الأربعاء، 1 يونيو 2016

فريدريش نيتشه : اميل برهييه

ترجمة: المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي



فيما كان نيتشه (1844-1900) يتردد، بصحبة إرفن روده، الذي سيؤلف مستقبلاً كتاب
فريدريك نيتشه
النفس (PSYCHE)، علي جامعتي بون ولايبتزغ (1864-1869)، كانت الفيلولوجيا، التي تنطع لدراستها، تُعدّ، بمنهجها ونتائجها، حجر الزواية في الثقافة الألمانية. بيد أن اطلاعه عن كثب علي كتابات شوبنهاور، برؤيته الواضحة والمباشرة للأشياء والبشر، جعله يميل عنها في وقت مبكر. "إن العالم لا يمكن أبداً أن يصير فيلسوفاً .. فذاك الذي يأذن لأفكار الماضي وآرائه وأشيائه، وللكتب أن تقوم بينه وبين الأشياء، ذاك الذي وُلد بأوسع معاني الكلمة، للتاريخ، لن يري أبداً الأشياء للمرة الأولي ولن يكون هو نفسه أبداً موضوعاً كهذا مرئياً للمرة الأولي"[1]. ولقد سدد ضرباته، اكثر ما سددها، الي الفلسفة الهيغلية باعتبارها مصدر "ثقافة الأدعياء" التي بدا له أن دافيد شتراوس ممثلها النموذجي: فهيغل أعلن أن نهاية الأزمنة أزفت، والحال أن "اعتقاد المرء بأنه من الآتين المتأخرين هو اعتقاد شال حقاً ومن شأنه أن يكدر صفو المزاج، لكن ما عندما يشرع اعتقاد من هذا القبيل، بضرب من قلب جريء، بتأليه معني كل ما حدث حتي الآن وهدفه، كما لو أن بؤسه المتعالم يعادل تحقيقاً للتاريخ الكلي، فعندئذ يتبدي ذلك الاعتقاد رهيباً ومدمراً"[2].

ومع ذلك، فإن دراسات نيتشه الفيلولوجية هي التي تأدت به الي التأمل في حضارة اليونان، حيث اكتشف "واقع ثقافة مضادة للتاريخ، ثقافة هي علي الرغم من ذلك، أو بالأحري بسبب ذلك، غنية وخصبة الي حد يدق عن الوصف". ومن تأملاته في هذه الثقافة ومن تأويله، بوساطة فلسفة شوبنهاور، للدراما الغنائية كما أرسي أسسها ريشارد فاغنر، الذي صار من أصدقائه الخلّص، ولُد كتابه (أصل المأساة)، الذي كتبه قبيل حرب 1870والذي صدر في عام 1872 (الترجمة الفرنسية 1901)، وقد حملت طبعة 1886 العنوان الفرعي التالي: "الهلينية والتشاؤم"، وما كان النقد الكلاسيكي (ذاك الذي تعود أصوله الي فنكلمان) يعرف سوي مظهر واحد من الفن اليوناني، هو الفن التشكيلي، فن أبولون، إله الشكل، انه فن الاعتدال والاتزان ومعرفة الذات والسيطرة عليها، وهو فن يناظره تأمل هاديء وغير منفعل وسط عالم من الآلام والأوصاب، "يستتر العالم الواقعي خلف حجاب، ويولد عالم جديد اكثر صفاء وأوفر معقولية، ولكنه في الوقت نفسه اكثر شبحية، وينتقل من حال الي حال بلا انقطاع علي مشهد منا ومرأي". وهذا التأمل الأبولوني يقابله وجد ديونيسيوس، وهو معرفة وحدة الإرادة، والرؤية المتشائمة للأشياء بحسب شوبنهاور، وتمثل الجوقة، في المأساة اليونانية، رفيق ديونيسيوس، "أنها ترتجف لدي التفكير بالمصائب ستنزل بساح البطل، وترهص بفرح أسمي وأقوي بما لا يقاس"، إنها ترتجف لأن شطط المصائب يحول بينها وبين التأمل الأبولوني، لكن هذا الشطط عينه يقتادها الي أن تتبين علته في إرادة الحياة، والي أن تسكن روعها بنفي هذه الارادة، وتلك هي فكرة تريستان لفاغنر ، فاغنر الذي تمثل مآسيه الغنائية، في نظر نيتشه، بعثاً للتراجيديا اليونانية، فهذه المآسي الغنائية " تقود عالم الظاهر الي الحدود التي يخلق عندها نفسه بنفسه وتراوده الرغبة في الرجوع للالتجاء الي حضن الواقع الحقيقي والأوحد".

(1) 
نقد القيم العليا

إن هذه الميتافيزيقا الغائمة والقانظة لم تدوم طويلاً، فقد اهتدي نيتشه إلي الأسباب السيكولوجية والفيزيولوجية لنفي إرادة الحياة في تناقص ووهن يطرءان علي غريزة الحياة، إذ أن التشاؤم عرض من أعراض الانحطاط. وما لبث نيتشه أن اختصم مع فاغنر، وصار، مثله مثل شوبنهاور، من قراء المفكرين الأخلاقيين الفرنسيين، من أمثال لارشفوكو وبسكال وسائر كتاب القرن الثامن عشر. وقد أوضح في كتابه (إنساني مجاوز للحد من إنسانيته) - (1878، الترجمة الفرنسية 1909)، ثم في كتابه (المسافر وظله)- (1880، الترجمة الفرنسية 1902)، أوضح كيف أن المشاعر الخلقية الاساسية، كالشفقة واحتقار الذات والغيرية، رأت النور لدي الإنسان من جراء تفسير غير علمي وكاذب لأفعاله ومشاعره، فما الأخلاق إلا "بتر ذاتي"[3] : فلئن صبا الجندي الي السقوط في ميدان القتال، فلأنه "يكنّ لشيء من ذاته، لفكرة أو رغبة أو مخلوق، قدراً من الحب اكثر مما يكّنه لشيء آخر من ذاته، ولأنه يبضع بالتالي كيانه ويضحي بجزء علي مذبح جزء آخر" (ص92)، والخطأ هو في اعتقاده بخروجه من ذاته. 

في عام 1879 ترك نيتشه، وقد هدّه المرض، كرسي الفلسفة في جامعة بال، وسكن علي التوالي في كل من روما وجنوي ونيس وسلس-ماريا في الانغادين[4]. وانتهت حياة التشرد هذه، التي غلبت عليها الوحدة أكثر فاكثر، عام 1889 بنوبة شلل عام. وفي إبان هذه السنوات العشر حرر تلك الكتب المشبوبة العاطفة التي تحاشي فيها الفكر العرض المنهجي ليأخذ في معظم الأحيان الشكل المركّز لجوامع الكلم، وليطفح في أحيان أخري، في (هكذا تكلم زرادشت)، بالصور الجياشة المتدفقة علي منوال أنبياء الرومانسية. وكانت المعضلة الوحيدة التي تشغله هي معضلة الثقافة الحديثة، فالثقافة تحيا علي اعتقادات بقيم، والحال أن القيم التي تحيا عليها إنسان العصر: المسيحية، التشاؤم، العلم، المذهب العقلي، أخلاق الواجب، الديموقراطية، الاشتراكية، هي جميعها أعراض انحطاط، أعراض حياة هي قيد الافتقار والانطفاء. وكتابات نيتشه مجهود لعكس التيار، والمهمة التي يضعها نصب عينيه مزدوجة: تحطيم ألواح القيم ببيان مصدرها الحقيقي: التعب من الحياة، وقلب القيم بإعطاء مكانة الصدارة لإرادة القوة، لكل ما يؤكد الحياة في تفتحها وملائها. 

إن القسم الأيسر فهماً من تلك الكتابات هو النقد العنيف المسعور، فهذا النقد، الذي بدا في الإنسان المجاوز للحد في إنسانيته وكأنه لا يتعدي حدود فلسفة القرن الثامن عشر، يغير من طبيعته عندما يتصدي نيتشه لذلك الشر الواسع الانتشار الذي يسميه في إرادة القوة بالعدمية الأوربية، فلم يعد بيت القصيد أن نري في الأنانية أصل الأخلاق، بل أن نري في انحدار فيزيولوجي عميق أصل ذلك المسلك المشترك الذي يفصح عن نفسه في ورع الإنسان المتدين، وموضوعية العالم، ونزعة الاشتراكي الي المساواة. وفي الفجر[5] MORGENROTHE (1881، الترجمة الفرنسية 1901)، يعارض نيتشه مفارقة روسو: "إن اخلاقيتنا الصالحة هي علة هذه الحضارة الزرية. فتصوراتنا الاجتماعية للخير والشر، الضعيفة والمؤنثة، وهيمنتها الهائلة علي البدن والنفس، قد آل بها الأمر إلي إضعاف الأبدان طراً والنفوس طراً، والي تحطيم الرجال المستقلين، السادة، المنعتقين من الأحكام المسبقة، الحماة الحقيقيين لحضارة قوية"(ص 181).

وفي المعرفة المرحة (1882) يظهر للعيان ما يمكن أن نسميه ذرائعية نيتشه، فكرة الأخطاء الحيوية التي تنهض عليها معرفتنا بالحق، واعتقاداتنا بالأشياء والأبدان، ومنطقنا النابع من "الميل الي معاملة الأشياء المتشابهة وكأنها متعادلة"، ومقولتنا في العلة والمعلول، وأخيراً "عقل يري العلة والمعلول علي أنهما اتصالية، وليس، علي منوالنا، علي أنهما تجزئة عسفية، عقل يري دفق الأحداث وينفي فكرة العلة والمعلول وكل شرطية" (ص169).

لكن نقد القيم هذا نلفاه بوجه خاص، بكل حدته، في كتابه فيما (فيما وراء الخير والشر، تمهيد لفلسفة في المستقبل)، (1886، الترجمة الفرنسية 1903): فتحليل الفيلسوف، والمفكر الحر، والإنسان المتمدين، والعالم، والوطني، والنبيل، يقتاده في جميع هذه الحالات الي تعيين الحيوية الصاعدة أو النازلة التي هي جوهر الأحكام التي يصدرها كل واحد علي الواقع، فحس القسوة مثلاً هو في أساس كل ثقافة عليا، فهو الذي يولّد اللذة المؤلمة للمأساة، ومن قبيلها تضحية العقل لدي بسكال، هذا العقل الذي "ينجذب سراً الي قسوته الخاصة، فينقلب علي ذاته" (ص233). أما كتابه في (أصل الأخلاق)، (1887،الترجمة الفرنسية 1900) فيعالج بوجه خاص مسألة الزهد باعتباره الشكل الاقصي الذي لا يعدو العلم والأخلاق في كثرة من الاحيان أن يكونا مظهراً له، " .. المحتقر لكل صحة ولكل قوة، لكل ما هو شرس وجامح، الكائن الرهيف الذي يزدري بأسهل مما يكره، والذي علي عاتقه ضرورة شن الحرب علي كواسر الحيوان، علماً بأنها حرب خدعة (حرب "عقل") أكثر منها حرب عنف" (ص218): ذلك هو تعريف الزاهد الذي تري النور عنده روحية العلم والأخلاق. 

هكذا توجّه نيتشه، عقب جوامع الكلم تلك، نحو نقد للمفاهيم الأساسية اكتمل تطوره في الذرائعية وحركة نقد العلوم، اقترن من جهة أخري بنقد سيكولوجي من منظار الكاتب الأخلاقي، كما في هذه الصفحة حول العالم: " إن العلم اليوم ملجأ كل صنوف الاستياء والتشكك وتبكيت الضمير وازدراء الذات والاحساس بالخطأ، إنه قلق فقدان المثل الأعلي، ألم غياب الحب الكبير وسخط مزاج متكلف ... إن اقتدار أنبغ علمائنا، واجتهادهم غير المنقطع، ودماغهم الذي يغلي ليل نهار، وحتي تفوقهم في العمل اليدوي - إن ذلك كله لا موضوع حقيقي له سوي التعامي الإرادي عن بداهة بعض الأشياء" (أصل الاخلاق ص 259). ولقد أحس نيتشه أنه غير مستطيع تطوير هذين الضربين من النقد وتوضيحهما إلا بتحصيل معارف علمية كان يفتقدها هذا الذي لم يكن في أصله إلا فيلولوجياً، ويتضمن كتابه الذي نشر بعد وفاته، والذي هو بالأحري مجموعة من المسودات: إرادة القوة (1901، الترجمة الفرنسية 1903و 1935)، الذي دارت له فكرته لأول مرة عام 1882 والذي شرع بتحريره عام 1886، يتضمن النتائج الأولي لذلك العمل التنهيجي الذي سيتسع لتطوير الكثير من الأفكار التي وردت إشارات مقتضبة اليها في غروب الآلهة (1889، الترجمة الفرنسية 1902). وقد أبدي في تلك الفترة عن عداء شديد للمذاهب الكبري المستوحاة من الروح السبنسري والدارويني والمتضمنة لفكرة تقدم محتوم وآلي، فالصراع من أجل البقاء "ينتهي لسوء الحظ نهاية مغايرة لتلك التي كانت ترغب فيها مدرسة داروين، ولتلك التي قد يجرؤ المرء علي أن يرغب فيها معها: أعني علي حساب الأقوياء، علي حساب المحظوظين، علي حساب الاستثناءات الموفقة. فالأنواع لا تنمو في الكمال: فالضعفاء يغلبون دوماً في نهاية المطاف الأقوياء - وذلك لأن عددهم اكبر ولأنهم اكثر حيلة" (غروب الآلهة، ص184). و "العدمية الأوروبية" هي من الآن فصاعداً الصيغة التي يشير بها الي ذلك الانحطاط الذي يقول إنه بدأ مع سقراط وأفلاطون، الي ذلك "الزيغ العام الذي سقطت فيه الإنسانية المتحولة عن غرائزهاالأساسية"، فجميع الأحكام العليا التي هيمنت علي البشرية لا تعدو أن تكون أحكاماً صادرة عن كائنات منهوكة فيزيزلوجيا (إرادة القوة، م1، ص126-127)، وكل مثل أعلي، كل بشارة بغاية ليست من صلب الوجود، هي إدانة للوجود تنم عن وهن وتدن في الحيوية. 


(2)
قلب القيم : الإنسان الاعلي

كان نيتشه نفسه يعتقد ان كتبه كلها ما هي الإ مراحل نحو الشفاء : " أن يكون المرء شخصياً تماماً بدون أن يستخدم ضمير المتكلم- وكأنه ضرب من الذاكرة": ذلك هو الشعار الذي يعينه لنفسه (إرادة القوة،م1،ص19)، وبالفعل، إن مصدر قلب القيم ليس التأمل والتحليل، بل محض إثبات القوة ـ وهي محض وجود - بدون أن يكون المرء ملزماً بتبرير ذاته، فرجال النهضة الايطالية وما عرفوا به من "فضيلة" غير مشوبة بشائبة "حسن الأخلاق" أو رجال من أمثال نابليون هم النماذج الحقة لإنسانية غير مدجنة، ولقد جانب كارلاريل أو إمرسون الصواب عندما شاءا إيجاد المبررات بطبيعة الحال شكل بشارة نبوية في هكذا تكلم زرادشت (القسم الأول والقسم الثالث، 1883-1884، القسم الرابع،1891، الترجمة الفرنسية 1901و1936) أو في الكتاب الذي نشر بعد وفاته هو ذا الإنسان ECCE HOMO (1908: الترجمة الفرنسية 1909). فالإنسان الأعلي الذي يبشر به زرادشت ليس تتويج النمط الإنساني، فنيتشه يري الي الإنسان الأخير علي منوال كونور بنوع ما، الإنسان الذي نظم كل شيء ليتحاشي المخاطر كافة، وفي نهاية المطاف الإنسان القانع بسعادته المسطحة، لكن "الإنسان شيء ينبغي تجاوزه، فالإنسان جسر وليس هدفاً" (ص286)، وصفة الإنسان الأعلي هي حب المجازفة والأخطار، وإرادة القوة هي الاسم الحقيقي لإرادة الحياة، إذ أن الحياة لا تتفتح إلا بخضوعها لوسطها. وكيف السبيل الي تأويل قصيدة زرادشت بجملتها إن لم نرّ فيها قصة المخاطرات التي يتعرض لها البطل، المخاطرات التي تتهدد في ظل حضارتنا الإنسان الأعلي الوليد والتي تفاقم شهامته من خطورتها، وإن كتبت له  الغلبة عليها في نهاية المطاف؟ إنها أولاً أسطورة العود الأبدي، التكرر اللامحدود لدورة الأحداث عينها، وهي فكرة كان تقدم بها شوبنهاور باعتبارها مثاراً لذعر وهلع يفترض بهما أن يبررا التشاؤم والقرف من حياة يخاف الإنسان أن يحياها ثانية علي منوال واحد، وزرادشت يستشعر أولاً هذا القرف، ثم لا يقبل الاسطورة فحسب، بل يتبناها ويجعلها أسطورته: أفليس العود الأبدي الخلاص من عبودية الغايات، الإثبات اللامتناهي والفرح لوجود لا يبرره شيء سوي هذا الإثبات عينه، وأخيراً إخضاع الوجود لشكل محدد ومحدود هو التعبير عن القوة بالذات ؟ إن العود الأبدي هو أنموذج قلب القيم، الـ "نعم" التي تنتصب في قبالة الـ "لا". وثمة إغراء آخر، هو إغراء "الرجال المتفوقين"، الرجال الذين تقول عنهم الغوغاء: "ايها الرجال المتفوقون، لا وجود لرجال متفوقين، فنحن جميعاً متساوون .. امام الله"، الرجال المتفوقون هم البشير بالسأم الكبير الذي يعلّم بقوله : " كل شيء سيان، فلا شيء يوجب لأياً" (ص347)، هم "الدقيق الذهن" الذي يحبذ ألا يعرف شيئاً علي أن يعرف كثيراً نصف معرفة والذي يعلم أن "لا وجود في العلم الحق لشيء كبير أو صغير" (ص361)، هم "المكفّر بالروح"، الساحر (فاغنر نفسه)، ذاك الذي ينشد الحب والألم (ص368)، هم "أقبح الناس"، ذاك الذي يري في الله الرحيم به شاهداً فيسعي الي الانتقام لنفسه منه (ص381)، هم الشحاذ بطوع إرادته، ذاك الذي يأخذه القرف من "مساجين الغني الذين يعرفون كيف يجنون ربحاً من كل كومة من القاذورات"، من "تلك الغوغاء المطلية بماء الذهب والمزورة" (ص391)، هم "ظل زرادشت"، التلميذ الذي يتعين عليه أن يأخذ حذره من أن يستولي عليه إيمان ضيق (ص398)، هؤلاء جميعاً نماذج من الرجال المتفوقين الذين يكمن نبلهم في القرف الذي يساورهم حيال الناس وحيال أنفسهم، فالمتشائم، والفيلولوجي، والعالم، والفنان، ومزدري الثروات، لم يستطع أي منهم أن يتغلب علي قرفه الخاص. والإنسان الأعلي لم يُخلق ليتابع مهمتهم: "أنتم، أيها الرجال المتفوقون، هل تعتقدون أنني وُجدت هنا لأعيد علي نحو حسن صنع ما أساتم أنتم فعله ؟ .. لزام أن يلقي آخرون وآخرون من فاضل جنسكم حتفهم .. فعلي هذا النحو فحسب يكبر الإنسان نحو الرفعة والسمو" (419).

هكذا يبتّ نيتشه أواصره بتلك الارستقراطية العقلية التي ورثت منها طبقة النبلاء معالم كثيرة من انحطاطها، ولئن عارض بقوة اكبر .. المثل الأعلي الاجتماعي والديموقراطي، فليس صحيحاً مع ذلك أن إرادة القوة هي لديه عنوان للقوة الوحشية والمدمرة المحض، فتأملات نيتشه الأخيرة كشفت له علي ما يبدو، علي العكس من ذلك، أن غزارة الحياة تتجلي في اختيار، في تنظيم دقيق وصارم للعناصر التي تهيمن عليها، "إن تطهير الذوق لا يمكن إلا أن يكون نتيجة تعزيز للأنموذج" ، ينجم هو نفسه عن وفرة فائضة في القوة، "إن ما ينقصنا هو الرجل العظيم المركب، الذي تخضع لديه القوي المتنافرة لنير واحد، أما ما بحوزتنا فهو الإنسان المتكثر، الإنسان الضعيف والمتكثر" (إرادة القوة،م2، ص243)، وهذه الخواطر الاخيرة هي التي فتحت في أعلي الظن الطريق أمام تصور للوجود والحياة لم يتنبه لأهميته النيتشويون السوقيون، الذين تكاثرت أعدادهم في مفتتح القرن العشرين، نظراً الي أنهم لم يروا في نيتشه سوي المذهب الفردي، لا تلك السيطرة علي الذات ولا ذلك التقشف اللذين يصنعان الإنسان الصلب"[6].


(3)
جان ماري غويو 

جان ماري غويو (1854-1888)

كان جان ماري غويو (1854-1888) بمعني من المعاني صاحب مذهب لاأخلاقي، مثله مثل نيتشه، فخطأ الأخلاقيين الكبير في رأيه هو أنهم تجاهلوا اللاشعور، فالإنسان مسوق قبل كل شيء بسائق اندفاع حيوي يفيض من أعماق كيانه المعتمة، اكثر منه بسائق أي باعث واعِ من لذة أو سواها. صحيح أن الفعل يدخل في مجال الشعور، لكن عندئذ تحديداً يقوم خطر التحليل: "يستطيع الشعور أن يرد الفعل علي المدي الطويل وأن يهدم تدريجياً، بنور التحليل، ما راكمه تركيب الوراثة المعتم، فهو قوة مذيبة" (الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء، 1885،ص245). وهدف الأخلاق إعادة التساوق بين الرؤية والعفوية، بتبريرها، في صميم الأمر، العفوية. وتبريرها هو في مستطاعها لأن "الحياة الأكثر تكثفاً والاكثر انبساطاً" تجمع بين الانانية والغيرية، ويري غويو، علي منوال نيتشه تماماً، أن الحياة سخاء وإنفاق، وأن الأنانية بالتالي تشويه للحياة، وقدرتنا، أي قوتنا الحيوية، هي مقياس واجبنا. 

إن علم الجمال يجد، مثله مثل الأخلاق، مبادئه في الحياة، والجميل في نظر غويو هو ما ينمي حيويتنا، ولهذا كان الانفعال الجمالي انفعالاً اجتماعياً، لأن الفن يحاول تكبير الحياة الفردية ليجعلها تتفق والحياة الكلية (الفن من وجهة النظر السوسيولوجية،1889) . وكما أن الحس الخلقي والحس الجمالي لا يموتان من جراء انعدام مبدأ مفارق للحياة، كذلك فإن الحس الديني يستمر في الوجود بعد زوال العقيدة، فهو مجرد حس بتبعية جسمية وخلقية واجتماعية للكون ولينبوع الحياة الذي يطفح فيه (لا دين المستقبل، 1887)[7].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] شوبنهاور مربياً (1874)، في تأملات غير راهنة CONSIDERATIOS INACTUELLES، السلسلة الثانية، الترجمة الفرنسية 1922، ص 104. 
[2] تأملات غير راهنة، السلسلة الأولي، الترجمة الفرنسية 1907، ص215. 
[3] البتر الذاتي [AUTOTOMIE]: اقتطاع الحيوان عضواً من أعضائه تخلصاً من خطر مداهم. "م".
[4] الانغادين: القسم السويسري من وادي نهر الإن بالألب. "م".
[5] وعنوانه التام: الفجر.تأمل في الأحكام المسبقة الخلقية. "م".
[6] انظر، بخصوص تأثير نيتشه، جنيفييف بيانكي، نيتشه في فرنسا NIETZSCHE EN FRANCE، 1929.
[7] انظر أيضاً للمؤلف نفسه: أشعار فيلسوف Vers d'un philosophe، التربية والورثة Education et Heredite 1880، تكوين فكرة الزمن La genèse de l’idée de temps، 1890.

(المرجع) تاريخ الفلسفة: الفلسفة الحديثة (1850-1945) الجزء السابع، اميل برهييه، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولي 1987.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق