الجمعة، 19 أغسطس 2016

ألبير كامو :ماهية الصحافة الحرة

ترجمة : سعيد بوخليط


            
سنة1939، فترة قليلة بعد اندلاع الحرب،حيث كانت الصحافة في المجمل خاضعة للرقابة، أراد كامو أن يكتب على صفحات الجريدة، التي يديرها في الجزائر،نصا مؤثرا يحث الصحافيين، على التشبث بحريتهم.هذا النص،الممنوع من النشر آنذاك،ولم يعرف قط طريقه إلى القارئ،يحافظ دائما و بشكل كبير على راهنيته.
إذن،المقالة التي نقف عليها هنا،كان يفترض ظهورها يوم 25 نونبر1939 على صفحات جريدة  "le soir républicain" ،يومية محدودة، يشرف عليها كامو في الجزائر.يحدد الكاتب معها”الموجهات الأربع للصحافي الحر” : ثقابة الفكر، الرفض، السخرية والمثابرة.
ماشا سيري،الباحثة المتعاونة مع جريدة لوموند، تمكنت من الوصول إلى هذه المقالة، بين طيات الأرشيفات الوطنية، لما وراء البحرب”إيكس أون بروفونس”.
يفضح كامو،التضليل الإعلامي، الذي ينخر فرنسا سنة 1939.بل يذهب،بيانه أبعد من هذا الحد،لأنه بمثابة تأمل في الصحافة، زمان الحرب.وبشكل واسع،حول اختيارات الفرد،أكثر من الجماعة كي يؤسس نفسه كإنسان حر.
1–النص : بقلم ألبير كامو.
يصعب اليوم،الحديث عن حرية الصحافة،دون أن تُلصق بك صفة الهوس، وتُتهم بأنك من صنف “ماتا هاري”  ،وتلقى نفسك بصدد إقناعك، أنك ابن أخ ستالين.مع أن هذه الحرية،ضمن حريات أخرى، ليست إلا إحدى تمظهرات الحرية  بشكل مباشر.وسنفهم جدوى إصرارنا للدفاع عنها، إذا أردنا حقا الإقرار،أنه لا توجد قطعا طريقة أخرى،تمكننا من الانتصار في المعركة.
مع ذلك،لكل حرية مجموعة حدود. لكن هل،ينبغي أيضا التأكيد على ضرورة أن تكون حرة. فيما يتعلق بالعوائق، التي تهدد حاليا حرية الفكر،قلنا ما أمكننا قوله،و سنضيف في هذا السياق كل ما بوسعنا قوله حد الإشباع . بشكل خاص، لن نصاب بذهول زائد،حينما نلاحظ أنه مع فرض مبدأ الرقابة في فرنسا، سيحظر على تلك النصوص التي  استهدفتها رقابة العاصمة،إعادة إنتاجها على صفحات جريدة "le soir républicain ''(الصادرة في الجزائر،وكان كامو رئيس تحريرها خلال تلك الحقبة)مثلا. هكذا، حينما يصير قدر جريدة، متوقفا على مزاج شخص أو صلاحيته، فإن المآل يظهر أفضل من أي شيء آخر، درجة عدم التبصر التي انحدرنا إليها.
إحدى،أجود قواعد فلسفة جديرة بهذا الاسم، عدم شيوعها قط في صيغة مراثي لا تجدي نفعا، حيال وضعية قائمة، لا يمكننا تجنبها أبدا. إن القضية اليوم في فرنسا، ليست معرفة كيف نحمي الصحافة، بل البحث،في شروط أن يبقى الصحافي حرا،رغم إلغاء هذه الحريات.فالإشكال، يعني الذات الفردية، ولا يتعلق بالجماعة.
بالتالي،ما يسعدنا التأكيد عليه هنا،يهم الشروط والوسائل التي بواسطتها،وفي خضم الحرب و إكراهاتها،يمكن للحرية غير بقائها مصانة،لكن أن تتجسد أيضا.هذه الوسائل في مجملها،أربعة : ثقابة الفكر،الرفض،السخرية و المثابرة.
تفترض ثقابة الفكر،مجابهة أساليب الضغينة وكذا مذهب القَدَرية. من المؤكد،أنه في عالمنا التجريبي،يمكن تجنب أي شيء. فالحرب،ذاتها باعتبارها ظاهرة إنسانية،بإمكاننا أن لا نسقط بين أحضانها،وتعطيلها بوسائل إنسانية.يكفيك،استيعاب تاريخ السنوات الأخيرة من السياسة الأوروبية،كي تدرك أن الحرب،كيفما كانت،لها أساليب بديهية.هذه الرؤية،الواضحة للأشياء،تستبعد الحقد الأعمى و ما يخلقه من يأس.
إن صحافيا حرا سنة  1939 لايصيبه الإحباط أبدا، ويناضل في سبيل ما يعتقده صحيحا، كما لو بإمكان صنيعه هذا، التأثير في مجرى الأحداث.إنه لا يذيع شيئا،يمكنه إثارة الكراهية أو يبعث اليأس. كل ذاك في مقدوره.
أمام المد المتنامي للغباء، من اللازم أيضا،طرح صيغ للرفض.فكل إكراهات العالم،لن ترغم فكرا يضمر شيئا من النقاء،كي يقبل على نفسه أن  يصير محتالا. رغم، أننا نعرف القليل عن ميكانيزم المعلومات، لكن يسهل التأكد من صحة خبر جديد.وعلى هذا الجانب،يلزم الصحافي الحر، تركيز كل اتنباهه.لأنه، إذا لم يكن بوسعه الإفصاح عن كل مايفكر فيه، فبإمكانه عدم التصريح بما لا يخطر على باله، أو يظنه خطأ.هكذا، تقاس جريدة بقدر ما تقوله و كذا ما لاتقوله.هذه الحرية السلبية كليا،تعتبر عن بعد الأكثر أهمية من بين كل شيء،إذا أدركنا سبيل حمايتها،لأنها تهيئ للارتقاء بالحرية الحقيقية.
هكذا،فلأن جريدة مستقلة،تكشف عن أصل معلوماتها،تدفع الجمهور إلى تقديرها.تتنزه عن حشو الدماغ،و تتسامى عن القذف.ثم،تلطف بتحليلات،تشابه الأخبار.باختصار،تخدم الحقيقة في نطاق إنساني لقواها.هذا المقياس،وإن كان نسبيا جدا،يخول لها على الأقل مجالا كي تفرض،ما ليس بوسع أي قوة في العالم،أن تجبرها على تقبله : خدمة الكذب.
أما بخصوص السخرية،فيمكننا تبني مبدأ،أن فكرا يمتلك الحس والوسائل،كي يفرض الإكراه،لن يسمح بنفاذ السخرية.لا نستحضرهنا هيتلر.إذن، لنوظف السخرية السقراطية،كمثال من بين أمثلة أخرى.
تظل السخرية،سلاحا غير مسبوق ضد الجبابرة.إنها تتمم،الرفض من خلال كونها تجيز له،ليس فقط استبعاد ماهو خاطئ،لكن قوله غالبا الحقيقة.
إن صحافيا حرا سنة1939 ،لا ينخدع كثيرا في ذكاء من يضطهدونه.ودائم القلق بخصوص الإنسان.الحقيقة،التي يعبر عنها بنبرة دوغماطيقية،ستعرض نفسها للرقابة بنسبة تسع مرات على عشرة.الحقيقة عينها،لما تقال بطرافة،تصير فقط موضوعا للرقابة بنسبة خمس مرات على عشرة.هذا الاستعداد، يرسم بشكل مضبوط جدا،ممكنات الذكاء البشري.ما يفسر في هذا السياق،أن جرائد فرنسية ك :  ''le merle'' أو ''le canard enchainé''  يمكنها أن تنشر بانتظام المقالات الجريئة التي نعرفها.
الصحافي الحر سنة 1939، رجل ساخر.حتما،على الرغم منه.لكن الحقيقة والحرية،مطلبان ملحان نظرا لقلة عشاقهما.
من الجلي،أن منظورا فكريا حددناه هنا باختصار،لن يتماسك بفعالية دون أدنى مثابرة، قدر ماتوضع عوائق أمام حرية التعبير.فليسوا،الأكثر قسوة،من بوسعهم إخماد همة فكر.لأن التهديدات وعمليات التوقيف والملاحقة،تؤدي بصفة عامة في فرنسا،إلى مفعول معاكس،لما يريدونه. لكن،لا ينبغي الاستكانة  إلى وجود عوائق محبطة :الثبات على البلاهة،الخمول المنظم،الغباء العدواني، إلخ. نموذج للعائق المهول،الذي ينبغي التغلب عليه.يقوم العناد هنا، كمزية جوهرية،يخدم الموضوعية والتسامح،وفق تناقض غريب  لكنه  بديهي.
تلك،إذن مجموعة قواعد لحماية الحرية،حتى في قلب العبودية.ثم ماذا بعد؟أقلتم وماذا بعد ؟لا ينبغي أن نستعجل جدا .إذا، فقط أراد فعلا كل فرنسي،أن يبقي داخل دائرته،مختلف مايظنه حقا وصوابا،وابتغى أن يقدم ما لديه، وإن كان قليلا من أجل صيانة الحرية والصمود وعدم التنازل وأن يمارس إرادته،إلخ.حينذاك فقط،يمكننا الانتصار في الحرب بالمعنى العميق للكلمة.
نعم،بمضاضة نستشعر تلك السخرية،الصادرة عن فكر حر،ينتمي لهذا القرن.فماذا سنجد ممتعا،وسط عالم ملتهب كعالمنا؟غير،أن فضيلة الإنسان، تتمثل في مقاومته لكل ماهو سلبي. فلا شخص،سيقبل على نفسه،أن يعيد ثانية بعد خمسة و عشرين سنة تجربتي1914و1939.يلزم إذن، أن نمتحن تجربة جديدة كليا، تتمثل في العدالة والسخاء.لكن،هذان الأخيران،لا يسكنان إلا قلوبا تتمتع أصلا بالحرية، وعقولها بصيرة.بناء هذه القلوب والعقول،أو بالأحرى إيقاظها،مهمة في الآن ذاته متواضعة وطموحة،يتحملها الإنسان الحر.فينبغي عليه التمسك بها،دون أن يعاود أبدا الالتفات إلى الوراء.ربما التاريخ،يأخذ بعين الاعتبار مجهوداته  تلك، أم لا؟ لكنها،على الأقل تحققت.
   2- تعليق : ماشا سيري.
البيان الذي ننشره هنا، كتبه كامو(1913-1960) ،بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، بثلاثة أشهر.وكان يبلغ من العمر26سنة.النص،لم يحمل توقيعا،لكن ثبتت صحته.أيضا، يتميز براهنيته ، بل يمثل خطابا نموذجيا لكل الصحافيين ورؤساء الجرائد، الذين يتشوفون إلى الحفاظ على حرية التعبير داخل بلد يعيش ظروف الحرب،أو يسوده نظام ديكتاتوري يهيمن على المعلومة، باسم الوطنية.يكتب كامو : ((لن تجبركل إكراهات العالم، فكرا ينطوي على شيء من النقاء،كي يروم نحو الاتصاف بعدم الاستقامة )). بالنسبة لمن يقاوم،يتمثل أولا في رفض القبول بالكذب. ويضيف كامو : ((يقاس الصحافي الحر،سواء بما يقوله ومالا يقوله)).
كان من المفترض،أن يخرج كامو مقالته هذه إلى القارئ يوم 25 نوفمبر1939 على صفحات جريدة ” le soir républicain” وهي إخبارية يومية، تباع فقط في الجزائر.أشرف عليها كامو،وتقريبا كان المتعاون الوحيد مع باسكال بيا.لكن المقالة،تعرضت للرقابة.
في الجزائر،موطنه الأصلي والذي لم يغادره قط خلال تلك الحقبة،ماعدا لقضاء عطل قصيرة،بالتالي لم ينل بعد شهرة واسعة،كان كامو قد ألف عناوين مثل : l envers et l endroit))(1937)     وكذا    (noces)(ماي 1939). انتمى، إلى صفوف الحزب الشيوعي، سعيا منه للنضال من أجل بلورة مساواة في الحقوق بين العرب و الأوروبيين،قبل أن يطرد منه خريف ،1936 فخلق له هذا الاستبعاد،حجما من الحجود السياسي اتجاه حزب،لم يعد يثير غير تقزز كامو.
أصبح، سكريتيرا لدار الثقافة بالجزائر العاصمة،فوضع أولى لبنات جماعة مسرح المدينة،عبر اقتباسه لمسرحية مالرو : ( le temps du mépris) كما اشتغل على نصوص كلاسيكية. أما،أول مسرحية له، فقد كتبها بالاشتراك مع بعض أصدقائه، وجاءت تحت عنوان :  (révolte dans les asturies) لكنها ستمنع من طرف “أوغسطين روزيس”، عمدة العاصمة الجزائرية،و أحد أعضاء اليمين المتطرف.
الشاب كامو،الذي ترعرع يتيما،بحيث توفي أبوه سنة 1914 وأمه مجرد امرأة أمية تشتغل في البيوت،سيلتجئ إلى الأدب،اعترافا بدين،ووفاء للوسط المجتمعي الذي ينحدر منه.فالأدب،يمثل واجب إقرار بالفضل.
باسكال بيا،  صديق قديم لأندريه مالرو،  رشحه لجريدة : (Alger républicain)  كصحافي، متعدد الاهتمامات.هذه اليومية، التي توخت الدفاع عن قيم الجبهة الشعبية،قطعت مع باقي الجرائد الجزائرية المرتبطة بالسلطة الاستعمارية والمكرسة لايديولوجيا رجعية. هكذا، سيكتب كاموعلى صفحات جريدته،سلسلة أبحاث أثارت ضجيجا مدويا،أشهرها مقالته عن “بؤس القبايل”.
كامو،عاشق للسلام.لكن ما إن اندلعت الحرب، حتى أراد الانخراط فيها. إصابته بالسل، في سن 17 حرمه من حمل السلاح. إحساس، جعله يكتب بحدة في جريدة ''Alger républicain ''ثم  "le soir républicain"  التي أسسها دائما مع باسكال بيا، يوم 15 شتنبر 1939. هذان الجريدتان،مثل باقي المنابر الفرنسية، خضعتا لمبدأ الرقابة المنصوص عليه في القانون الصادر يوم 27 غشت.لذا، وبسبب مواقفه المبدئية،ورفضه الانسياق وراء دوامة الحقد الأعمى بدأ كامو يزعج. فريق عمله، سيمتنع عن إخضاع المقالات للفحص،قبل النشر النهائي،مدافعا عن صدورها مع وسم بالبياض للنصوص التي مستها الرقابة، إلى حد أنه خلال فترة من الفترات، ستصدر جريدة ''َAlger  répubique''  ولاسيما '' Le soir république ''بأعمدة بيضاء.
أيضا، وإن بشكل أقل عما يجري في فرنسا أو البلد الأصلي،فليس هناك تباين في الرقابة،إنها تمحو هنا وتشطب هناك. ماذا؟ تعليقات سياسية ومقالات طويلة، خصصها كامو لعموده الصحافي الذي وضع له تسمية ''على ضوء إيحاءات الحرب''،بهدف التركيز على منظور الصراع الذي اندلع،والاستشهاد بمقولات لكبار الكتاب ( كورني، ديدرو، فولتير ،هوغو) وكذا بلاغات رسمية، بحيث يمكن لأي واحد يستمع إلى المذياع، الاطلاع على مقالات تداولتها جرائد البلد المستعمِر،أمثال:  le pays socialiste/    l aube / le petit bleu/ le petit parisien/ la bourgogne républicaine.
السيد لوريث، رئيس المراقبين، غير مقتنع كثيرا بعمل مأموريه،فوجه إليهم ملاحظات لاذعة، حينما غفلت أعينهم عن أحاديث  تعتبر مرفوضة، كما حدث يوم 18 أكتوبر، بخصوص مقالة معنونة ب”هيتلر و ستالين”. يكتب لوريث :(( يتضح بشكل مؤسف جدا،عدم القدرة على التمييز)). ثلاثة أيام بعدها، التقط المستمعون،عبر “راديو-لندن”(باللغة الفرنسية) ،جوابا ساخرا :((إن قمع الحقيقة في كل الأقاليم الألمانية الجديدة،علامة مميزة للنظام النازي)).
يوم 24 نوفمبر،كتب كامو  سطورا،طالتها مرة أخرى يد الرقابة :((حاليا،لايمكن لصحافي إنجليزي، غير الافتخار بمهنته،نلاحظ ذلك.بينما،الصحافي الفرنسي، حتى المستقل فلا يسعه غير الإحساس بالاستكانة غاية الخزي الذي يسود الصحافة الفرنسية . فمتى،إذن تبدأ معركة الإعلام داخل فرنسا؟)). نفس المصير، ستعرفه هذه المقالة التي تدين الإحساس بالاستسلام :((هناك أشخاص يظنون، أنه في لحظة من اللحظات، تتسم الأحداث السياسية بطابع قدري ، فترسم لنفسها مجرى لا يقاوم. مفهوم،كهذا للحتمية الاجتماعية مبالغ فيه، لأنه يتجاهل النقطة الجوهرية: إن الأحداث السياسية و المجتمعية إنسانية. بالتالي ،لا تخرج عن إطار الضبط الإنساني)) (25 أكتوبر).
وتحت عنوان “تجار الموت”، يرصد كامو مسؤولية صناع الأسلحة، وما يجنونه من موارد  اقتصادية بسبب النزاعات،لذلك يمتدح ” التأميم الكلي لصناعة الأسلحة” التي :((حررت الحكومات،من تأثير الرأسماليين، غير المسؤولين المهووسين فقط بتحقيق أرباح ضخمة))(21 نوفمبر).
لم ينس كامو أبدا، مصير شعوب  استعمرت فترة الحرب، فأبلغ عن “تعنيف”الأقليات وكذا مختلف الحكومات التي : (( تصر على اضطهاد محكوميها التعساء، الذين لهم أنوف لايجوز أبدا امتلاكها، أو يتكلمون لغة لا ينبغي عليهم قط تكلمها)).
استمرت التهديدات بتوقيف جريدتهما،غير أن كامو وباسكال بيا،جددا رفضهما المطلق للخضوع، بل عبرا عن ثورتهما.لذلك، سيبعث باسكال بيا، برسالة إلى السيد لوريث، مبديا تحسره من طبيعة الموقف القائم ضد جريدة :  le soir républicain.  بحيث يتم التعامل معها،كأنها : ((خارجة عن القانون)) ، بينما لم ترتكب أية مخالفة، يحددها قانون في هذا الإطار.
أحيانا،كان الثنائي يتسلى بإجراءات المقص.يحكي باسكال بيا، أن كامو وبنوع من الدهاء،لفت انتباه الضابط الذي سيحذف مقطعا من عمل”حرب طروادة لن تقع”،أنه تصرف بعدم اللباقة وهو يقدم على إخراس صوت “جون جيرودو”،مراقب الإعلام في الحكومة الفرنسية.
يوم 10 يناير1940 ، تم توقيف الجريدة ،بقرار من الحكومة الجزائرية،بعد إصدارها ل 117 عددا. أصبح كامو عاطلا وانصرف جميع أرباب العمل المحتملين عن تشغيله، نتيجة تعرضهم لضغوط سياسية.لذلك، قرر الصحافي غير المرغوب فيه ،الرحيل إلى باريس،بعد أن وجد له “باسكال بيا” منصب سكرتير التحرير بجريدة :   soir Paris. عشية ذهابه،شهر مارس1940، استدعي من طرف مفوض الشرطة الذي وبخه مستعرضا أمامه مختلف التظلمات المتراكمة ضده.
إن المقالة،التي ننشرها اليوم،وكذا الفقرات التي سنوردها فيما بعد،أخرجناها من أرشيفات “ماوراء البحر” في “إكس أون بروفونس”. وثائق،تعود إلى سنة 1939، ومنعتها السلطات الاستعمارية،وأهملها المختصون الذين انكبوا على متن ألبير كامو :(( ألبير كامو،مسار حياة.غاليمار1966)).كما، أننا لا نعثر لها عن صدى،بين طيات العمل المشترك ل”جاكلين ليفي فالونسي”و”أندري أبدو” المعنون ب :(( مقتطفات من معركة1938-1940)) ، بحيث سعيا إلى تجميع المقالات التي كتبها كامو،فترة تواجده بالجزائر.
لقد تفحصنا كل ملف على حدى،مما أعطانا إمكانية تصنيف المقالات الناقصة نتيجة تدخل مقص الرقيب،سواء بالنسبة لجريدة :  Alger républicain   وكذا soir républicain.
تتميز الرقابة،بأنها تؤدي دورها الذي يشبه دور كاتب المحكمة،بطريقة صارمة.كذلك، تدون أجهزة الاستعلامات العامة، أدق أفعال وإشارات الأفراد الخاضعين لترصدها. في مناخ كهذا، قضى ألبير كامو سنوات حياته بالجزائر.هكذا وقفنا، على الكلمات و الجمل والفقرات بل المقالات إجمالا،التي لم تعجب وقتها، الضباط الذين أوكلت إليهم مهمة مراجعة المسودات النهائية لصفحات الجرائد : (( هذه الأرشيفات لم يتم استعمالها)) يؤكد الباحث المتخصص''جون إيف غيران'' ، الذي أشرف على تأليف معجم ألبير كامو :(( منشورات روبير لافون،2009)).نفس الموقف،عبر عنه الباحث ''أنيي سبيكل''رئيس جمعية الدراسات المتعلقة بكامو.
في هذا النص الصادر لأول مرة،يعتبر كامو : (( أن فضيلة الإنسان،تكمن في صموده،كي يواجه كل ما يعترض سبيله)). وفي كتابه “الإنسان المتمرد” ،لم يضف شيئا آخر،معتبرا أن التمرد : (( هو المجهود اللازم للإنسان كي يفرض ذاته، أمام كل من يحاول إلغاءه)).
إن الموجهات الأربع الأساسية للصحافي الحر،أي ثقابة الفكر و السخرية و الإباء ثم المثابرة،شكلت التيمات الجوهرية التي هيكلت عمله الروائي وكذا تأمله الفلسفي. وعلى غرار كرة القدم و المسرح،ستشكل الصحافة لدى كامو، تجمعا بشريا حيث تزدهر و تنبثق مدرسة للحياة و الأخلاق. لقد رأى في الصحافة نبلا، لذا جسّد كامو أحد أقوى الأصوات التي أنتجتها هذه المهنة، وكان من الذين رسموا لها دوائر أدبيات مضبوطة.
لقد توجه كامو،أولا إلى القارئ الجزائري،شارحا مقتضيات بعد النظر وكذا الاحتراس، اللذان يوجبان على الصحافي، التصدي للدعاية و أشكال “حشو الأدمغة”.
إلى المعركة، هكذا وجه له النداء باسكال بيا سنة1944 ،مرشده في المهنة، كي يواصل كامو تطبيق ميثاقه الإعلامي،ويضمن بقاء الديمقراطية بالرغم من ضيق هامشها،  مترفعة عن إغراء المال :(( حاولْ تقديم  الخبر بطريقة جيدة، بدل الإخبار سريعا.حددْ بدقة معنى كل خبر جديد، بتعليق يناسبه.أسسْ لصحافة نقدية، ومن بين كل شيء عدم الإقرار،بأن السياسة ستهيمن عليها ضدا على الأخلاق.ولا أيضا،انسياق الأخلاق وراء الأخلاقية)).
سنة 1951 ومن خلال حوار أجرته معه مجلة يشرف عليها الصحافي “جان دانييل” تسمى ''caliban '' ،كشف كامو عن خيبة أمله،قائلا :((إن مجتمعا يقبل على نفسه، أن تتسلى به صحافة مشوهة ومن ورائها آلاف المخادعين الوقحين… ،هو مجتمع يسرع بنفسه نحو العبودية،بالرغم من اعتراضات من ساهموا في تقهقره)).
       1-ألبير كامو : دفاتر لوموند.العدد 20888. سنة 2012 .
(*) الموقع: http://saidboukhlet.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق