قصائد (شذرات)
للشاعر الفرنسيّ: أنتونان آرتو
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
خارجَ الفَرْجِ، من دونِ أمي، سأُضمرُ روحاً غامضةً، شاملةً، بليدةً، ومطلَقةً.
§
مساءَ أمسِ 13 مارس حفلُ إيفون.
أطفالُ العصا الصغيرةِ المُسنّنةِ.
قِدرُ
الصّلصالِ الإتروسكانيةُ[1].
§
الكينونةُ طُفيليّ العقلِ، فشرعتُ معَ خيطِ
النهارِ أُخلّصُ نفسي من الربّ وتابعيهِ:
الآفاتُ، والليلُ.
§
تدريجياً ولِدَ هذا اللاوعي، وهو ما أحببتُ أقسَى ما أقسَى فيهِ، قبلما ولِدَ
نَعشُ بناتِ قلبي الستّ:
إيفون،
كاترين،
نينيكا،
سيسيل،
آنّا
و
آني الصغيرةُ.
§
قبلما يهرَبنَ مني، فَجّرتُهنّ في حالةٍ أشدّ رعباً
مما أوصلهنّ إليهِ الربّ فيما بعدُ.
§
كُنّ أكبرَ
على هذهِ الأرضيةِ حيثُ تصلّبَت كُبراهُنّ في موتها، لا تُشبهُ رُكبةً غَطّتها
رَضْفةٌ، بل كشيءٍ متناهي الدقّةِ يتقدّمُ في زاويةٍ من الخَنقِ السرمديّ.
§
لا يوجَدُ هذا عن حقٍّ بالفلسفةِ، بل في صحنٍ من
البطاطسِ المحمّرةِ، قد يكونُ مربّعاً ذا مِقبضٍ بدعامةٍ تحملُ ما يشبهُ الملعقةَ بلسانِ
عضوٍ جنسيٍّ مثقوبٍ للأبدِ وهو ما ينكرهُ
القلبُ.
§
قالت فتاةٌ صغيرةٌ ميتةٌ: إني مَن يبقبقُ من الرّعبِ
في رئتَي الحيّ. فأخرِجْني للتوّ من هنا.
§
نفخوا عباراتٍ من شَمعٍ ميتٍ على أجسادِ الكائناتِ
المدانةِ جعلوا منها احتباساتٍ ذاهلةً، قبلَ الميلادِ، فلم تكن غيرَ
أنسولينَ من أنسولينَ،
ظنّوا أنهُ هذا،
لكن الخرشوفَ قد نما على ساقهِ والعذراءُ تَخرَى.
الأنسولين هو "الكا[2]"
من دونِ خراءٍ، خراءٍ من دونِ أن نَخرَى.
§
ليسَ ثمةَ غيرُ
الموتَى
ينامون فيَّ،
بعضُهم تحرّرَ، وهُم بالخارجِ،
أما الآخرونَ ففي هذهِ الكومةِ من الرّوَثِ الجحيميّ
حيثُ تَنفِرُ عَظْمةُ فَخِذي دائماً وهي
ترعَى لتقويضِ الجحيمِ.
§
أمسِ الجمعةُ 15 مارس لدى تنصيبِ معاناتي، داخلَني
الجدَلُ ساخراً من لحمي الحيّ وهو يعاني،
معَ أنه لا يستوعبُ.
§
المورفينُ في ساقٍ خشبيةٍ، قد حُقِن، هذا المورفينُ،
معَ الغَنغَرين في عَظمِ ساقِ الميتِ، ثم يُسحَبُ، ها هنا كان الثالوثُ المقدّسُ.
§
لا يكفي أن نخُضّ السوائلَ كي نوضّح اللاوعي، فلم يكن
روحاً عموميةً، بل قدراً من صوتِ الجسدِ حين يرتفعُ حيث يمهّدُ طريقَه ليكونَ
نقيضَ الروحِ، التي تتجرّد حُسباناً له.
§
أرواحُ الشرّ
ليسَت حالاتٍ ذهنيةً، بل كائناتٌ لا تريدُ أن تتحمّلَ أنفسَها.
§
لا تريدُ الأرواحُ أن ترعى شؤوني، وعليّ أن أُنَظّمها
دائماً بيدَيّ ومن دونِ أية فكرةٍ، كعاملِ ضبطٍ لأطرافي مبدأهُ في عُلبةِ نُطفتي،
وتابوتَي ساقَيّ العموديتَين.
§
لكن بمجردِ أن يخرجَ العمودُ، لا يعودُ ثمةَ سؤالٌ عن
أطرافٍ منضبطةٍ، بل عن بنائهِ، فالعمودُ ينفجرُ
في طرفٍ، لا يُعاني من الاستبدالِ.
§
أما الأطفالُ وهم يستعدّون لطَوْرِ الجوهرِ،
فلم يكن لهم أيّ صوتٍ، بل في الفَرْجِ،
الذي لم يكن صومعةَ الجوهرِ الأصليةَ، بل ماضِغةً مخيفةً.
*
لم يكن لهم أيّ رنينٍ، بل في الفَرْجِ، حيثُ تكوّرٌ
عنيفٌ لانتفاخٍ أرضيٍّ، يتقدّمُون بطاقمِ أسنانهم المرعبِ ككائناتٍ، كمخلوقاتٍ تبتلعُ
مخلوقاتٍ، ولا يعرفُ أحدٌ أين هي الآنَ.
§
في القيلولةِ ينعسُ المرءُ، فلا ذاتَ هنالكَ، لا شيءَ
عدا أشباحٍ،
وهي تختلسُ "rétême" من الكائنِ، من كائناتٍ أُخرياتٍ (في لحظة
الصحو)، منها يلحظُ المرءُ جسمَه.
لكن ما الــ"rétême"؟
دمُ الجسمِ لحظتئذ، وهو يتمدّدُ، يغلبهُ النعاسُ لأنه مُستنيمٌ. وأنّى لـلـ
"rétême" أن يصيرَ
دماً؟ مع الــ "éma"، قبلما ترتاحُ الــ "t" وتتعيّنُ مثلَ "tévé" (صباح الخير) في مرسيليا. لأن الــ "té" تُحدِثُ صوتَ الجمرةِ حينَ يطلقهُ اللّسانُ على
الشفتَين والمرءُ يدخّنُ.
أما "Ēma" في اليونانيةِ فتعني "الدم". والــ "rétême"، هي الجمرةُ المضاعَفةُ على لَظى جلطةِ الدمِ،
وهذهِ الجلطةُ الراسخةُ هي دمُ الحالمِ النائمِ الذي يُستَحسَنُ أن يصحو.
ـــ فلا فاقدُ
الوعي أو شبهُ الواعي هو القانونُ.
كلّ حُلمٍ هو
جزءٌ من معاناةٍ تمزّقنا من قِبلِ كائناتٍ أُخرياتٍ، لديها احتمالٌ أن
تُلقي يدَ قردٍ عليّ كلّ ليلةٍ، أما جمرةُ ذاتنا الراسخةُ فليسَت جمرةً بل ذيلَ
رصاصاتٍ بينما الدمُ حديدٌ خردةٌ أو ذاتٌ
حديديةٌ.
وما الحديديةُ؟
هي هكذا ببساطةٍ: رأسٌ، جذعٌ على ساقَين، وذراعان يهزهزان
الجذعَ بإحساسٍ أكبرَ دائماً مع وجودِ
رأسٍ، وساقَين، وذراعَين.
حيثُ يُقالُ من زمنٍ سحيقٍ إن الأُميّ لغزٌ، من دون
الألفِ ومن دون الياء، بل برأسٍ، وساقَين، وذراعَين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأُميّ
الساذَج بسيطٌ ولا يفهمُ. يفهمُ أنه رأسٌ وذراعان، قدمان ليحرّكَ الجذعَ. ولا شيءَ
يُرجَى منه عدا: أن هذا الطوطمَ بجَفنَين، أُذنَين، وأنفٍ يحفرهُ عشرون إصبعاً.
§
ليسَ ثمةَ داخلٌ، لا روحٌ أو وعيٌ، ليسَ غيرُ جسمٍ وهو
ما قد يُرى، جسمٌ لا يكفّ عن الكينونةِ، حتى لو سقطَت العينُ التي تراهُ.
ومثلُ هذا الجسمِ حقيقةٌ.
هو أنا.
§
النطفةُ ليسَت بولاً بل هي كينونةٌ تسعى دائماً إلى
كينونةٍ تتقدّمُ لتجفّفَها بحرارةِ ذاتها.
§
وهذه النطفة ليسَت حكايةً، بل حربٌ بمدافعَ يتوّجها
الشوكُ وهي تخضّ ذخيرتها قبلَ خَضّ المرءِ وهو
يدخلُ.
§
العمليةُ التي يُسقِطُ بها المرءُ النهارَ تجعله يوافقُ أن يُلاعبَ الحمقَى.
§
و الدرجة 2
ثانياً
ليسَت أظفاراً
بل عدمٌ،
يُبدي نفسَه ظُفراً ذاتَ يومٍ،
فهو قد حَكّ
رأسي كثيراً، ولأني أنا، أنتونان آرتو، أعاقبهُ على مصّ رأسي، أستحيلُ إلى
ظُفرٍ بضربةِ قَدّومٍ.
§
رأيتُ مثانةَ إيفون المنتفخةَ، رأيتُ المثانةَ منتفخةً
برواسبَ من روحِ إيفون المتقرّحةِ، رأيتُ مثانةَ إيفونَ الناعمةَ المرعبةَ بروحٍ
من سُدومَ[3]،
رأيتُ قلبَ إيفونَ المتورّمَ مثقوباً، كمثانةٍ هائلةٍ منتفخةٍ من القيحِ، رأيتُ
جيفةَ أوفيليا[4]
المُهانةَ وهي تدبّ لا على دربِ التبّانةِ، بل على دربِ فُحشٍ بشريٍّ، ملعونٍ،
مُهانٍ، مُبغَضٍ، رأيتُ جيفةَ من تحبّني معرّضةً لتَجشُؤٍ نتَنٍ من الروحِ بالركلاتِ والصفعاتِ،
رأيتُ أخيراً انتفاخاً مَمقوتاً، تورّماً شائناً من
هذا القلبِ المعذّبِ، فهو يودُّ أن يجلبَ
لي شبهَ فِلِزٍّ حينما لا أجدُ ما آكلهُ،
رأيتها تمرّ، هذهِ المثانةَ البُنيّةَ، مثلَ قيحِ
اليأسِ، رأيتها تمرّ، غدّةَ ابنتي الدرقيةَ وهي ميتةً وفي حياتها كانت تُثَبّطُني
لتُصيبَني.
رأيتها تُصيبُ نفسَها، وهي الميتةُ الممرورةُ، كي لا تُهانَ
بالمزيدِ.
§
رأيتُ جيفةَ ابنتي آني وهي تنحلّ إلى رمادٍ وعضوها
الجنسيّ تُهلكهُ منشَقّاً بعد موتها، الشُرطةُ الفَرنسيةُ.
§
الكهنةُ ثمةَ مؤخّراتٌ من دونِ ذواتٍ وهي تتكلّم إلى
ما لا نهايةَ مع مؤخّراتٍ الآخرينَ لتغرسَ ذاتها هناكَ.
§
رأيتُ الزُهَريّ السّحائيّ بساقَيْ ابنتي كاترين، وحَبّتَي
البطاطسِ البشعتَين من رَضْفَتَي رُكبتَيها المتورّمتَين، رأيتُ بصَلتَي أصابعِ
قدمَيها متورّمتَين كعضوها الجنسيّ حيثُ لم يعد بمُستطاعها أن تستحمّ مدةَ عامٍ
بعدما بدأت مشوارها. رأيتها تنفجرُ من جُمجمتها
مثل حَلْقِ آني "المقدّس"، كما رأيتُ تاجَ شَوكها المعَويّ وهو يسيلُ من دمها طيلةَ أيامِ حَيضها.
*
ورأيتُ السَكّينَ المثلومةَ لابنتي الأخرى نينيكا وقد
أحسَستُ بها تسري في خَشخاشِ الأرضِ،
وكانت هناكَ أيضاً إيفونُ، كاترين، سيسيل، آني وآنّا
مع نينيكا.
وكانت هي خَشخاشَ الأسنانِ، فليسَ ثمةَ أصعبُ من ألمِ
الأسنانِ وهي حانقةٌ. الأنيابُ الماضغةُ لخَشخاشِ الأرضِ هي ما يدهسُها أيّ امرئٍ
تحتَ قدمَيهِ.
أحبتني وأنا أمضغهُ ذاتَ يومٍ كي أتناغمَ مع الأرضِ،
الأرضِ التي سآكلها.
وقد رأيتُ القضيبَ الإنسانيّ، يدكّ قلبَ سيسيلَ
الرّجّاجَ،
في ذلكَ الأخدودِ حاملِ العَظْمةِ،
حيثُ لا تتعزّزُ الروحُ إلا بشَمّ امرأةٍ ميتةٍ،
الفمُ مفتوحٌ على سِردابٍ غيرِ فانٍ.
أما الدمُ الممنوحُ فيشمّ جمراتٍ بأوعيةِ سِردابهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ وكم عددُ خُصْياتِ البغضاءِ التي ترتطمُ بهذا
القلبِ المولودِ للمرةِ الأولى؟
*
ستبقى هناكَ آنّا وآني.
§
هي الفرصةُ وهي اللانهايةُ لا الربّ، وما الفرصةُ؟
إنها أنا، أناي قد بلّغَتني عمّن يُنصت إليّ.
وجاوبتها: قد وصَلَت أنفُسيَ كافّةً إلى هذهِ المرحلةِ
فكلّما زادَ اهتمامي لا أعودُ أُنصت إليكِ.
§
هي آنّا التي عشِقَت ذاتَ يومٍ الموسيقى من أعالي تلكَ
السّقيفةِ التي كانت تُنصتُ فيها إليّ، حينما لا أفكّر في نفسي، بل فيها هي. ومَن هي؟
تلكَ الروحُ التي مني ستولَدُ.
كلّ هذا على ما يُرامُ، لكن متى أرى آنّا كوربن من
جديدٍ حيثُ مرّت على بطنها المهنةُ
الطبيةُ كاملةً، آنّا كوربن التي سَمّتها شرائحُ البورجوازيةِ الصغيرةِ "الفاسقةَ"،
من سانت روش حتى نوتردام دي شامب[5]؟
آنّا كوربن، ابنةُ روحي التي ولدَت أولاً، والتي ماتَت يائسةً
مني.
*
أبداً!
*
نعم، ذاتَ يومٍ، ذاتَ يومٍ عاجلٍ، حين أستطيعُ ان آكلَ
أخيراً.
§
وكي تتزوّجني، كانَ على آنّا كوربن أن تنتظرَ الأرضَ حتى تَطهُرَ، مثل إيفون، سيسيل، آني،
كاترين، ونينيكا، وهنّ الميتات، واللاتي ما وراءَ كربِ أطرافهنّ، ينتظرن ما قبلَ
مجيئي حتى انتهيتُ إلى الزواجِ من خرائي.
§
وكانَ على المرءِ أن يأكلَ الأرضَ، مرةً.
§
وقد رأيتُ مارثا روبرت، في باريسَ، رأيتها من روديز[6] إلى
باريسَ، وكانت تميلُ للوراءِ بزاويةٍ من غرفتي المغلقةِ، إلى يمينِ طاولتي
الليلية، كزهرةٍ بحُنقٍ انتُزِعَت، مما هي رؤيويةُ الحياةِ.
§
كما كانت هناك كوليت توماس، وقد راحَت تهجمُ على شُرَطةِ
البغضاء من باريسَ إلى ناجاساكي[7].
وهي مَن ستوضّحُ لكم فواجعَها.
ما بعد النصّ
حلُمتُ ليلةَ أمسِ، بتشوّشٍ، نعم حقاً، حلُماً مشوّشاً
كان عن يقينٍ مشوّشاً. لكنه، من ناحيةٍ أخرى، ذو مغزَىً.
كان جون دوكيكير
يسحبُ نفسَه على الأرضِ بساقَين قصيرتَين مبتورتَين، وهو يقول: أأنا حيوانٌ، حصاةٌ، غصنٌ، أم قاعةُ عرضِ
لحومٍ؟
لكن بعد هذا كلّه، ما الشجرةُ؟ ما الشجرةُ؟
كانت زوجةُ دوكيكير
خلفَ قفصٍ ومَعِدتها مضغوطةٌ في شَفيرِ
هذا القفصِ، تقول: أتلكَ مَعِدتي، لا...
(أهذهِ ليسَت مَعِدتي؟)
أليسَت هذهِ مَعِدتي حقاً، والتي قد توفَّق في
إصدارِ دَويٍّ؟
كانَ لــ كوليت توماس وجهٌ مفعَمٌ بنيرانٍ إغريقيةٍ
فهتَفتُ: إن لم يتوقّف هذا سأنفجرُ.
أما زوجةُ دوكيكير ، السيدةُ العجوزُ، فهي غيرُ مرئيةٍ، كتمويهِ عجينِ كينونةٍ لن تُوفّقَ في
العودةِ للوراءِ، بيدها اليمنى في الهواءِ واليسرى كغِشاءٍ بالٍ يطفو على بطنها، تقول: سأحبّ يدَيّ بالتأكيدِ
لأستعيدَ لَأمَها من دونِ مفاصلَ، لكن لا يدان مُرفقَتان، لا، لا يدان مرفقَتان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكم كان أمراً عصيباً، كم هو عصيبٌ.
..............................
(*) أنتونان آرتو Antonin Artaud: (1896/ 1948)، أهم الطليعيين الفرنسيين، شاعر، مسرحيّ، ممثل،
مخرج، منظّر للسوريالية، أثّر في مسرحيّ العبث (بيكيت، يونسكو، جينيه). من
كتبه: مسرح القسوة، فان جوخ (المنتحر بأثر
من مجتمعه)، رقصة بايوت (رحلاته في المكسيك)، الفوضويّ المتوّج.(م)
(*) البورتريه واللوحة، بريشة آرتو نفسه.
[2]Ka:
هو القرين، أو القوة الباعثة على الحياة، لدى قدماء المصريين، وقد يعبث آرتو
فيجعلها من مشتقات "الكاكا" أي الخراء. (م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق