الخميس، 11 أغسطس 2016

أندريه جيد: أمي *

ترجمة : سعيد بوخليط


ولد أندريه جيد سنة 1869،من عائلة بروتستانتية،توفي أبوه في سن مبكرة جدا، فترعرع بين أحضان أمه ومربيته. بدأ يخالط الوسط الأدبي ل مالارميه وفاليري بين 1891و1908،وأسس بصحبة بعض الأصدقاء المجلة الفرنسية الجديدة.مارس تأثيرا مذهلا على الحياة الفكرية الفرنسية لمدة خمسين سنة،بفضل عمله ومواقفه المتخذة ثم صداقاته المتعددة وأسفاره. حاز على نوبل للآداب عام 1947،وتوفي في باريس سنة 1951.



الخميس 23غشت 1894
فندق بوتي بيير
روزمون
لوزان
أمي العزيزة،

أعرف أنك وحيدة مرة أخرى،أخشى من إصابة قلبك بفتور،وقد غمرك حزن شديد،وأريد اليوم أن أكتب إليك فقط لأخبرك كم أضمر لك من الحب والحنان.يبدو أن تعلقي يجعلني أفهم حقا جل الأفكار الرمادية التي يمكنها أن تحوم حولك،خلال أيام وتثير غضبك :أحب أن تعمل هذه الرسالة على استبعادها.
لقد علمتِ بالقصة العجيبة ل فالنتين التي أتوافق معها بخصوص كره سويسرا،مع ذلك قمنا بجولات ممتعة البارحة وقبل البارحة.إذن وقت رائع ضاعف سعادتنا،شاهدنا تلك المناظر الجبيلية المعروفة ب''جورج دو تريان''،جولة لاتنسى،ابتدأتها بأن أخلفت موعد القطار،وتركت خالي وفالنتين يسافران بدوني،ثم أضعت قبعتي في القطار،إلخ إلخ.ستروي لك فالنتين كل تلك التفاصيل.المهم،تسلينا كثيرا.
بالأمس، تناولنا الشاي في الغابة صحبة كل نزلاء الفندق الذي نقيم فيه.فالنتين ساحرة :لا يمكنني قط أن أكون سعيدا لمجرد هذا التوقف القصير في لوزان،لقد كتبتِ إليها بالأمس كلمة مقتضبة لامستها بعمق.
سأبقى هنا إلى يوم الغد أو بعد غد،ثم سأرحل إلى منطقة ''إنجادين'' عبر منتجعي ''فوركا'' و''شيدي أندرمات'' وأظن،لست متأكدا،أني سأراسلك.
خالتي مريضة جدا،لكنها فاتنة،أيضا خالي مثير وجين جذابة.أنا سعيد لأن فالنتين اجتمعت بهم.   
لاشيء آخر في جعبتي بوسعي إخبارك به،أفقد بسهولة أعصابي،لكن هذه الأجواء ممتازة بالنسبة إلي.
أمي الحبيبة،إلى اللقاء . أحبك، أكثر مما تتصورين،وأتذكر النزهة الرائعة التي قمنا بها وحدنا فقط بالقرب من مقاطعة "بونيبوسك''(منطقة نورماندي)،كما كنا نفعل خلال السنوات السالفة.
إلى اللقاء.أنا ابنك العزيز.
أندريه.
       
***
 الرسالة الثانية :
لابرفين
الخميس 18 أكتوبر1894 .
أمي الحبيبة :
أتوسل إليك بكل روحي أن تتركي في سلام علاقاتي بمادلين(ابنة عمه).انتظري على الأقل حتى أكلمكِ بهذا الخصوص.لايمكنكِ أن تتخيلي إلى أي حد إصرارك كي تطرحي باستمرار هذا الموضوع،حتى ولم تتعرضي له صراحة،يغمرني رعبا وينزع مني الثقة.أريد منك تأكيدا بأن لا تقولي شيئا،بحيث يمكن لهواجسك الباطنية المستمرة،أن لا تبرز إلى السطح ولو قليلا؟أريد منك التحلي بالثقة.ذاك اليوم،أدليت لي بملاحظات جميلة وقوية،ولم أستطع لحظتها إخباركِ أنكِ كنت خاطئة،لأني لم أكن متيقنا على وجه الإطلاق بصوابي،لكني أعتقد بأن كل واحد منا امتلك فعلا مايكفي من الحكمة حتى يدير وقائع حياتنا الخاصة،ثم هناك نقطة لا دخل للآخر فيها و لا مجال للنصائح.أمي حبيبتي،أرجوكِ احترسي :عندما تأخذ الأمور منحى سيئا،سأنتظر كل شيء منكِ،وأسرع لمساعدتك.لكن حاليا،بما أن كل شيء على ما يرام،فدعيها كما تسير.كلمة متهورة منكِ،قد تحدث لنا جميعا كثيرا من الضرر،أقول جميعا،لأني توخيت إثارة انتباهكِ أنه إذا أزعج شخص ما،أحبّ كائن إلي في العالم،فأسوأ الاحتمالات ممكنة.
من جهة ثانية،ماذا تتوخين؟أنتِ بنفسك من نصحني،حينما أردتُ الذهاب بوتيرة سريعة،كي أتأنى مليا.ألا تريدين بدورك الانتظار في الوقت الحالي؟ثم إني لا أنتظر شيئالاأعرف ماذا أقول لكِ،فالرسائل لا تفي بالغرض ومقتضبة.انتظري،حتى نتحدث،ولا تقفي ضد مجرى الأشياء.أما إذا سعيتِ للتشويش عليها،فلا أعلم ماذا يمكنني الإقدام عليه وقتها،أعتقد أني لن ألتقيكِ أبدا.كل شيء يسير مثلما تصورناه معا في قرية ''لاروك''.سأكلمكِ،فأنا مستعجل،عن مراسلاتنا.أي سوء تفاهم غريب،قد يؤدي إلى توقفها في يوم من الأيام؟لقد تمنينا أن يجمعننا لقاء خلال فصل الربيع في مدينة أجنبية :لقاء بالكاد تطلعنا إليه،لكنه يصير مع كل يوم أكثر استحالة ومجرد احتمال.لم أتكلم معها في هذا الموضوع،ولم أجرؤ على ذلك،لكن مادلين راسلتني معبرة عن رغبتها الكبيرة لرؤيتي !ولم ألتقيها منذ أربع سنوات.  
ربما أنا مخطئ بشكل كبير مع البوح لك بكل هذه الاعترافات،لأني بهذا الخصوص لم أحدثكِ كفاية حتى تستوعبي المعطيات جيدا.انتظري حتى نتكلم،أرجوك،انتظري،لا تقومي بأي مبادرة،وإلا فسأصاب بالإحباط.                          
انسِ كل ما أتيت على قوله لك، ثقي كفاية في ابنيك ،واتركيهما أحرارا يراهنان على سعادتهما،ولا تعتقدين دائما أنهما يجهلان قواعد اللعبة.كلمة حمقاء،قد تتفوهين بها،ستخلق لنا معاناة يستحيل ترميمها.ليس لدي حاليا الوقت،كي أتكلم معك مدة أطول.في الانتظار،لا تنطقي بأي كلمة،أمي العزيزة.
لم أفهم جيدا،ما قلتيه عن المهن،وأنتِ تقارنين مهنتي مع التي يمارسها الأطباء والمهندسون،أخشى ارتكابكِ لخطأ جسيم،لذلك أريد التحدث معك أيضا في هذا الموضوع.لماذا تذكرين أسماء شخصية؟فكل شخص لا يشبه غيره؟ألا يمثل كل فنان طبيعيا استثناء أمام كل القواعد؟إنه حالة متفردة يستحيل العثور عليها ثانية ؟أو هو بلا قيمة إذا وجد سلفا من يماثله. ينبغي أن تفهمي بأن الأعمال الكبيرة تدوم،وليست مثل عمليات الأطباء الجراحية التي يلزم استئنافها ثانية مع كل مريض.المهن الأخرى،كيفما كانت،تقدم موضوعا دائما لصاحبها،بالتالي فهي تدور على نفسها.من هنا الأهمية المتميزة على نحو غريب لحياة الفنان.أكتب لكِ على عجلة وهذه الأشياء،المهمة من بينها جميعا،تبدو تقريبا بلهاء،ومنحصرة ضمن سطور مكتوبة بطريقة رديئة.لنفترض كما لو أني لم أصرح بأي شيء.  
وداعا، أمي العزيزة،ابعثي رسالتي الأخيرة إلى مادلين مثلما رجوتك،وكوني مطمئنة. احتفظي بهذه الرسالة إلى جانب باقي رسائلي الأخرى.المفضلين عندي ،من أكتب لهم أجمل مالدي.
محبوبك العزيز
أندريه.   

***
الرسالة الثالثة :
مارسيليا، الجمعة 18يناير1895 .
أمي المعشوقة جدا،
أتواجد حاليا بمدينة مارسيليا،وأنتظر.استمر الجو ملبدا،ولم يتلطف سوى البارحة،حاليا لا سحابة على امتداد السماء الزرقاء جدا،هكذا شرعت روحي أخيرا تزخر بقدر من الصفاء.متى أتذوق ثانية في نهاية المطاف، الابتهاج المطلق كما كان الأمر خلال الأشهر الأخيرة والذي أود أن يستمر دائما؟أعتقد وحده تعب الدماغ يوقفه.المزعج،يستحيل أن تستريح في مارسيليا :أقطن غرفة صغيرة في فندق ''لوكانبيير''،بحيث يصمت بالكاد ضوضاء الشارع المرهق لساعات قليلة بين الليل والصباح.هذا يذكرني بمدن إسبانيا وضجيجها،تذكرين برشلونة، مدريد، وسيفيل؟.
أيضا، أنتظر،أن لا أغادر هنا حتى أصير قويا متماسكا،لأن تعب هذه الأيام الأخيرة أضحى حملا ثقيلا على صدري-آه !غمّ -لكن كما في الغالب (أوصتني السيدة بورجي وأندريا بعدم الاكتراث)تشتغل الأغشية المخاطية للشعب الهوائية بشكل سريع ثم تفرز،مما يتسبب في حشرجة صغيرة على مستوى التنفس.أقول لك هذا ببساطة،لأنه لاينطوي قط على مؤشر يثير الخوف.كذلك،لا أعرق بطريقة غير طبيعية أو تنتابني قشعريرة ،فقط قليلا من التعب وكذا لحظة رطبة وأخرى دافئة.   
أخيرا،هل أعترف لك،إني أنتظرأنتظرك !!نعم !التطلع إلى قدومك يلازمني إلى حد أني لا أجرؤ على الذهاب،ومغادرة مارسيليا،قبل معرفة إذا كنتِ ستأتين ومن تم الرحيل عنها معا ؟أعلم أن خالتي شارلي اقترحت عليك تقريبا شيئا مماثلا،لقد قرأت علي المقطع الصغير من رسالتها،المشير إلى سياق ذلك، سرعة المقترح فاجأتني،لقد فكرت أولا :آه!كيف !وعلى حين غرة ؟بالتالي صرخت.بل تضرعت وتوسلت إليها تقريبا،كي تغير هذه الرسالة.حاليا،أفكر :لما لا؟كل متمنيات قلبي وروحي،وكل أفكاري الغالية،منصبة على الموضوع وهي تتصادم. لازلت أنتظر.أجيبي بسرعة،فهذا الترقب يعتبر إنهاكا :لماذا لا تأتين فورا،وانتهزي فرصة كون ماري لايمكنها آنيا أن تعود إليك؟.
يلزم حاليا معرفة كيفية تخليص هذا من التحمس،ونجعله شيئا مبهجا،رائعا،يشغل القلب والفكر حد انعدام أي وقت قد يمنح فرصة إدراك إذا كان هذا حقا صائبا أم لا. كان لك ومازال الوقت كي تتأملي الموضوع،أنت، ولاينبغي أن تتركي مادلين تخمن كثيرا في هذا،بحيث ستنزعج وتستهلكها هذه التأملات الواهية.انتبهي،في حال قدومك سنعبر ثانية باريس،كي نرى كثيرا من الناس،ربما كانت هناك السيدة لورانس ثم المزيد!.
متى طرحتُ الفكرة،كلما تحسست معها منفذا وحيدا،قياسا لوضعية منهكة جدا. بمعنى آخر،لاشيء يحدث ولاشيء ينتهي أيضا.
إذن، لن أذهب قبل توصلي بجواب منك،لكن بما أني أصاب بالجنون حين الانتظار كثيرا،فأرجوك أن تسرعي إلى الإرسال البرقي،ويكون ردك : ''نعم سنأتي''.يصعب أن أتصور ما قد يسببه  لي جواب غير هذا.تخيلي،كيف ستكون الرحلة برفقتنا نحن الثلاثة،والزمان الرائع الذي سيتجلى.فكري،على النقيض،في بؤس عبوري وحيدا.
في انتظار الفرار من مارسيليا،أنوي الذهاب إلى ''تولون''من أجل تحية أسرة ''لاتيل''،وربما كذلك مدينة''كان'' للالتقاء بالسيدة "ليبيل-كوانتي(التي التقيتها في مستشفى مونبلييه)قصد معرفة جديد السيدة "سالفادور''.   
أقبّلك من كل قلبي
أندريه.    
لقد توصلت منذ قليل بمسودات الجزء الأول من كتابي الذي سيحمل عنوان : "paludes"  فبعد انطباع "المجلة البيضاء''،المحزن أتبينه حاليا جيدا.حقيقة أنا جد مندهش بهذا الخصوص،نعم هو عمل أثار دهشتي كثيرا.كم أترقب بشغف لحظة تقديمه لك ! .
أرفق طيه هذه الرسالة لماري.   
    
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                  
*المصدر :  Ma chère Maman : De Baudelaire a Saint-Exupéry ;des lettres d écrivains . Gallimard ;2002.
موقع الأستاذ سعيد بوخليط: http://saidboukhlet.com 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق