الشَـــــــــــــــــيْصَبانُ
بقلم: يحيى الشيخ
الفصل الأول
هو
يُوقن أن الأفكار يمكنها أن تحيل صاحبها من حال إلى حال. جرّب مرة أن يكون كائناً
برمائياً، مثل ضفدع، يهربُ من البر إذا ضاق به، ويقفزُ من البركة إذا نضُبت. استرخى
ودخل في دوامة عقله، أسرى إلى مستنقعٍ، شعر باضطرابات باطنية وخدرٍ في أطرافه، وبرُد
دمه. أنتفض مرعوباً من حاله، فهو قد يفقد السيطرة على عقله ولا يمكنه، فيما بعد،
العودة إلى هيئته الأولى، وهذا يشقيه. غير أنه لم يكف عن محاولاته، وفي
كل مرة يصل فيها إلى لحظة التحوّل الكلي، ينتفض ويتوقف عن التفكير.
هذه
المرةُ صفى ذهنه تماماً كما ينبغي، وضع يده على قلبه يجس نبض شجاعته، أغمض عينيه
واستسلم لفكرة التحوّل إلى نملة. كان قد قرأ الكثير عن الحيوان، لدى العرب وغيرهم حتى
جحظت عيناه، ولم يجد ما يتمناه غير أن يكون ذكر نمل: شَيْصَبانٌ.
لم
يكن اختياره للنمل محض نزوة، فقد أجهد نفسه سنيناً ليجد حيوانا نادراً يتشبّه به،
فهو منذ قراءته لأصل الأنواع والاصطفاء الطبيعي، والبيان الشيوعي، كان يحلم أن يكون كائناً خارقاً،
فذاً، يعيش في مجتمع مشاعي، يحكم نفسه بنفسه بنظام تكافل اجتماعي طبيعي، كما أن
النمل باطنيٌّ، سويُ السريرةِ، دؤوبٌ، مشاعيٌ، نظيف، وقوي مثله تماماً.
اجتازت
حالة تحوله إلى نملة مرحلتها الأولى، مرحلة وعي حاد لا عودة فيها إلى الوراء، ودخلت
في طور تحققها الفعلي. لم يكن بإمكانه مراقبة كل ما كان يجري له، فالتحوّل تم دفعة
واحدة؛ ظهرت له ست أرجل، ظهرت قرونه الاستشعارية، نحفت بطنه وتقسمت إلى ثلاثة
فصوص، لكنه راقب بحرص شديد ودهشة بالغة، تحول جلده إلى ما يشبه الزجاج الأسود
المعتم، صلبٌ وبراق. ظل فترة من الزمن يعاني من اضطرابات في جوفه، وشعر أنه فقد
قلبه، ولم يعد على يسار صدره، بل أمسى انبوباً طويلاً يمتد عبر جسده.
فتح
عينيه وإذا به يتبع جحفل نمل جرار، يساير واحداً فتياً في آخر القافلة، لا يحمل
شيئاً، لا يجر شيئاً، يمشي إلى الوراء تارة، وعلى جنب تارة أخرى، ثم يزحف على
ظهره، ومرة على رأسه... أغراه سلوكه الغريب، فهو يشبهه، التصق به كلياً واخذ يقلده،
وذاك يضحك... خلال لحظات انقلابه على بطنه غدا شيصبان.
راح
يدبّ على النيسب مع النمل إلى أنفاقه، دخل متأخراً والمطر يهطل بغزارة. وجدهم ينقلون
الغلال إلى البيادر، يرتبونها حسب اصنافها، توجه إلى أقصى مكان، يروم العزلة، ففيه
رغبه بها تفوق غلال النمل في بيادرها. في طريقه المتعرجة، التي تضيق وتنفرج، في
منعطف منها، صادف نملة طويلة بأجنحة من زجاج محطمة، مقمّطة بلفائف كالمومياء، ملقاة
على الأرض، رفعت رأسها حالما اقترب منها، دبّتْ فيها الروح وتدحرجت وراءه تتوسل:
"أشم
فيك رائحة شهية، رائحة لحم آدمي... أعطني نتفة منه لجاه الامومة".
"انتِ
ميتة! فأي طعام ينفعك؟"
"الملوك
لا يموتون، تظل مومياءاهم تحكم مدى الدهر، يخدمونها ويقدمون لها الطعام والشراب كل
موسم"
أسرع
واختبأ في عمق نفق مهمل، رمى نفسه متعباً على قش يابس وغفى برهة. استيقظ على ضجيج
ووعيد النمل يأمره بالخروج لهم، فما كان عليه غير الامتثال لرغبتهم، فهو واحد من
شروط الحياة هنا؛ لا عزلة. اقترب منه ذكرٌ خشن بدين، وشم مؤخرته، نفر منه وصاح:
"أنا
ذكر مثلك يا أعمى"
لم
يتركه ذاك ولف حوله:
"كن
ما تكون، فأنت شهي ومثير".
اقترب من مؤخرته يشمه مرة اخرى، رفسه الشيصبان بكل
قوته، قضض مفاصله وألقاه صريعاً. تقدم منه شيخ ذو لحية طويلة، يلوح عليه الورع
والحكمة، بصوت خفيض قال له:
"يا
بني، تبدو عليك العافية، فأنت صرعت من عجزت عنه جحافل النمل، يليق بك أن تكون
بطلنا المدلل، لكن ما ضرّك لو تطعم اخوانك مما لديك؟ فنحن مشاعييون، نجمع سوية،
ونأكل سوية، ننام سوية، لا يعنيننا من جمع أكثر ومن أكل أكثر ومن ضاجع أكثر...
ألستَ منا؟"
"لا،
لستُ منكم تماماً، فأنا متحوّلٌ، بالأحرى، في طور التحوّل، حتى أغدو مثلكم احتاج
وقتاً طويلاً... امهلوني وسأعدّ لكم مائدة إلهية"
"تقصد
وهمية؟"
أدرك
الشيصبان أن محدثه لا يعرف معنى إلهية، وأجاب:
"
لا، حقيقية لا وهم فيها".
النمل
لا يكذب، بل يُصدق فقط. وكان هذا أول ما عرف عنهم.
هجع النمل ولم ينم الشيصبان، كان المطر يقرع
الأرض فوق رأسه. وجدها فرصة مواتية للتفكير، فهو لا يعرف غير التفكير، ويمكنه أن
يفكر نيابة عن العالم كله. فكر: كيف يتخلص من رائحته الآدمية، ويقنعهم بمزيد من
الوقت ليصل إلى ما يصبو اليه؟ ماذا لو احرنوا ولم يمنحوه فرصة للمناورة؟ كم من
الوقت يلزمه ليفتح نفقاً للهرب، تحسباً للخطر؟ استثنى هذه الفكرة فهو لا يعرف على
أي عمق يقطن، وما هي اتجاهاته، فكر يصنع سماً قاتلاً يسقيهم إياه في الوجبة الإلهية
التي وعدهم بها، أو يصرعهم واحداً واحداً ما دام قويا باعتراف شيخهم... فكر، وفكر،
بلا طائل.
في
ساعة الفجر هبطت عليه أضغاث أفكار ممزوجة بحلم يقظة مبكر، أن يكون رئيساً ما دامت
الملكة تحتضر، وشيخهم اصطفاه بطلا، فهو في مجتمع مهيئ، بإدارة ذاتية صارمة، وموارد
غنية لن يُتعِب بناءه، غير هذا أنهم يصدّقون كل شيء ولا يعرفون معنى الرئاسة ولم
يجربوا دورها في المجتمع، كيف يكون نظامها وتفاصيل لا يعرفها غيره، بهذا ينجو من طمعهم بلحمه، ويحظى بفرصة للتقاعس
عن العمل، لا يخرج لحرب، يأكل أفضل من غيره، يمسك بزمام الموارد، ويخضعهم
كالعبيد... ربما، في رحلة له خارج المكان، يمكنه الهرب إلى دياره أذا ضاقت به
الحال.
"يا
لك من وغد" قال لنفسه... ونام قرير العين.
ظل
ذاك النهار في مكانه ولم يخرج مع الجموع، ظل يفكر، يفكر فقط. سمع هسيس بجواره،
كانت الملكة المومياء قد دحرجت نفسها واقتربت منه:
"ما
زلتَ في فراشك أيها البطل... ما حيلتكَ في التقاعس عن العمل؟"
"أكرهه،
فأنا خلقت لأفكر فقط، أفكر فقط"
"ليست
هذه من شيم جماعتنا، فهي تعمل فقط، تعمل فقط!... عاداتكَ ليست من عاداتهم، تشبه
عادات البشر".
"كيف
عرفتِ هذا؟"
"عشتُ
في بيتٍ بشريّ حياتي كلها، وعرفت طباعهم وعاداتهم وتعلمت لغتهم... حتى التهمته
النار، هربت وقد احترقتُ وفقدتُ أطرافي، وكما تراني في لفائفٍ انتظرُ نهايتي... سلوككَ
ورائحتكَ يؤكدان لي أنكَ بشرٌ"
"ثم
ماذا؟"
"لا
أحد يعرفك، فهم بالرغم من حذاقتهم يجهلون علم الأرواح".
"ثم
ماذا؟"
"سيغدق
عليك القوم ويدللونك كما سمعتُ، وأنا بحاجة لمن يعتني بي ويطعمني، ويقيم لي معبداً...
وانتظر منك هذا مقابل كتماني سرك"
"ليس
لدي سر، غير أني في طور التحوّل، وما هي إلا أياماً وأغدو نملة حقيقية"
"حتى
تصبحَ نمله حقيقية أكون قد أبلغتهم الحقيقة، فيلتهموك لحماً وعظماً... إذا تعاهدنا
سيبقى سرك مدفوناً في بئر سحيق، وآخذه معي إلى القبر... سأعينك على معرفة خفاياهم
واقدمك لعلية القوم".
مد
لها كسرة خبز وحبة ملح، وكانت هذه عهداً بينهما.
في
ساعات تفكيره التي لا تنقطع، تجوّل في الانفاق وشاهد بيادر القمح والطعام الجاف. تذكر
قصة يوسف مع فرعون، الذي حلم بسبعة بقرات سمان وسبعة عجاف، وجدها اطروحة يكسب بها عقول
المجموعة ويضبط اقتصادها ويتحكم في حياتها، هيءَ خطابه وهو نسخة عدّلها من خطاب حفظه لرجل عاش قبل ألف وخمسمئة
عام، تمرن على القائه جيداً وخرج من مخبئه إلى تقاطع
واسع للأنفاق، رفع يده، فتوقف سير الجحافل وأحاط به، وخطب فيهم متعالياً:
"
يا أيها النمل، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات،
وكل ما هو آت آت، مطرٌ ونباتٌ وأرزاقٌ وأقوات، وأباءٌ وأمهاتٌ وأحياءٌ وأموات، جمعٌ
وأشتاتٌ وآيات، وأرضٌ ذات رتاجٍ وبحارٌ ذات أمواج. مالي أرى النملَ يذهبُ ولا
يرجع، أرضَوا بالمقام فأقاموا، أم تُركوا هناك فناموا؟ أبلغكم رؤيتي؛ ستأتي سبع
سنين يعم فيها خير وفير، فاجمعوا ما يتساقط وما يطير، وتأتيكم سبعُ سنوات عجاف،
تأكلون فيها ما ادخررتم من جاف، تقضون على بيوض اناثكم وتلتهمون بعضكم بعضا...
وعليّ البلاغ المبين، ولكم ما شئتم فهذا شأنكم، ولي ما قيّضه الزمان معكم...
والسلام عليكم."
ارتعد النمل لخطابٍ لم يسمعونه من قبل، وتعالت
صيحاتهم مما ينتظرهم من مستقبل. هللوا له وبايعوه والدموع تنهمر.
الفصل الثاني
انتظر
الشيصبان حتى خرج النمل للعمل وخلت الانفاق من المارة، حمل نفسه القلقة وراح
للملكة، قدم لها قمح وشعير وقطعة تفاح جافة. سألها عن حالها وعن أشد النمل عزيمة
وأكثرهم حنكة في العشيرة. ذكرت له قائمة طويلة بأسمائهم وأوصافهم. بعد عودتهم من
العمل، استدعاهم إلى مكانه وقد فرشه بأوراق رقيقة ناعمة، وزين جدرانه بقطع احجار مزركشة
وخرز ومرايا وأسنان حيوانات منقرضة، علق وراء ظهره قرن ماعز جبلي حادة. استرخى في
مكانه الوثير، وتنفس عميقاً، ونطق:
"أيها
السادة، اصطفيتكم من دون غيركم، لحنكتم وشدة عزمكم، فقد جئتم في رؤياي لتكونوا
أعواني في إدارة شؤون البلاد، تقيمون فيها العدل بعد أن فقدت الملكة قدرتها على
ذلك، وكلفت نفسي بهذا الشرف العظيم؛ شرف الرئاسة. أريدكم أن تشرفوا على مجموعات
النمل، وليكن لكل مجموعة تخصصها ورئيسها، تشرفون على الجند، وتعزلون من لا يستجيب
لهذا النظام، لحين تطويعه واخضاعه للعمل... وهذا يستلزم رقابة صارمة ومراقبة
حثيثة..."
طيلة
الوقت كان النمل يلتفت واحدهم إلى الآخر، فهم لم يسمعوا بكلام مثل هذا من قبل، ولم
يفهموا المصطلحات: أعوان، إدارة، بلاد، تخصصات، عزل، تطويع، إخضاع، رقابة... غير
أن "البلاد" كان السؤال الأول عن معناها:
"ما
معنى البلاد؟"
"انها
المكان الذي ولدتم فيه، وولد اجدادكم وأباءكم، أرضكم الخاصة التي تعيشون عليها وتدافعون
عنها... وطنكم، إنها رقعة جغرافية محددة تحمل اسماً ولها رئيس وعلم ودستور"
"
أنا لا اعرف أين ولدت، وأين ولد أجدادي وآبائي... كل الذي أتذكره أني أحببت واحدة
ذات خصر نحيل ولحقت بها، وكنت وحيداً جائعاً، فآوتني حتى أصبحتُ واحداً من المجموعة
بالمعاشرة، و.."
رفع
الشيصبان يده ضجراً، وأشار إلى آخر يسمح له بالكلام.
"فهمت
ما تقصده أيها الأخ..."
رفع
يده مرة أخرى، وصَحَحَ القول:
"أنا
الرئيس... خاطبوني بهذا اللقب"
"حسناً،
أيها الرأس..."
رفع
يده، وبصوت فخم تهجأ الاسم:
"ا...
ل...ر... ئ... ي... س"
"عفواً،
نحن لا نجيد الكلام، فليس في فمنا غير الطعام... الذي نقضمه ولا ننطقه خارج
افواهنا، أنه رئيسنا"
"آن
لكم أن تنطقونه... ولا تقضمونه" وضحك ملئ صدره.
"ليس
لبلائنا اسماً وكنا منذ الأزل نتمتع بكامل حريتنا وامننا"
رفع
يده، وصَحَحَ:
"تقصد
لبلادنا وليس لبلائنا... أليس كذلك؟"
"نعم،
ولم افهم الفرق بينهما"
"ماذا
تقترح، أيها الرئيس، اسماً؟"
"اسمّيها
المدافن... وهو اسم يشبه المسمى، ألسنا مدفونين تحت الأرض"
"غيرنا
كثير من الكائنات تعيش تحت الأرض، الأموات والأرانب والخلد والفئران والأفاعي
والديدان والغرير والميركات والمرموط والعناكب، ملايين الكائنات لها انفاقها
الدفينة بلا أسم ولا علم"
رفع
يده:
"لنكن
المتميزين بينهم... ويكن لنا اسم ورئيس وعلم"
انبرى
واحدٌ منهم، تتحرك اطرافه كلها، وتتعطف مفاصله، يمسح على وجهه بلا انقطاع، وقف وتكلم:
"اسمحوا
لي أن أقرأ لكم قصيدتي بحقكم"
أذِنَ
له الشيصبان بإشارة من رأسه، واسترخى منتشاً في مكانه.
"كنَّ
سبعين جيلاً، وما كنَّ سبعين ليلة،
غير
أن البشير يقف في كل باب،
فابشري
يا ام عبد الوهاب"
تعالى
التصفيق والهتاف، وغطى على صوت الشاعر، فازداد الشيصبان زهواً، نهض من مكانه ودس
في فم الشاعر حبة سكر كبيرة.
انتهى
اللقاء وأبقى الشيصبان بعض الحاضرين النشطاء الذين تحدثوا بجدية وحرص، لأمر سري
للغاية. فرش لهم الطعام وسقاهم، واطعهم عسلا. بعد يومين عمّ لغط وعويل ملأ الأنفاق.
جاءت الملكة المومياء مثل جذع نخلة يتدهور من علٍ:
"الفاجعة،
الفاجعة، مصيبتك عظيمة أيها الشيصبان"
"ما
بكِ تولولين وكأنك فقدت تاجك؟"
"وجدوا
اعوانك موتى في جحورهم، موتى زرق"
"يا
ويلي... يا ويل من امتدت يده الغاشمة إلى سواعدي، اخوتي، قادة البلاد"
خرج
وكأن النار في أطرافه، يدفع الجموع المحتشدة.
"أين
أحبتي، أين فلذات كبدي؟"
وقف
يتأملهم، قلّبهم واحدا واحدا ليصدّق موتهم، قبّلهم ورفع يده للجموع:
"شيعوهم
بعلم البلاد، كللوهم بالغار، ادفنوهم كما يدفن الأبطال، أقيموا مجالس العزاء بما
يليق بالفاجعة، انحتوا لهم انصاباً تخلدهم، أطلقوا أسماءهم على الأنفاق والساحات"
بعض
من الجمع كان يتهامس:
"هل
للبلاد علمٌ؟ هل لديها نحّاتون يصنعون الأنصاب؟ فنحن نموت ويأكلنا اخواننا مغفرة
لنا وثواباً لهم".
ما
أن انقضت أيام الحداد، دعا الشيصبان مجموعة أخرى يحاورها، قال:
"البلاد
يلزمها علمٌ وشعارٌ"
"سيدي
يليق بنا حبة قمح شعاراً"
"لا
سيدي، بل حبة شعير"
"أرى
أن فتات الموائد أدق تعبيراً لوجودنا"
رفع
يده وقال:
"ألسنا
أبناء المدافن!، فشعارنا قبرٌ، وعلمنا شاهدة قبرٍ، أخطُ عليه بقلمي _ إنا لله وإنا
إليه راجعون_".
"لكن
يا رئيس، جل حياتنا فوق الأرض، ننبش في البراري، ليكن شعارنا محراث، وعلمنا ورقة
زيتون"
"أرجوكم!
وجدّتها؛ شعارنا: صورة الرئيس، وعلمنا صورة الرئيس"
رفع
الشيصبان يده يحيي مَن وجدها.
بعد
ساعات ملأت صور الرئيس الجدران والساحات، في كل مدخل نفق صورة جبارة، ورفرفت رايات
البلاد الجديدة. بين يوم وآخر تخرج الجموع تشيع الأبطال إلى مثواهم الأخير، ملفعين
بعلم البلاد، تتعطل الأعمال، تغلق البيادر، وتنصب سرادقات في العراء لاستقبال
المعزين.
الفصل الثالث
تقسمت
العشيرة الكبيرة إلى عشائر أصغر، لكل واحدة رئيس يحكمها بالنيابة، كثٌر الأعوان
والمخبرين وكتبة التقارير السرية. انشغل الشيصبان بحياكة شبكة واقية من أعوانه تحميه
من غائلة الطامعين بحكمه، أنشأ مراكز خاصة ولجان يشرف عليها بنفسه، ولم يعد في
حياته غير التفكير في هذا. بين فينة وأخرى كان يستضيف الملكة يشاورها ويسمع منها
أخبار البلاد الدفينة.
"يا
سيدي، لم يعد في حياة الجماعة غير الحديث عنك، وكل فرد فيهم يتسابق على نيل
رضاك... وأنا ما زلت أنتظر وعدك بإقامة معبد لي يحفظ لي اسمي وتاريخي من
بعدك"
"تقولين
من بعدك! وهل من بعدي تقوم قائمة وتستوي أرض؟"
"لا
أقصد هذا، إنما كنت أقصد من بعد إذنك"
"
حسناً، لك ما ترومين إليه بعد اعلانك مبايعتي، مبايعة كاملة غير منقوصة، وتباركين مكانتي".
في
حفل لم تشهده الأرض ولا الخنادق، وضعوا الملكة في تابوت خشبي مزركش، ربطوها جيداً
واقاموه عمودياً في وسط أكبر الساحات، فأصبحت عمودية لأول مرة بعد ان قُمطت
باللفائف في سنواتها الأخيرة وعاشت افقية. إلى جانبها، وقف الشيصبان، يقرأ بالنيابة
عنها:
"يا
شعبي، ها أنا اغادركم وكلي ثقة أنكم ستعيشون في رغد وهناء بقيادة رئيسكم الشيصبان
ذو النسب والحسب الرفيع... أُودعكم وأتمنى أن يظل اسمي بينكم مثار اعتزاز
وتكريم... والسلام عليكم".
من
الجموع تقدمت كوكبة من الأشداء، حملوا التابوت على ظهورهم وهم يهزجون. لأول مرة،
بعد فقدانها زمام أمور البلاد، شعرت الملكة بفخر واعتزاز وهم يحملونها كما كانوا
يحملون هودجها في الخنادق، تبسمت وهي تتأتئ، وقد شعرت بنهايتها، بكلمات متقطعة غطت
عليها زغاريد الاناث واهازيج القوم. الأشداء الذين حملوها سمعوا كلماتها الأخيرة وواصلوا
قدماً نحو كومة حطب كبيرة، وضعوا التابوت فوقها وأشعلوا النار فيها. لم تمضِ دقائق
حتى كنس الخدم رماد الملكة وألقوه خارج الأنفاق... واصل الأشداء اهزوجتهم، وردد
الجمع الغفير وراءهم:
"ضحكتك
سيدي تريح 15 مليون،
مِنْ
تبتسم سيدي،
كل
الناس يبتسمون،
بالنار
مسيسة، ومحروقة...
بالنار
مسيسة، ومحروقة...
بالنار
مسيسة، ومحروقة"
ردد
الجمع الغفير وراءهم وبحماسة لا مثيل لها، حتى كادت أصواتهم تهدَّ الأنفاق
وتهدمها:
"بالنار
مسيسة... ومحروقة".
المقيمون
في المناطق المتاخمة للبلاد، سمعوا الأهازيج، وشموا رائحة الحريق، وشاهدوا دخانه،
فأعدوا العدة مخافة أن تسري النار إليهم.
بسرية
تامة، في قبو تحت الأنفاق، في العتمة، اجتمع الأشداء يتداولون ما بينهم ويفسرون
كلمات الملكة الأخيرة، التي أقلقهم تعدد صيغها ومعانيها. التمع بينهم ضوء خافت من
قرص معلق بسلسة تتدلى من رقبة أحدهم. سألوه عنها، أجاب:
"انها
حلية عثرت عليها أمي وهي تحفر نفقاً عبر المقبرة، قالت إنها من عهد سحيق لكائنات
تدفن الحلي مع موتاها، اهدتني إياها في عيد ميلادي الأول، البسها تبركا ومحبة
بها".
"حسنا
فعلت، فنحن بحاجة إلى بصيص ضوء لنكتب ما تناثر من كلمات الملكة ونرتبها في جملة
نفهمها".
أخذوا
يجمعون الكلمات ويرتبونها، ويعيدون تفكيكها وترتيبها من جديد. انتهوا قبل الفجر
على اوضح معنى: إنه بشر وليس شيصبان حقيقي.
"من
كانت تقصد وهي تتلفت للرئيس؟"
"ربما
كانت تنوي إبلاغه بأمر أحدهم"
"أو
... كانت تعنيه هو" قال صاحب السلسة.
"إنها
فكرة سخيفة، فهي ذاتها قالت في خطابها: أنه ذا نسب وحسب رفيع".
"لكنه
هو من قرأ الخطاب وليست هي".
"
تقصد أنه... أنه هو من كتب ذلك".
"لا
أدري، الأمر محيّر".
"دعونا
ندعوه إلى جلسة خاصة ونشم رائحته"
اتفقوا
على ذلك وتفرقوا على موعد. لم يذهب صاحب السلسة إلى جحره، وتوجه خلسة إلى مقر
الرئيس. فتح الشيصبان الحلية وسمع ما فيها، مرات ومرات، ودعا عونه الوفي إلى
الإفطار ودراسة الوضع لتدارك مفاجآت الغد. سقط العون ميتا حالما خرج من الباب.
أرسل
للأشداء يستدعيهم، لم يحضر أحدا منهم. سمع هياج وزعيق خلف بابه يطالبونه بالخروج
إليهم، تذكر ليلته الأولى في الخنادق وهو مازال ينطوي على رائحته الأدمية... "هل
أفشوا أمره للعامة؟" سأل نفسه.
"نعم!"
أجاب نفسه.
تمنطق
بقرن الماعز الجبلي وتسلل من نفق سري يؤدي إلى خارج المكان، وجد نفسه في العراء لأول
مرة بعد أن دخل الخنادق ولم يخرج منها، سمعهم يهرولون وراءه ويهزجون، اختبأ في جحر
للأرانب قريبا منه. غير أن رائحته الأدمية التي طفحت بفعل الخوف، فضحت مكانه،
اخرجوه أشعثاً، مغّبراً، وتقاطروا عليه ينهشونه لحماً وعظماً ودماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق