الأربعاء، 8 يونيو 2016

نيتشه أو النقد الجينالوجي للحداثة

الكاتب محمد أندلسي


فريدريك نيتشه


لا يكفي للمرء أن يعلن انتماءه إلى الحداثة أو دفاعه عن عصر الأنوار حتى يكون حداثويا أو تنويريا، فالحداثة قد تستعمل بصورة إيديولوجية غرضها التبرير أو الدفاع عن الذات: تبرير الموقف أو الرأي، أو الدفاع عن المؤسسة وترسيخ مكتسباتها. وهكذا فالإنحياز لأنوار القرن الثامن عشر، قد ينقلب ضد التنوير ذاته، فيغدو محافظة وتقليدا، لا تجديدا وتنويرا. وما ذلك إلا لأن الحداثة أو الأنوار تجربة تاريخية، وشكل من أشكال المعقولية لا تستنفد العقل بالكلية، ولا تقطع بصورة مطلقة مع التجارب الإنسانية الماضية؛ وأنّ أي محاولة تتعامل معهما كنموذج مكتمل للعقلانية، أو كشكل وحيد وواحد للمعقولية والتجربة، مآلها إلى الانغلاق وفقدان القدرة على التواصل والتطور.

ونستطيع أن نجزم بأن هذا الفهم يشكّل جوهر النقد الذي يوجهه نيتشه إلى الحداثة الغربية. ففي نصه الجنيالوجي يبيّن بأن"عبادة المعقولية"(le culte de la rationalité )- هذا الذي استولى على العقل الحداثوي لأزيد من ثلاث قرون - يعدّ أحد العوامل الرئيسية لأزمة الحداثة الغربية، ومظهرا أساسيا من مظاهر الانحطاط الثقافي للغرب la décadence. فالحداثة تقوم على أساس إضفاء صفة المطلق على هيأتها الحاضرة، بما هي انقطاع جذري عن الأصل، وبما هي انغراس كلّي في الحاضر(1). أوليس هذا هو عمق مفهوم الحداثة كما تبلور عند روادها ومنظريها؟ بلى، إنه عين التصور. وهذا ما يمكن الوقوف عليه وإثباته بالرجوع إلى النص الكانطي أو النص الهيجلي.

فكون الحداثة تقيم تطابقا بينها وبين الحاضر إلى درجة التماهي معه، فهذا ما نستشفه من كلام صاحب كتاب"الحداثة وما بعد الحداثة"، حيث يقول : "يتميز زمن الحداثة بأنه زمن كثيف، ضاغط، ومتسارع الأحداث، فهو يعاش كمادة فريدة تتمركز حول حاضر مشرئبّ إلى الآتي. وهذا الحاضر، الذي تمثّله في نظر هيجل الأنوار والثورة الفرنسية، يمثّل"البزوغ الرائع للشمس"الذي يقطع مع العالم القديم وينشئ عالما جديدا كليا"(2).

أما كون الحداثة تعتبر ذاتها قطيعة مع الأصل، وتحررا نهائيا من الماضي، فهذا ما نستشفه من خلال مفهوم الحداثة عند كل من كانط وهيجل، بما هما الممثلان البارزان للحداثة. الأول، معه يبتدئ الوعي بالحداثة وبالتالي فهو يشكّل عتبتها – حتى وإن كانت ديناميتها قد انطلقت قبله بثلاثة قرون-، والثاني، معه تكتمل الحداثة وتأخذ صورتها الناضجة والنهائية. هذا إذا اعتبرنا أنه مع نيتشه، سيبتدئ طور جديد وتجربة جديدة، يطلق عليه البعض طور"ما بعد الحداثة"(3).

مفهوم كانط للحداثة نطّلع عليه من خلال نصه الشهير الذي يفتتحه بالتساؤل عما هو عصر التنوير. ولقد لاحظ فوكو في معرض دراسته لهذا النص، أنّ التساؤل الكانطي ليس تساؤلا تاريخيا، ولا معرفيا؛  وإنما هو سؤال الراهنية والحاضر.

يجيب كانط عن سؤاله ذاك : بأن الأنوار تمثّل العصر الذي يخرج فيه الإنسان من حالة الوصاية وحجر الماضي إلى حالة الثقة والاعتماد على العقل؛  وبصفة عامة فهي تشكّل ثورة الحاضر على الماضي، وثورة الجديد على التقليد.

ذات التصور نجده عند هيجل، حيث يرى بأن الحداثة هي"فترة تحاول أن تستمد مشروعيتها من ذاتها عبر تأكيدها على القطيعة التي تفصلها جذريا عن الماضي"(4).
هكذا فالحداثة عند كليهما، ليست مجرد حقبة أخرى من حقب التاريخ، بل هي تمثّل عصرا جديدا كل الجدة، ويختلف اختلافا نوعيا وجذريا عما سواه. فما يميزها، هو تحررها من جميع النماذج، واتخادها من ذاتها مرجعا وحيدا لها.

ولا شك أن هذا التصور للحداثة، هو عين التصور الذي يستهدفه نيتشه بالنقد، والذي جعله يصل إلى الاستنتاج التالي : وهو أن"الحداثة"عبارة عن وهم، وميتافيزيقا جديدة أتت لتسدّ الفراغ الذي خلّفه خسوف الميتافيزيقا التقليدية، وغياب معانيها الكبرى، وغاياتها النهائية. فليست"الحداثة" في المنظور النيتشوي غير هذا البعد الوهمي للحاضر الغربي، غير هذا الوهم بأن الحاضر عبارة عن حضور خالص ومطلق.

إن حاضر الغرب هو بمثابة وهم، لأنه يخفي ويحجب حضور الماضي فيه؛  وهو – في تقدير نيتشه – حضور ثقيل، ويلقي بظلاله الكثيفة على الحاضر، مما يجعله مجرد وهم حضور، أو حضور واهم. يتمثّل إذن هذا الوهم في الاعتقاد في"الحداثة"، أي في اعتبار أن الحاضر جديد في كلّيته مقارنة مع الماضي، وأنه يمثّل قطيعة جذرية مع الأصول. وهذا ما جعل نيتشه يقرّر بأنّ الحداثة – شأنها في ذلك شأن العقلانية التي أنجبتها– تقيم علاقة غير معقولة مع ماضيها، وهي علاقة أساسها الكبت والإبعاد. فالحداثة تحجب وجود الإنسان الراهن، بإضفاء صفة المطلق على هيئته الحاضرة. وهي إذ تعلن بخجل عن"موت الله"، فلكي"تؤلّه الهيئة الحاضرة للإنسان"(5).

خطاب الحداثة إذن خطاب مخاتل ومخادع، لأنه كله مساحيق وأقنعة. فهو يعاني من تناقض صارخ بين قصديته وما يسكت عنه : فما يقوله الخطاب هو أن الحداثة عقلانية ظافرة، وتحرر جذري، وذاتية شفافة مطابقة لذاتها؛ وما يحجبه الخطاب هو لامعقولية مجتمع طافح بوعود العقلانية والحرية والحقيقة، بعقلانية كلّية وشمولية، وبحرية استبدادية، وبذاتية مركزية متعالية. وهذا يعني في المنظور الجنيالوجي، أن لتجربة الحداثة مناطقها المعتمة وأوجهها المظلمة، ما دامت تتستر عن علاقتها الميتافيزيقية والاستبدادية، التي أقامتها مع ذاتها ومع العقل والتاريخ. ولهذا يرى نيتشه بأن هذه الحداثة، أو العقلانية الحداثوية، قد بلغت منتهاها سواء على صعيد الفهم والنظر، أو على صعيد الممارسة والعمل.

فعلى الصعيد الأول فإن التشخيص الجنيالوجي لأعراض الثقافة الغربية الحديثة، وخاصة في مظهرها الفلسفي والعلمي والأخلاقي، قد أماط اللثام عن كثير من الوهن والضعف والهشاشة التي بدأت تتسرب إلى جسدها. وإذا اكتفينا بمثال الفلسفة والعلم، فإننا نلاحظ أن العقلانية ذات الجذر الأفلاطوني والأساس الديكارتي، تظهر عبر التشخيص النقدي أنها تقمع سؤال الحقيقة ولا تتجرأ على طرحه، وتحجب الموجود الذي تدّعي الكشف عنه، وتحل العقل محل الجسد، والفكر محل الواقع، والمفهوم – الذي هو قبر الحدوس le sépulcre des intuitions – محل الحدث.. أما بالنسبة للعلم، فالعلم الحديث في جوهره تقني، أي خاضع للمتطلبات والمقتضيات النظرية والعملية للتقنية. فالتقنية الحديثة بفعل ضخامتها وهيلولة قدراتها، أخذت تبدو بمثابة قوة مستقلة عن الانسان، وخارج قدرته في التحكم والتوجيه. لقد أصبح العلم مجموع قدرات ضخمة، وقوى هائلة تخضع لمنطقها الداخلي، وتتطور بفعل حاجاتها هي لا وفق رغبة الانسان؛  بل إنها باستمرار منفلتة من قبضته، ومرتدة عليه (6).

وعلى الصعيد الثاني العملي والسياسي، فالملاحظ أن الإنسان الحديث يفاجأ دوما بالمآزق التي تتولد عن الحلول العقلانية والعلمية للمشكلات التي تطرحها الحداثة، ونحن هنا لن نشير إلى الانعكاسات الاجتماعية للمسألة الاقتصادية: كالاستغلال والبطالة والمجاعة والتمييز العنصري والمتاجرة بالأجساد والأعراض. لكننا سنكتفي مع نيتشه بالحديث عن مسألة المساواة –وهي أحد المبادئ الكبرى الرئيسية التي قامت عليها الحداثة الغربية- وكيف تم تصريفها على الصعيد الاجتماعي والسياسي.

فعلى الصعيد الاجتماعي أدى تطبيق هذا المبدأ إلى إلغاء الفوارق الجنسية بين الرجل والمرأة، حيث تنزع المرأة إلى التخلي عن خصائصها الأنثوية سعيا إلى التشبه بالرجل؛ وحيث الرجل بدوره ينزع إلى التماهي مع المرأة بحثا عن المساواة معها(7). والنتيجة المترتبة عن هذه التسوية (le nivellement)، هي ما نشهده حاليا في الغرب من اكتساح للعلاقات المثلية (l’homosexualité) لمجال العشق والزواج.

وهكذا فهمت المساواة كتنكر للخصوصيات الفردية والجنسية لصالح التشبه بالنموذج المهيمن والمسيطر(8).

أما على المستوى السياسي، فلقد ترجمت المساواة إلى مبدأ الديمقراطية، والتي أصبحت تعني في قاموس الحداثة السياسية، ترجيح حكم الأغلبية على حكم الأقلية. ولقد أدى تطبيق هذا المعيار الكمي على أرض الواقع، وبعد أن تم تكييفه مع الأغلبية، إلى تهميش مطالب الأقلية، مما أدى إلى إقصاء النخبة والعبقرية والفردانية والتجربة(9)؛ وهذا ما حول الديمقراطية إلى إيديولوجية للقطيع، وأداة لهيمنة الضعفاء على الأقوياء (10). لقد أضحت الديمقراطية في نظر نيتشه عبارة عن حكم مسبق (11) le préjugé démocratique؛ بمعنى أنها أصبحت إيديولوجيا تقر بأن الواحد والمتجانس والمثل، هو الأساس والمبدأ والأصل؛ أما المتعدد والمختلف والمغاير، فهو ثانوي وأخير وفرع. إنها إرادة تنزع إلى محو ما يوجد في الأصل من مسافة واختلاف وتراتبية. وسيبلور دولوز في كتابه "محاورات"، نقدا للديمقراطية شبيها بالنقد الذي يوجهه نيتشه لها، فهو يرى بأن الاختلاف بين الأغلبية والأقلية اختلاف كمي، فالأغلبية تفترض معيارا أو نموذجا تقاس بالنسبة إليه، وهذا المعيار هو الرجل الغربي / الأبيض/ الذكر/ العاقل / الذي يقطن المدينة/ ويتحدث اللغة الرسمية … وواضح أنه تبعا لهذا المعيار، فالأقلية تتحدد باعتبارها تلك المختلفة في اللون، والجنس، والقومية، وتسكن البوادي، وتحيد عن منطق الأبيض، وتتحدث لهجات مختلفة … إلخ؛  وتبعا لهذا المعيار، فالأقلية يمكن أن تكون أغلبية على مستوى الواقع ( يمكن للنساء مثلا أن تشكّل أغلبية مقارنة بالرجال، أو سكان البوادي مقارنة بسكان الحواضر..) لكنه مع ذلك تبقى الأغلبية لعقلاء المدن، والمتشبّعين بمنطق المدنية(12).

وهكذا فإن"البربرية الحديثة"، هي بمعنى ما البنت الشرعية للحداثة التي قامت في رأي نيتشه، على حجب أوهامها وأساطيرها، وعلى التنكر وعدم الاعتراف بفعل الزمن وثقل التاريخ عليها. لا يتعلق الأمر هنا بالنسبة لنيتشه، بسوء تطبيق أو فهم لما أنتجته الحداثة من قيم ومفاهيم ومعايير، أو من عقلانية ومناهج، أو من علاقات وممارسات؛ بل يكمن في الاعتقاد –الذي يصل درجة التقديس– في شمولية وكونية ما أنتجته، وفي قابليته للتطبيق المعمّم بدون قيد أو شرط على جميع الوقائع والمعطيات (13).

إن ما يروم النقد الجنيالوجي تبيانه، هو أن الحداثة تدّعي التحرر النهائي من الماضي والتراث، فيما هو يمارس حضوره القوي وفاعليته في لغتها ومفاهيمها وتصوراتها وممارستها، بل في مجمل أنشطتها (14). والشواهد على ذلك كثيرة، فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر، خطاب العقل والمنطق بما هو خطاب الإنسان الحديث الذي شيّد على مقولة "موت الله"؛  فإننا نجد بأن الله حاضر فيه بقوة، أي حاضر في الخطاب الذي أعلن موته. لهذا لا يتردد نيتشه في اعتباره الوجه الآخر للخطاب اللاهوتي؛  فخطاب الحداثة بما هو خطاب ميتافيزيقي، يتعالى عن الوقائع والأحداث، ولا يتعامل معها إلا كشواهد وعلامات، شأنه في ذلك شأن الخطاب اللاهوتي، "ففي (هذا الخطاب) تعتبر الأشياء والكائنات مجرد شواهد تشهد على وجود الكائن المفارق، وفي خطاب العقل تعتبر الملفوظات والوقائع الخطابية مجرد علامات تنبئ بوجود المعاني البكر في النفس أو المفاهيم المحضة في الذهن"(15). ولهذا يدعو نيتشه إلى تجاوز الثنائيات التي تتحكم في خطاب الحداثة : كثنائيات، العقل واللاعقل، والمفهوم والحدس، الحقيقة والخطأ، والصدق والكذب، والخير والشر، والوجود والظاهر، والعمق والسطح..إلخ. فإذا اكتفينا بثنائية الماضي والحاضر، وثنائية العقل واللاعقل، فسنجد بأنها، في المنظور الجنيالوجي، تنمّ عن إشكالية زائفة وعقيمة؛  لأن الماضي أو التراث مثلا، ليس ماضيا مضى، أو تجربة استنفدت طاقتها؛  بل هو تبعا لزمن العود الأبدي، مستقبل يحضر وحاضر يمضي؛  بمعنى أنه جزء من بنية الحاضر، وهو يمارس حضوره وفاعليته عبر مختلف مظاهر الثقافة والحضارة، في العقل والمخيال، أو في التصرف والسلوك، عبر النصوص والخطابات، أو عبر التقاليد والأعراف. فإما أن نتعامل معه كرأسمال رمزي ينبغي استثماره عبر تأويله وتحويله إلى مبادئ حية خلاقة، وإما أن نقع أسرى له كنتيجة للتنكر والاستعلاء عليه، فيمنعنا من الانخراط الفاعل في بناء العالم، وتهيئ الأرض لولادة الإنسان الجديد. فليست المسألة هي تعارض بين قديم وجديد، أو بين تراث وحداثة، أو بين أصالة ومعاصرة، بل هي طريقة التعامل مع الماضي والإرث التاريخي، وهي أيضا كيفية الانتماء إلى الحداثة.

وهذا شأن موقف نيتشه من العقل الحداثوي، فهو لا ينتقده لكي يتم التراجع عن العقلانية ومنجزاتها التنويرية الإيجابية، بل لكي يفهم مأزق المشروع الحداثوي. فعلى سبيل المثال، نجده في معرض نقده لرواد الحداثة، يثمّن بشكل عال الفتوحات التي أنجزتها الفلسفة الحديثة كتلك المتمثّلة في ابتكاراتها المفهومية –كمفهوم الموناد عند ليبنتز، ونقد العقل عند كانط، ومفهوم الصيرورة الهيجلي- التي أبرزت الدور المحدود للمعرفة التي يقدّمها العقل والوعي للفرد عن ذاته وعن العالم والأشياء؛  وأظهرت بذلك عمق وغنى العالم الباطني اللاواعي للإنسان، مما أدى إلى محاصرة وتقليص السلطة التي يتمتع بها المنطق الصوري في الفلسفة، وسمح بالشك في قيمة المعارف التي ينتجها؛ وهذا كلّه أدى إلى تعزيز التفكير الحدثي والمعرفة المحايثة(16). إلا أن هذا التقليد الفلسفي هو الذي سيعمل على تقزيم نتائجه تلك، إلى أن انتهى بالحداثة إلى المأزق الذي نحن بصدد فهمه. وفي رأي نيتشه لا يمكن فهم هذا التراجع في محاولات التحديث والعقلنة، إلا بكشف الآليات اللامعقولة للتجربة الحداثوية، وذلك بفضح كل ما آل إليه تقديس العقل والتجربة، وتأليه ما أنتجاه من مفاهيم وأفكار وتصورات. وفي الحقيقة فإن جوهر النقد الذي يوجهه نيتشه إلى الحداثة، ينصب على هذا الخلط الذي تقيمه بين رفض عالم الغيب وإعلان"موت الله"من جهة، والسعي إلى تأليه الإنسان عن طريق إعلان اكتماله وتحققه الذي يجد تجسيده في سيطرة التقنية وعقلها الحسابي. لقد جعلت الحداثة من هذه العقلانية الحسابية ومردوديتها بمثابة المقياس الأوحد، واعتبرت كل دعوة للعودة إلى الغريزة والجسد بمثابة خطيئة وفضيحة أخلاقية. وهكذا صارت القيم الإنسانية قيما مقلوبة : السماء تحاكم الأرض، والوعي يحاكم العالم، والحقيقة الإنسان؛ كما تم الاستنجاد بسلطة الأخلاق لمحاصرة "الرذيلة" وتحصين "الفضيلة". تلك هي رهانات الحداثة: إدانة الجسد، وتأليه العقل والاعتقاد في عظمة العلم، وضبط الإنسان وإخضاعه للحساب. وهذا ما جعل نيتشه لا يكتشف في عمق الحداثة سوى إرادة عدمية تجد تجليها الواضح في الاقتصاد الرأسمالي الذي يستعمل الإنسان لمضاعفة أرباحه، ويمتص طاقاته فيحوّلها إلى طاقات لاستعباده؛  بحيث لم يعد الإنسان ولا حتى الأشياء تستمد قيمتها من ذاتها، بل من الاستعمالات والمنافع التي تدرها. ولقد نتج عن هذا التسوية بين الناس والأشياء، فانتهى هذا إلى خلق نوع من المجانسة المطلقة، وإلغاء الفوارق، والخصوصيات الحميمية، مما جعل الفرادة، والتميّز، والإختلاف، تفقد حظوتها، وأصبح كل شيء له قيمة تبادلية، وقابلا للإستعاضة والإستبدال. وبكلمة واحدة، لقد صارت روح العصر روحا قطيعية. 

ــــــــــــــــــــــــــ


(1) – Nietzsche (F),la généalogie de la morale ,p53,Notes et commentaires de J.Deschamps,Nathan,1981.
(2) – محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، ص12، دار توبقال للنشر، ط1، 2000.
(3) – Lyotard(F),la poste modernité,p7,les éditions de minuit,1979.
وفي الواقع فإن مفهوم "ما بعد الحداثة"، مفهوم ملتبس، لأنه يفيد بأن الغرب المتقدم قد قطع مع الحداثة، وهو الآن قد انتقل إلى مرحلة ما بعد الحداثة. ومصدر الالتباس قد يكون عدم القدرة على الحسم في السؤال التالي : هل ما بعد الحداثة يشكّل استمرارية للحداثة، أم أنه يعتبر قطيعة معها؟ هل ما بعد الحداثة هو توسيع لمكتسبات الحداثة وترسيخ لقيمها، وتمطيط لمفهوم العقل لكي يشمل اللاعقل، أي الذوق والمتخيل والوهم والأسطورة والخطأ – وهي الملكات التي كانت الحداثة الغربية الظافرة قد استبعدتها من فضائها – أم أنه يشكّل قطيعة مع أسس الحداثة ومنطق عقلانيتها ؟.
(4) – الحداثة وما بعد الحداثة، ص22، مرجع سابق.
(5) – Valadier (P),Nietzsche et la critique du christianisme,p 57,58,les éditions du Cerfs,Paris,1974.
(6) – الحداثة وما بعد الحداثة، ص35، مرجع سابق.
(7)– Nietzsche (F), le gai savoir,aph363, introduction et traduction.,Pierre Klossowski,10/18,1975.
(8) – Nietzsche (F),Par delà le bien et le mal,aph239,10/18,Paris,1973.
(9) – Mongin(O),Face au scepticisme / les mutations du payasage intellectuel (1976-1998),p15,Hachette,1998.
يرى أولفييه مونجان بأن القلق الملازم اليوم للديمقراطية الغربية، يتمثّل أساسا في شكها في قدرتها الذاتية على خلق شروط جديدة لتجديد التجربة. فاليوطوبيا التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة لا تعرف إلا أفقا واحدا، هو أفق الحاضر : فهي تدفع بالفرد إلى الاعتقاد بأنه يعيش تبعا لإيقاع الحاضر المطلق الذي يكثّف داخله كل الأزمنة وكل الأمكنة. إنها يوطوبيا تبتلع الزمان والمكان وهما مصدرين للتجربة.
(10) – على عكس الصورة المشوّهة التي روّجها التأويل النازي عن نيتشه وفلسفته، والتي بموجبها ظل نيتشه لأزيد من قرن يصنّف في عداد المفكرين ذوي النزعة العرقية، والمعادين للنزعة السامية؛  وذلك من خلال تأويل بعض مفاهيمه : كإرادة القوة، والإنسان الأرقى، تأويلا نازيا وعرقيا، حيث أوّل المفهوم الأول كإرادة للهيمنة والتسلط والإخضاع؛ وأوّل المفهوم الثاني باعتباره إقرارا بتفوق العرق الآري والإنسان الأبيض على باقي الأجناس الأخرى. في حين أن القراءة البطيئة والحذرة والشاملة للمتن النيتشوي الغزير والكثيف، تبين بأن الروح التي تسري في نصوصه مناقضة تماما لتلك الصورة ولذلك التأويل، وهذا الذي يفسر العودة القوية للنص الجنيالوجي، والحضور الوازن لفكره ومفاهيمه على أكثر من صعيد. وستكون لنا عودة مفصّلة إلى هذه المسألة في مناسبة أخرى قادمة. 
(11) – Généalogie de la morale, 1,aph4,p87,op.cit.
(12 -Deleuze(G),Pourparlers,1972 /1990,p134,135,les éditions de minuit,1990. 
(13) – Généalogie de la morale,p64,op.cit.
(14) – Nietzsche et la critique du christianisme,p19,op.cit.
(15) – علي حرب، نقد النص، ص10، المركز الثقافي العربي، 1993.
(16) – Nietzsche et la critique du christianisme,p75,76,op.cit. et Magazine littéraire,dossier sur Nietzsche ,p23,N°141 ,octobre 1978.


لمزيد من القراءة: كتاب نيتشه وسياسة الفلسفة، تأليف محمد أندلسي، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء - المغرب، الطبعة الأولي 2006.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق