيد، أقبح من حيوان متوحش.

(18)

كل ما يصنعه الهندي، يتم داخل دائرة.
الأمر كذلك، لأن سلطة العالم تتجلى دائما في دوائر، كل شيء يروم لكي يكون دائريا. قديما، حينما كنا شعبا سعيدا وقويا، فإن سلطتنا نستمدها من الدائرة المقدسة للوطن، ومادام أنها لم تنكسر، فإن شعبنا يزدهر.
كل ما يصنع الكون، يقوم داخل دائـرة. السماء دائرية، وقد سمعت الحديث عن دائرية الأرض كأنها كرة. أيضا كل النجوم هي كذلك. تزوبع الريح في أقصى قوتها. تصنع الطيور أعشاشها بشكل دائري، لأن ديانتها هي نفس ديانتنا. تعلو الشمس وتنزل ثانية في دائرة، بل والقمر، فهما معا دائريان. حتى الفصول في تغيراتها، ترسم دائرة كبيرة، تعود دائما إلى نفس موضعها. حياة الإنسان، دورة من طفولة إلى طفولة، هكذا على المنوال ذاته مع كل شيء تتخذ داخله السلطة حيزا. خيامنا كانت دائرية مثل أعشاش الطيور، ودائما نقيمها دائريا. دائرة الوطن، وكر تصنعه أعشاش كثيرة، حيث نحيط أطفالنا بالرعاية حسب إرادة الفكر الكبير.

(19)

وأنا طفل، عرفت معنى العطاء. لقد نسيت هذه النعمة منذ أن أصبحت متحضرا.
كان لي نموذج حياة طبيعية. أما اليوم، فقد صرت متكلفا.
كل حجر جميل، كانت له قيمة أمام أعيني.
كل شجرة تنمو، كانت موضوع احترام.
الآن، أنحني مع الرجل الأبيض، أمام منظر مرسوم، تقدر قيمته بالدولار.

(20)

الصمت هو التوازن المطلق للجسد والفكر والروح. الإنسان، الذي يحافظ على وحدة وجوده يبقى دائما هادئا وشجاعا أمام زوابع الوجود ـ ولو ورقة تتحرك على شجرة، أو تموج يتلألأ على سطح بحيرة ـ إن ذلك بالنسبة لحكيم جاهل، الأفق المثالي وأفضل مسار في الحياة.
إذا سألتموه عن : "ماهو الصمت ؟" سيجيب :"إنه اللغز الكبير !"، "الصمت المقدس هو صوته !".
إذا استفسرتم : "عن ماهية فواكه الصمت ؟ " سيقول : ((السيادة على الذات، الشجاعة الحقيقية أو المكابدة، الصبر، الكرامة والاحترام. الصمت هو حجر الزاوية بالنسبة للمزاج)).



[1]  ـ Paroles indiennes : Textes Indiens d’Amérique du Nord recueillis par Michel Piquemal.  

(*)الموقع الاليكتروني :  http://saidboukhlet.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق