قصيدة: (صَبا... زَمزَمة)
للشاعر المصريّ: عبد الرحمن تمام
إلى النسّاج الأبهى محمد عيد إبراهيم
(كنتُ أومِن أن الحب آخر بلاد الله حتى
حللتُ بك)
الكلمة حجرٌ
ألقيتُ به في الماء الراكد
لمّا غافلتني الموسيقا ونطَّت من قفص التكوين
فكان كل شيء
وحدي أدركتُ آنذاك فداحة اللعبة
وقلتُ: الاستعارة مبيد ناجع
للتخلص مما يلهج باسمي حول العرش
فلمَ لا أضرب الأمثال؟!
...
(بلغني أيها الطريد أن مملكةً
قديمةً تربَّع على كُرْسيها ملكٌ أبتر وكان جباراً، ذا بطش لم ينج من شره
مُتهتِّكٌ أو قانِت. عُرِف بسوء الطبع وفساد السريرة وحدة المزاج لدرجة أنهم
قالوا:
ـــــــ في مازورة واحدة دفن
أربعين مهرّجاً وحكيماً ما فلح أحدٌ منهم في التسرية عنه ـــــ
اعتاد الخروج إلى برّيّة موحشة
كلما فحَّ السأمُ و ماد تحت عريش روحه، تاركاً خلفه حليلةً حسناء وقصراً عامراً بالعبيد والقينات وندماء
ثلاثة اصطفاهم من بين رعيته
أولهم: عرَّاف وثانيهم: درويش وثالثهم: شاعر
وكان قد رتّب لهم الجوامك وأعطاهم
الأمان وأسكنهم تحت سقفه...
حتى إذا بلغت قدماه موطئاً
معهوداً وضع قيثارةً ذهبيةً لا يفارقها في حِلٍّ أو ترحال أمامه ثم حرّك أصابعه
الغليظة عليها صارخاً بمعانٍ وحشيةٍ، متأوهاً إلى أن تتقصَّل الأوتار.
ذات مرة خرج الملك في إحدى سَورات
هياجه تلك ونسي قيثارته الأثيرة ولما انتصفت به الطريق عاد ليحضرها وبينما يفتش عن
مطلبه في ردهات قصره تنصَّت على باب زوجه
فإذ بها تطارح ندماءه الخُلَّص الحديث بشأن المملكة وأحوال الرعية التي ساءت
وغرابة أطوار الملك وجنون فِعاله فعقد العزم على مداهمتهم والدخول من فوره مَحلّ
نجواهم وحين علَت الصُفرة وجوههم وسَرت الرعدةُ في أجسادهم مرتبكين لمرآه
قال الملك بعدما أحكم إغلاق
الرِتاج:
ستنصاعون جميعاً لما آمركم به
وإلا نحرتكم كخراف الحظائر
فأجابوا بصوت متهدج واحد:
سمعاً وطاعة
أومأ الملك لامرأته أن تتعرى ثم
قال للعرَّاف:
قم إلى سرير مليكتي وارقد معها!
فغر العرَّاف فاهاً وتجمّدت
أوصاله وارتعش لسانه ناطقاً:
ولكن... أي ذنب جنيته يا سيد
الأرضين لتختبرني هكذا؟!
دمدم الملك: افعل وإلا قتلتك شَرّ قتلة
فلما قضى وطره منها تبسّم الملك
وقال:
يا نديمي صِفها لنا ولك تَقْدِمة
أجَلّ من الأمان
ــــــ كل فتح يعقبه انشراح ونصر
ماؤها أقوى من هوائها وترابها
ونارها
ــــــ هل ترغب فيها ثانية؟!
قال العرَّاف:
سأتوضأ من بئرها ثم أصلي ستّ
ركعات كل ركعتين بتسليمة وأكتب على كفي اليمنى "برهيولا "(1)
"برهيولا" "برهيولا" "برهيولا " "برهيولا
" "برهيولا " "برهيولا "
فبحق هذا الاسم اجعلني أراها مرةً
أخرى ولو في منامي.
قام الدرويش من مجلسه ووطئها أمام
أعينهم ثم مسح عرقه بطرف ردائه وصاح:ضربتُ بعصاي فرأيتُ أصحاب "ليس كمثله
شيء" وأصحاب "يد الله فوق أيديهم" على طودين عظيمين فمررتُ بينهما
متلفتاً يمنة ويسرة فسمعتُ ماءها كصلصلة الجرَس وكنتُ من المغرقين
_ هل ترغب فيها ثانية؟!
سُرَّتها ـ يا مولاي ـ نقطةُ
الباء
تفرّس الشاعر في المشهد وزفر
زفرةً عميقة هامساً بصوتٍ يشوبه الأسى:
ما أردتها عارية!
قال الملك: إن لم تفعلها كصاحبيك
نزعتُ عن جسدك هاته الرقبة
فلما قضى الشاعر أربه من المرأة
الممدّدة تمتم:
كدتُ أجعل من نهديها قنديلين
وألقي فوق حشيشة الملكوت ناراً وتراءى لي
الجائعون وأبناء السبيل وحاملو
الفؤوس وأهل الخطوة وضاربو رمل الكلام
وهم يخمشون الريح في بِطاحها
هاتفين: حُرِّيَّة... حُرِّيَّة... حُرِّيَّة
_ هل ترغب فيها ثانية؟!
قال الشاعر: النبع بَلام(2)!
ظل الملك في ركن القاعة بعدما حدث
يُجيل النظر في مَن حوله ثم قال:
أليس أمراً مغرياً أن جعلتُ
مملكتي على صورتها:
فالجبل دييز(3) والبحر
بيمول(4) والأرض كل الأرض بيكار(5)
أسند صاحبنا ذقنه إلى كفه واضعاً
كوعَه على فخذه وأردف ممتعضاً:
لماذا لا يسحق الفخاريُّ عمل يديه
طالما أنه يرى موته ألف مرة في طينه؟!
فجأة... دنا الملك من العرّاف
فأزهق روحه جاعلاً منه ليلاً ثم جعل من روح الدرويش نهاراً وأبقى على الشاعر
والمرأة في محبسٍ ضيقٍ حتى أنجبت طفلاً جميلاً ضمّه ساعتها إلى صدره ودثّره بيديه،
وفيما كان يذرع المكان جيئةً وذهاباً ويحدج الحبيسَين تارة والوليد تارة أخرى،
وجفَ قلبه واجتاحه إحساس غامض فقبض روح الشاعر إليه على حين غرة وجعل منه قمراً وقبض روح امرأته وجعل منها شمساً.
يقال إن الملك صنع من عظام ندمائه
الثلاثة قيثارةً وشدّ لها من ضفيرة امرأته أوتاراًثم حمل الطفل الصغير في قِماط
وغادر مملكته خلسةً نازحاً من الأعالي إلى قرىً بعيدة فلم يتعرف عليه أحد هناك
وكان يجوب الأسواق والأندية والأراضي المأهولة
لاعباً بأنامله على أوتار قيثارته الآبِدة تلك التي أدهشتْ الناس رِدحاً من
الزمان.
وما إن شبّ الطفل في ظل الملك حتى
أضحى هو الآخر عارفاً بجميع فنون الكَلِم وما فتئ ينشئ الشعر ويتغنى به في الطرقات
بصحبة رَبّه الآبق إلى أن سكتا عن الكلام المباح)
·
يقول "الذي نجا منهما وادَّكر بعد
أُمَّةٍ":
سهلٌ أن تصير شاعراً
لكن... لن تفارق!
{2}
ما الذي يفعله شاعرٌ مثلي
خلف شاشته الزجاجية
سوى أن يحلج قطن حنجرته للكائنات
وشُّرَّاعةُ القلبِ يفتحها إذ ربما
جوَّق المحزونون
...
لمن النشيدُ اليوم؟!
...
لمساكين على باب الله
يقضون سحابة النهار فوق الأرصفة
الضارية
بجوار المقاطف والمعاول والقدائم
كي يعودوا إلى بيوتهم بغموسٍ وأرغفةٍ
تنزَّتْ بين جنبيها المسامير
لأرامل طيّرن صلواتهن حمائم بيضاً
ورفعن أكفّهن باكيات:
"ربنا... متى تَكُفّ الحربُ عن
رقصتها الموتورة
وإلامَ تنحرُ بغيم(6) الفجر الطالع
من الوريد؟"
لأطفالٍ كلما انفتحت أعينهم صباحاً
داعبوا بظرَ الشمس تحت الكباري بقرون
مطاويهم
ثم ركضوا في الشوارع الغبراء حفاةً،
عارضين بضاعتهم من الزهور والمناديل
لئلا يموتوا جوعاً و تهرسهم الحياة
بقدميها الثقيلتين
لميادين باتساع: "يا عزيز
عيني..."
يملؤها ثوَّارٌ آمنوا أن اليوتوبيا ليست الساق التي ضربتها
الغرغرينا
فإذا ما اسّاقط الرصاصُ الحي والمطاطيّ
والمسيّلُ للدموع
سوف يلكزون عسسَ الأبجدية معاً
ليمسي الحرفُ جنزيراً ووردةً من أجل
اكتمال العُرْس
يكفي أن أنهض من مكاني هذا
وأسيل بينكم طوفاناً
عظمة قَصِّه سفينة للفقراء
ولسانه مقصلة تعرف كيف تحزُّ رؤوس
الأفاعي
تعالوا أيها المُعْدَمون
يا مَن بقروا بطون أحلامكم وأرضَعوكم
حليب المجاعة
سنمزقُ أعلام الجمهورية ونصنع منها
أقمصةً لليتامى
ونعالج زجاجات الخمر في مخازن الساسة
فتصبح قنابل مولوتوف نُهدِّم بها
جدرانهم الباذخة
اجعلوا من ربطات أعناقهم حبالاً
ومشانق،
دعوا الدم يتخوَّص ها هنا قبل المسير
و من تلك اليابسة حرروا شواهدَ قبورِ
أجدادنا لتكون سَبّورات للصِبْيَة هناك
ستقودكم الموسيقى إلى أرض جديدة
تُرْبتها بيضاء
ونهرها كتابٌ ليس بحَمّال أوجهٍ
وعندما تؤذن الأطيار للصلاة على
ماندولين الريح
تُرتِّل أشجارها معكم آي المحبة
والسلام
ارحلوا الآن يا رفاقَ المخمَصَة والنور
وسآتي في إثركم
فقد طاب لي أن أقتلع عيونَ الكَذَبة
لأرمي الشعراء بجمراتي:
ـــــــ (الجمرة الصغرى)
باسم الإنسان... كل القصائد زائفة
ـــــــ (الجمرة الوسطى)
باسم الإنسان... لن يعصمكم جَبلٌ مني
ــــــــــ (الجمرة الكبرى)
يا أبناءَ الزُّناةِ والقِحابِ
يا من ادَّعيتم بساطةَ الخَلْق
ترى لماذا كلما حدَّقتُ "لا أجدكم
ولا أجد أشياءكم"(7)
آن أن تصمتوا ـ أيها المخنثون ـ ككلابٍ
نافقة
فلن تلمَسوا بأصابعكم الوَسِخة هذي ما
لَمَسته أبدا
...
باسم الإنسان
...
سأحمل النيل في يدي مثل أية عصا
والحقول الخضر أصرُّها بُقجةً
وأتهيأ للرحلة ـــــ بلا وحي ــــ صارخاً
على رماد العالم:
"أنا يقينُ الرمل
آخرُ نفخةٍ للخلق والتكوين
منفردٌ وباقٍ ليس يغلبني سواي"(8)
· تقول التي "رَبَطْنا على قَلْبِها":
سهلٌ أن تصير إلهاً
لكن... لن تنـغمـس!
.......................................................
ــــــــــــــــــــــ الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) من أسماء الله بالسريانية .
(2) حديدة تكون في فم الفرس لتكبحه.
(3) علامة تحويل موسيقية تبين أن الصوت أو السطر يجب
رفعه بمقدار نصف تون.
(4) علامة تحويل موسيقية تبين
أن الصوت أو السطر يجب خفضه بمقدار نصف تون.
(5) علامة تحويل موسيقية تلغي
الصوت أو السطر من الرفع والخفض وصولاً للحدة الطبيعية.
(6) صوت الأيل.
(7) عن يانيس ريتسوس بتصرف.
(8) من شعر محمد عفيفي مطر.
...............................
(*) اللوحة، للشاعر البلجيكي الفرنسي هنري ميشو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق