(سُكْر الأعماق)
قصة، للمبدعة
المصرية
سهام بدوي
ستفتح لك، جمالها لا يصيب، جمالها يأخذ العقل، جنية بنت جنية
ندّاهة من عصور بعيدة، تذهب بك، هناك، لأبعد نقطة، يلفك سلامها وسكينتها، تحلم أنك
في حلم لا تريد أن تخرج منه. تطلب منها أن تأخذك أكثر وأبعد، هي لا ترفض، بل تفتح
لك أبواب كنوزها. لمعة، برقة تريك وتغلقها دونك.
أنت لستَ أنت! كلما تماديت تتمايل وتترنح من فتنة ما، قد تكون
فتنة جنونك بها، الجنون فتنة.
وتفتح لك أكثر فأكثر، تغوص هنا وهناك، لكن دوما الهناك أخّاذ
وأكثر جاذبية. البعيد يغري ويغوي.
تتمادى لتعرف، لا لا، لا تعرف، لا وقت للمعرفة في ظل كل ذاك
الهوس والجنون، أمفتون بها أم بك؟ تتمادى وهي تفتح لكن تغيّر الفعل الآن!
صارت تبتلعك.
وصوت انزلاقك له موسيقى كنت دوما تصغي إليها في أسفارك السابقة،
هو الصوت نفسه! ليس بغريب عليك!
الآن أعرفك! تقول لها وهي تضحك تنتشي سأما وحنقا وتعجلا، بينما
أنت تختنق، بل أنت على شفا لحظة قبلها، هناك يقف اللازمن حارسا يهش ذباب التجمد
والتجلط. قبل أن تغفو، وقد صار يضايقك عجزك عن البلع، وخوفٌ مضحكٌ من أن عطسة
مفاجئة أو كحة عابرة قادرة على أن تودي بحياتك هنا، في هذا الصفاء الخلاّب الواسع،
هذا الرحم المترهل الساقط من بطن ما.
صدّقني هذا ليس المشكلة!
هذه الحمايات المضحكة حول جسدك البائس، هذه الحمايات، أنبوبة
الأكسجين والنيتروجين وبقية الكوكتيلات من الغازات الضامنة النجاة، كل هذا مضحك في
بؤسه ويقينه الأعور!
وقبل السُّكر تبدأ أعراض المرض ـ ما يظنونه مرضًا ـ وتراه أنت
تمام الصحة، ربما تحكي لنا ــــــ فيما بعد ــــــ أكثر عن هذه العافية! ربما!
مرض لا صحوة بعده، تقول: هذا خيالكم المريض، نقول نقص
النيتروجين، تقول بل لا ترون.
وبينما تريد أن تحكي لنا عما يحدث الآن نجد هذا الآن وقد غدا
أمس، هربت اللحظة بنت الأفعى من بين يديك، لتجدك تترنح وتغفو، تسكر، تغمرك سلطة
السكون، تسلم ذاكرة معرفتك له، ولما تبرق لك بارقة رغبة بالهرب، بالمقاومة،
الانسحاب، تعنف نفسك.
لست بقادر، لم تعد. فلهذه اللحظة وقتها وقد مرّ أمامك وتركته،
وأنت تؤنب نفسك لا تسأل: أأنت غاضب من فوات أوان قولة لا، أم من خاطرة تخطر على
بالك، أم ماذا؟
ماذا؟ أطرافك المنثورة حولك وردات ذابلة حول جثة، أطرافك الرخوة
المضحكة بينما هي بطرف إصبعها تتحرك تجاهها. للرخاوة مرونة مُسئمة.
أنت الآن في كامل سكرك بها. سكرات وغفوات وغمرات، وجسد لا حي
ولا ميت، يدور متخبطًا في اللازمان في اللامكان، يدور حول نفسه، كأنما عُلّق من
سماءٍ بخيوطِ محركِ عرائسَ، أربعة أطراف في حركتها ، أخطبوط فقد البوصلة، كان سيدًا للقيعان وتحلل!
طُعِنَ في مقتل.
منتشيًا لا مباليًا، لا ترى سواها، تدخل أكثر، فتصير أخرى، أكثر
فيتغير لونها والرائحة والطعم والصوت، وتبقى موسيقى الصوت: اتبعني.
آه من هذه الألوان! دوامات بعضها من بعض. فقط الشفاه، وطبقات من
ظلمات تعدك بأنوار، آه تلك الداعرة الفاجرة، من أين لها بكل هذه العروش، عروش
النور. لآلئ بكل لون وتموجاته وتموجاته وخيالاته، عروش النور تدخل بؤبؤَي عينَيك
فيرتعش البؤبؤان، كخيط يتلقى موجات/طعنات، ثم ظلمة، ظلمات.
وظلمة يتبعها نور فظلمة فنور، صرت لا تقوى على التوقف مثل البعض
في طابور الانتظار، انتظار الدور، دورك في الرؤية.
صوتها سكاكين وأنت الحنجرة الجاهزة. وموسيقات عالية يدمّر تردّد
صداها أذنك.
هذا الفخ لي بمحض إرادتي. خذيني! أريد أن أذهب لأبعد مدى في
هذا. لن أتوقف!
نشوة وابتهاج وطمأنينة. إنها هي، نعم هي.
تقول لنفسك، فخورًا بحصولك أخيرًا على صيدك، ضالتك، مرادك
وبغيتك! فتصرخ موليا نحوها: أعرفُكِ، أنتِ لي وأنا لك!
ها هي وقد تملّكتك، لن تشجعك أكثر. صار العصفور بين المخالب،
والفأر بين الأنياب، وحان وقت اللعب والاستعراض.
إنها تراقبك وأنت تفقد ذاكرة تحللتْ فأسلمتْك لها، وصفاء ذهن
يتلاشى وسكينة كانت قد وعدتك بها!
وإحساس مُزرٍ مُزرٍ مُزرٍ بالأمان، إحساس مضحك مخجل مُهان بأنك
في رحم!
أرأيت أنه أمر سهل.
ماذا؟
أسرُكَ ياعزيزي، أسرُك!
وبينما تظن ـــ يا مسكين ـــ أنك في تمام معرفتك وتوحدك بها،
تقهقه هي صارخة صرخةَ امرأة في تمام اللذة، وقد أصابتك في مقتل:
سُكرك بي غيْر معرفتك بي أيها الغواص!
سكرك بي قد دفَنَك هنا وإلى الأبد!
سكرُك بي صار جزءًا مني. أنا المُسْكِرة، منذ الأزل وأنا السُكر
لأبد الآبدين. أتعرفني بموتك، بتوقف كل أجهزتك. غير صحيح. ما يعرفني منك الآن هو
هذه الأطراف التي ألاعبها فتروح وتجيء حولي تهش عني ذباب الوحشة هنا ، تسليني،
لكنها لن تبقى طويلا فدعني أكمل اللعب قبل أن تتحلل.
صرت مني الآن، أسمعك، صحيح أيها المدلل! لكن هذا لا يعني أنك
تعرفني. فسُكرك بي مَجد من أمجادي التافهة الفانية فدعني أكمل اللعب.
وأنت، الناظر بعينين عمياوين تومضان وميضًا خافتًا، وميض قنديل
يستعد للانطفاء. لكل شيء وميضه حتى العماء ــ تدرك أن ما يحيط بك الآن هو برودة،
وحشة وصفير، استغاثات واستنجادات، كانت تحذر أذنيك اللتين أطفأتْهما موجاتُ برقِها
الخاطفِ. انتبه لها، لا لا تتغوّل أكثر!
قف يا رجل! ألا تستطيع أن تتوقف. كن رجلا وقل لا.
والآن أنت لا تسمع هذه الجملة، جملتها التي تقولها دوما للسكارى:
سكرك بي غير معرفتك بي أيها الغواص! ياغوّاص الأعماق!
سكرك بي قد دفنك هنا وإلى الأبد! في مقبرةٍ تنتظر جفافًا ما!
قد تحكي لي فيما بعد ـــــ كما وعدتَ قبل سفرك وكما تحكي لي
دومًا عند عودتك. بينما أشمّك فأرى، وأسمعك فأذوق، وتصمت فألمس نعومتها وسَكينة
السكين: سكين النشوة، وكأعمى بصير، أعدك بثأر ما!
وتعدني أن تعيد الكرَّة من جديد.
وتترك أعضاءك، أطرافك، وجهك يسيل كعصارة لزجة من أخطبوط فُعص
بجرّافة باحثة عن كنز. تسيل أخضر برتقاليًا فأصفر . وتتحلل داخل تلك البدلة
السوداء. يمكن لمن يلمسك الآن أن يضغط أكثر، بينما ينفتح ثقبٌ صغيرٌ من مكان الفم
أو الأنف أو كليهما؛ لتسيل في رحمها الضخم، كبقايا أجنّة لعملية ولادة متعسرة.
سوائل لا قيمةَ لها، تسير إلى مستقرٍ لها، تجري إلى أجل مسمى!
وأسمعها أنا!
.................................
(*) القصة، من مجموعة
جديدة لم تصدر بعد/ نُشرت في الهلال يوليو
2016.
(*) الفوتوغرافيا، للفنان المصريّ: عمّار أبو
بكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق