الأحد، 27 أغسطس 2017


جيــــم
بقلم: يحيى الشيخ
طيلة حياته، كان "ج" يقضي بعض الوقت في فراشه قبل أن ينهض، يتحسس نفسه، يفرك عضوه ويقتنع في نهاية المطاف، أن لا جدوى من ذلك، يجر لحافه إلى ذقنه ويتأمل سقف الغرفة ويبتسم. هذا الصباح قضى وقته المحايد يتحسس وسادته التي أخذت تتلبد وأمست مجموعة كتل يابسة في كيس. فكر أن يشتري واحدة جديدة، أو يفتح هذه ويندف قطنها. كانت تأسره مشاهدة ندّاف القطن وهو يندف قطن اللحف المتلبد في باحة البيت. يرفع الوتر الثقيل الموزون بذراعه اليسرى المسندة على ركبته، يُدني الوتر الجلدي المتوتر من كومة القطن، ويضربه برأس أسطواني كبير لمّاع ناعم ذي رائحة صنوبرية فواحة... يرن الوتر ويعزف، يتطاير القطن مثل فراشات ويتشظى.

مثل مصعوق، تذكّر أن لديه موعداً مع مكتب الخدمات الاجتماعية. ألقى اللحاف أرضاً وكاد أن يقوم من فراشه، اكتشف أن أعضاءه قد انفصلت عنه وتناثرت. "ج" يعرف بوعي وبلا وعي؛ أن أطرافه لا تنتمي اليه، مذ أن شاهدها مرة تتحرك كما تشاء من خارج ارادته. وهذه ليست المرة الاولى، ولولا حاجته لها لتركها وراءه. فتش في الفراش وتحت السرير، لملم نفسه على عجل وقام مسرعاً. وهو يلبس ملابسه، كان يفكر بقطعة خبز وحبة طماطم كبيرة وحبات زيتون أسود. لكنه نسي شراء الخبز مساء الأمس، فقد اجتاز الفرن وهو يتابع أرداف امرأة تمشي امامه.

التقط أطرافه بسرعة ولصقها كيفما اتفق وخرج من البيت يعرج؛ يهبط ويصعد في مشيته. تأكد من نفسه على عادته دائما، إن كانت ياقته في مكانها، وسحّاب سرواله مغلق، فلطالما عاد إلى البيت بعد جولاته في المدينة والمؤسسات الحكومية، واكتشف أن سحّاب سرواله كان مفتوحاً.

للرجل هذا خرافات يومية لا طائل تحتها، مرة اكتشف انه حيٌ فأخذ يضحك طيلة النهار. هذا الصباح لصق ساقه في خاصرته، ويده اليمنى بدل اليسرى، ولبس معطفه بالمقلوب، وفي عجلة من امره، وضع اصابعه في جيبه، فلا وقت للبناء، لا وقت لتصحيح الأخطاء.
لم يكن مبنى البلدية قريباً، فقطع الطريق بمحاذاة الجدران بعيداً عن المارة، يمشي ويأخذ حيزاً واسعاً في مشيته؛ رجله اليمنى تخطو إلى أقصى اليسار، واليسرى إلى أقصى اليمين، لم يكن يكفيه شارع بأسره، عَبَرَ الاشارة الضوئية بعسر شديد وجهد مضن. في منتصف خطوط العبور، أضاءت الاشارة الحمراء، توقف يجر انفاسه، استعاد طاقته، وأسرع يكمل عبور الشارع صوب بناية مكتب الخدمات الاجتماعية. المبنى يغص بلاجئين من مختلف القارات، جلس كيفما اتفق على أول مكان صادفه. سمع أن بعضهم اجتاز القارات في حاوية للقمامة، ونبتت له جذور درنية، وعندما القوا القبض عليه، كان قد أمسى أخضر تماماً؛ فأخذته إحدى المنظمات الدولية نموذجا للدعاية.

دخل "ج" في موعده, قدّم نفسه بلباقة وصراحة تامة، وطلب معونة اجتماعية، فهو ذو عاهة خلقية بائنة للعيان: لونه أسمر، ساقه ملصوقة بخاصرته، ذراعه اليمنى بدل اليسرى، اذناه معكوستان. ولسانه مكسور.
في آخر المطاف، مُنح مساعدة مالية مجزية، وتم تشييعه حتى الباب. قبل مغادرته، نادته الموظفة وقدمت له قبّعته، وثلاثة أصابع كان قد نسيها على الطاولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق