بقلم: انطوان
جوكي
باتريس
تريغانو ليس مجرّد تاجر فن معروف مثل كثيرين سواه في باريس، فنشاطات الغاليري
العريقة التي تحمل اسمه وتقع على مسافة بضعة أمتار من أكاديمية الفنون الجميلة
رصدها كلياً للتعريف بأبرز وجوه التمرد في القرن العشرين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى
نشاطه الفكري والكتابي. فبعد البحث المهم الذي وضعه تحت عنوان «حياةٌ من أجل الفن»
(دار «لا ديفيرانس» – ٢٠٠٦) وروى فيه مغامرته المثيرة كهاو وجامع قطع فنية، أصدر
لدى دار النشر ذاتها حوارَين طويلين مع وجهَين متمردَين بامتياز: الشاعر والناقد
الفني الفرنسي ألان جوفروا (٢٠٠٩) والشاعر والكاتب المسرحي الأسباني فرناندو
أرّابال (٢٠١٠). وها هو اليوم يطلّ علينا بروايةٍ مثيرة عنوانها «عصا القديس
باتريك» (دار Leo Scheer) ويقصّ فيها السنوات العشرين الأخيرة من حياة أحد المع وجوه
التمرد وأكثرهم خصوبة،الشاعر أنتونان أرتو.
منذ المشهد الأول في هذه الرواية، يتراءى أرتو في حالة ثورةٍ على المجتمع وقرفٍ من الوجود ومواجهةٍ عنيفة مع الحياة؛ حالةٌ يتبلور على أثرها شعوره العميق بمهمةٍ ماورائية تقع على عاتقه وهدفها إنقاذ العالم من خلال مفهومه الخيميائي للمسرح كمكانٍ سحري لتطهير الأهواء وإفراغ الدُمل. وفي هذا السياق نراه ناشطاً في دعوته إلى إعادة تحديد علاقة الممثِّل بجمهوره وإلى تقليص ديكور المسرح إلى بضعة أشياءٍ لها وظيفة رمزية، وإلى تكريس أولوية الإخراج وأداء الممثلّين على النص المكتوب، وإلى إثارة الأهواء المكبوتة للجمهور من أجل إطلاق الثورة وتحرير الإنسان. باختصار، مسرحٌ بلا كلام، ينبثق المعنى فيه من حدة الإخراج فقط ومن الروابط المدروسة بين الصوت والموسيقى وحركة الشخصيات التي تتحول إلى علاماتٍ روحية أو إلى أبجديةٍ حية، تماماً كالرقص التقليدي الكمبودجي الذي يصف تريغانو مشاهدة أرتو بعض حفلاته في إطار «المعرض الاستعماري الدولي» عام ١٩٣١ لإظهار أثر هذا الفن في مفهومه للمسرح.
وفعلاً، اقتنع الشاعر منذ تلك الفترة بأن «الارتجاف أو الصراخ أو التنهد أو الحضور المرئي لأشباح صامتة أو وقع خطى تتمتّع بقيمةٍ أكبر من أي خطاب»، فعمل من أجل «مسرحٍ يتوجه إلى الأعصاب ويُدخل التساؤل الميتافيزيقي من مسام جلدنا وليس من طريق الذهن»؛ مسرحٌ يقوم على العنف والإرهاب لإخراج النفوس من غيبوبتها. وحدّده أرتو على النحو الآتي :»مع مسرح القسوة، أريد أن أتخلص من وخم اللغة وعفونة السيكولوجيا. كفانا مسرحٌ شبه فكري لا يتوجه إلا إلى الذهن. عليه أن يتوجه إلى القلب والأعصاب. عليه أن يعيد إلينا كل ما هو مخبأ في أعماق كينونتنا. يجب تحريك الخوف وإخراج العنف والتوقف عن اعتبار المسرح كمكان تأملٍ وتسلية. أريد مسرحاً دموياً يحوِّل الممثّل وجمهوره. يجب إثارة الحواس وكشف الحب والجريمة والحرب وخصوصاً الجنون في جوانبها الأكثر بشاعة وفظاعة».
ونعرف داخل الرواية أن أرتو كان مدركاً صعوبة مهمته وعليماً بأن نضال الشعراء لا رحمة فيه وبأنه نضالٌ فاشل سلفاً. ولذلك نجده، بعد فشل مسرحياته الأربع على مسرح ألفرد جاري (باريس)، جاهزاً لتقيؤ مجتمعه والرحيل إلى المكسيك عام ١٩٣٦ للقاء هنود تاراهوماراس ومجتمعهم النقي من ضرر الثقافة الغربية. والغاية؟ عيش انغماسٍ مساري في قلب الفكر السحري واستيعاب الميثات البدائية والدخول من الباب الكبير إلى العالم الطوطمي والتصالح مع معنى الخارق، إلى جانب نقلِ شهاداتٍ عن هذه الرحلة التي حلم بها منذ الطفولة.
ومن المكسيك، ننتقل داخل الرواية إلى قصة العصا التي وقعت في يد أرتو مصادفةً عام ١٩٣٧ وتحولت إلى علّة حياته لاعتقاده، في حالته النفسية المريضة، أنها عصا القديس باتريك، مؤسس الكنيسة الإرلندية، وأن إرجاعها إلى أرض إرلندا سيُمكّنه من تحقيق نبوءة هذا القديس ومن تجنيب العالم كارثة محتمة ورد حقيقته إليه. وفي هذا السياق، نتعرّف على تفاصيل سفره إلى هذا البلد حيث عاش أزمةٍ صوفية حادة انتهت بفقدانه هذه العصا، ومعها، اتصاله بالواقع، كما نتعرّف إلى ظروف إدخاله إلى مصح «فيل إيفرار» للأمراض العقلية وإلى الظروف المخيفة لإقامته في هذا المصح على مدى خمس سنوات ثم في مصح «روديز» على مدى أربع سنوات حيث تلقّى ٥٨ صدمة كهربائية.
وفي الصفحات الأخيرة من الرواية يتناول تريغانو المرحلة الأخيرة من حياة أرتو التي نشط خلالها أكثر من أي وقتٍ مضى فمنحنا نصوصاً تُعتبر من أجمل النصوص الشعرية وأكثرها ثورةً واحتداماً، كنص «وجهاً لوجه» الذي صفى فيه حساباته مع أطباء الأمراض العقلية ومع المجتمع المتواطئ في سَجنه...
لا تكمن أهمية هذه الرواية فقط في الشكل الذي وضعه تريغانو لها، أي كمجموعة مشاهد تشكل في تسلسلها بورتريه دقيقاً ومؤثراً لأرتو وهواجسه، بل تكمن أيضاً في عدم سعي تريغانو فيها إلى خط سيرةٍ إضافية للشاعر بقدر ما سعى ونجح في اختراق المسار المأسوي لحياته وفي إنارة بعض جوانبه المعتمة بواسطة كتابةٍ عصبية وانفعالية تتناغم وطبيعة أرتو نفسها فتكشفه لنا من أقرب مسافة منه، بحماسته واندفاعه الصوفي ثم الهرطوقي، ولكن أيضاً بشكوكه وهذيانه وآلامه وبلبلة ذهنه. باختصار، سعى أرتو بين جنونٍ وبصيرةٍ وكمتشرّدٍ طوال حياته خلف المُطلق.
منذ المشهد الأول في هذه الرواية، يتراءى أرتو في حالة ثورةٍ على المجتمع وقرفٍ من الوجود ومواجهةٍ عنيفة مع الحياة؛ حالةٌ يتبلور على أثرها شعوره العميق بمهمةٍ ماورائية تقع على عاتقه وهدفها إنقاذ العالم من خلال مفهومه الخيميائي للمسرح كمكانٍ سحري لتطهير الأهواء وإفراغ الدُمل. وفي هذا السياق نراه ناشطاً في دعوته إلى إعادة تحديد علاقة الممثِّل بجمهوره وإلى تقليص ديكور المسرح إلى بضعة أشياءٍ لها وظيفة رمزية، وإلى تكريس أولوية الإخراج وأداء الممثلّين على النص المكتوب، وإلى إثارة الأهواء المكبوتة للجمهور من أجل إطلاق الثورة وتحرير الإنسان. باختصار، مسرحٌ بلا كلام، ينبثق المعنى فيه من حدة الإخراج فقط ومن الروابط المدروسة بين الصوت والموسيقى وحركة الشخصيات التي تتحول إلى علاماتٍ روحية أو إلى أبجديةٍ حية، تماماً كالرقص التقليدي الكمبودجي الذي يصف تريغانو مشاهدة أرتو بعض حفلاته في إطار «المعرض الاستعماري الدولي» عام ١٩٣١ لإظهار أثر هذا الفن في مفهومه للمسرح.
وفعلاً، اقتنع الشاعر منذ تلك الفترة بأن «الارتجاف أو الصراخ أو التنهد أو الحضور المرئي لأشباح صامتة أو وقع خطى تتمتّع بقيمةٍ أكبر من أي خطاب»، فعمل من أجل «مسرحٍ يتوجه إلى الأعصاب ويُدخل التساؤل الميتافيزيقي من مسام جلدنا وليس من طريق الذهن»؛ مسرحٌ يقوم على العنف والإرهاب لإخراج النفوس من غيبوبتها. وحدّده أرتو على النحو الآتي :»مع مسرح القسوة، أريد أن أتخلص من وخم اللغة وعفونة السيكولوجيا. كفانا مسرحٌ شبه فكري لا يتوجه إلا إلى الذهن. عليه أن يتوجه إلى القلب والأعصاب. عليه أن يعيد إلينا كل ما هو مخبأ في أعماق كينونتنا. يجب تحريك الخوف وإخراج العنف والتوقف عن اعتبار المسرح كمكان تأملٍ وتسلية. أريد مسرحاً دموياً يحوِّل الممثّل وجمهوره. يجب إثارة الحواس وكشف الحب والجريمة والحرب وخصوصاً الجنون في جوانبها الأكثر بشاعة وفظاعة».
ونعرف داخل الرواية أن أرتو كان مدركاً صعوبة مهمته وعليماً بأن نضال الشعراء لا رحمة فيه وبأنه نضالٌ فاشل سلفاً. ولذلك نجده، بعد فشل مسرحياته الأربع على مسرح ألفرد جاري (باريس)، جاهزاً لتقيؤ مجتمعه والرحيل إلى المكسيك عام ١٩٣٦ للقاء هنود تاراهوماراس ومجتمعهم النقي من ضرر الثقافة الغربية. والغاية؟ عيش انغماسٍ مساري في قلب الفكر السحري واستيعاب الميثات البدائية والدخول من الباب الكبير إلى العالم الطوطمي والتصالح مع معنى الخارق، إلى جانب نقلِ شهاداتٍ عن هذه الرحلة التي حلم بها منذ الطفولة.
ومن المكسيك، ننتقل داخل الرواية إلى قصة العصا التي وقعت في يد أرتو مصادفةً عام ١٩٣٧ وتحولت إلى علّة حياته لاعتقاده، في حالته النفسية المريضة، أنها عصا القديس باتريك، مؤسس الكنيسة الإرلندية، وأن إرجاعها إلى أرض إرلندا سيُمكّنه من تحقيق نبوءة هذا القديس ومن تجنيب العالم كارثة محتمة ورد حقيقته إليه. وفي هذا السياق، نتعرّف على تفاصيل سفره إلى هذا البلد حيث عاش أزمةٍ صوفية حادة انتهت بفقدانه هذه العصا، ومعها، اتصاله بالواقع، كما نتعرّف إلى ظروف إدخاله إلى مصح «فيل إيفرار» للأمراض العقلية وإلى الظروف المخيفة لإقامته في هذا المصح على مدى خمس سنوات ثم في مصح «روديز» على مدى أربع سنوات حيث تلقّى ٥٨ صدمة كهربائية.
وفي الصفحات الأخيرة من الرواية يتناول تريغانو المرحلة الأخيرة من حياة أرتو التي نشط خلالها أكثر من أي وقتٍ مضى فمنحنا نصوصاً تُعتبر من أجمل النصوص الشعرية وأكثرها ثورةً واحتداماً، كنص «وجهاً لوجه» الذي صفى فيه حساباته مع أطباء الأمراض العقلية ومع المجتمع المتواطئ في سَجنه...
لا تكمن أهمية هذه الرواية فقط في الشكل الذي وضعه تريغانو لها، أي كمجموعة مشاهد تشكل في تسلسلها بورتريه دقيقاً ومؤثراً لأرتو وهواجسه، بل تكمن أيضاً في عدم سعي تريغانو فيها إلى خط سيرةٍ إضافية للشاعر بقدر ما سعى ونجح في اختراق المسار المأسوي لحياته وفي إنارة بعض جوانبه المعتمة بواسطة كتابةٍ عصبية وانفعالية تتناغم وطبيعة أرتو نفسها فتكشفه لنا من أقرب مسافة منه، بحماسته واندفاعه الصوفي ثم الهرطوقي، ولكن أيضاً بشكوكه وهذيانه وآلامه وبلبلة ذهنه. باختصار، سعى أرتو بين جنونٍ وبصيرةٍ وكمتشرّدٍ طوال حياته خلف المُطلق.
المصدر: الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق