الجمعة، 19 مايو 2017

سبع قصص
للمبدع المغربيّ
عبد القادر وسّاط



أنطونان آرطو  والطبيبة الحسناء
مساء يوم الخميس ٢٢ دجنبر ١٩٣٧، كان أنطونان آرطو يطل من نافذته، بالغرفة رقم ٥، بمستشفى"ڤيل إڤرار" للأمراض العقلية، فرأى الطبيبة الحسناء،الدكتورة "بيرينيس"، بقميصها الشفاف وتنورتها القصيرة، وهي تروض ثلاثة أسُود في حديقة المستشفى.
 
كان أنطونان آرطو يعرف جيدا أن تلك الطبيبة قد اشتغلت عارضة أزياء، في بداية حياتها المهنية، ثم أصبحت ممثلة سينمائية قبل أن تصير طبيبة مختصة في الأمراض العقلية. وهو يذكر جيدا أنها هي التي لعبت دور "ناتاليا"، زوجة بوشكين، في الفيلم الشهير "المبارزة". وكان يعرف أن لها أختا غير شقيقة، تسمى "كاناندا"، تعيش في منطقة آرصيا، قرب جبال "أولمبوس مونس"، بكوكب المريخ، حيث تشتغل باحثة في علوم الفضاء.
 
كانت الأختان تتشابهان مثل قطرتي ماء، وكثيرا ما تتبادلان الأدوار، فتصعد بيرينيس إلى جبال "أولومبوس مونس" للعمل كباحثة فضائية وتهبط كاناندا إلى مستشفى "ڤيل إڤرارْ"،حيث تتحول إلى طبيبة، دون أن يفطن أحد لذلك التبادل.
 حوالي الساعة الخامسة مساء، أشارت الدكتورة بيرينيس للأسُود الثلاثة بالعودة إلى أقفاصها، فامتثلتْ لأمرها في الحين. إثر ذلك شرعت الطبيبة الحسناء تتفقد نزلاء المستشفى في غرفهم الموصدة. وعندما دخلت الغرفة رقم 5، رفقة أربعة ممرضين أشداء، توجه أنطونان آرطو نحوها مغتاظا وصاح في وجهها قائلا:
ـــــأيتها المرأة الشريرة، إن مستشفى " ڤيل إڤرارْ" قد صدّ عدة هجومات مسلحة في ما مضى. لكنه لن يستطيع صَدَّ الهجوم القادم. وستلقين حتفك خلاله!
اقترب الممرضون الأربعة وأمسكوه بإحكام. لكنه واصل تهديده للطبيبة:
ــــــ أيتها الروح الغامضة، التي تسكنني منذ الأزل، بعد أيام سيعود الموتى وهم في صحة جيدة، وسوف يذيقونك ألوانا من العذاب.
إثر ذلك شرع يخاطب الممرضين الذين كانوا يمنعونه تماما من الحركة:
ـــــ أنتم لستم ممرضين ! أنتم جبناء هاربون من ساحة الحرب. وأنا لست أنطونان آرطو. أنا رجل إرلندي المولد، وقد نُسبَتْ  إلي عن طريق الخطأ أوراق بهذا الاسم. والحق أنني لم أكن أحمل ــــــ ليلة اعتقلتني الشرطة وجاءت بي إلى هذا المكان ـــــ سوى علامة واحدة: سيف صغير، داخل غمد جلدي أحمر. 
وبعد أن بلع ريقه بصعوبة عاد يخاطب الدكتورة بيرينيس قائلا:
ـــــ هل تعلمين؟ لقد حدث أمر خارق ليلة اعتقالي، إذ استدار عبّاد الشمس باتجاه نجمة القطب.
 
كان أنطونان آرطو يبذل في تلك الأثناء جهدا كبيرا كي يتخلص من الممرضين، الذين يمسكونه بأذرعهم القوية. ولما لاحظت الطبيبة ذلك أمرتهم بإشارة من يدها أن يحملوه إلى غرفة العزل.
هكذا وجد نفسه في غرفة ضيقة بلا نوافذ وبلا إضاءة.
ولما أصاخ السمع، تناهى إليه صهيل خيول، فأدرك أن الفرسان قادمون لإطلاق سراحه وللقبض على الطبيبة الشريرة.
 كان متأكدا من ذلك. مثلما كان متأكدا من سقوط ثلوج غزيرة، في تلك اللحظة، على جبال "أولومبوس مونس"، حيث كانت كاناندا تركض عارية تماما، وقد انعكس على جسدها لمعان الكوكب الأحمر.



حلم آرثور رامبو

 ذات ليلة صيفية، رأى آرثور رامبو في منامه أنه طفل رضيع، ورأى أمه "ڤيتالي" تناوله ثديها الأعجف، فيما الببغاء الأخرس، الجاثم قرب النافذة، يغمز له بعينه ويحثه على الهرب.
ورأى رامبو نفسه وهو يُبعد ثديَ أمه بحركة مفاجئة وعنيفة من يده ثم يقف ويقول لها: 
-
وداعا أيتها المرأة الشريرة!
في الشارع كان الناس يحدقون فيه مستغربين ويرددون:
ـــــــ انظروا! طفل رضيع يمشي على قدميه حاملا حقيبة سفر! 
لكنه لم يكن ليحفل بهم. كان يرفع رأسه بأسى نحو المداخن، حيث تعيش اللقالق المضربة عن الهجرة.
 وحين شرعت مدافع البروسيين في إطلاق وابل من القذائف على المدينة، هُرع ليختبئ في دكان تاجر العاديات،عند ناصية الشارع. ابتسم التاجر في وجهه وقال له مُرَحباً:
ــــــانزل إلى القبو لتكون في مأمن، أيها الرضيع المتمرد! أنا أعرف جيدا والدك فريدريك. لقد اشترى مني قبل أسابيع مجموعة من الفناجين العتيقة، التي كانت تستعملها الملكة زنوبيا في زمن سحيق.
 وبعد أن هدأت المدافع، ترك رامبو حقيبته عند صاحب الدكان، ومضى يتسكع من جديد. ثم حل الظلام، فرأى نفسه وقد تحول إلى قط صغير.
هكذا قضى ليلته في زقاق موحش، متعاركا مع القطط المشردة.
 كان من بينها قط مريض، ذو شاربين كثين، ينظر إليه وهو يطلق أنينا خافتا. وكان لا يكاد يقوى على الحركة، من شدة التعب والجوع. أدرك القط رامبو في الحين أن ذلك القط المهزول ليس سوى پول ڤرلين.
كانت هناك كلاب ضالة كثيرة تحوم حول ذلك المكان. وكانت الشراسة تشع من عيونها البراقة. اقترب رامبو من ڤرلين وقال له:
ـــــ إذا نحن بقينا في صورة قطّين فسوف تفتك بنا هذه الوحوش!
ابتسم القط ڤرلين وقال له بصوت خافت:
ــــــ وإذا نحن استعدنا شكلنا الآدمي فقد يفتك بنا القتلة من بني البشر!
مع اقتراب الفجر  استعاد الصديقان صورتهما الآدمية، وانطلقا عبر الأزقة المعتمة. كان رامبو قد أصبح فتى يافعا، وكان ڤرلين يحكي له كيف يصير بوسعه المشي على سطح النهر، حين يكون سكران طافحاً!
وفجأة، سمعا وقع سنابك تقترب. وسرعان ما أبصرا جنودا مسلحين يتقدمون نحوهما على صهوات الخيول.
وقف الشاعران دون حراك، ثم بدأ رامبو يقرأ بصوته الشجي مقطعا من قصيدته"فصل في الجحيم":
"الرصاص! اقذفوني بالرصاص! هنا، وإلا استسلمت. يا للجبناء! سأقتل نفسي! سألقي بنفسي تحت سنابك الخيل!
 وأثناء ذلك، كان ڤرلين يبحث في جيوب معطفه الرث عن القطعة المعدنية السحرية، التي سرقها من دولاب زوجته. كان متأكدا أن النور المنبعث منها سيشل حركة أولئك الجنود!



أحلام تشارلز بوكوفسكي
ليلة الاثنين ٦ مارس ١٩٥٠، رأى تشارلز بوكوفسكي فيما يرى النائم أنه برفقة الأحدب كازيمودو، في إحدى الحانات الباريسية، قبالة كنيسة نوتردام.
كانا يشربان جعة رخيصة.
فجأة دخلت الغجرية الحسناء إيسميرالدا إلى الحانة، تتبعها عنزتُها "دْجالي". اقتربت من بوكوفسكي وقالت له وهي تشير إلى الأحدب:
ــــــ هو ليس كازيمودو الحقيقي. إنه أنطوني كوين في دور كازيمودو.
كان الأحدب يضحك عاليا. أما بوكوفسكي فقد نفث دخان سيجارته بمتعة ظاهرة، ثم توجه إلى الغجرية الحسناء قائلا:
ــــــ لا عليك، فأنا أيضا لست بوكوفسكي الحقيقي!

 في الخارج كان حشد من الباباراتزي ينتظرون خروج الغجرية إيسميرالدا مع العنزة دجالي. وكانت أجراس كنيسة نوتردام تُقرع دون انقطاع.
*
ليلة الثلاثاء ٧ مارس ١٩٥٠، رأى بوكوفسكي فيما يرى النائم أنه متمدد بلباس البحر على ضفة بحيرة " ليمان"، أيام كانت تلك البحيرة مليئة بالتماسيح. كان يدخن السيجارة تلو الأخرى ويشرب الجعة دون توقف. وكان ينتظر خروج التماسيح من البحيرة كي يقرأ عليها آخر قصائده.
.فجأة جاءت زوجته باربارا وطلبت منه أن يغادر المكان
 كان بوكوفسكي يدرك أن تلك المرأة ليست زوجته باربارا. بل كانت إيفا براون، عشيقة أدولف هتلر. لذلك هُرع إلى حقيبته وأخرج منها مسدسا من نوع "ماوسر"، ووقف متأهبا لإطلاق النار على هتلر حالما يَظهر.
*
ليلة الأربعاء ٨ مارس ١٩٥٠، رأى بوكوفسكي أنه مع "مان راي" في الاستوديو الباريسي الذي كان يشتغل فيه هذا الفنان الأمريكي. كان مان راي يستعد لإنجاز عمل فني إشهاري لماركة أحمر الشفاه التي كانت تستعملها كليوباترة.
قدم مان راي لصديقه بوكوفسكي النساء الأربع اللواتي سيشاركن في ذلك العمل الفني الإشهاري: فيليسيا، جوليا، ميلينا ودورا.
نظر بوكوفسكي إلى النساء الأربع وتساءل قائلا:
ـــــــ فيليسيا، جوليا، ميلينا، دورا، هل هنّ...؟
 لم يتركه مان راي يتم سؤاله. لكنه أشار له بيده، كي يلتفت إلى الخلف ويرى من هناك. كان الشخص الجالس في أقصى الأستوديو هو فرانز كافكا. وكان يتابع المشهد في صمت.



سبعة أحلام لكورتازار
الاثنين ٢٤ مارس ١٩٨٠
 رأى خوليو كورتازار فيما يرى النائم أنه يطارد صرصورا في شقته الباريسية. ورأى ذلك الصرصور وقد انقلب على ظهره في المطبخ وشرع يحرك قوائمه بسرعة واضطراب، ثم إذا به ينتفض و يتحول إلى إنسان اسمه فرانز كافكا.


الثلاثاء ٢٥ مارس ١٩٨٠
رأى خوليو كورتازار أنه طفل صغير وأنه يمضي كل مساء ليطرق باب أسرة  خورخي لويس بورخيس، بحيّ باليرمو، بمدينة بوينس أيرس، ثم ينادي أم الكاتب الأرجنتيني باسمها " ليونور! ليونور"!
 كان يناديها بأعلى صوته، وحين تطل من نافذتها يُخرج لها لسانه ساخرا ثم يلوذ بالفرار، وهي تتوعّده بأن زوجها المحامي خورخي غيوم بورخيس سيقدم به شكاية لدى الشرطة.

الأربعاء ٢٦ مارس ١٩٨٠
 رأى خوليو كورتازار أن الريمنغتون - آلته الكاتبة العتيقة- تواصل الكتابة وحدها، بكيفية تلقائية، حين يتعب هو ويأوي إلى سريره. ورأى أنها قامت بإتمام قصته "أبناء العذراء" وتحدثت فيها عن نفسها في فقرة كاملة!

الخميس ٢٧ مارس ١٩٨٠
 رأى خوليو كورتازار أنه شاب في العشرين من العمر وأنه يؤدي الخدمة العسكرية في قرية اسمها ماكوندو، تحت إشراف عقيد يسمى الكولونيل بوينديا، يساعده الملازم غابرييل غارسيا ماركيز. ورأى الملازم ماركيز ينحني عليه ويقول له:
ـــــــ هذا هو اليوم المناسب للفرار من الخدمة العسكرية، فالثكنة كلها ستصاب بوباء النسيان.

الجمعة ٢٨ مارس ١٩٨٠
 رأى خوليو كورتازار أنه في عيادة الطبيب. ورأى تولستوي على كرسي متحرك تدفعه به زوجته صونيا، ويدخلان معا قاعة الفحص، ثم رآهما يخرجان من تلك القاعة وقد جلست صونيا على الكرسي المتحرك بينما استوى تولستوي على قدميه وراح يدفعها بلطف وأناة.

السبت ٢٩ مارس ١٩٨٠
 رأى خوليو كورتازار أن اسمه "بيترون" وأنه يقيم في فندق بمدينة مونتيفيديو بالأوروغواي، وأنه بات يسمع طوال الليل بكاء طفل رضيع في الغرفة المجاورة لغرفته، مع أنها فارغة لا يقيم فيها أحد. وفي نهاية المطاف، اكتشفَ أن ذلك الصراخ قادم من زمن بعيد ثم اكتشف أنه صراخه هو حين كان طفلا رضيعا.

الأحد ٣٠ مارس ١٩٨٠
رأى خوليو كورتازار أنه عاد لبيته في آخر الليل فوجد صديقته القديمة تاتيانا تنتظره في الشرفة وهي شبه عارية. سألها بهدوء:
ــــــ تاتيانا ! أنت ميتة منذ سنوات، فما الذي جاء بك الآن؟
أجابته دون أن تنظر إليه:
ـــــ لقد جئت لأحذرك من راڤايّاكْ.
فكر قليلا ثم قال لها مستغربا:
ـــــ لا أعرف سوى راڤايّاكْ واحد، هو قاتل الملك هنري الرابع قبل حوالي أربعة قرون.
أجابته قائلة:
ـــــ هو بالتحديد. إنه صديقي في عالم الأشباح. وقد سمع أنك ستؤدي دور الملك هنري الرابع في فيلم من إخراج كوبولا فغضب أشد الغضب. وها أنذا جئت أستعطفك كي لا تقوم بهذا الدور. أعرف أن إليانور ــــــ زوجة المخرج كوبولا ـــــ هي التي أقنعتك. لكني جئت مع ذلك أحذرك من بطش راڤاياكْ. إنك تعرف وحشيته.




من أحلام أنسي الحاج
الحلم (١)
رأى الشاعر أنسي الحاج فيما يرى النائم أنه جنينٌ في شهره التاسع، داخل الرحم، وأنه يستعد للخروج إلى العالم.
كان رأسه إلى أسفل، وكانت ركبتاه لصيقتين بصدره وهو يمسك حبل السرة بأصابع يده اليمنى ويضع في فمه إبهام اليد اليسرى.
 كانت أمه "ماري عقل" قد بدأت تشعر بألم المخاض، وهي متمددة على سريرها في مستشفى الولادة ذاك، في قاعة فسيحة، مليئة بالنساء الحوامل.
 كانت النساء من حولها يتهامسْنَ أن الأطباء بذلك المستشفى لم يكونوا أطباء حقيقيين. بل هم بضعة مجانين هربوا من المعزل القريب، ثم اقتحموا المكان وقاموا بتقييد الأطباء والقابلات بالحبال.
غيْر أن الجنين أنسي الحاج لم يكن يلقي بالا لتلك الأمور.
 كان متيقنا من شيء واحد فقط، وهو أنه سيولد في اللحظة التي ينعكس فيها ضوء القمر المكتمل على أعشاش العناكب، في التلال القريبة، فتبدأ تلك الأعشاش في اللمعان مثل نجوم صغيرة، يَضرب ضوؤها إلى الزرقة.


الحلم (٢)
 رأى أنسي الحاج فيما يرى النائم أنه يجلس بجانب يوري غاغارين في المركبة الفضائية " فوستوك"، التي تدور بهما حول الأرض، على علو 327 كيلومترا، وبسرعة ثمانية وعشرين ألف كيلومتر في الساعة.
كان صوت فيروز يصدح بداخل المركبة:"سألتك حبيبي...لوِينْ رايْحينْ؟"
وكانت الأرض تبدو بعيدة وشديدة الزرقة. 
 حين أنهت المركبة دورتها وصارت على بُعد كيلومترات معدودة من الأرض، انفتح بابها العلوي، وانقذف أنسي الحاج في الجو، ثم فتح مظلته وشرع ينزل ببطء شديد إلى أن حط قرب الشلالات الهادرة لمدينة جزين اللبنانية.
 أما يوري غاغارين فكان من المقرر أن ينزل بمظلته قرب مدينة ساراتوڤ، على ضفة نهر الڤولغا.

الحلم (٣)
رأى أنسي الحاج فيما يرى النائم أنه ينتظر دوره في أحد صالونات الحلاقة ببيروت.
كان الحلاق يلبس زيا عسكريا ويضع على رأسه ضمادة طبية. وكان الزبائن ينادونه باسم "غِيُّومْ".
عن يمين أنسي الحاج، كان يجلس الكاتب التركي عزيز نسين.
 في الطرف الآخر من الصالون كان هناك الشاعر يوسف الخال، يتصفح عددا من مجلة " شعر". اندهش أنسي الحاج حين رآه فوقف واتجه نحوه ثم مال عليه هامسا:
ـــــ يا صديقي، حرام عليك! أين كنت مختفيا طيلة هذا الأسبوع؟ لقد بحثنا عنك في كل مكان من أمكنة بيروت، أنا وزوجتك هيلين.
 في تلك اللحظة دخل سرب من الفراشات البيضاء إلى صالون الحلاقة. أمسك يوسف الخال واحدة منها برفق شديد وتفحص جناحيها، ثم قال لأنسي الحاج:
ــــــ انظر! إن هيلين فنانة حقيقية... فنانة حقيقية ومجنونة حقيقية أيضا... لقد رسمتْ وجهي بالألوان على أجنحة الفراشات البيضاء وأطلقَتْها لتبحث عني في بيروت!
ثم سكت قليلا قبل أن يضيف وهو يضحك ضحكته الرنانة:
ــــــ ها هي هذه المخلوقات الصغيرة الجميلة قد اهتدت إلى مكاني!



من أحلام سركون بولص 
ليلة الأحد 26 شتنبر 2004
رأى سركون بولص فيما يرى النائم أنه يركب الطائرة متوجّها إلى مدينة أيْن.
كانت المضيفة التي تتولى خدمة الركاب هي أغاثا كريستي.
وكان جاره في المقعد هو الشاعر جان دَمُّو.
والشخص الذي بجانب جان دمو كان أيضا هو جان دمو.
والثالث كان هو جان دمو. والرابع كذلك. والخامس والسادس والسابع والثامن.
 باستثناء سركون بولص كان كل واحد من الركاب السبعين هو جان دَمُّو. بالصلعة نفسها. بالفم الأدرد نفسه. باللحية التي لم تُحلق منذ أيام. بالقميص البني القديم، المفتوح الأزرار من أعلى.
كانت المضيفة أغاثا كريستي تلبي الطلبات بتثاقل شديد.
 وحين ناداها سركون بولص، طالبا قنينة نبيذ، اقتربت منه وهي عابسة متجهمة. الأمر الذي أغضب جان دمو الجالس بجانبه، فخاطبها قائلا بالعربية:
ـــــ كيف قبلوك مضيفة في شركة الطيران هذه، أيتها العجوز الشمطاء؟
ثم شرع يشتمها بألفاظ نابية، باللغة الإنجليزية.
 بقيت أغاثا كريستي واقفة مستغربة. ففي كل مقعد من مقاعد الطائرة كان هناك جان دمّو ينطق بالشتائم نفسها وينظر إليها بالغضب نفسه.

ليلة الاثنين 27 شتنبر 2004
رأى سركون بولص فيما يرى النائم أنه يغادر كركوك ـــــ مدينة النار الأزلية ـــــ باتجاه بيروت، سيرا على القدمين.
 وعندما مرّ بالقرب من مقبرة " قرمزي كليسه"، في وقت الغسق، سمع عواء ذئاب، قادما من بعيد. وقف يصغي إلى ذلك العواء وهو يقول لنفسه مبتسما:
ــــــ إنها ذئاب صلاح فائق. 
 ثم واصل سيره في ذلك الخلاء الموحش.

ليلة الثلاثاء 28 شتنبر 2004
رأى سركون بولص في منامه أنه فتح نافذة شقته في سان فرانسيسكو، فوجد غرابا جاثما على حافة النافذة. كان ذلك الغراب يحمل في منقاره صورة قديمة بالأبيض والأسود. وهي الصورة الشهيرة، التي يبدو فيها رامبو بلباس أبيض، واقفا مع بضعة أشخاص، ومشبّكا يديه على صدره، أمام أحد الفنادق في مدينة عدن.
تناول سركون بولص الصورة. تأملها طويلا ثم شرع يتفحص الغراب، قبل أن يقول له:
ــــــ ادخل يا صديقي. ادخل بسرعة ودعني أغلق هذه النافذة، فالبرد شديد.
 دخل الغراب وحطّ على أرضية الغرفة ثم انتفض واستعاد هيأته الآدمية. كان هو جاك كيرواك. نظر إلى الغرفة الخالية تقريبا من الأثاث .ثم وضع يده على كتف سركون بولص وسأله:
ــــــ أخبرني يا صديقي، أين هي طاولتك؟ أين الأواني؟ وأين هو سريرك العابر للقارات؟
لم يعرف سركون كيف يجيبه. ضحك جاك كرواك عاليا ثم عاد يسأله:
ـــــ والأهم من هذا كله، أين آلة القهوة التي اخترعها صلاح فائق؟

ليلة الخميس 30 شتنبر 2004
رأى سركون بولص فيما يراه النائم أنه برفقة صلاح فائق وأنهما معا كائنان فضائيان.
كانا يمشيان في مكان قفر.
 وحين حانت منهما التفاتة رأيا المركبة الفضائية التي جاءت بهما إلى هناك قد اندلعت فيها النيران. هزَّ كل منهما كتفيه بلا مبالاة وواصلا السير.
فجأة صار سركون بولص هو صلاح فائق.
وصار صلاح فائق هو سركون بولص.
وكانا يدركان معا أن هناك شخصا في أعلى الجبل يصوب نحوهما بندقيته، لكنهما لم يعيراه أي اهتمام.
في السماء كان القمر قد تحول إلى بوصلة عظيمة، ترسل الضوء لكنها لا تشير إلى أي جهة من الجهات.
 وبعد ساعة من المشي ألفيا شابا جالسا على صخرة. كان عاريا تقريبا وحافي القدمين. كان ضوء القمر ينعكس على شعره الطويل فيضفي عليه لونا فضيا. وكان يضحك بكيفية غير مفهومة. سأله سركون بولص:
ـــــ ما الذي يضحكك أيها الشاب؟
أجابه دون أن يتحرك من مكانه:
ـــــ تحت إبطي الأيسر أُسرة من الضفادع، وعندما تتحرك إحداها فإنها تدغدغني. 
وتحت إبطي الأيمن حرباء تطارد هذه الضفادع باستمرار.
قالا بصوت واحد:
ـــــ لوتريامون؟ أنت لوتريامون؟ 
 بقي يحدق فيهما دون جواب. وفي البعيد كانت ألسنة النيران الزرقاء والبرتقالية لا تزال مرتفعة من المركبة الفضائية.



بدر شاكر السياب وبائع المثلجات
ذات ليلة صيفية، رأى بدر شاكر السياب في منامه أنه متمدد على الرمل، بلباس البحر، تحت شمسية ملونة، في شاطئ مليء بالمصطافين.
كان الوقتُ ضحىً وكان السياب ينظر في ديوان شعري بعنوان " ليست هناك ساعات حائطية في الجنة"، للشاعر الأمريكي أليكس ماكسويل.
ولما رفع عينيه عن الكتاب رأى بائعَ مثلجات يمر بالقرب منه.
 كان البائع رجلا مسنا،وكان يمشي حافي القدمين على الرمل، وهو ينوء بذلك الصندوق الذي يحمله على ظهره. لم يكن يلبس سوى شورط طويل يبلغ الركبتين.
 أحس بدر شاكر السياب عندئذ برغبة في تلك المثلجات اللذيذة، فأشار للرجل الهرم كي يقترب منه. وعندما أصبح على بعد خطوتين منه لم يصدق الشاعر العراقي عينيه. لقدكان بائع المثلجات ذاك هو إمبراطور اليابان دون سواه! 
سأله السياب:
ــــــ منذ متى وأنت تبيع المثلجات في هذا الشاطئ، أيها الإمبراطور؟

ابتسم الإمبراطور المسن وأجاب قائلا:
ــــــ  الحق أني لم أعد أذكر ذلك بالتحديد.
عاد السياب يسأله وهو يشير للديوان الشعري:
ــــــ أخبرني أيها الإمبراطور،هل تعرف الشاعر الأمريكي أليكس ماكسويل؟
ــــــ طبعا أعرفه. وكم شعرت بالأسف والحزن يوم تم إعدامه على الكرسي الكهربائي في يوم عيد ميلاده الثلاثين.
 وضع إمبراطور اليابان صندوقه على الرمل ثم جلس بجانبه. وبعد هنيهة، طلب من الشاعر العراقي أن يناوله المجموعة الشعرية التي بين يديه وأخذ يقلب صفحاتها ثم قال:
ــــــ هناك قصيدة في هذه المجموعة أحفظها عن ظهر قلب. وهي التي يقول في مطلعها:
سأحكي لكم عن أسماك البوري
التي تضع نظارات سوداء
في أعماق المحيط

فجأة تشنجتْ ملامحُ الإمبراطور وهو يضع  يده على كتفه اليمنى. كان هناك دم غزير يسيل منها ويقطر على الرمل. ضحك الإمبراطور ضحكة عالية رغم الألم الشديد، ثم قال للسياب:
ـــــ يبدو أن أحدهم قد أطلق عليّ النار!
 تمدد الإمبراطور على الرمل متوسدا صندوق المثلجات.
 كانت هناك خيول تقف غير بعيد على قوائمها الخلفية في صف بديع. وكان الإمبراطور ينظر بفرح إلى العدد الكبير جدا من الشمسيات المحلقة في الهواء.
..............................................
(*) القصص السبع، من مجموعته القصصية (كتاب الأحلام)، تحت الطبع.
(*) اللوحات، للفنان الإيرانيّ: باهمان محصص



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق