ترجمة:
محمد عفيفي مطر*
بين
يدي الترجمة العربية
للحمق بدوات ونزوات لا تبرر ولا يمكن الدفاع
عنها، هكذا أقول لنفسي وأنا أسأل قبل أن يسألني أحد: لماذا أوقعت نفسك في ورطة هذه
الخيانة المثلثة ؟! يعرف الجميع خيانة ترجمة الشعر،
ويعرف الشاعر عنها ما لا يعرفه الجميع، أما الخيانة الثانية فهي خيانة الاعتماد
على لفة وسيطة تبعد النص المنقول خطوتين أكثر إيغالا في البعد عن أصله الجوهري،
وأما الخيانة الثالثة فهي ورطة التصدي للترجمة عن اللغة الوسيطة وهي هنا
الانجليزية المتأمر كة بينما يوجد من هو أقدر وأعمق تفقها وأشد مراسا وممارسة،
فما الذي أوقعك أيها الشاعر في مشتبك هذه الخيانات قلت لنفسي : هذا هو فرض
الكفاية مادامت قد أهملت فروض العين من النقلة والمترجمين، إن يكن جهد مقل فهو شرف
محاولة، وان تكن قطرة من بحر القصائد ففي ملحها طعم الدليل واشارة البلاخ وكويحة
العابر وخطفة النظر، وان تكن تهور جرأة أو وقاحة اقتحام، فإنها إثارة واغراء
القادرين الفقهاء العالمين بأن يفتحوا نوافذ ما يعرفون من لغات على تراث الدنيا
ليكون في العربية من ثقافات الآهم والشعوب في مشارق الأرض ومغاربها ما يثري ويفجر
الحوار ويؤكد المكانة والمكان على خارطة الحياة والانسان الناطق المبدع.
لم
أكن أعرف شيئا عن الشاعر ولا مكانته بين شعراء قومه أو بين جماهير المثقفين في
أوروبا، وفي اعقاب قراءتي لبعض أشعاري أمام جماعات من محبي الشعر في كانالا «قولة
» وسالونيك وأثينا، والقيت مترجمة الى اللغة اليونانية عبر لغة وسيطة أيضا عبر
بعض المستمعين عن وجود قواسم مشتركة من ملامح القرابة الشعرية بين قصائدي وقصائد
شاعرين يونانيين هما أوديسيوس إيليتس وأندرياس آمبريكوس، قلت : أنداد ونظراء على
شواطيء بحر، وأصحاب قضايا متشابهة ومتدافعة عبر الماضي والحاضر، وذبيحتان على نار
واحدة هي نار التواريخ وجمرات الشارات والغايات الجياشة، وحينما علمت أن أوديسيوس
إيليتس قد فاز بجائزة نوبل سنة 1979 ،أدركت أن وراء الفوز، علاوة على عبقرية
الشاعر واستحقاقا انغماسا والحاحا على قضايا الصراع الوطني والقومي وانحيازا
خاصا أكاد أشمه في كل شيء في مشتبك الصراع اليوناني العثماني والتركي وقلت
متحفزا : فلتعرف مزيدا من التواريخ الحية التي تخفي وتبين وراء مجمل العصر الحديث
لحوض البحر المتوسط، بحر الآلام والشارات والدم، فبلادك على شفر منه، وأنت من
الثغر على رباط بين مرابطين.
لم
يخب توقعي ولا ظني، وخوضت في زلق هذه الخيانة المثلثة، مترجما لمجموعة القصائد
المختارة من دواوين أوديسيوس إيليتس التي ترجمها عن اليونانية واحد ممن كرسوا
حياتهم للشعر اليوناني الحديث ترجمة ودراسة وتأريخا، البروفيسور كيمون فرييار Friar Kimon وقدم
لها بدراسة ممتعة أقوم هنا بتقديم ترجمة وتلخيص لها وبتصرف تقتضيه حاجة القاريء
العربي على الرغم من كراهيتي للمقدمات في دواوين الشعر وهي مقدمة ضافية وتفصيلية،
تحلل الدواوين التي اختيرت منها القصائد، وتربط مسيرة الشاعر بالحياة، ومسيرة
الشعر بالأحداث ومسيرة الأحداث بالتاريخ السياسي والثقافي الخ..
واذا
كان الزمار يموت وأصابعه تلعب، فإنني أقدم التجربة كلها بدوافع تربوية وتعليمية،
عسى أن يخجل الصغار أو يستشعروا بعض الخزي من دمامة وقماءة الادعاءات المعاصرة في
تقاتل الأجيال وقتل الأب والبدء من خارج التاريخ والجغرافيا واحتقار التراث واللغة،
ووهم البدء من نقطة الصفر، وصفاقة الزهو بالانخلاع من كل ما يربط الشاعر والقصيدة
بهول الأحداث وعواصف الدم والنار ومشاهد البؤس اليومي وانفساح الحياة بالطبيعة
وجذور الانتماءات ومكابدة الانسان، مع الالحاح على درس التربية الثقافية والفنية
وخوض تجربة النظر العميق الى معترك الحوار الجاد في العالم كشرط من شروط الابداع
في هذا الزمن زمن محاولة إعادة صياغة العالم صياغة جديدة تجتاحها دعوات الصدام
والكوكبة وبطش القوى التي تحرص على التعبد في محراب ذاتها ومصالحها لاقتلاع شعوب
الأرض من ملامحها وذواتها.
مقدمة
مختصرة للترجمة الانجليزية
للبروفيسور كيمون فرييار Kirnon Friar
-1
توجهات
ولد
أوديسيوس ألبيو ذيليس Alepoudhélis Odysseus لأبوين
متحدرين من جزيرة ليسيوس في بحر إيجة، والده ابن واحد من ملاك الأرض الأثرياء،
تملكته رغبة في أن ينشىء له عملا خاصا به، فترك الجزيرة في شبابه الباكر قاصدا
جزيرة كريت، حيث أنشأ شركة ناجحة جدا لصناعة الصابون، وبعد عودة خاطفة الى ليسيوس
ليتزوج عاد بزوجته الى كريت، وهناك ولد أوديسيوس الأخ الأصغر لستة من الأبناء
في الثاني من نوفمبر سنة 1911 في المدينة القديمة "ايراكليون " بالقرب
من أطلال كنوسوس المينوية، وعلى الرغم من أن أسرته قد تركت كريت عشية الحرب
العالمية الأولى لتستقر في أثينا (حيث التحق بالدراسة بين سنة 1917 1928(إلا
أن الشاب الصفير أحس بالاعتزار العميق بمولده الكريتي وأصوله الليسوبوسية. واذا
كان لنا أن نصل بين هذه المراكز الثلاثة بخط مستقيم : ليسبوس إيراكيون أثينا،
فسوف نجد مكثا واسع الامتداد يحيط بمعظم منطقة بحر ايجة وجزرها المشرقة، حيث كان
عل أوديسيوس الصفير أن يقني عطلاته الصيفية وأن يزود جمالها الطبيعي شعره فيما بعد
بالصور والمذاق.
ومن
أجل أن يعزل نفسا عن الاندماج في عالم الصناعة في بواكير حياته الأدبية وينحت
لنفسه لقبا يدل عل رهافة مزاجه ومثاليات فكره، فقد اخترع وصك لنفسه اسما مستعارا
هو "ايليتس
" ytis'El وذلك بأن اختار المقطع الأول من
بعض ما هو معهود مثل Hellas هيلاس أو اليونان، أو
كلمة
Elyidha أي الأمل، أو elettherla أي الحرية أو بالأخص
من اسم أجمل الجميلات ميلين أو هيلانة Hele متجنبا في المقطع
الأخير من الاسم أي مقطع يحدد انتماءه لجزء معين من اليونان، واختار المقطع الدال
على الانتماء العام كما في كلمة politis أي“مواطن ”.
لقد
منحا العراب "والد الطفل في العمودية " اسم أشهر الابطال الهومريين
"أوديسيوس"، وقام الشاعر الشاب على الدوام بإعادة خلق شخصيته بما يواكب
التحامه مع تراثا القديم والعناصر المكونة للقبا الذي نحته لنفسه. فأن تخلق هو أن
تسمي حلم ايليتس، ككل الصبية اليونانيين، أن يصبح بطلا رياضيا، حتى اضطرته علة في
الغدد أن ينطوي على ذاته أكثر فاكثر وأن يلجأ الى قراءة الأدب والمجلات والروايات،
ولكنه أثناء القراءة أصبح مدركا أن الوصف والسرد، وأن السياق المنطقي للاحداث
والأقوال، لم تلمس العالم الأعمق الذي أصبح على وعي با في دواخل نفسه، ذلك العالم
الذي يتجل بغموض تحت سطح الظوهر وهو يبدو حقيقيا أكثر من عالم الواقع الخارجي. لم
يكن شيء مما قرأ، حتى الشعر، يبدو دقيقا في تصوير حقيقته الداخلية تلك، وما من
مدرسة من مدارس الشعر المهيمنة أيام حداثته تبدو متوافقة مع الشاب الصغير، لا
الرومانسية الجديدة ولا الأشكال التراثية من البرناسية، ولا "شعر الضياع
" الخالص منذ مالا رميه حتى إيلوار ولا الواقعية الجديدة عند أراغون، ولا حتى
الأشكال المحنلفة من الرمزية، التي تبدو غامضة جدا، وأحيانا مجازية جدا تستثير
توترات أعمق أو أشد ديونيزية، وعلى نحو خاص، فإن المثالي الشاب لم يستطع أن يتقبل
الاتجاه المسمى بـ "شعر الملعونين " أو الممسوسين من بودلير الى أرتو،
والذي تمثل بشكل رئيسي عند الشعراء الذين أثروا عل جيله أكثر من غيرهم مثل كو ستاس
أور انيس وكونستاس كاريوتاكيسر.
لقد
وضع انتحار كاريوتاكيسر في 1928 اللمسة الأخيرة في فتنة مدرسة الانحطاط. شعر
ايليتسر أن الشعراء قد سجنوا أنفسهم في أبراجهم العاجية وأصبحوا منفصلين عن المشهد
اليوناني وتراث وطنهم وتراثا تهم الشعبية، واخذوا يتجولون في المتنزهات الغريبة
الغارقة في مطر خريفي وسماوات فصلية وحدائق غرية ذوات بجع مسحور حيث استزرعوا
عصابياتهم وتشويش حواسهم وتمجيدهم للشر وكل الآلام المبرحة وانحرافات المزاج
الموائمة لطبائع الشمال لا للمزاج المتوسطي، خيم الركود والانحلال كالكفن فوق
الشعراء الذين عاشوا بعد كارثة 1897 ،حينما عانت اليونان هزيمة قاسية عل يد
الاتراك في ثلاثين يوما، وفوق اولئك الشعراء الذين عاشوا بعد كارثة 1922 الاشد
خزيا، ووقتها كف اليونانيون نهائيا عن فكرة "اليونان الكبرى" التي يجب
ان تضارع الامبراطورية البيزنطية القديمة.
وعلى
الرغم من ان ايليتسر كان معجبا بعبقرية الموهبة الشعرية لكونستانتين كافافيس، الذي
كان في ذلك الوقت قد اصبح مقروءا عل نطاق واسع في اليونان، والاتجاه الجديد الذي
يبشر به مثل هذا النوع من الشعر، على الرغم من ذلك، فانه لم يستطع قبول عالم
التهكم والمساومة والانتهازية والتفسخ الذي عبر عنه مثل هذا الشعر بمثل هذه
العاطفية المتميعة. لقد كان بعد ذلك في حال من يعجبه عمل ت.س اليوت ثم يرفضه حتى
كتابة اليوت لقصياته "الرباعيات الاربع"، وعلى الرغم من اعجابه بجورج سيفيريس مثل كافافيس ورأى فيهما
ميلاد شعر جديد، الا انه لم يتقبل عالم الخراب والعزلة الذي يصوره هذا الشعر بلا
رحمة.
كانت
السيريالية هي التي اعطت الشاعر الشاب مفتاح عالم محظور كان يتوقع وجوده بشكل غامض
وان لم يجرؤ علي الاعتراف به لنفسه. في عام 1929 في عامه الثامن عشر، وقع صدفة على
ديوان لبول ايلوار، فحررت هذه القصائد مخيلة الشاعر الشاب، ومنحته الوجهة التي كان
يتحمس الطريق اليها، واصبحت الاساس النظري لبحثا الشعري فيما بعد، ودفعته الى كتابة
محاولاته الأولى وتجاربه المترددة في الشعر، وبالاخص في الفترة من 1930- 1935 اثناء
التحاقه بكلية الحقوق في اثينا، حينما ترك الجامعة في 1935 زاهدا في الحصول عل
الليسانس، كانت سنة متميزة في حياة ايليتس، وحياة الآداب اليونانية بشكل عام، في
تلك السنة- 1935- سمع محاضرة عن السيريالية القاها اندرياس امبريكوس، الذي عاش في
باريس في الفترة بين 1925 .1931 وشارك في الحياة فيها مخالطا اندريه بريتون، وقام
بالتعليق على المحاضرة رينيه لافروغ، وعقد ايليتس صداقة عمر مع امبريكوس، الذي
اصبح معلمه ومرشده الامين، والذي نشر في 1935 ديوانه "انفجار الاتون "
اول ديوان من الكتابة السيريالية المعتمدة على التداعي الآلي الحر في اليونان، وفي
تلك السنة ايضا كان الطالب الجامعي الشاب يكتشف من قبل شاعر آخر هو جورج
سارنداريس، الذي هاجر من ايطاليا الى اليونان، والذي كان مهتما بالنزعات والمذاهب
الاوروبية وملتهب الحماس للنظريات الفلسفية الوجودية، ويكتب نوعا سابقا لاوانه من
الشعر الميتافيزيقي الحر، وقدم ايليتس بحماس كبير الى الجماعة المتحلقة حول المجلة
الفصلية الجديدة "الآداب الحديثة " التي تأسست في تلك السنة على يد
اندرياس كاراندونيس.
أصبحت
هذه المجلة نقطة الارتكاز للجديد في الشعر والنثر وكانت اول من ينشر ويشجع جورج
سيفيريس وغيره 0ممن يجربون كتابة الشعر الحر والسيريالية والاساليب التي كان عليها
ان تشكل ذروة الثقافة الجديدة في اليونان في العدد الحادي عشر من تلك الفصلية نشر
ايليتس لاول مرة قصائده الأولى سنة 1935 التي تبعتها مجموعات من القصائد ظهر
معظمها في "الآداب الحديثة " وايضا في "الايام المقدونية "
التي نشر فيها ديوانه "توجهات " أو وجهات نظر في سنة 1936 ،وديوانه
"ساعة المجهول الرملية " 1937 و" في التعبد للصيف " 1939 كان
ديوان امبريكوس "انفجار الأتون " قد قرىء باندهاش وسنوية، واول كابين
لاكبر الشعراء السيرياليين العنيدين "نيكوس انفونوبولوس " "لا
تتكلم مع قائد الاوركسترا" 1938 و" بيانو الصمت " 1939 استقبلا
بالاستهزاء وهوجما بسخرية وشبها للتر بشعر فتاة من الكرتون لها فم كالحرب الاهلية
وركبتاها مثل انما ممنون ورقبتها كالخيول الحمراء وردفاها كفراء السمك، وحتى ديوان
"امور نموس" للشاعر نيكوس غاتسوس في 1943 استقبل باعتباره نوعا من
الهزل.تهريجا من مشعوذ، اما قصائد ايليتس، حتى منذ البداية مع بعض الاستثناءات،
فقد استقبلت بترحاب واعتبرت مؤشرا الى واحد من الاتجاهات التي ينبغي على الشعر
الجديد ان يتجه اليها، وكان هذا يعود في جانب كبير منه الى محتوى صوره وتقابلاته
والى الطابع الغنائي الذي يطبع طريقته السيريالية، وقد لجأ ايليتس في عدد قليل من
قصائده الى الكتابة الاوتوماتيكية ذات الصور البعيدة او القريبة في علاقاتها
ومجازاتها، وسرعان ما نبذ اندفاع التداعيات الخالصة غير الموجهة والتقابلات
المسرفة في صعوبة الوصول الى دلالاتها، فقد تعادل فيه بقوة، وان كان مايزال كامنا،
الاحساس برصانة التوازن التي كان يعجب بها حتى في تلك الفترة في التراكيب
الكلاسيكية الجديدة لقصائد اندرياس كالفرس (1792-1869 (حيث الغنائية الفذة في اناشيده
الرومانسية المتوقدة الخاضعة للاشكال الكلاسيكية الجديدة وتقنياتها مع القليل من
جزالة بندار، الشاعر الآخر الذي اعجب به ايليتس بعمق.
كان
على ايليتس، حتى في قصائده الأولى المنشورة، ان يبدي ادراكا للشكل صياغة مقاطعه
الشعرية وفي عدد وتماثل طول الابيات وفي استخدام التكرار والمترادفات، وهي
المهارات التي سوف تعطي ثمارها الناضجة في شعره فيما بعد - وما دفعه اكثر نحو
السيريالية لم يكن - على اي حال - هو طرحها المضاد للاوزان والقوالب التراثية، بل
الحاحها في طلب ما هو متفرد رواغ، والحدس، واللاوعي، وبما لها من منطق مباين كليا
لمنطق العقل الواعي، وذلك الشعر لم يعد بحاجة لمزيد من فضح مدى انتشار الكتابات
المتقولبة في الاشكال المعتادة السابقة، وشعر ايليتس ان السيريالية تبشر بالعودة
الى الينابيع السحرية التي كلستها عهود العقلانية، وهي غوص في ينابيع الخيال
والحلم، وانهمار حر لعناقيد الصور التي تخلق اشكالها، وبدأ في نفس الوقت التنظيم
الصارم الذي يفرضه بناء الجملة وعلامات الترقيم، مع انه استدعى من الذاكرة بعض
العناصر التراثية المميزة مثل جعل بداية الكلمة الاول من البيت حرفا كبيرا، وتذكر
اعمال السحر التي كانت تمارسها الخادمات الريفيات في بيته في كريت، وقد كان عالما
سحريا عميقا حيث لا شيء يمكن ان ينكشف بطريقة مباشرة، وحيث الكلمات لها قوة
الافعال وتنفجر كالخوارق من قبعة ساحر، كان عالما افتتن به الشاعر الشاب، لقد كان
تطويعه للسيريالية ذا اثر كبير على مجرى الشعر اللاحق في اليونان.
وعلى
الرغم من ان عشق الحرية يتخلل كل حياة ايليتس وشعره، ومتضمن في جوهر عمله الشعري
باعتباره جزءا من كل، فانه ليس من طبيعته ان يكتب بشكل مباشر عن الموضوعات
السياسية لان هذه الموضوعات لم تكن عنصرا فعالا في شخصيته كما كانت عند شعراء
آخرين مثل يانيس ويتسوس او كوستاس فارنا ليس او الموسيقي ثيودور اكيس، ولا ينكر
ايليتس شرعية هذا الانخراط، او الالتزام السياسي او مثل هذا التعبير عند الآخرين،
وان كان يعتقد ان كثيرا من الاعمال على هذه الشاكلة يتجه الى ان يكون عملا مؤقتا
سريع الزوال اذا صدر عن الذهن او المعتقد السياسي وحدهما ولم يصدر تمن ضرورة او
احتياج جمالي. وقد اوضح موقفه السياسي في مناسبات عديدة، بالاخص عندما كانت توضح
الامور الاخلاقية والجمالية على المحك، فمع انه قبل جائزة الدولة الأولى في الشعر
عن قصيدته "له المجد" سنة 1960 ووسام الفينيق لدوره في الادب اليوناني
سنة 1965 ،ومنحة مؤسسة فورد سنة 1972 ،الا انه رفض الجائزة القومية الكبرى للادب
التي منحت له سنة 1973ممن جاء بهم الانقلاب العسكري سنة 1967 ،ومع ذلك فانه يؤمن
بان دور الفنان يجب ان يكون ثوريا وان يحتقر كل اشكال الحكم الديكتاتوري مهما كان
توجهه السياسي، "كل اشكال السلطة من طبيعتها ان تكون عدوة للفن كما يقول في
أحدى مقابلاته الصحفية لان الفنان اساسا عند من هم في
السلطة شكاك مريب وشخص خطر.. حينما شكوت مرة الى بيكاسو، نظر الي، كما اتذكر،
بعينيه السوداوين الواسعتين، كما لو كان مندهشا، ثم قال معنفا: داولكن ألست
مسرورا؟ اذا لم تكن القوانين الراسخة رجعية فكيف يمكن لنا ان نكون ثوريين ؟"
ثم انفجر ضاحكا حتى لا ينفجر بالدموع ".
احتفالية
ازهار الياسنت
(1)
اقتربي قليلا
من الصمت، ولملمي اليك شعر هذه الليلة التي تحلم أن جسدها عريان..
ان
لها آفاقا شتى، وضفائر كثيرة ، وقد دءوب ،
يحرق في كل لحظة اوراقها الاثنين والخمسين.
وبعد ذلك تبدأ من جديد شيئا أخر بيدك،
التي تضع فيها اللاليء علها تجد رغبة، وجزيرة نعاس.
اقتربي
قليلا من الصمت وخدي بين ذراعيك الهلب الهائل الذي يبسط سلطانه على اعماق البحر .
في
لحظة خاطفة سيكون بين السحب ،
وسوف لا تفهمني ، بل سوف تبكين .
ستبكين علي أقبلك وحينما اشرع في فتح شرخ في
الزيف ، شعاع لازورد سماوي مرهف يتعتعه السكر، سوف تعضينني انت يافتاة روحي
الصغيرة الغيرى،
أيها الظل الذي يهب الموسيقى مولدها تحت ضوء
القمر.
اقتربي
قليلا الى جانبي.
( 2)
هنا
– في خضم وسوسة الرغبات البازغة قبل الاوان،
احسست لاول مرة بالسعادة الاليمة للحياة.
طيور
هائلة وغامضة تمزقت عبر بكارات عوالمك،
على
ملاءة منبسطة بجهات حدقن في أغانيهن القادمة ومن كل طية ليل تجلت برجرجة أحلامهن
في المياه .
وقد وحدن وجودهن بوجود الاحضان التي كن ينتظرنها.
حتى
الخطى التي لم تنطمس اثارها بل توقفت في زرفة ركن من السماء وفي عينيك ما الذي
كانت عيناك تفتشان عنه؟
أي
خطيئة مرصعة بالنجوم كانت تدنو من خفقات يأسك؟
لا البحيرة ، ولا حسيتها، ولا طيفها المشتعل ذو
اليدين المستكينتين، كانت تستحق مواجهة مثل هذا القلق المشرق ابدا.
(3)
جنين
سعادة أكثر اشراقا - نهار ملتف بمشقة على اثار خطى
المجهول.
اكثر
من دمعة واحدة تذرف يجعل الشمس مبهمة اكثر.
وانت
تلوكين ساعاتك كالنبات المسموم العطر
وتصبحين
بشيرا برحلة عذبة في الابدية.
(4)
خمسة من العصافير –
خمس كلمات غايتهن انت.
كل ألق يحتويك قبل اختصارك في العشب ،
تتركين سيماءك فوق الصخرة التي تصدع وهي تلتهب.
تتركين سيماءك فوق الصخرة التي تصدع وهي تلتهب.
يتأجج
لهيبها في الروح.
قبل ان تصبحي مذاقا للوحدة فانك تضمخين الزعتر بالذكريات.
قبل ان تصبحي مذاقا للوحدة فانك تضمخين الزعتر بالذكريات.
وانا،
اصل دائما الى الغياب مباشرة.
صوت ما يبدو انه جدول ماء ومهما أقل، ومهما أحب فانه
يبقى في ظلاله لا يمس.
بكارات وحصباء في اعماق شفافية الاحساس بالكريستال.
(5)
حينما
تكبرين وتمتلكين زغب صباك فانك ستمتلكين اسم اميرة.
مياه
تشعشع في راحة يد صغيرة.
الدنيا كلها تشوش أيامها وفي قلب سكرتها تزرع باقة من الياسنت.
الدنيا كلها تشوش أيامها وفي قلب سكرتها تزرع باقة من الياسنت.
ومنذ
الغد ستكون طقوس احتفالياتي في أوراقي السرية من اجلك.
(6)
وسط
هذه الاشجار التي ستخلد وجهك المشرق.
العناق الذي سيبعث السكينة هنا
وهناك بهذه الطريقة الوادعة.
العالم
الذي سيبقى محفورا هناك.
يا
للكلمات المكتومة التي بقيت في قشور الامال،
في براعم الاغصان البازغة من يوم طموح –
الكلمات
المحكمة التي زادت من مرارات مطابقاتها وغدت هي
الكبرياء.
(7)
إحساس
عميق . أوراق الشجر ترتعد،
تحيا جماعات وفرادى فوق أشجار الحوار التي تشتت
الرياح .
امام عينيك كانت، هذه الريح التي تطلق بوجودها
سراح هذه الذكريات، هذه الحصباء الاوهام! الزمن ينزلق وانت تغرسين
نفسك فيه، مدججة بالاشواك.
انني
أفكر في هولاء الذين لم يلتمسوا زوارق النجاة ابدا . الذين يحبون النور تحت الجفون
، الذين يقرأون اكفهم بعيون متيقظة عندما يكون النوم أعمق ما يكون.
اريد
أن اغلق هذه الدوائر التي فتحتها اصابعك انت،
أريد ان احكم دائرة السماء عليها لعل كلمتها
المطلقة لا تكون كلمة اخرى.
تحدثي
الي ، ولكن تحدثي الى بالدموع.
(8)
في
أعماق بحر الموسيقى تتبعك الاشياء ذاتها، وقد تحولت.
الحياة
في كل مكان تقلد نفسها.
وبالقبض على الفسفور في يدك ، تشيعين السكون وسط حبائل
المخاطر العديدة
"شعرك
المبتل بالنغمة التاسعة يشد قوس الذكريات
وينسل خيط الحروف اللينة فوق ذروة
انحناءة الشفق.
حذار!
فالصوت الذي نسيته ذات مرة
يتبرعم الآن على صدرك .
هذا الكورال الذي يشتعل وحيدا
هو النذر الذي لم تف به أبدا ، والنار الهائلة التي
ستكون قد التهمتك هي هذا الدوار الخفيف الذي
يربطك بتهاويل الالم الى النزع الاخير للبنفسج.
في
اعماق بحر الموسيقى نرحل معا.
(9)
لم أفعل أي شيء اخر، اخذت الطبيعة الغفل
وعملت
عليها حينئذ اربعا وعشرين مرة في الغابات والبحار.
اخذتك
في بحران الرعدة ذاتها التي قلبت الكلمات على
وجوهها وتركتها هناك مثل الاصداف
المفتوحة المبعثرة.
أخذتك
رفيقا في البرق، في الرهبة، في غريزتي.
بسبب
ذلك ، في كل مرة استبدل الزمن ،
مطرحا قلبي الى الحضيض ترحلين وتختفين،
مغالبة
حضورك، خالقة عزلة مقدسية ، سعادة هائجة فوق
طاقة العقل.
انني لم افعل شيئا آخر سوى ما
وجدته فيك واقتديت به!
(10)
مرة اخرى، وسط أشجار الكرز، شفتاك الطازختان.
مره
اخرى وسط رقص الخضرة، احلامك الغابرة
مرة اخرى في احلامك القديمة الاغنيات التي يعلو
لهيبها ثم ينطفيء.
بين
تلك التي تتوهج عاليا ثم تنطفىء، اسرار العالم الدافئة.
أسرار
العالم.
(11)
عاليا
فوق شجرة الارتحالات البيضاء،
جسدك الصبي مسكون بالصواري،
انت تبسطين البحر العريان الذي يأخذ ويعطي حياته
لطحالب البحر اللامعة.
المدى
يتالق والبخار الابيض ناء يستنزف قلبه اذ ينثر ألف دمعة.
انها
انت اذن من تنسى حبها في المياه الضحلة، في الاعماق السفلية للامل.
انت
من تنسى لهبا في علو الظهيرة .من تقحم الحروف اللينة في كل كلمة متكثرة الالوان،
جامعة عسلها في عناقيد الفاكهة.
في
الاصيل حينما تجدين نفسك فجأة فتاة شقراء
قد لوحتها الشمس امام هذه اليد الرخامية التي
سوف تكون حارس القرون، اذكري على الاقل ذلك الصبي الوحيد في عنفوان البحر الذي كان
متحمسا لاكتشاف الجمال الذي لا يضاهي بجمالك.
فلترمي اذن بحجر في سرة البحر، جوهرة في عدالة
الشمس.
(12)
خذي معك ضوء الياسنت
وعمديه في ينبوع النهار.
هكذا
بالقرب من اسمك سوف ترجف الاسطورة
ويدي مغالبتين للطوفان ، وسننجو مع اولى
الحمائم.
فمن سينزل هذا العزيف اولا، من سيكون جديرا بما
يكفي.
ليشعر
انه قريب منه، من الذي سوف يدلك اولا
كيف
تعلن الشمس العظيمة عن بزوغ البرعم الصغير!
أمواج
تطهر العالم. كل امرىء يبحث في كلماته.
أصرخ
أين انت والبحر والجبال والاشجار غير كائنة.
(13)
حدثني
عن الساعة المكفهرة التي هزمتك حينما بادر الرعد قلبي .
حدثيني عن اليد التي قادت
يدي لتغوص
في أسى إقامتك المؤقتة في البلاد الغريبة.
حدثيني
عن بعد المسافة والنور والظلمة الموجة المقتحمة لسبتمبر الحنون الحميم.
بعثري
زبدا من تهاويل الالوان، توجيني .
(14)
ان تعودي الى جزيرة الحجر الخفاف مع ديدبان منسي
سوف توقظ الاجراس مانحا قبابا صباحية للذكريات
التي عاشت اغلب الوقت في البلاد الغربية. ان
تتنسمي
الحدائق الصغيرة البعيدة عن قلبك ثم يستقبلك
الاسى ذاته
مرة اخرى بعد ذلك. الا تشعري بشيء فوق الصخور
المسننة، وان تماثل هيئتك ترتيلتها المفاجئة. ان
تصعدي
أعلى فاعلى بالسلالم الحجرية غير الممهدة وان
تقفي
هناك بقلبك اللاهث الضربات خارج بوابة العالم
الجديد
ان تجمعي الغار والرخام لمهندس مصيرك الابيض
وان تكوني كما ولدت ، مركز العالم.
(15)
ابرة البوصلة يناوشها
الخطر .
فحيثما توجهت ارتكبت بفعل الوجه الباهر للشرق الحنون.
حينئذ
اقذفي بأزهار الياسنت ،
لتعوم على اندياحات الزبد نحو البشرى السعيدة ذات الاجنحة
الستة!
ان
انسام المستقبل تحجب العطايا الحية بالغيوم.
(16)
خبئي في جبينك النجمة التي اردت ان تجديها في النحيب
بهذا الاندفاع وهذه المكابدة التي تفوق طاقة
البشر.
ودعي
شعب الاخرين ويغدو اكثر مذلة.
أنت
دائما تعرفين اكثر ، وفوق ذلك هذه هي قيمتك
ولهذا فإنك حين ترفعين رايتك يسقط لون مرير فوق
سطوح الاشياء فيطمس ملامح العالم المهول.
(17)
انت لم تعرفي شياء مما ولد ومما مات تحت وطاة
الرغبات.
كسبت
ثقة تلك الحياة التي لم تروضك،
وانت
تواصلين الحلم، فماذا تستطيع الاشياء ان تقول
واي
الاشياء يمكن ان يحط من قدرك ؟
حينما تتوهجين في الشمس اذ تنزلق عليك قطرات
المياه،
والياسنت اليانع، والصمت، اعلن انك الحقيقة
الوحيدة.
حينما
تنفلتين من الظلمة وتعودين مرة اخرى مع الشرق،
بئرا، برعم زهرة ، شعاع شمس،
اعلن انك الحقيقة الوحيدة.
حينما
تهجرين اولئك الذين يضمحلون في العدم
وتهبين نفسك مرة اخرى كامرأة فانية،
فإنني أستيقظ في تحولاتك من البداية
لا تلعبي أكثر من ذلك أرمي ورقة الفوز النارية
اقتحمي جغرافيا الانسانية من أوسع أبوابها.
(18)
فتاة ملوحة بالشمس
ومتلألئة أغنية لنعاس
الجفون عن الاتساع الاسطوري للعالم.
إنه
زمن قصير منذ اندفع الصمت منطرحا في الريح،
إنه زمن قصير منذ أطلقت الريح أسماء كائناتها
الأعمق
واحدا واحدا.
الطبيعة
مطوية الآن في قبضة اليد بينما
تجري هناك كطفلها،
عيناها
مروعتان بدفقة لازورد بسماء من
بواكير النباتات ساطعة ، بغيمة جديدة لها سيماء
البصيرة
وانا، حافر في قلب شجرة جوز ، متحسسا
رمل الشاطيء بلهفة صارخ في البرية التي لا تحد،
قد فقدت العلامات التي منحتك الميلاد فأين
تكونين حينما تنهك الروح ريح الجنوب
والثريا توميء الى الليل ليفك اسر المطلق،
أين تكونين!
(19)
برغم النار هذا سوف
يتفتح حينما تعمدين زهرتك الحمراء بطريقة مغامرة.
من
تلك اللحظة ، حيثما قد نولدين ثانية ، حيثما قد
تنعكسين في المرايا، حيثما قد تبعثرين أشلاءك،
سوف يكون اشتهائي في ربيعه، متفتحا بذات
الاطمئنان الأليم عن شعلة السبع الهادية.
(20)
ضوء
غامر حتى أصبح الشط العريان خالدا.
الماء
سد الخلجان ، الشجرة الوحيدة حددت المسافة.
ليس
لك الان الا ان تاتي ،انت ، أوه ، منحوتة
الملامح بمهارة الريح ، وسوى أن تقيمي التمثال،
يبقى تلك فحسب تاتي وتديري عينيك الى البحر
الذي لن يكون على اتساعه أكثر من حيويتك
وحضورك الدائم وهمسك اللانهائي
ليس لك الا أن تتناهي عند الآفاق.
(21)
لك أرض مشوهة تكشطين صحائفها بلا انقطاع
ولا
تنامين . تنطقين بكلمات تلال كثيرة، وبحار كثيرة،
وزهر
كثير، وقلبك الواحد يغدو متكثرا، محولة جوهر
عناصرها
الي أفكار.
وحيثما
تدفعين المدي لينفتح واسعا، وأيما كلمة
قد
ترسلينها الي المطلق تعانقني ضمني،
ارفعي
العذابات، تفهمي.
علي
الجانب الآخر أنا نفس الشخص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) محمد عفيفي مطر : شاعر من مصر ،ولد عام 1935 بمحافظة المنوفية ،تخرج في كلية الاداب ـ قسم الفلسفة ، حصل على جائزة الدولة التشجعية في الشعر عام 198.
ـ من دواوينة : من دفتر الصمت 1968 ، كتاب الارض والدم 1972 ، احتفاليات المومياء المتوحشة.، فاصلة إيقاعات النمل .، رباعية الفرح.، أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت.، يتحدث الطمي.، والنهر يلبس الأقنعة.، شهادة البكاء في زمن الضحك.، رسوم على قشرة الليل.، الجوع والقمر.، ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي.، من مجمرة البدايات. وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام 2000، توفي في 2010.
(*) المصدر : مجلة "نزوي" العدد رقم 10 أبريل 1997.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق