الكائن البرمائي
بقلم: يحيى الشيخ
نزلتْ
المرأةُ الحاملُ في أيامِ حملها الأخيرةِ إلى النهرِ لتملأ جرتها، باغتها الطلقُ
ولم يسعفها الوقت للخروج، فنزل الوليدُ في الماء. سمكة كبيرة سبحتْ نحوه وقطعتْ
حبل المشيمة، والتهمته، راح الوليد يرفس بأطرافه يسبحُ صوب الشاطئ، تحثه زغاريد النسوة
وتهاليل الرجال، ضج النهر بنقيق الضفادع واختلاج المياه، انشقت السماء نصفين
وانطبقت.
هكذا ولد كائن برمائي جديد.
بعد ولادته المائية ماتت امه بحمى النفاس، فتبناه أكثر من بيت. اخذ الرضيع
يتنقل من ثدي مرضة إلى آخر، تعلمت شفتاه ولثته العارية على أكثر من حلمة، ونام في
أحضان من يجهلهم. بعد ان تمكنت ساقاه على النهوض والركض به، أخذ يغافل العجول
ويجثو تحت الابقار ويرضَعُها. وكما قيل، كان مباركاً. ما دخل بيتاً أكل ونام فيه
إلا حلت فيه البركة: الابقار تحلب اضعافاً، النساء المرضعات يدر فيهن الحليب،
الأشجار تثمر اطناناً، الارحام العاقر تخصب، المريض يشفى، الأخرس ينطق والاعمى
يبصر. لم يجتهد الفقهاء بأمره فهو كائن لا يَعرفَ سره غير الماء. وليس في الماء
اجتهاد.
عاش الكائن البرمائي، يرابط على
النهر في النهار، ويقضي الليل في مراح الأبقار. حتى شبّ بقامة ممشوقة تشبه الخيزران:
أطراف طويلة، تكاد أصابعه تلامس الأرض، وسيقان مثل جذعي صفصافة تطاول السماء، جلده
يشبه ورقة سدر ملساء، مصقولة، زلقة... لا يستره غير مئزر بالٍ.
لم يعد النهر يلتهم الغرقى، لم تعد
افواه الناس جائعة للسمك، لم تعد امرأة تتوحم، إلا والكائن البرمائي صورةُ وحمِها
ومُرادِها. وكان سر الأسرار تلك.
غير أن في نفس الكائن، كانت رغبةٌ لا
يُعرف سرَها، فعاش وحيداً يسكن الشطآن، يرعى رغباته الدفينة. اتخذ من سدرة وارفة
يمتد فَرعُها بعيداً فوق النهر، مكاناً يستلقي عليه؛ كما على ظهر حصان، ويترك
اطرافه سائبة مثل حبال اشرعة محطمة، يقضي ايامه يحدق في الماء. لا أحد يمكنه تخمين
ماذا كان يتأمل طيلة ساعات النهار، ولم يجرأ أحدٌ على سؤاله عما يتأمله... والذي
لا يفعل غيره.
لأيام متواصلة غاب، وافتقده الناس،
لكنهم لم يفقدوا حرصهم على السؤال عنه. سُمع إنه ظهر من تحت الماء لرجل يتوضأ على
الشاطئ في قرية اخرى. راح السؤال عنه ابعد من ذاك المكان، وقيل إنه شُوهد طافيا
مثل زورق رشيق وسط الهور بين البردي، يتوسد غيمة خضراء وعلى صدره حمامة من عقيق.
غير أن القَسَمَ الأعظم الذي القاه كاهن مندائي لا يُشك بكلامه، حسم مصير الكائن،
قال:
_ شاهدته على الشاطئ برفقة حورية مسترسلة الشعر ذات ذنب عريض
وأصداف ذهبية، لها اثداء بكرٌ.
ورفع الرجل رأسه إلى السماء مستغفراً ربه، وأضاف:
_ وكان يرضَعُها.
بعد أيام شاهد الناس في القرى
المبثوثة على النهر كما الحصا، أسماكا جميلة، ملونة، تعوم فوق الماء.
نص جميل ، سلمت مبدعا
ردحذف