قصة
(أيام بسكال
الأخيرة)
للمبدع
المصريّ: رجائي موسى
كانت جيلبرت[1]
تنظر إليّ وأنا أسابق الموت. فستانها فوق الركبة. أزرق. ركبة صغيرة تلمع. أوراق
مكتملة وأوراق ناقصة. الحمى تجعل أمعائى تغلى ورأسى يدخن. جيلبرت كانت تقرأ رسالة
أمى الأخيرة. رؤيا. كنت مستلقيا على ظهرى وشمعة معلقة بزجاجة في السقف تروح وتجىء
مخلفة وراءها ظلالا باهتة. كنت ألمح فى السقف بطنى، وهى تتلظى، وأرى جيلبرت تعد
عشائى. قلت لها: جيلبرت. ركبتك دائرة.
ضحكت، وكادت
تسقط السكين من يدها.
مثلثات تنتشر
فى السقف. دوائر فوق بعضها البعض. وجه ميرغريت بيريه يظهر وسط دائرة.
قلت: جيلبرت.
اعطينى حبرا وورقة.
قالت: تأكل
الأول.
قلت لها:
اعطينى حبرا وورقة.
ذهبت فى نعاس
مبلل بالعرق، وكانت شوكة فى جنبى توجعنى. قلت: لم أنسك يا الله. انت هنا بجانبى.
لا حاجة للتذكر. ارفع شوكتك عنى.
ج ي ل ب رت
أين جسدى؟
قدماك باردتان
أكثر من العادة. جسدك كله له رائحة الثلج.
ا ل م ع ط ف..
لا شىء. انتظر.
قصاصات صغيرة فى جيب معطفك.
"مرعبة.
كرة مرعبة مركزها فى كل مكان، ومحيطها ليس فى أى مكان".[2]
الطبيعة. الله
ج ي لبرت
عندما أتنفس يتكسر زجاج. الله يدخل عبر الزجاج. الزجاج يدخل جسدى عبر الماء. الماء
يدخل عبر أمى. أمى تدخل...
أعرف زينتها.
رائحة يدها بعد العجين، بعد الغضب، بعد أن تقبلنى. صوتها ما زال يدخل فضاء رئتى.
يدها على الزجاج. فراشات وأحلام ملونة. الله يمر قرب خيمة روحى، ويطلق فى جسدى
أسئلة لا نهائية. زرع الريحان فى الحديقة. أبى حملنى، وأنا أعبر حديقة المنزل،
ووضعنى على كتفيه وقال: هل ترى؟
قلت: أحلم يا
أبى. الأشجار هندسة روحية. الأزهار تعمل بشكل دائرى. العالم كرة مركزها فى كل مكان
ومحيطها ليس فى مكان.
أنت هنا. حتى ولو
غادرت. ستخرجين من باب، وتدخلين فى آخر. جسدى صار أبواب دخولك وخروجك. جسدى ممزق وروحى
متاهة. جسدى مثقوب مثل خيمة الله. جسدى محنة.
قال: ضع قدميك
على كتفى لكى ترى أفضل.
أرى رحائب
الكون المخيفة، التى تحتضننى، وأرانى لاصقا بزاوية من هذا الامتداد الفسيح فما
أعرف سببا لوجودى فى هذا المكان دون ذاك.
أرى أنى فى
نقطة من الأزل السابق، ومن الأبد اللاحق.
أرى. لا أرى.
أرى. لا أرى.
لا أرى من كل
جانب إلا لانهايات تشتمل على ذرة أو ظل يستمر لحظة ولا يضىء. كل ما أدرى أنى لا
محالة مائت. ولكن ما أجهله هو ذلك الموت عينه، الذى لا أستطيع تلافيه.
- قطعت لك البصل
كما تحب. مثلثات. دوائر. حركته ببطء فى زيت الزيتون. وضعت فلفلاً أسود. ربع جرام
زبدة، ومعلقة سكر كبيرة، ومرقة اللحم، وتركته على نار باهتة. أكلك جاهز.
"لا تنظر فالعالم على وشك أن يتحطم...
لا تنظر...".[3]
هكذا قالت لى أمى فور ولادتى. هل تريد أن تتحطم مع العالم. لا تهتم إلا بخلاصك. كن صخرة
نفسك. ابحث عن نورك. "العالم على وشك أن يتخلص من كل نوره وبهائه ليحشرنا في
حفر عتمته الخانقة".[4]
وسمت جبهتى بعلامة الصليب، وأحضرت زيتا مقدسا، ومسحت جسدى كله. كانت تغمغم بلغة
غامضة، وعندما وضعت إصبعها على شفتى قالت: لا تقل ما لا يخترق جسدك. لا تثق بعقلك،
فالشيطان يفكر بنا. دع جسدك يضيئك ويضىء نومك، وقبلت جبهتى، وبعد ثلاثة أعوام
ماتت.
-
وهبتك أمك للحياة.
-
وأنا وهبتها للموت.
لا أعلم هل سيكون مصير العالم مختلفا
لو أمى حاضرة الآن قرب سريرى، قرب موتى. هل هيئته ستكون أكثر ملاءمة للسكنى. هل
سيكون أكثر نظافة؟ لماذا اندفع العالم بكل طاقته إلى النهاية؟
أمى كانت تغسل ثوبى الأبيض، ثوب
المعمودية، فلا تظهر منه شائبة. كان يلمع مثل كريستال، مثل بلورة، حبة رمل بيضاء.
كنت أحلم بعالم يشبه ثوب معموديتى الأبيض. ضحكت جيلبرت من خرافتى بالثوب الأبيض،
وقالت: هكذا يظهر لك خيالك الأمر، ولكن الحقيقة أن المعزى أكلته. لم ننقذ من أسنانها
إلا الأكمام. كنت تلبس الأكمام، وتقف أمام المائدة، وأنت تلبسها فى ذراعيك، وتصلى
إلى الله أن تنزل النار لكى تلتهم المائدة مثل إيليا. لم تكن ترغب فى معجزة، ولكنك
كنت ترغب فى الهروب من الأكل.
-
لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ هل كنت تريد
قميصك نظيفا؟
-
لم أجد قميصا مناسبا لكى
أرتديه.
هل ماتت أمى، وتركت حبل الغسيل؟ قولى
لى جيلبرت، هل ماتت أمى وتركت لنا حبل الغسيل؟ أحلامنا معلقة فى حبل غسيلها، وفى
عجينها، وفى ترتيلها، وفى زينتها. هل أنا حلم أمى بالخلاص؟ لِمَ كانت تريدنى
قسيسا؟ هل لكى أمنحها غفرانا أم لكى أصعد الصليب عوضا عنها؟ هل مهنة القسيس ملائمة
للتخلص من قذارة العالم؟ القسيس هو جيفة العالم. ملابسه السوداء تقف فى وجه الفرح
الحقيقى بالعالم. القسيس هو رجل ميت. هل كانت تريد موتى؟ قولى لى جيلبرت، ماذا
كانت تريد أمى منى؟
-
العب بعيدا. أمك نائمة.
الماء القذر ينساب منى. الماء القذر
يتدفق من تحت إبطى، من فتحة فرجى، من قضيبى. انظرى. الماء القذر يغطى كل جسدى. هل
الله يسمع صراخى. يجتاحنى بطوفانه. الماء الثقيل يتدلى من المثانة. أكاد أتعفن.
الماء يتحرك بأمعائى مثل ثعبان ملتهب. جيلبرت أطفئي الماء. هاتي دلوا وانزعى الماء
عن جسدى. إلهى قلت لك مرارا عاقبنى بنارك، ولكن الماء لا. لا. الماء يحرقنى،
يخنقنى، يلسعنى، يصيبنى بالجنون. لم أتصور لحظة بأن الماء كان يغطى كل شىء. إلهى
إنى أؤمن بمعجزة اليابسة. لن أذهب معك إلى نهر الأردن. ولو كانت لى إرادة وقتئذٍ
لرفضت المعمودية، أو طالبتك بمعمودية النار. أنت قلت يمكننى أن أتعمد بالنار عوضا
عن الماء. الماء هو الجحيم.
-
دخلت الدير.
-
يعنى الأب مات.
-
نعم.
أريد أن أرى جاكي[6].
جاكي يا حلوتى. كريستال وجهك يضىء العالم. هل تذكرين
جاكي عندما كنت أضع أصابعى فوق وجهك وأقسمه إلى مثلثات لكى أكشف لك عن مصادر الضوء
فى وجهك؟ هل تذكرين جاكي، وأنا أصنع لك قناعا من مثلثات لانهائية، وأرفق وجهك به،
فيتلألأ وجهك من وراء القناع مثل مشكاة. جاكي كريستال العالم. أصابعى تبحث عن
زوايا وجهك. قريبا سوف أتكسر جاكي وأذهب إلى الظلمة، وسأفتقد وجهك. أردت أن أقول
لك، وأنت فى ملابس الرهبنة إنى فى شك من أمر الأبدية. هذا ليس اعترافا جاكلين،
ربما خيبتى من الله.
ما أعلمه هو
أنى بخروجى من هذا العالم سأقع إلى الأبد إما فى العدم أو فى قبضة إله ساخط. أريد
أن أذهب دونما احتراس ولا خشية. أساق إلى الموت مستسلما، وأنا فى ريبة من الأبد،
ومن مصيرى.
"جاكي.
انزعى الساعة عن معصمك". آن لليد أن تستريح. لم يعد ثمة زمن. سقط الزمن. خرج
الزمن من الأبدية والآن يعود.
...........................................
(*) القصة، من
مجموعة جديدة لم تصدر بعد.
(*) اللوحة،
للفنان المصريّ: حسن سليمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق