السبت، 13 مايو 2017

(غياب الكتاب)
مقالة للفيلسوف الفرنسيّ: موريس بلانشو
ترجمة: عزالديــن الشنتــوف(*)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لنحاول مساءلةَ أنفسنا، بمعنى أن نستقبلَ في شكل سؤال  ما لا يتوقعُ حدوثُه حتى تحينَ المساءلة.

1. « هذا اللعبُ المهووس بالكتابة». بهذه الكلمات الأكثر بساطةً يفتحُ ملارمي شهيةَ الكتابة عن الكتابة. كلماتٌ بسيطةٌ جداً، لكنها تتطلبُ وقتاً طويلاً  تجاربَ مختلفةً، اشتغالَ العالمِ، تفاقُمَ سوء التفاهم، أعمالاً مفقودةً ومبعثرة، حركةَ المعرفة، ثم تحولاً لأزمةٍ لانهائية  من أجل الشروع في فهم الموقفِ الذي يتبلورُ انطلاقاً من هذه الغاية التي يعلنُ عنها مجيءُ الكتابة.

2. لا نقرأُ، فيما يبدو، إلاَّ لأن المكتوبَ موجودٌ وموضوعٌ تحت نظرنا. لكن الذي كتَبَ في البداية، وهو يقطعُ الحجرَ والخشبَ تحت السماواتِ القديمةِ دون أن يستجيبَ لنظرةٍ تُبيِّنُ له علامةً وتعطي له إشارةً، غَيَّرَ كلَّ العلاقات بين الرؤية والمرئي. وكل ما خلَّفهُ لم يُضفْ ولم ينقص من الأشياء ما يُذكَر أنه انتقاصٌ من مادةٍ، حفرةٌ مقابلَ نُتوءٍ. ماذا كان إذن ؟ كان فراغَ الكون: لا شيءَ يُرى ولا شيء لا يُرى. أفترضُ أن أول قارئ كان يغرق في هذا الغياب غير الغائب دون أن يعرفَ عنه أيَّ شيء، وفي غياب قارئٍ ثانٍ، مادامت القراءةُ  من حيث هي رؤية لحضور مرئي  قد تحققت لتجعل هذا الاختفاءَ في «غياب الكتاب» غيرَ ممكنٍ.

3. تقترنُ الثقافةُ بالكتاب. الكتابُ يتماهى مع المعرفة لأنه خزانٌ ووعاءٌ للمعرفة. وليس الكتابُ كتابَ المكتباتِ حيثما تُلَفُّ كلُّ الأشكال المنسقة والكلمات والحروف في أحجام. الكتابُ هو الكتاب المقدس. إنه يشكلُ شرط كل قراءة وكتابة لأنه كان دوماً موضوعاً للقراءة والكتابة.

يتحمل الكتابُ ثلاثة تساؤلاتٍ مختلفة.الكتابُ التجريبيُّ، الكتابُ ناقلُ المعرفة ؛ وبما أنه كتابٌ محدَّدٌ فهو يستقبلُ شكلاً محدداً من المعرفة، لكن الكتابَ ليس تجريبياً فقط. إنه مُسبقُ المعرفة. لا يمكن فهمُ أي شيء إذا لم توجد الذاكرةُ اللاشخصية للكتاب، أو لنقل قدرة كل كتابٍ على امتلاك الكتابة والقراءة اللتين لا تتحققان إلا فيه. إن مطلقَ الكتاب،إذن، هو فرزُ إمكانيةٍ ترفضُ أن يكون لها أصلٌ غير الكتاب مطلقاً. هو ذا المطلق الذي سيمتدُّ لدى الرومانسيين (نوفاليس) ثم لدى هيغل بصورة أكثر صرامة، وبشكل أكثر  تجذّراً مع ملارمي رغم اتخاذه طريقاً مغايرة ليمثل مجموعَ العلائق ( المعرفة المطلقة أو الأثر) التي سيتحققُ فيها أمران: إما الوعيُ العارفُ بذاته والمنكفئُ عليها بعدما يعلنُ عن نفسه بكل أشكاله المترابطة، وإما اللغةُ المنكفئةُ على تحققها الخاص والمبعثر.

لنُجمل القول: الكتابُ التجريبي؛ الكتابُ: شرطُ كل قراءة وكل كتابة؛ الكتابُ: كلِّيةٌ أو عمل. لكن هذه الأشكال تفترض أن يحتوي الكتابُ المعرفةَ من حيث هي حضورٌ افتراضيٌ لشيء ما قريب المنال عن طريق وسائطَ ودعائم. وحينما يقدم الكتابُ نفسه فإنه يقدم هذا الشيء أيضا، فيما تضطلعُ القراءة بتنشيطه وتعزيزه في حياة حضور معين. وبما أنه حضورٌ لمحتوى أو مدلول في المستوى الأدنى، وحضورٌ لشكلٍ أو لدالٍّ في المستوى الأعلى، ثم مآلٌ لنظامٍ من العلاقات القائمة دائماً، فهو إمكانيةٌ مُرتقَبة. يقوم الكتابُ بطيِّ ونشر الزمن، وبذلك يستمر الحضور لينشط فيه الحاضرُ والماضي والمستقبل.

4. يُفنِّـدُ غيابُ الكتاب كل استمراريةٍ للحضور، مثلما ينفلت من التساؤل الذي يثيره الكتاب. وليس الغيابُ هو سريرةُ الكتاب، ولا معناهُ المراوغُ دوماً. إنه موجودٌ خارجه رغم كونه أسيراً بداخله، حيث لا تعنيه أية إحالة على الخارج. وكُلَّما اتخذ الأثرُ معنىً وطموحاً، باحتوائه لكل الأعمال والأشكال وسُلط الخطاب، أصبح غياب العمل مُهيأً لتحقيق ذاته ومنفلتاً من أي تحديد. تَـأَتَّى ذلك مع ملارمي، إذ معه وعى العملُ ذاتَهُ متماثلاً مع غياب العمل، في الوقت الذي حوله هذا الغيابُ لئلاَّ يتطابق معه فجعلهُ منذوراً للمستحيل. إنها حركة انعطافٍ يتلاشى معها العملُ في غياب العمل ؛ يتلاشى حيثما ينفلتُ غياب العمل مُختزِلاً نفسَه ليصيرَ الأثرَ المفقودَ على الدوام.



5. يرتبطُ فعلُ الكتابة بغياب العمل، لكنه يستثمرُ ذاتهُ في العمل على شكل كتاب. جنونُ الكتابة  اللَّعبُ المهووسُ  هو علاقةٌ بالكتابةِ لا تتحققُ بين الكتابة وإنتاج الكتاب، بل من خلال إنتاج الكتاب وفعل الكتابة وغياب العمل.

فعلُ الكتابة هو إنتاجُ غياب العمل (التعطيل)، أو هو غياب العمل كما يُنتَجُ عبر العمل وعبر اختراقه. وفعل الكتابة من حيث هو تعطيل  بالمعنى الحيوي للكلمة  هو اللعبُ المهووسُ والاحتمالُ القائمُ بين العقل واللاعقل.

ماذا عن الكتاب في هذا «اللعب» حيث يتحرر التعطيل داخل عملية الكتابة؟ الكتابُ: عبورُ  حركةٍ نهائية تتجه من الكتابة بما هي عملية إلى الكتابة من حيث هي تعطيل. من الكتاب تعبرُ الكتابةَ، لكن الكتاب ليس هو مصير الكتابة. وبمرورها عبرهُ تتحققُ في التلاشي. إننا لا نكتب من أجل الكتاب. الكتاب: مَكْرٌ تتجه بموجبه الكتابةُ نحو غياب الكتاب.

6. لنحاول فهم علاقة الكتاب بغياب الكتاب بشكل أفضل.

 أ. يضطلع الكتاب بدور جدلي. إنه يوجد لكي لا تتحقق جدلية الخطاب وحسب، بل الخطاب بما هو جدلية. والكتاب هو اشتغال اللغة بذاتها: وكأن الأمر يتطلب وجود الكتاب كي تعيَ اللغةُ اللغةَ وتدركَ نفسها وتكتملَ في عدم اكتمالها.

ب. حينما يصبح الكتاب عملاً، سواء أتحققَ ضمن السلسلة الطويلة من الأعمال، أم تمظهرَ في كتاب فريد، فإنه يغدو الكتابَ الأفضل من بين الكتب الأخرى، خارج الكتاب وتصنيفه وجدليته.أفضل كتاب: لا يوجد كتابٌ للمعرفة في حجم ملفوف، أما العملُ فيَنشُدُ تفرداً لا يُعوض؛ ومن هنا خطورته في ارتقائه إلى الأثر وتحقيق جوهره ( أي نحو التميُّز بواسطة توقيعٍ لم يُوَقِّعْه المؤلف وحده، غير أن الأخطر هو أن يكون موقعاً من تلقاء ذاته). ومع ذلك يتم هذا الأمر خارج المسلسل الكتبي: وكأن العمل لا يؤشر إلا على الافتتاح الذي يعبُر منه حيادُ فعل الكتابة، فيما يتأرجحُ بين ذاته (كلية اللغة) وبين تحققٍ لم يأت بعد.

يضافُ إلى ذلك أن اللغةَ تغيِّرُ اتجاهها أو مكانها داخل العمل، إذ لم تعدْ هي اللوغوس الذي يضطلع بفعل الجدل، بل أضحتْ منخرطةً في علاقة أخرى. يمكننا القول،إذن، إن العمل يعيش حالة تردد بين الكتاب من حيث هو وسيلة للمعرفة ولحظةُ محوِ اللغة، وبين الكتاب المقدس الذي يمثل فكرة ومطلق العمل  ثم بين العمل بما هو حضور وبين غياب العمل المنفلت على الدوام حيث الزمنُ مرتبكٌ ومفتون.

 7. لا نهاية لفعل الكتابة في الكتاب أو في العمل. وأثناء كتابتنا للعمل نكون تحت إغراء غياب العمل، وحينما نتخلى عن العمل فإننا لا نكون تحت تأثير ضرورة غياب عمل.

 8. الكتاب هو المكرُ الذي يمنحُ طاقةَ الكتابة دعامتَها في الخطاب الذي يقودها نحو انفصالها عنه من خلال استمراريته الواسعة؛ والكتابُ هو مكرُ الخطاب الذي يعيدُ إلى الثقافة هذا التحولَ الذي يهددهُ ويفتحه على غياب الكتاب. أو لنقلْ هو الاشتغالُ الذي بواسطته تُعيِّنُ الكتابةُ  وهي تغيِّرُ معطياتِ الثقافة و«التجربة» والمعرفة  مُنتَج آخرَ يضطلعُ بإنشاءِ نمطٍ جديدٍ من الخطاب، ليندمجَ ناشداً عدمَ إدماجه.

 غياب الكتاب: تُريدُ أيها القارئُ أن تكونَ مُؤَلِّفَهُ ولستَ سوى قارئٍ متعدِّدٍ للأثر.
كم سيستغرقُ هذا النقصُ الذي يتحملهُ الكتابُ ويطرحه بعيداً عنه ؟ أَنتجِ الكتابَ أوَّلاً لكي ينفصلَ ويتحرَّرَ في تلاشيه: ما كنتَ لتنتجَ غياب الكتاب.

9. يؤكدُ الكتابُ (حضارةُ الكتاب) وجودَ ذاكرةٍ ناقلةٍ، ونظام علاقات يبسط نفوذه ؛ والزمنُ ينعقدُ في الكتاب حيث لا يزالُ الفراغُ ينتمي لبنيةٍ مخصوصة. لكن غياب الكتاب لا ينبني على الكتابة التي تتركُ أثراً وتحددُ حركةً موَجَّهَةً، سواء أكانت حركةً خطيةً ذاتَ بداية ونهاية، أم كانت متبلورةً من خلال مركزٍ في اتجاه سطحِ فضاءٍ. إن غياب الكتاب يهيئ الكتابةَ التي لا تعدُ نفسها ولا تفرض نفسها ولا تكتفي بإنكار ذاتها ولا تعود إلى الأثر لتمحوَه.

ما الدافع للكتابة، عندما يكفُّ زمن الكتاب الموسوم بعلاقة البداية والنهاية، ويكفُّ  فضاؤه الموسوم بالانبثاق من مركزٍ ما، عن فرض نفسيهما؟ إنه نقاءُ فتنة الخارج.

زمن الكتاب محددٌ بعلاقة بداية/نهاية (ماض/مستقبل) وفق حضورٍ ما، وفضاء الكتاب محددٌ بالانبثاق من مركزٍ يُعدُّ بحثاً عن أصلٍ ما.

يوجدُ الكتابُ: قانونُ الكتاب حيثما يوجدُ نظامٌ من العلاقات يبسطُ نفوذَهُ، وذاكرةٌ ناقلةٌ، وكتابةٌ تتجمَّعُ في مادةِ أثرٍ ما بفعل قراءةٍ تستنيرُ بمعنىً ما، وحيثما ينتمي الفراغُ ذاتُهُ لبنيةٍ ما مستسلماً للانتظام.

إننا نكتبُ انطلاقاً من خارجية الكتابة ضد خارجية القانون الذي يستنبطُ من المكتوب جوهرَه.

مع فتنة الخارج (الأكثر صفاء) حيث يسبقُ الخارجُ كل داخل  تكفُّ الكتابةُ عن أن تكون حضوراً روحياً أو مثالياً يفسحُ المجالَ لأثرٍ أو ترسباتٍ تسمحُ بتعقُّبِها، أي إرجاعها إلى مثاليتها وامتلائها وصفاء حضورها.

 تَخُطُّ الكتابةُ دون أن تتركَ أثراً أو تسمحَ لأي شيء أن يظهرَ عداها من خلال علامةٍ أو بقايا أطلال؛ إنها تمثلُ صفاء الخارجية في تكونها الذي لم يسبق له نظير.

إننا لا نكتب عندما نبدأ من فعل الكتابة: فعل الكتابة لا يناظرُ فعل البدء.


10. بالكتابِ يبحثُ قلقُ ممارسةِ الكتابة عن الاحتماء بما يجودُ به العملُ، لكن غياب العمل يدفعه ليستجيبَ لعودة الخارج، إذ في هذا الخارج يفقدُ كلُّ ما يرومُ التحقُّقَ سُؤلَهُ ضمن علاقة الوحدة.

لا نملكُ أي «فكرة » عن غياب العمل، سواء أكان حضوراً مؤكداً أم كان هدماً لما يمكن أن يعوقه تحت طائلة الغياب. ليس تدميرُ العمل هو تدمير تحققه أو حلمه ولا تدمير ما لا يقبل التدمير كي لا تجد فكرة التدمير من أجل التدمير مكانها. لم يعد السلبيُّ مفيداً ولا في المستوى الذي يتخذ العمل مكانه وتحققه. وفي جميع الأحوال لن يكون بمقدور السلبي أن يقود إلى غياب العمل.

 سيكون فعل القراءة هو قراءة غياب الكتاب داخل الكتاب بغرض إنتاجه، إذ يكفُّ الكتاب أن يكون حاضراً أو غائباً (محدداً بغياب أو بحضور).

لم يكن غياب الكتاب مزامِناً للكتاب أبداً، ليس لكونه آتياً من زمن آخر بل لأنه المصدرُ عينُهُ للاتزامن الذي عنه يصدرُ الغياب أيضاً. غيابُ الكتاب منحرفٌ على الدوام، لا يكتسي أي علاقة حضورٍ مع ذاته، ورغم تعدديته الشذرية لم يستقبله قارئٌ أثناء قراءته سوى حاضرٍ ممزقٍ ومثبط العزيمة.

  فتنةُ صفاء الخارج أو دُوارُ فضاءٍ ذي مسافةٍ، تشذيرٌ لا يحيلُ إلاَّ على الشذري.
غياب الكتاب: إتلافٌ قبليٌّ للكتاب،لعبتُهُ الانفصاليةُ تجاهَ الفضاء الذي ينكتبُ فيه؛ موتهُ المحتوم. يتوجهُ فعلُ الكتابة إلى من سيغدو في الكتاب لا مخطوطاً أو حاجةً من حاجاتِ التدوين خارجَ الخطاب وخارج اللغة. كتابة على الحاشية، خارج الكتاب.

ستكون الكتابةُ خارجَ اللغة،إذن، لغةً تجعلُ كُلَّ موضوعٍ للغةِ مستحيلاً أكانَ حاضراً أم غائباً. ولن تكون الكتابةُ، إذن، كتابةَ إنسانٍ ولا كتابةَ غيره أيضاً، بل كتابةَ الآخر في أحسن الأحوال، وربما كتابةَ الموت.

11. يبدأ  الكتابُ من التوراة حيثُ ينكتبُ اللوغوس قانوناً، وهنا يبلغُ الكتابُ معناهُ الذي لا يقبلُ التجاوز، مُضَمِّناً ما يحيطُ به لئلاَّ يتعداهُ. تعودُ التوراةُ باللغةِ إلى الأصل: وسواء أكانت مكتوبة أم شفوية فإن زمن اللاهوت ينفتحُ ويدومُ أكثر مما يعيشُ الفضاءُ والزمنُ التَّوْراتِيَّان. لا تمنحُنا التوراةُ النموذجَ الأرقى للكتاب أو النموذجَ غير القابل للاستبدال وحسب، بل تتضمنُ كلَّ الكتب البعيدة عن الكشف والمعرفة والشعر والنبوة وعن الحِكَمِ التوراتية، لأن التـوراةَ تأسـرُ روح الكتـاب؛ أما الكتب التي جاءت بعدها فستظلُّ معاصرةً لها، فيما هي تكبُرُ وتنمو نمواً لانهائياً يمنحها تماثلا مُطرِداً ضمن علاقتها بالوحدة مثلما حافظت الوصايا العشر ومازالت على الصوت الأوحد والشرع الفريد الذين لن ينقضهما نفيٌ أوحدُ.

 التوراةُ كتابُ وصايا، فيه يتمُّ الإعلانُ عن الرباط، أي مصير كلامٍ صادرٍ عن من يهبُ اللغةَ ويقبلُ الإقامةَ فيها من خلال الهبةِ التي هي هبةُ اسمِه؛ وهو مصيرُ جدلية العلاقةِ بين الكلام واللغة. وليست قدسيةُ التوراةِ هي التي تجعلُ من الكتب المتفرعة عنها موسومةً بالميسم اللاهوتي لننتمي معها إلى حضرة اللاهوت، بل إن العهد  رباط الكلام  الملفوفَ في كتاب على شكل بنية كتاب هو الذي يدفعُ «المقدس» ليتخذَ مكاناً في اللاهوت. للكتاب جوهرٌ لاهوتي، ولهذا ما كان للتمظهر الأول للاهوت أن يحضر إلاَّ في شكل كتاب..

 يقومُ ملارمي، في مواجهته للتوراة، برعاية العمل الذي يمارسُ فيه هوسُ الكتابةِ لُعبةَ الظهور والخفاء؛ رعايةٌ يلتقي فيها ملارمي بالممكن ولعبه المزدوج: الضرورة والحظ. يكفُّ الأثرُ التامُ صوتاً وكتابةً عن أن يكون عملاً من قبل أن يُنجز ومن قبل أن يهدمَ إمكانية التحقُّقِِ أثناءَ إنجازه. ما زال الأثرُ منتمياً للكتاب، مساهماً في دعم السمة التوراتية لكل أثر، ومع ذلك يعيِّنُ انفصالَ زمنِ وفضاءٍ آخرَ « دون هوية محددة » لم يعد يتحققُ في علاقة الوحدة. والأثرُ،من حيث هو كتاب، يقودُ ملارمي بعيداً عن اسمه. والأثرُ الذي ينتظمُ فيه غيابُ العمل يقودُ من لم يعدْ يسمى ملارمي إلى حد الجنون: نفهم من كلمة « إلى حد » معنى الحد الذي يصبحُ الجنونَ المحتومَ؛ ومن هنا يجب إدراكُ الحد  حافة الجنون  من حيث هو حيرةُ الموقف أو حيرةُ الجنون، لذلك لن يكون الحدُّ هو الهاوية بل حافة الهاوية.

 الانتحار: ما كُتبَ في الكتاب على وجه الضرورة والحاجة، يصبحُ في غياب الكتاب مجرد مصادفة. وما يقوله أحدُهما يعيدهُ الآخرُ، وهذا القول المضاعفُ يأسرُ الموتَ، موتَ الذات.

12. يستدعي الكتابُ المجهولُ شرفَ اسمٍ يقومُ بدعمه. والاسمُ بعدُ، هو اسمٌ لخصوصيةٍ مؤقتة تتحمَّلُ عبءَ العقل الذي يرتقي بها إلى أن تصلَ إلى ما هي عليه. إن علاقة الكتاب المقدس بالاسم مُضَمَّنةٌ في العلاقة التاريخية التي ربطت المعرفةَ المطلقةَ للنظامٍ باسم هيغل: تلك هي العلاقة التي أدت إلى تماهي هيغل بالكتاب، وقادتهُ في تطوره من هيغل إلى ما بعد هيغل، وهيغل  ماركس، ثم ماركس الغريب عن هيغل الذي مازال مستمراً في الكتابة والتصويب واكتساب المعرفة وتأكيد القانون المطلق للخطاب المكتوب.

مثلما يستقبلُ الكتابُ المقدس اسمَ هيغل، يستقبلُ العملُ غيرُ المُوَقَّعِ  بما يخلقه من ارتيابٍ اسمَ ملارمي، مع فارقٍ يتمثلُ في كون ملارمي لم يكتفِ بالتعرف إلى غياب التوقيع سمةً للأثرِ أو إلى مشيرات مكانه وحسب، ولم ينسحب ليكون مجهولاً وحسب، بل إنه لا يدعي نفسه مؤلفاً للأثر؛ ويكفيه أن يكون  مجازاً  سلطةً غير فريدة وغير قابلة للتوحد: هي سلطة قراءة الأثر الذي لم ينجز بعد ؛ ولتكن سلطةَ التجاوب مع الأثر الغائب دوماً من خلال غيابها، فيما لا يكون العمل الغائب رغم فصله بقطيعة جذرية هو غياب العمل.

توجدُ بهذا المعنى مسافةٌ فاصلةٌ بين كتاب هيغل وعمل ملارمي، كما يوجد اختلاف ملحوظ يرجع إلى اختلاف الطريقة في البقاء مجهولاً أثناء تسمية أو توقيع المؤلَّف. إن هيغل لا يموت حتى وإن تنكَّرَ في زحزحة النظام أو عودته: إذ مازال كل نظامٍ يسميه، ولذلك لم يفقد هيغل اسمه أبدا. أما ملارمي فلا علاقة بينه وبين العمل، إذ داخل الأثر يجري هذا الخلل حينما يعمل على تحريم العمل على ملارمي وغيره ممن يحملون اسماً، وعلى العمل ذاته كي لا ينجزَ نفسه بنفسه. لا ينعتق الأثر من الاسم لكونه قادراً على إنتاج نفسه دون منتج، بل لأن المجهول يجعله متحققاً على الدوام بعيداً عن كل ما يمكن أن يعطيه اسماً. الكتابُ هو الكل كيفما كانت صيغة هذه الكلية،سواء أكانت بنيتها مختلفة أم لا عن تلك التي تضطلعُ قراءةٌ متأخرةٌ بإحالتها على هيغل. أما الأثرُ فليس كلاًّ، إنه بعيد عن الكل، لكنه في إذعانه ما يزال يُنصِّبُ نفسَه مُطلقاً. إنه لا يربط نفسه بالنجاح وتمام الإنجاز كما الكتاب، بل بالأهوال من حيث هي إثباتٌ للمطلق.

لنقُلْ إنه بمقدور الكتاب أن يظلَّ موقَّعاً وغيرَ عابئٍ بمن يوقعه، فيما يقتضي العملُ  ذلك الاحتفالُ المهولُ  الخُنوعَ ويفرضُ على من يُنصِّبُ نَفسَهُ كاتِبَهُ الخضوعَ للذات والكَفَّ عن التَّعَيُّنِ.

لماذا نُوقِّعُ كُـتُبَنا    إذن؟ نَفعلُ ذلك باحتشام لكي نقول: ليست هذه سوى كُتُبٍ، لا تكترثُ للتوقيع.

13. لا يجعلُ المكتوبُ من (غيابِ الكتاب) مستقبلاً للكتابةِ لم يتحققْ بعدُ، لكنَّ (غيابَ الكتاب) لا يشكلُ مفهوماً، بل لا يتعدى كلمة (خارج) أو كلمة (شذرة) أو كلمة (محايد)؛ ومع ذلك فهو يساعد على وضع مفهوم لكلمة (كتاب). وليس لمُحلِّـلٍ معاصر منسجمٍ مع فلسفة هيجل أن يتمثلهُ  كتاباً أو يُدركَ الكتابَ غايةً للمعرفة المطلقة ؛ لم يفعل ذلك سوى ملارمي منذ نهاية القرن التاسع عشر، لكنه اخترقَ الكتابَ بقوة تجربته الخاصة كي يُعيِّنَ الأثرَ الذي يشكلُ مركزَ الفتنة بخطورة، حيث الكتابةُ هي مركزُ الجذبِ، وهي المركزُ المنحرِفُ على الدوام.

الكتابةُ، اللَّعِبُ المهووسُ. لكن فعلَ الكتابةِ ذو علاقةٍ غيريَّةٍ بغيابِ الأثر، ولأنه يتوفر على إحساسٍ مسبق بهذا التحول الجذري الذي يمسُّ الكتابةَ من جهة، وعبر محايثة الكتابة لغياب الأثر من جهة أخرى استطاع ملارمي أن يُسمِّيَ الكتاب المقدس ويُعَـيِّنَهُ حاملاً لمعنى المستقبل، ومُقترحاً لهُ مكاناً وزماناً: ذلك هو المفهوم الأول والأخير؛ إلاَّ أن ملارمي لم يُسمِّ غياب الكتاب بعدُ، أو لنقلْ إنه لا يرى فيه سوى طريقة لتأمل الأثر من حيث هو إخفاقٌ أو استحالة.


14. لا يعني غيابُ الكتاب أنْ ينقُضَ الكتابُ نفسهُ، رغم أن النقض الذاتي هو جوهرُ الكتاب وقانونه المضاد. وأنْ يهدم الكتابُ نفسه على الدوام، فلا يقود إلا إلى كتابٍ آخر أو إلى احتمالٍ آخرَ غير الكتاب، لكنه لا يقودُ إلى غياب الكتاب. ولنفترضْ أن ما يستبدُّ بالكتاب (ما يحاصرُه) هو غيابُ الكتاب، الكتابِ المنفلت دوماً والمتطلع إلى احتواء الغياب (إبقائه عن بعد) دون احتوائه (تحويله إلى مضمون). ولنفترضْ،عكس ذلك، أنَّ الكتابَ يأسرُ غيابَ الكتاب الذي يُقصيه، ولكنْ من غير أن يدركَ هذا الغيابُ ذاتَهُ انطلاقاً الكتابِ فقط، وأن يعتبرَ نفسَهُ نفياُ وحيداً له. ولنفترضْ أنَّ الكتابَ إذا حمل معنىً، فسيكونُ غيابُ الكتابِ دخيلاً لا يُدخلُ في اعتباره اللامعنى.

من المفيد أن نعرف أن « التوراة المكتوبة» في بعض طقوس الكتاب، كالتي تعلن عنها تعبيرات القبَّاليين رغم اعتمادهم المعنى الروحي الحرفي، كانت قبل  «التوراة الشفوية» التي سمحت للصيغة المُعدَّلةِ أن تُشكِّلَ بمفردها الكتابَ المقدس. هناك موضوعٌ غامض للتأمل والتفكير. لا شيء يسبق الكتابة. ومع ذلك لم تصبحْ كتابةُ الألواح الأولى مقروءةً إلاَّ بعد وعبر النسف، بعدَ وعبرَ استعادة القرار الشفوي الذي يُحيلُ على الكتابة الثانية التي نعرفها غنيَّةً بالمعنى وخليقةً بالوصايا ومساويةً للقانون الذي تَبُـثُّه.

لنسائلْ هذا الموضوع المباغث بإرجاعِهِ إلى ما ستؤولُ إليهِ تجربَةٌ موعودةٌ للكتابةِ. توجدُ كتابتانِ، بيضاءُ وسوداء ؛ لا تُرى أولاهما بفعل شعلةٍ غير مرئيَّةٍ لا لونَ لها، أما الثانيةُ فسهلةُ المنال بفعل قوة النار السوداء التي تجليها في شكل حروفٍ وسماتٍ وتمفصلاتٍ. وبينهما تقعُ الشفاهيةُ غير المستقلة من حيث اقترانها بالثانية دائماً، لأنها النارُ السوداءُ ذاتُها، والظلامُ المَقيسُ الذي يضعُ الحدودَ ويلغيها، ويجعلُ كلَّ صفاءٍ مرئيّاً. هكذا يغدو الشفويُّ تعيُّناً في حاضرِ زمنٍ ووُجودِ فضاء، وهو في المقام الأول ذلكَ التطورَ أو الوساطةَ المدعومةَ من الخطابِ الذي يشرح ويستدعي ويحدِّدُ حيادَ اللاتمفصلِ الأساس. ليس في « التوراة الشفوية» نقص كتابة، لكنها قيلت شفوياً إذ تتيحُ  التواصلَ  من حيث هي خطاب  التواصلَ والتعليقَ والكلامَ الذي يلَقِّنُ ويُعلنُ ويُجيزُ ويُسوِّغ في آن: فكما يتطلبُ الأمرُ اللغةَ (الخطابَ) كي تسمحَ الكتابةُ بالمقروئية المشتركة، ولربما بالشريعةِ من حيث هي حدٌّ ودفاع؛ يتطلب من جهة أخرى، اعتبارَ الكتابة الأولى خارجَ الكلام  بالنظر إلى تشكُّلها اللامرئي، وضرورةَ توجيهها نحو الخارج فقط، كي يتم إيقافها سواء أكانت غياباً أو كسراً أصيلاً للإفلات من وحشية ما أسماه هولدرلين

15. الكتابةُ غائبةٌ عن الكتاب المقدس، وبفعل الغياب الذي يصدر عنها  علماً بأنه غيابٌ غير غائب  يغدو الكتابُ المقدس مقروءاً في مُستوييه: الشفويِّ والمكتوب، الشريعةِ وسيادتها، المُحرَّمِ وفكرِ التحريم ؛ وبأسره للتاريخ يُفسر نفسَه بنفسِه: إغلاقُ الكتاب، صرامةُ الحرف، تسلُّط المعرفة. يمكن القول إن هذه الكتابةَ الغائبةَ عن الكتاب، والماثلةَ بعلاقةٍ غيْريَّةٍ معه، بعيدةٌ عن المقروئية وغيرُ قابلةٍ للقراءةِ التي هي دخولٌ في علاقةِ معنى أو لامعنى معَ حضورٍ ما عن طريق النظر. ومن المفروض أن توجَدَ كتابةٌ بمنأى عن المعرفة التي تتحققُ بالقراءة، وبمنأى عن الشكل ومقتضيات الشريعة. الكتابةُ، بصفاء بَرَّانِيَتِها، غريبةٌ عن كل علاقة حضورٍ بقدر غُربتها عن كل شرعية.

حينما تفترُ برانيةُ الكتابةِ،أيْ أنها تقبَلُ الاستعلامَ باللغةِ كلما دعتْها القوةُ الشفويةُ، فاتحةً المجالَ للكتاب بما هو خطابٌ مكتوب، فإنها تطمحُ للظهور باعتبارها برانيةَ الشريعة في المستوى الأعلى، وباطنَ المعنى في المستوى الأدنى. إن الشريعة هي الكتابةُ التي استسلمت لبرانية القولِ الوَسَطِ، كي تُعيِّنَ مكانَ المُحرَّم. ولاشرعيةُ الكتابةِ، بتمردها المستمر بالنسبة للشريعة، تخفي اللاشرعيةَ غير المتماثلة للشريعةِ تُجاهَ الكتابة.

الكتابةُ: برانية. يمكنُ أن توجدَ برانيةٌ (صافيةٌ) للكتابة، لكنه افتراضٌ غيرُ وفيٍّ لحياد فعل الكتابة. ففي الكتاب الذي يُوَقِّعُ تحالُفنا مع كل كتاب، لا تنجحُ البرانيةُ في فرض نفسها، فيما هي تنكتبُ تحت فضاء الشريعة. تصبحُ برانيةُ الكتابةِ قانوناً أثناء انتشارها وتراكمها في كتاب. إن الكتاب المقدس يتكلمُ بما هو شريعة، فلا نقرأ فيه إلا ما هو حلال أو حرام. لكن أليست بنية التحليل والتحريم حصيلةَ مستوى قراءتنا ؟ ألا توجد من الكتاب المقدس قراءةٌ أخرى، يكُفُّ فيها آخَرُ هذا الكتاب عن دور الإرشاد ؟ أنكون بهذه الطريقة قراء كتاب؟ ألا نكون مُهيَّئينَ لقراءة غياب الكتاب؟

البرانيةُ الأساس: قد يَلزمُنا افتراضُها، علماً بأننا لا نستطيع افتراضها إلا تحت زجر الشريعة. ما الذي سيحدُث لو كفَّ نظامُ الدفاع والحدود عن حمايتها؟ أم أنها ستوجد على حدود الإمكان فقط، لتجعل الحدَّ ممكناً؟ أليست سوى مقتضى من مقتضيات الحد؟ ألا يدركُ الحدُّ نفسه إلاَّ بتلاشي الحدود الذي يغدو ضرورياً لمقاربة اللامحدود، ثم يفنى إذا ما تم اختراق الحد: الحد غير القابل للاختراق،لهذا السبب نفسه، فيما هو يُخترَقُ دائماً لكونه كذلك؟

16. تعمل الكتابةُ على أسر البرانية. فالبرانية التي تُنصِّبُ نفسَها شريعةً، تسقطُ تحت وصاية الشريعة؛ والشريعة مكتوبةٌ أيضاً، أي أنها تقع تحت وصاية الكتابة من جديد. يجب أن نفترض أنَّ الازدواجية التي تسِمُ الكتابةَ بالاختلاف، لا تقومُ إلاَّ بإثبات سمةِ البرانية نفسِها، بِـبُعدها وغربتها عن ذاتها، ضمن علاقة انقطاع. توجدُ كتابةٌ  «أولى»، وبما أنها كذلك فهي مختلفة عن نفسها، منفصلةٌ عن ما يَسِمُها، علماً بأنها ليست شيئاً آخرَ سواه. ومع ذلك تتسمُ به في هذا الخارج الموسوم بالانفصال، حيث تعلن عن ضرورة حدوث تصدُّعٍ جديدٍ وشرخٍ عنيف، ولكنه إنسانيٌّ (بالمعنى الدقيق وغير المحدود) كي يتمكنَ القانون من  استنباط وعدٍ بالوحدة،حينما يُصبحُ النصَّ المُدَوِّيَ، والتشظيَ الذي يسمحُ بوجود تصدُّعٍ كفعل محدد.

لم يكن تصدعُ الألواح الأولى قطيعةً مع حالٍ أولى من التناغُم الوحدوي، بل كان تدشيناً لعملية استبدالِ برانيةٍ محدودةٍ (حيث احتمالُ وجود حد) بأخرى غير محدودةٍ. إنه استبدالُ خطأٍ بغياب، وشرخٍ بانفتاح، ولا انقسامِ المتشظي بانقسامه؛ ذلك ما يُحشَدُ داخلَ انشطار المُحايِدِ بعيداً عن انفصال المقدس. ويلزم، بصيغة أخرى، قطع الصلة بالبرانية الأولى كي نتهيأَ مع الثانية  حيث اللوغوس هو القانون، والقانون لوغوس  بلغةٍ منقسمةٍ وذاتِ بناءٍ نحويٍّ تمكننا من الانخراط في علاقات من التوسط والاستعجال التي تثبتُ الخطابَ، ثم تثبتُ الجدَلَ الذي سيَذوبُ فيه القانونُ بدوره. وبما أن الكتابةَ «الأولى» أبعدُ من أن تكون أكثر مباشرة من الثانية، فهي غريبة عن كل هذه المقولات. إنها لا تجود بسخاء عبر مشاركةٍ شطْحيَّةٍ يلتبسُ فيها القانون بالواحد، ويحميه ويضمن الالتباس معه. هي الغيريةُ ذاتُها، القسْوَةُ والزُّهْـدُ اللَّذان لا يُجيزانِ أبداً، حُرقَةُ النَّفَسِ التي تَنضَبُ أكثر قسوةً من كلِّ قانون. فالقانون هو الذي يُنقذنا من الكتابة حينما يجعلها وسيطاً عبر شرخ الكلام وتعدِّيه. هو ذا الخلاص الذي يزجُّ بنا في المعرفة، وعبر الرغبة في المعرفة يدخلنا إلى الكتاب المقدس حيثُ تكونُ المعرفةُ سنداً للرغبة بإخفائها.

17. جوهرُ الشريعة: تُنتَـهكُ الشريعةُ قبلَ أن تُعلَن، ومما لاشك فيه أنها تصدر في الملإ الأعلى دونما علاقة معرفية مباشرةٍ مع من وُضعتْ لأجلهم. نستنتجُ،من هذا، أن القانون لا يتشكلُ قانوناً إلاَّ بمبدأ خرقه: لن يوجدَ حَدُّ إلاَّ إذا تمَّ خرقُه، وتَجَلَّى عَصِـيّاً عن الاختراق عبر الخرق.
ألاَ يتَقدَّمُ القانونُ، مع ذلك، كلَّ معرفة (بما فيها المعرفة بالقانون) ويُهيِّئها لشروطه عبر فعلٍ أُعِدَّ سَلفاً هو فعل «يجبُ»؟ ألا يتعيَّنُ إلا عبر الكتاب المقدس بأمرٍ  بِنيةٍ يسعى إلى إتلافها بتأكيدها؟

وبما أنها بنية سابقة على القانون، فلا تتوفر على أساسها ولا على تَعيُّنها ضمن ضرورة نزوعها إلى المعرفة، ولم تكن موضعَ مجازفة من لدن مُنْكِريها، بل كان الخرقُ يؤكدها ويتخذ منها مرجعيته المفترضة، وفيما هي تجذبُ التسلُّطَ الذي يتملَّصُ من اختبارها تكون أكثرَ صرامةً من أن تنصاعَ إلى الانتهاك الأسهل: القانون.

تختلفُ صيغة «يجبُ» في القانون عن صيغة «يجب عليك». فلا تنطبق الأولى على أحد، أو لنقل إنها لا تنطبق إلاَّ على لا أحد. وليس عدمُ تطبيق القانون علامةً على قُوَّته المجردة، وتسلُّطه الذي لا يَفتُـر، ومُذَّخَرِه الذي يُقيمُ فيه. فما دام غير قادرٍ على رفعِ أيِّ كُلفة، فإنه لا يتوجَّهُ إلى شخص بعينه أبداً: ليس لكَونِيَّته، بل لأنهُ يمارسُ الفصلَ تُجاهَ الواحدِ باسمِ الوحدة إلزاماً. تلك هي كذبةُ القانون المَهيبةُ: فالقانون الذي «شَرْعَن» الخارجَ لِيَبْـدُوَ ممكناً (أو حقيقياً)، يتحرَّرُ من كلِّ تحديدٍ ومن كلِّ محتوى ليحتفظَ بنفسه شكلاً صافياً غيرَ قابلٍ للتطبيق، وضرورةً لا يُناظِرُها أيُّ حضور؛ ومع ذلك يُميِّزُ نفسَه بمعاييرَ متعددةٍ، وبأشكال شعائريةٍ عبرَ سَنَنِ الرابطة، كي تتمكَّنَ السَّريرَةُ المحتشمةُ من تصالُحها مع نفسها، حيث  تتحقَّقُ الحَميمِيَّةُ المتينةُ لصيغة  «يجبُ عليك».

18. لا تصبحُ القوانينُ العشرةُ قانوناً إلاَّ بالإحالة على الوحدة. لا يتصفُ الله  بالألوهية  هذا الاسمُ الذي لن يُلفظَ عبثاً لعدم قدرةِ أيِّ لغة على احتوائه  إلاَّ لكونه يحملُ الوحدةَ ويُعيِّنُ النهايةَ السائدة. لا يستطيعُ أحدٌ أن يتجاوزَ الواحدَ، فيما لا يشهدُ الآخرُ إلاَّ لصالحِ الواحدِ الأحد بما هو مرجعيَّةٌ تُوَحِّدُ الفكرَ واللاَّمفكَّرَ فيه،حينما تجعَـلُهُ مشدوداً إلى الواحد وإلى ما لا يَعرفُ الفكرُ انتهاكَه.

  .  Lentretien infini ;  éditions Gallimard ; p.p.620 /636.


(*)شاعر وناقد من المغرب
(*)اللوحات، للفنان الفرنسي: جورج ماتيو 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق