إن من يقرأ كتاب ثوماس كُونْ (بنية الثورات العلمية) يفاجأ بتأثر كون الكبير بالفكر الفرنسي. ففي مقدمة الكتاب أعلن كونْ صراحة تأثره الشديد بألكسندر كويري، وبإميل مايرسون، وبهلين ميتزجير (ص:-v vi، والهامش 1 بالصفحة vi). لكن بعض القراء يستغربون أيضا كيف حصل أن ظل كون بعيدا عن التأثر بغاستون باشلار الذي يبدو في نظر كثير منهم أقرب إلى كون من غيره. فهل كان كون في أثناء الإعداد لكتابه بنية الثورات العلمية قد اطلع على أفكار باشلار وأعرض عن ذكرها في الهامش إياه؟ أم أن تلك الأفكار لم تصله إلا في مرحلة لاحقة على نشر كتاب البنية؟ أم أن الصلة بين فكريهما واهية على الرغم مما بينهما من تشابه؟
الواقع أن الفحص عن الصلة القائمة بين باشلار وكون تُدخل المرء في باب من الكلفة شاق، ليس في قراءة النصوص وفهمها فحسب، بل في الكشف عن التصنيفات التي تحيل عليها تلك النصوص أيضا. وهذه التصنيفات كما يعرف الدارسون تقترن بتقليديْن في فهم فلسفة العلم وتاريخه مختلفين أشد ما يكون الاختلاف هما التقليد القاري (نسبة إلى قارة أوروبا، والمقصود هنا فرنسا وألمانيا) والتقليد التحليلي (الأنجلو أميريكي). فالتقليدان ظلا طويلا منغلقين على بعضهما، وتحديدا منذ كانط. التقليد التحليلي مثلا لم يعط هيغل الذي أعقب كانط الأهميةَ الكبرى التي أعطاه إياها التقليد القاري. بل إن هناك من يربط الفرق بين التقليدين بهذه النقطة تحديدا (رورتي على سبيل المثال): التقليد القاري قرأ هيغل وحمله على محل الجد، في حين أن التقليد التحليلي أعرض عنه ونسيه (حالة برتراند راسل الذي أمضى فترة من شبابه هيغيليا)... وعلى الرغم من أن الميل الوضعي الذي سيطر على التقليد التحليلي كان في الأصل قاريا (فرنسا تحديدا: أوغيست كونت)، سنلاحظ أن هذا الميل سيتعمق في اتجاهات غير مسبوقة وغير متوقعة بسبب ما عُرف بالتحول أو الانعطاف اللغوي الذي أضفى على النزعة الوضعية التي مال إليها التقليد التحليلي طابعا خاصا يصعب ربطه أو رده آليا إلى وضعية أوغيست كونت القارية.
يمكن للمرء إذاً أن يعتمد الفروق القائمة بين التقليدين ويمنحها تأويلا قويا، ويعفي نفسه من الخوض فيما إذا كان كون قد تأثر بباشلار أم لم يتأثر؛ لأن التقليدين كما ألمعنا مكتفيان، كل بذاته، ولا حاجة إلى الخوض في مشروع يروم ربط صلات واهية بين السرديات التي أُنتجت في كل واحد منهما: سواء أكانت هذه السرديات قد تناولت العلم أم تناولت باقي أصناف المعارف الأخرى. وإذا كان هناك من أشياء يشترك فيها التقليدان، فإن هذه الأشياء ترتد إلى الحقبة التي سبقت بروز التقليدين واستواءهما (كانط ومن قبله، إذا سلمنا بالتوصيف الذي عرضه رورتي وقبلناه)... لكن، قبل النظر فيما إذا كان هذا التأويل القوي للفروق مُنتِجا ومُطمْئِنا لا مناص من التعريج على ما تشير إليه المرويات التي تعرضت للقاء الشخصي بين كون وباشلار.
توماس كون |
تذكر هذه المرويات أن كون حين جمع الخواطر، وعقد العزم على كتابة (بنية الثورات العلمية) في نهاية الأربعينات من القرن العشرين، أرسله المفكر الفرنسي، مؤرخُ عِلميْ الفيزياء والفلك، ألكسندر كويري الذي كان يُدرِّس في الولايات المتحدة إلى فرنسا للقاء باشلار قصد الاطلاع على الأصول الفلسفية للإشكالات في سياق الفكر القاري، وحَمَّله رسالةَ تزكية إلى باشلار تُسهل اللقاء المرتقب، وترفع من طريقه العقبات... لكن شاءت الأقدار ألا يكون اللقاء مثمرا. وكان للغة الحديث دور في رفع السلاسة عن اللقاء. فبينما كان كُون الذي لا يتقن الفرنسية يفضل الحديث إلى باشلار باللغة الإنجليزية، أَصرَّ باشلار بنوع من العجرفة، كما لمّح إلى ذلك كُونْ، على الحديث بالفرنسية... كان اللقاء خاطفا في مستقر باشلار بزنقة سانت جينوفييف بباريس، ولم يترتب عليه ما يتبعه. لم يكن كُونْ يعرف عن فكر باشلار سوى مِزَقٍ وتفاريق، (كان قد قرأ كتاب فلسفة النفي الذي صدر سنة 1940)، بدا له منها أن الرجل يصدر عن مقولات منهحية (methodological categories) صارمة لم يفهم كون مغازيَها، لنقص فيه أو فيها كما قال، ولا تتلاءم مع المشروع الذي كان قد عقد العزم على إنجازه (ورد وصف هذا اللقاء في حوار مع كون (Kuhn,1997,p.169)).
في الواقع، كان كُونْ يجهل تماما التحولات التي طرأت على فكر باشلار في الوقت الذي زاره فيه... فباشلار، كما ذهبت إلى ذلك كاستلاو لوليس (2004: 874)، أصبح منذ سنة 1942، أي السنة التي نشر فيها كتابه الماء والأحلام، يولي اهتماما كبيرا لقضايا الخيال والإبداع، وللدور التحريري الذي تلعبه الصور والخيالات... وحين عاد إلى الكتابة في قضايا إبستيمولوجيا العلم في كتب مثل: العقلانية المطبَّقَة (1949)، ونشاط الفيزياء المعاصرة العقلاني (1951)، والمادية العقلانية (1953) )، كان قد عاد متأثرا بأعماله التخييلية تلك؛ بل إننا نستطيع أن نقول إن منهجيته بدورها عرفت بعد هذه العودة تحولا كبيرا... إنها أخذت تبتعد عن التأويل التاريخي وعن التأويل المعتمد في التحليل النفسي، وأصبحت تميل ميلا شديدا إلى المقاربة الفينومنولوجية والسريالية للموضوعات وللممارسات العلمية عموما... بعد عودته هذه إلى دراسات العلم نلفيه يرجع مرة أخرى وأخيرة إلى أعمال تتصل بالخيال والشعرية والأحلام كما هو واضح في: شعرية الفضاء (1957)، وشعرية الحلم (1960)، وشعلة القنديل (1961). فالإبستيمولوجيا التي أنتجها باشلار بين المرحلتين، أي في الفترة التي زاره فيها ثوماس كُونْ تحديدا، لم تكن تتضمن، حسب لوليس، المقولات الصارمة التي أبدى كُون تحفظه الشديد إزاءها... ففي هذه الفترة كان باشلار قد شرع في النظر إلى الدعاوى العلمية من منظور اجتماعي... وبدأ يلتفت إلى أهمية البلاغة في الاستدلالات العلمية. فهذه هي الأمور التي كان من المفروض أن يَتعرَّفها كون من نقاشه مع باشلار...
يستفاد مما سبق أن كون على الرغم من كونه نحا في كتابه نحوا يقترب في بعض وجوهه من طريقة باشلار في رصد علاقة السابق باللاحق في العلم، لم يكن ذلك ناتجا عن تأثر مباشر بأفكار باشلار. ربما تأثر كون بالمزاج العام الذي كان سائدا في أوساط الأجيال الجديدة التي تربت على تعاليم الوضعية المنطقية في نطاق التقليد التحليلي، وضاقت ذرعا بتلك التعاليم، وسعت إلى الإفلات منها في اتجاه ما سيعرف بما بعد الوضعية. ونستطيع هنا، إذا أحببنا، أن نستعين بالتأويل الذي عرضه فولر في كتابه الشهير عن كون المعنون بـ ثوماس كون: التاريخ الفلسفي لأزمنتنا (2000)، وفي مقالاته الأخرى أيضا التي شبه فيها كون بالسيد تشانس، البريء والموغل في السذاجة، في الفيلم الشهير (Being there) الذي أخرجه هال آشبي سنة 1979. السيد تشانس (أدى دوره: الممثل بيتر سيليرس) لا يعرف عن العالم إلا ما يراه على شاشة التلفزيون، ولا صلة له بالأشياء إلا من خلال البستنة التي كان يمارسها بمهارة فائقة في حديقة بيته الذي لم يغادره إلا في سن متقدمة. وحين غادر البيت، بمظلته وحقيبته، وجد نفسه في أجواء الحملة الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة يصرح للإعلاميين بآراء حول البستنة وهم يفهمونها على جهة الاستعارة ويعطونها معاني سياسية عميقة جدا لم يقصدها البتة السيد تشانس ولم يسبق لها أن جالت بخاطره... تشبيه فولر لكُونْ بالسيد تشانس مبالغ فيه على الأرجح؛ لأن كون لا يقول أشياء بسيطة ساذجة أو بريئة؛ لكن علاقة كون بدارسيه تشبه من بعض الوجوه علاقة السيد تشانس البريء بمستجوبيه: إفراط في التأويل (over-interpretation) في الحالتين معا. فقسم لا يستهان به من الأفكار التي وردت في كتاب كون سبقه إليها آخرون في التقليد التحليلي نفسه، كستيفن تولمين مثلا، لكن كتاباتهم لم تبلغ في الشهرة مبلغ كتاب كون لأسباب يطول ذكرها تعرض لها فولر بإسهاب في أبحاثه التي أومأنا إليها ترتبط بعوامل سوسيولوجيا انتشار المعارف والأفكار.
إن ميول كُونْ للإفلات من القيود الوضعية في اتجاه ما أصبح يعرف بما بعد الوضعية يمكن الاستدلال عليه بالتأثير الكبير الذي مارسه عليه كواين. فليس من باب المصادفة البتة أن يشدد كُون في متن مقدمة البنية (ص.vi ) على أنه تأثر تأثرا بالغا بالنقد الذي وجهه كواين لإحدى العقيدتين الراسختين اللتين قامت عليهما الوضعية في مقاله ذائع الصيت "عقيدتا المذهب التجريبي" (1951): أقصد العقيدة التي تقضي بالتمييز بين الأقوال التحليلية والأقوال التركيبية والألغاز الفلسفية المحيطة بها التي كشف عنها كواين في نقده لها. هذه العقيدة وشقيقتها القائلة إن أقوالنا تواجه اختبار التجربة قولاً قولاً شكلتا أساس الفكر الوضعي. والنقد الذي صوبه كواين نحو العقيدتين في المقال المشار إليه فتح الباب واسعا أمام جيل بأكمله، وعلى رأسه كون، للخروج من الضيق الذي مارسه الفكر الوضعي في البلدان الناطقة بالإنجليزية.
أعتقد أن قراءة كون في سياق تقليده التحليلي، وفي ضوء تصريحاته بمرجعياته التي ذكرها هو نفسه، تعفينا من التكلف والبحث عبثا فيما كان بإمكان باشلار أن يضيفه إليه لو أن اللقاء الشخصي الذي جرى بينهما كان سلسا. فالإطار التحليلي، بما تضمنه من إشكالات، يكفي بمفرده في نظري لتفسير نجاحات كون وإخفاقاته على حد سواء... وأزعُم أن البحث في العلاقة القائمة بين التقليديْن القاري والتحليلي لم يصبح أكثر وضوحا وخصوبة إلا في السنوات اللاحقة على نشر كون لـ بنية الثورات العلمية، أي حين بدأنا نشهد حوارا صريحا ومباشرا بين الفلاسفة التحليليين وزملائهم القاريين (باتنم وهابرماس، سورل وديريدا، هابرماس و رولز...الخ)، بل حين بدأنا نشهد اهتماما لافتا غير معهود لدى الفلاسفة التحليليين بوجه قاري بارز كهيغل بعد نسيانه أو تناسيه، كما هو واضح في أعمال روبير براندوم (R.Brandom) الأخيرة مثلا، أو في أعمال أستاذه رورتي قبله الذي يجاور في تحليلاته بين مفكرين من التقليديْن بطريقة غير معهودة (ديفدسن هايدغر كواين ديريدا ديوي..الخ)، أو بالعودة من باب الذكاء الاصطناعي إلى النهل من أفكار هايدغر، لنقد الأطروحات الرائجة في هذا المبحث كما هو الشأن عند هيوبير دريفوس مثلا، أو من أجل استلهام تلك الأفكار لصقل تلك الأطروحات وتحصين النماذج المترتبة عليها وتهذيبها كما هو الشأن لدى آخرين مثل وينوغراد (T.Winograd) وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
Bachelard, G (1972) l’engagement rationaliste. Presses Universitaires de France (PUF).
Castelao-Lawless, T (2004) “Kuhn’s missed opportunity and the multifaceted lives of Bachelard: mythical, institutional, historical, philosophical, literary, scientific”. Studies in History and Philosophy of Sciences. 35. 873-881.
Fuller, S (1992) “Being There with Thomas Kuhn: A parable for Postmodern Times”. History and Theory, Vol. 31, No.3, 242-275.
Kuhn, S. T (1962) The Structure Of Scientific Revolutions. (Second Edition, Enlarged 1970). The University of Chicago.
Kuhn, T (1997). “A discussion with Thomas S. Kuhn, a physicist who became a historian for philosophical purposes: A discussion between Thomas S. Kuhn and Aristides Baltas, Kostas Gavroglu, Vasso Kindi”. Neusis, 6, 145–200
Quine, W. V (1951) “Main Trends in Recent Philosophy: Tow Dogmas of Empiricism”. The Philosophical Review, Vol. 60, No.1,
20-43.
المصدر: غاستون باشلار وتوماس كون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق