شعر: محمد عيد إبراهيم
بينَ جدرانٍ تتطاولُ حتى لَتوهِمَ أنها تنغلقُ، رحتُ أسيرُ، وكأني بينَ ماءٍ أو مرايا، إلى أن وصلتُ. صوتٌ: ابعِدْ عن الكَشّافِ، ودخلتُ. كانت مريمُ. في أفقٍ أزرقَ، مِن دونِ سقفٍ أو سماءٍ، بلغتُ نهايةَ ما لا نهايةَ بعدَه. غرفةٌ بيضَويةٌ لا تفهَم لها سِعةً، بينَ أشكالٍ من بشَرٍ، لكأنها بشَرٌ، جنبَ مريمَ. وهي في هيئةِ الشابةِ الفتيّةِ، تدعكُ الحافرَ الذي بينَ فخذَين متناسقَين لم أرهما عندَها. كلّ امرئٍ اثنانِ، قد يتكلّمان أو يتصارخان في عتابٍ أو حنانٍ، بينما أشباحٌ في الهواءِ، لا تطيرُ أو تميلُ أو تَمَلُّ. لا أظنُّ تركيبَ الهواءِ أو قدرَ الكثافةِ أو عددَ العناصرِ كما أعرفُ، فلم أبذل قُصارى الجهدِ في الصعودِ إلى غرفةِ مريمَ، وهي عاليةٌ، وسلّمُها مُعوَجٌّ لا يشِي أنهُ مُعلّقٌ، أحسَستُ بحِضنٍ فجأةً.
***
مريمُ، جسمُها كجسمِها، الصدرُ الأبيضُ الخفيفُ والعانةُ الحمراءُ السمينةُ، وقصيرةٌ. لا تزالُ تضحكُ مني حين أهجمُ؛ فلم يكن عندي مكانٌ ولا وقتٌ كي أستريحَ، معَها، أو معَ غيرِها. تضحكُ، لكن كأنّها مستعجِلةٌ، تراني أضحكُ، فتهجمُ؛ هي مَن تهجمُ، آهٍ تطوّرتِ يا مريمُ. وَمضٌ يهلُّ بما تحتَها، لكأنها مِدفأةٌ. تمسِكُ يدي عندَ فتحةٍ غائرةٍ، فتدخلُ في لُجّةٍ بزوائدَ أصعبُ مما كانَ لها؛ وهي تمسكُ، تمسكُني، إلى أن قذفتُ بما، بماءٍ، كانَ عندي. واستحالَت إلى شبحٍ، واستحلتُ إلى شبحٍ، حتى رأيتُني في مكاني، حلُمي داخلَ الحلمِ... أينَ مريمُ؟
***
كانت موظفةَ الفيديو بمسرحِنا. مريمُ، وجهٌ أشبَهُ بالفرنسيةِ "جان دارك"، مع أنها تثورُ فحسبُ بأجزائها الخفيّةِ عن بَصَرِ الناسِ. تتكلّمُ فتراني أفكّرُ في "عَرِيبَ"؛ الجاريةِ التي عاشرَت ثمانيةً من الخُلفاءِ، أو "بنتِ طلحةَ" التي ترسلُ خادمةً لترى كيفَ يخرِقُ الرملَ بولُ عاشقِها قبلَما تعشقهُ، أو الشاعرةِ الأمريكيةِ التي نامَت مع ابنتِها لفرطِ شهوتِها. "أحبّ كلّ ما يدفُقُ: عنفُ الأنبياءِ، الفُحشُ الذي نشوةٌ، اللّعابُ كالينبوعِ، حليبُ الثدي والعسلُ اللاذعُ السيّالُ من الرّحمِ، نحوَ الموتِ والفناءِ"، هنري ميللر.
***
قد يصدُفُ، وهو كثيرٌ، أن أختليَ بها وراءَ بئرِ السلّمِ، غرفةِ الملابسِ، أو قطعِ الديكورِ المنسيّةِ. فتمسحُ الدمعَ من خدّيها ببراءةٍ، لأحكّ بلساني ثديَها القائمَ كاهناً في خُلوتهِ. وتخرخرُ من ألمٍ لكأني أذبحُها، أفصلُ ذراعي عن خَصرِها وأفكّ اللّجامَ. مريمُ، لا تختبئ بل تنطّ مِن وإلى حاجزٍ وأكونُ منتظراً. مريمُ، كالمغربيّةِ التي التقيتُ بعدَ سنينٍ، أحبولةِ الولهِ الذي عامَ عاماً فوقَ طاولةِ الطبيبةِ الباكستانيةِ، فورَ دوامِ "العِيادةِ"، أو فحصي الدقيقِ بالأشعّةِ، فلم توفّر إصبَعَيها تحتَ سُرّتي وتلعبُ.
***
زوجُ مريمَ من بقايا الشعوبِ، حشّاشٌ، مطربٌ شعبيٌّ، مروِّجُ ممنوعاتٍ، منافِسٌ للعَطَنِ، لا يرعوي أنهُ شاذٌّ، وقاتلٌ أحياناً. يهزأُ أن تنضو ملابسَها، وينكحُها في الفمِ؛ تستنيمُ. وهي تَقبَلُ ماءَهُ، وهي كالشرِّ تنغرسُ فيهِ، وهي تُخفِّفُ نورَها كي لا يخورَ على الفارغِ. تعطشُ من أفكارهِ، وتحنُّ إلى الكتبِ التي ملأت بها أعلى الأثاثِ فقد يتصدّعُ. تكشِفُ عندهُ سطوةً أبلَت معَ السابقِ، وتلمعُ قطراتٌ "ابكِ يا روحي!"، من حنانِ دُميةٍ تتأوّهُ، أو تطيلُ مشاهدَ نكحِها ليصلَ، يسبُّ أمّها حينَ لا يصلُ، وهي لا تصل أبداً.
***
فرْجُ مريمَ بشواربٍ من الجنبَين، سامٌّ، روحٌ من جهنّمَ. لكَ، بسُهادي، أُجرجِرُ أشباهي، إلى أن يصطدمَ وجهي بعمودٍ. أقتلعُ شَعري، وأعصابَ بصري، كمن يتلاشَى. أسقطُ، أذوبُ، أُهرِّبُ الراكِعَين في نبضةٍ، في نشيجٍ طويلٍ. أُعالجُ رغبتي قبلَ موتي، لا جماجمَ في بطني، وأخنقُ مرسانا. أنا المولَى، مُريدِيَ معبودٌ، وقد ينفجرُ بلحظةٍ، لنرجعَ. هِزّةٌ، وأُندّيها بدَمٍ؛ أو أسيرُ إلى غضبٍ طريٍّ، ساعةَ المغيبِ، لا أتعرّفُ نفسي. شَحنُ كلابي، بخفّةٍ، في حفرةٍ؛ بقعةٌ خضراءُ بعدَ المطرِ.
***
رائحةُ الجثّةِ، بعدَ ترنّحِ الطائرِ. زوجُ مريمَ جَمْعٌ هائجٌ فوقَ جسمِها، بعدما ضغطَ الرأسَ في ماسورةِ الرقبةِ. حريرٌ وِركُها، وحريرٌ قطعةُ الفمِ وهي تندكُّ في ساعةٍ، قُدّامَ عرضٍ خاصٍّ. كنتُ شاهداً، بعدَ وداعِ جمالِها المتآكلِ، متكئاً على بابٍ، خرجتُ، كهبّةِ الريحِ، أنهبُ حياتي. طريدةٌ قديمةٌ، في عروقي، بمِطرقةٍ نسبيّةٍ، أنسَى؛ لو لامني أحدٌ. قلَبَت رُكبتَيها على قفصي الصدريّ يوماً، تُريني ظَهرَها: آثارٌ مُحَلاّةٌ من سِياطٍ، وبصماتٌ لها عيونٌ؛ وذابَ عَظمي يومَها أكثرَ، لتسلوَ.
.........................
(*) اللوحة، للشاعر الفنان السوريّ: منذر مصريّ
(*) الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق