الثلاثاء، 7 يونيو 2016

دلالة الجنون في تاريخ الإنسانية: فريدريك نيتشه

ترجمة : محمد الناجي

فريدريك نيتشه

إذا كانت أفكار جديدة ومختلفة، وملاحظات وأحكام قيمة متناقضة لم تفتأ تظهر رغم نير "أخلاقية العادات"، الذي رزحت تحته كل المجتمعات الإنسانية، طيلة آلاف السنين قبل الميلاد، وحتي يومنا هذا (إننا نعيش في عالم استثنائي صغير وفي المنطقة الرديئة منه)، فإن ظهورها لم يكن ممكنا لو لم تحظ بجواز مرور رهيب: الجنون هو الذي مهد الطريق للفكرة الجديدة في كل مكان تقريباً، وتخلص من العادة، ومن الخرافة المبجلة. هل فهمتم لماذا تطلب الأمر المساعدة التي قدمها الجنون ؟ مساعدة شيء مرعب وجم، من حيث الصوت والموقف، مثل النزوات الشيطانية للبحر والعاصفة، وبالتالي جدير مثلهما بأن يخشاه الناس ويحترموه ؟ شيء يحمل، كتشنجات المصروع وزَبَده، دلالة ظاهرة لتجلي شيئ لاإرادي ؟ شيء بدا أنه يطبع المعتوه بطابع معبود كان هو قناعه والناطق باسمه ؟ شيء ألهم حتي مبتكرالفكرة الجديدة تبجيل نفسه وخشيتها وليس الندم، ودفعه لأن يكون النبي الداعي لهاته الفكرة والمضحي من أجلها ؟ - بينما يلمح الناس اليوم إلي أن العبقرية تمتزج بالجنون عوض ذرة من الرشاد نجد الناس فيما مضي أقرب إلي فكرة اقتران الجنون بالعبقرية والحكمة، - بشئ "رباني"، كما كانوا يهمسون في آذان بعضهم البعض. بل كانوا يعبرون عن ذلك بوضوح: "لقد كان الجنون وراء كل النعم التي تمتعت بها اليونان"، قال أفلاطون والناس في عصره . لنتقدم خطوة أخري: كل هؤلاء الرجال المتفوقين المدفوعين بدافع لا يقاوم إلي التحرر من نير الأخلاقية وإعلان قوانين جديدة لا يبقي أمامهم، حين لا يكونون مجانين بالفعل، إلا أن يصيروا مجانين حقا أو أن يتظاهروا بالجنون. - ينبطق هذا علي كل المجددين في جميع الميادين، وليس فقط علي المجددين للمؤسسات الكهنوتية والسياسية.

 حتي مبتكر البحر الشعري وصف بالجنون (وقد ظل جنون الشعراء، حتي في العصور المعتدلة، أمرا متفقا عليه: وقد استغله الشاعر صولون Solon حين ألهب حماس الأثينيين لاسترجاع سالامين.) "كيف يجعل المرء من نفسه مجنون حين لا يكون مجنونا أو لا يملك شجاعة التظاهر بكونه كذلك ؟" كل الرجال البارزين في الحضارة القديمة تقريبا قد فكروا بهذا المنطق المرعب، وقد تم الاحتفاظ بعقيدة سرية أنشئت لهذا الغرض، قوامها الحيل والتغذية، إلي جانب شعور ببراءة ذلك القصد وذلك الحلم، بل بقداستهما. والطرق التي علي المرء اتباعها ليصبح "طبيبا" في الهند، وقديسا لدي المسيحيين في القرون الوسطي، و "أنجيكوك" لدي سكان جزيرة غروينلاند، و "الباجي" لدي البرازيليين، تتشابه عموما، المبالغة في الصوم، العفة، التنسك في الصحراء أو في الجبال أو في أعلي عمود، أو "الإقامة في تجويف صفصافة علي ضفة بحيرة" وعدم التفكير إلا في ما قد يدخل العقل في عالم الانخطاف والفوضي. من سيجرؤ علي النظر إلي جحيم الضيق الأخلاقي، المفعم بالمرارة والذي لا طائل من ورائه، الذي ربما يكون قد هلك فيه أخصب الرجال فكرا عبر كل العصور! من سيجرؤ علي الاستماع لتنهدات المتوحدين والتائهين : "واها ! مني علي بالجنون أيتها القوي الربانية! الجنون لكي أتمكن في نهاية المطاف من الإيمان بنفسي! أصيبيني بالهذيان والتشنجات، واجعلي وقتي ينقسم بين الوضوح والظلام الفجائيين، أرعبيني بارتعاشات واحتدامات لن يطيقها أي من بني البشر، بثي من حولي الضجيج والأشباح! دعيني أصيح وأئن وأزحف كالحيوان: شريطة أن يتحقق لي بذلك الإيمان النفسي! الشك يتأكلني، لقد قتلت القانون وإني أشمئز منه اشمئزاز الأحياء من جثة الميت، إن لم أكن فوق القانون فأنا أكثر المنبوذين من بين المنبوذين. من أين أتاني هذا العقل الجديد الذي أصبح لي إن لم يكن منك؟ أظهري لي أنني ملك يدك أيتها القوي! - الجنون وحده يبين لي ذلك" وغالبا ما بلغ هذا الاحتدام هدفه: في الوقت الذي كانت فيه المسيحية تبين عن خصوبتها بإكثارها من أعداد القديسين والنساك، معتقدة أنها بذلك تفرض نفسها، كانت هناك في مدينة القدس مؤسسات للمجانين تؤوي القديسين المنكوبين، الذين ضحوا بآخر ذرة من عقلهم.


(المرجع) الفجر ، فريدريك نيتشه، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء- المغرب، 2013.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق