الجمعة، 14 أبريل 2017

قصيدة “آرتو” عن انتحار “فان غوغ”

المجتمع يخترع المجنون

بقلم: إبراهيم العريس 




ســـؤال:

لماذا قـــتل فان غوغ نفسه؟ جواب: لأنه كان عاجزاً عن قتل طبيبه النفسي الدكتور غاشيه. ولأنه لم يعد في تلك اللحظة قادراً على أن يتحمل، أكثر، ذلك  "الهذيان" الذي راح الجميع يربطه بخطواته وبكل حــياته...". هذا الكلام، ســؤالاً وجواباً، ليس من عنـــدنا طبعاً. بل ما كان من شأنه أن يخطر لنا في بال، من دون قراءة تلك القصيدة، التي كتبها الفرنــسي أنطونان آرتو في عام 1947 وعنوانها "فان غوغ، منـــتحر المجتمع". وكما هو واضح تتحدث هذه القصيدة الطويلة، وشبه المنسية اليوم، عن الرسام فنسانت فان غوغ، وبالتحديد انطلاقاً من انتحاره وما قيل عن جنونه. وهنا، في هذه القصيدة إذا كان آرتو، يسلم من دون جدل، في أن فان غوغ هو الذي وضع حداً لحياته بيده، يرفض الفكرة الأخرى التي تحدثت دائماً عن جنــون فان غوغ. بالنسبة إلى آرتو لم يكن فان غوغ مجنــوناً، إلا في مواجهة مجتمع هذيان، هو نفسه مجنون. وفي هذا الســياق لن يفوتنا أبداً أن نلاحظ أن أنطونان آرتو، نفسه، كان "يعتبر" مجنوناً )لكي نتحـــفظ بعــض الشيء ولا نقول إنه كان مجنوناً بالفعل). ومن الواضح هنا أن آرتو حين اختار فان غوغ و"جنونه" ليكتب عنهما هذه القصيدة، كان يفعل كل ما يفعله أي مبدع كبير وحـــقيقي: كان يكتب عن نفسه، أولاً وأخيراً. إذ إن فان غوغ لا يعود هنا سوى ذريعة ومدخل لكتابة ذاتية خالصة.

 بيد أن الاكتفاء بهذا التـــأكيد، لن يكون هنا، بالنسبة إلى هذه القصيدة، أمراً منصفاً في حق فان غوغ، ولا في حق أنطونان آرتو، إلا إذا تنبهنا مسبقاً إلى أن كل ما يبدو أن آرتو يقوله في سياق هذه القصيدة الجميلة، ليس «فان غوغ هو أنا» – على شاكلة ما قال غوستاف فلوبير عن إيما بطلة روايته الكبرى "مدام بوفاري" – بل بالتحديد: "أنا وفــان غوغ واحد" ومن هنا، لا يعـــود للقــصيدة مجال للاستقامة والاتــساق إن هي كتبت، وفي المعاني نفسها، عن شخص آخـــر غـــير فان غوغ، أو إن كتـــبها آخر غير أنطــونان آرتو . وانطلاقاً من هذا الاقـــتراح بالتالي، تصبح القـــصيدة سيرة لشخص واحد مزدوج، يلوح لنا مـــاثلاً هنا في القصــيدة متضـــافراً مع قرينهأناه/ الآخريكتبها معبّراً عن هذا القرين وكأنه يكتب معــــبّراً عن ذاته. والحـــال أن هذا التـــطابق الــكلي، في لغة آرتو وكلــــماته بل حـــروفه حتى، هو الجوهر هنا. وليس فقط لأن آرتو إذ ينـــكر أن يكون فان غوغ مجنوناً، يؤكد بالتالي أنه هو الآخر، ليس مجنوناً، كما قد يتبادر إلى قارئ القصيدة أول الأمر.

"إن المجتمع هو الذي ينظر إلى من يخرج عن سياقه على أنه مجنون". هذا ما يؤكده آرتو من خلال الحديث عن فان غوغمستطرداً أن هذا الأخير "لم يرسم الجنون أبداً، ولا في أية لوحة من لوحاته ولا حتى في تلك التي رسمها خلال الشهور الأخيرة من حياته حين يبدو أنه بدأ يفكر جدياً بوضع حدّ لحياته" …  كما أن فنه ليس فن شخص مجنون بأية حال من الأحوال، وهذا ما يؤكده آرتو ولكن، كذلك عشرات الباحثين الذين درسوا في فان غوغ وركزوا في أحاديثهم وتحليلاتهم على"عقلانية" ذلك الفن. كذلك، فإن آرتو لا يكتب هنا عن الجنونأو بالأحرى لا يكتب عنه كما هو متعارف عليه ضمن إطار السياقات الاجتماعية المعهودة الساذجة. آرتو كتب، ويكتب من هذه القصيدة، طبعاً عما يجدر بنا أن نسميه "الاغتراب العقلي". أما إذا كان يسعى في كتابته عن فان غوغ، إلى ربط"جنون" هذا الأخير بمبدأ الاغتراب العقلي هذا، فإنما لكي يدافع عنه وعن صدقه وعن شرعيته، عبر موضعته في المكان وفي الزمان، أي عبر ربطه بواقعه. من هنا، لا يعود غريباً أن يؤكد لنا آرتو أنه إذا كان الآخرون هم الذين يجعلون من العبقري مجنوناً، فما هذا إلا لأن العبقري هو في المقام الأول "احتجاج صاخب وجذري على المجتمع". هذا المجتمع الذي لا يراه آرتو سوى مكان مميّز لاستشراء كل أنواع الظلم والجريمة. وبالتالي فإن العبقري، إذ يكون ذا بصيرة ووعي حادين، يصبح بالضرورة عدواً لدوداً للمؤسسات. وبالتالي يصار إلى وصمه بالجنون وإلى اضطهاده. وعلى هذا النحو "يصبح من مصلحة الوعي المعتبر مريضاً، في مثل هذه الحال، ألا يخرج من مرضه". حيث إن "الاغترابي الحقيقي، ليس سوى إنسان فضّل أن يعتبر مجنوناً، بمعنى أن ينظر إليه المجتمع كمجنون، بدلاً من أن يتخلى عن فكرة سامية بحملها في ضميره لمسألة الشرف الإنساني".


 في هذا السياق، إذاً، يعتبر أنطونان آرتو المحللين والمعالجين النفسيين خداماً ممثلين للمجتمع، مهمتهم أن يدفعوا مرضاهم إلى ارتكاب الخطايا والجرائم... وهم بالتالي "ينحرونهم" ... والحقيقة أن أنطونان آرتو ينطلق في قصيدته من هذه النظريات لكي يلقي "الضوء ساطعاً على الظلمات التي نعيش فيها نحن معشر البشر العاديين".  وهنا، تماماً كما أن فان غوغالذي يجب ألا ننسى هنا أنه هو موضوع القصيدةجابه "العالم الأحمق"  بقوته الفنية، ها هو أنطونان آرتو يجابه هذا العالم نفسه، بقوته التعبيرية، حيث نجده مدهشاً ومفاجئاً في وصفه اللفظي لبعض أكثر لوحات فان غوغ تعبيراً. فمثلاً إذ نقرأه يقول: "غربان سود فوق فضاء حقل مليء بالحياة ربما، لكنه خاوٍ على أية حال، حيث ألوان الأرض تتجابه يائسة مع أصفر القمح الموسخ" يتابع على الفور بعد ذلك، ليرفض صورة السعادة التي قد يوحي بها هذا المشهد مؤكداً أن فان غوغ إذا كان أكبر رسام عرفته البشرية، فما هذا إلا لأنه لم يرسملم يكن يرسم "إن فان غوغفي نظر آرتوهو الحقيقة نفسها لا صورتها، هو أسطورة الحقيقة". هو " صاحب الفن الذي يتناسق كل التناسق مع سموه الإنساني". أما فان غوغ فإنه هو نفسه، بالنسبة إلى آرتو إنسان بسيط بائس محكوم عليه بألا يخطئ أبداً "إنه جزار يحفر العالم كله لكي يشق لنفسه طريقه. متنور يراكم الأحياء فوق بعضها بعضاً" وهذه المراكمة هي بالنسبة إلى آرتو تراكم يستخدمه، في اللغة واللفظ لكي يسير قدماً في خطابه هذا. فماذا يضيف هذا الخطاب بعد ذلك؟

 إنه يضيف، على سبيل خاتمة القصيدة أن العنف الذي يبديه فنسانت فان غوغ، ليس بالنـــسبة إلى آرتو ســـوى "الرد القاطع على ابتذالية هذا العالم الكريهة، وعلى ابتذالية المعالجين النفسيين" أما جـــنون فان غـــوغ فإنه الرد الذي تبـــديه الروح، الروح الحــقيقية السامية، على الغباء العام المستشري (خصوصاً في رأي آرتو، على غباء ثيو فان غوغ، شقيق الرسام ومراسله الوحيد تقريباً، ومحاوره الدائم). ويوضح لنا آرتو هنا لماذا يحمل على ثيو: لأنه كان لا يتوقف عن أن يهمس في أذن أخيه العبقري: " إنك تهذي...".

 مهما يكن من أمر، فلا بأس أن نشير هنا إلى أن آرتو في قصيدته هذه، وحتى بعيداً من قضية فان غوغ، إنما استبق في تحليله مسؤولية المجتمع عن الجنون، نظريات وأعمالاً إبداعية كثرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين في الدراسات العلمية وفي السينما والمسرح ساعية لأن تطلع بالأحكام نفسها أو بما هو قريب منها. ولعلنا لا نكون بعيدين من الصواب إن نحن رأينا أن المفكر الفرنسي ميشال فوكو كان الأكثر بروزاً في التنظير لمثل هذه المسألة في بعض أهم كتبه، لا سيما "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي".

 ولد أنطونان آرتو (1948 – 1896) خمس سنوات بعد موت فنسانت فان غوغ، وهو بدأ باكراً الانخراط في الحياة الأدبية والفنية، منظراً وشاعراً وكاتباً مسرحياً، وممثلاً في بعض الأحيان. وهو ركز في كتاباته، منذ البداية تقريباً، على مسألتين أساسيتين: العنف والجنون، في علاقتهما بالفن. وهو نفسه عومل لاحقاً في حياته على أنه مجنون. من هنا، من الواضح أن علاقته بقصيدته عن فان غوغ، وتحديداً عن الجنون لدى فان غوغ وانتحار هذا الأخير، ليست مجرد علاقة بين كاتب وموضوعه، بل تحديداً: هي علاقة بين الكاتب وذاته.


* عن صحيفة الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق