الجمعة، 24 يونيو 2016

ما بعد الحداثة ومجتمع الاستهلاك: فريدريك جيمسون

ترجمة: عابد اسماعيل (شاعر واكاديمي من سوريا)



ان المنظرين الاجتماعيين، والمحللين النفسانيين، واللغويين يتناولون، جميعا، فكرة ان ذلك النوع من الفردانية والهوية الشخصية شيء من الماضي، وان الفرد القديم أو الفاعل الفرداني "ميت،" بل انه يمكن للمرء أن يصف مفهوم الفرد المتفرد والأساس النظري للفردانية أيديولوجيا.

فريدريك جيمسون

إن مفهوم مابعد الحداثة ليس مقبولا أو حتى مفهوما بشكل واسع اليوم. بعض الرفض يتأتى من عدم الإحاطة بالأعمال التي يغطيها، والتي يمكن أن توجد في كل الفنون: شعر جون أشبري، على سبيل المثال، وحتى في كثير من الأشكال الأبسط من الشعر المحكي الذي جاء كردة فعل ضد الشعر الحداثي الأكاديمي الساخر والمعقد في الستينيات؛ ردة الفعل على العمارة الحديثة، وبشكل خاص ضد الأبنية العملاقة ذات الطراز العالمي، وأبنية اللهو والسقوف المزخرفة التي احتفى بها روبرت فينتوري في بيانه (التعلم من لاس فيغاس)؛ أندي وارهول، وفن البوب، وتلك الأشكال الأكثر راهنية من الواقعية الفوتوغرافية؛ في الموسيقى، ولحظة جون كيج، وذاك المزج بين الأساليب الكلاسيكية و "الشعبية" مؤخرا لدى مؤلفين موسيقيين من أمثال فيليب غلاس وتيري رايلي، وموسيقى الروك والموجة الجديدة كما تقدمها فرق من مثل (Clash) و(Talking Heads) و (Gang of Four)؛ في السينما، وكل ما يأتي من غودارد -الفيلم الطليعي المعاصر وكذلك الفيديو - وهناك أيضا الروايات المعاصرة أيضا، حيث أعمال ويليام بوروز وثوماس بينشون وإسماعيل ريد من جهة، والرواية الفرنسية الجديدة من جهة أخرى، والتي يمكن أيضا اعتبارها من بين التنويعات التي يمكن أن يقال عنها ما بعد حداثية.

هذه القائمة يمكن أن توضح أمرين معا: أولا، جميع أشكال ما بعد الحداثة المذكورة أعلاه انبثقت كردات فعل خاصة ضد الأشكال المكرسة للحداثة الرفيعة، وضد هذه أو تلك من أشكال الحداثة الرفيعة المهيمنة في الجامعة والمتحف وشبكة الفن التشكيلي والمؤسسات. هذه الأساليب المقموعة والمحاربة سابقا -التعبيرية التجريدية، الشعر الحداثي العظيم لباوند، وإليوت وولاس ستتيفنس؛ والأسلوب الدولي (لي كوربيه، فرانك رايت، ميزسترافينسكي؛ جويس؛ بروست، ومان -التي كان ينظر إليها من قبل أجدادنا على أنها فضائحية وصادمة، كانت بالنسبة للجيل الذي وصل إلى بوابة الستينيات بمثابة المؤسسة والعدو -ميتة، خانقة، محنطة، وأوابد متحجرة يجب على المرء تحطيمها والإتيان بشيء جديد. هذا يعني أن ثمة أشكالا عديدة ومختلفة ما بعد الحداثة تتناسب طردا مع أشكال الحداثة القائمة، حيث أن تلك الأشكال الآنفة كانت، على الأقل، ردود فعل خاصة ومحلية ضد تلك النماذج. هذا بوضوح لا يجعل محاولة وصف ما بعد الحداثة أكثر سهولة، بما أن وحدة هذا الهاجس -إذا كان يتحلى بوحدة -لا تُعطى في ذاته بل في الحداثة ذاتها التي يحاول استبدالها.

السمة الثانية لهذه القائمة من أشكال ما بعد الحداثة تكمن في محو بعض الحدود المفتاحية أو الفواصل فيما بينها، والأبرز نسف التمييز الأكثر قدما بين الثقافة الرفيعة وبين مايسمى الثقافة الشعبية أو الجماهيرية. ربما كان هذا من أكثر التطورات للاكتئاب من وجهة النظر الأكاديمية والتي كان لها تقليديا مصلحة راسخة في الإبقاء على دائرة الثقافة العالية أو ثقافة النخبة ضد البيئة المحيطة من ثقافة الرعاع، وما تطرحه المسلسلات التلفزيونية وثقافة "دليل القارئ،« وذلك من خلال نشر مهارات صعبة ومعقدة للقراءة والإصغاء والمشاهدة لمريديها. غير أن بعض نماذج ما بعد الحداثة الجديدة انبهرت بوجه خاص بذاك الأفق الكلي من الدعاية والفنادق، وملاهي لاس فيجاس، والبرامج الليلية المتأخرة، وسينما هوليود من الدرجة (B)، وما يسمى الأدب الثانوي وكتب الأخيولة والرومانس ذات الأغلفة الورقية في المطارات، والسير الشعبية، وكتب الألغاز والجريمة والخيال العلمي أو رواية الفانتازيا. إنها لم تعد "تقتبس" تلك "النصوص« مثلما كان يفعل جويس، أو ماهلر، بل تقوم بدمجها إلى درجة أنه يصبح من الصعب رسم الحد الفاصل بين الفن الرفيع والأشكال التجارية.

مؤشر آخر مختلف قليلا عن عملية طمس النماذج الأقدم من الأجناس الأدبية وأنواع الخطاب يمكن العثور عليها في مايسمى أحيانا بالنظرية المعاصرة. قبل جيل من الآن، كان ما يزال يوجد خطاب تكنيكي للفلسفة المحترفة- الأنظمة العظيمة لسارتر أو الظاهراتيين، أعمال ويتغنشتين أو الفلسفة التحليلية أو فلسفة اللغة العامة- وكان باستطاعة المرء أن يميز عنها الخطاب المختلف الآخر تماما للمناهج الأكاديمية- العلوم السياسية، على سبيل المثال، أو علم الاجتماع، أو النقد الأدبي. لدينا اليوم، وبازدياد، نوع من الكتابة يسمى ببساطة "نظرية" وهي جميع هذه الأشياء كلها وليست أيا منها في وقت واحد. هذا النوع الجديد من الخطاب، والذي ارتبط اسمه عامة بفرنسا وما يسمى المدرسة الفرنسية، يصبح واسع الانتشار ويشير إلى نهاية الفلسفة بحد ذاتها. هل عمل ميشيل فوكو، على سبيل المثال، يمكن تسميته فلسفة، تاريخ، نظرية اجتماعية أم علم سياسي؟ إنه غير قابل للحسم، كما يُقال هذه الأيام، وسوف أقترح أن "خطابا نظريا" كهذا يمكن أيضا إدراجه ضمن تجليات ما بعد الحداثة.

الآن، يجب أن أقول كلمة حول الاستخدام المناسب لهذا المفهوم: إنه ليس مجرد كلمة أخرى لوصف أسلوب معين. إنه أيضا، على الأقل حسب استخدامي له، مفهوم تحقيبي تكمن وظيفته في الربط بين ظهور خصائص شكلانية جديدة في الثقافة وبين ظهور نمط جديد من الحياة الاجتماعية والنظام الاقتصادي الجديد- وهذا ما يشار إليه مجازيا بالتحديث، ومجتمع الاستهلاك أو المجتمع ما بعد الصناعي، ومجتمع وسائل الإعلام أو المشهد أو الرأسمالية متعددة الجنسيات. هذه اللحظة الجديدة من الرأسمالية يمكن إرجاعها إلى ازدهار ما بعد الحرب في الولايات المتحدة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أو، في فرنسا، منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958. حقبة الستينات كانت بطرق عديدة حقبة انتقالية أساسية، وفترة شهدت بزوغ النظام العالمي الجديد (الاستعمار الجديد، الثورة الخضراء، الأتمتة والمعلومات الإلكترونية) وفي الوقت ذاته شهدت زواله وتصدعه بسبب تناقضاته الداخلية نفسها، إضافة إلى المقاومة الخارجية. أريد هنا أن أرسم بعضا من هذه الطرق التي تعبر من خلالها ما بعد الحداثة الجديدة عن الحقيقة الداخلية لذاك النظام الاجتماعي الجديد الناهض حديثا من الرأسمالية المتأخرة، لكنني سأحدد الوصف بمنحنيين اثنين هامين فقط، واللذين سأدعوهما الفصام (schizophrenia) والمزج [بين أساليب عديدة(pastiche):] وسوف يقدمان لنا فرصا لتحسس حقيقة التجربة ما بعد الحداثية للمكان والزمان بالترتيب.

إن أكثر الخصائص أو الممارسات أهمية في ما بعد الحداثة اليوم هو المزج. يجب أولاً أن أشرح هذا المصطلح، والذي يميل الناس عامة إلى دمجه أو الخلط بينه وبين تلك الظاهرة الصوتية المرتبطة به المسماة محاكاة ساخرة (parody). إن كلا من المحاكاة والمزج يتضمنان التقليد، أو، بصورة أفضل، محاكاة أساليب أخرى، وبشكل خاص، طرائق أسلوبية نافرة ونبضات أسلوب بعينه. من الواضح أن الأدب الحديث بشكل عام يوفر حقلا غنيا جدا للمحاكاة، بما أن كتاب الحداثة العظام تميزوا من خلال ابتكار أو إنتاج أساليب فريدة حقا: فكر بالجملة الفوكنرية الطويلة التي تميز صور الطبيعة النموذجية لدى د.ه. لورانس؛ فكر بالطريقة الغريبة في استخدام التجريديات لدى ولاس ستيفنس؛ فكر أيضا بالطرائق الأسلوبية للفلاسفة، لدى هيدغر على سبيل المثال، أو سارتر؛ فكر بالأساليب الموسيقية لماهلر أو بروكوفييف. جميع هذه الأساليب، بغض النظر عن اختلاف بعضها عن بعض، متقاربة في هذا: كل منها لا يمكن أن نخطئه أبدا، وما إن نتعلمه، لا يمكن أن نخلط بينه وبين أي شيء آخر.

تقتنص المحاكاة الساخرة فرادة هذه الأساليب وتستفيد من غرائبيتها وشذوذها بحيث أنها تُنتج تقليدا يسخر من الأصل. لن أقول إن الهاجس الهجائي متعمد في جميع أشكال المحاكاة. وفي جميع الأحوال، لابد للهجاء الجيد أو العظيم أن يملك تعاطفا سريا مع الأصل، مثلما أن المقلد لابد أن يملك القدرة على وضع نفسه في مكان الشخص المقلد. مع ذلك، إن التأثير العام للمحاكاة- سواء أكان يقف وراءها التعاطف أم الحقد- هو أن تظهر السخرية من الطبيعة الخاصة لهذه العادات الأسلوبية النافرة وبذخها الغرائبي فيما يتعلق بالطريقة التي يتحدث أو يكتب فيها البشر. إذن خلف كل محاكاة يكمن شعور بأن ثمة عرف لغوي يمكن من خلاله، وبالمقارنة معه، التهكم والسخرية من أساليب الحداثيين العظام.

ولكن ماذا يحدث إذا كف المرء عن الاعتقاد بوجود لغة سوية، ولغة عادية، وعرف لغوي (ذاك النوع من الوضوح والطاقة التواصلية التي يحتفل بها أورويل في مقالته الشهيرة مثلا ؟) يمكن للمرء أن ينظر إلى المسألة بالطريقة التالية: ربما كانت البعثرة الهائلة والخصخصة التي طالت الأدب الحديث- انفجاره على شكل أساليب خاصة وتقنيات أسلوبية نافرة- تشي بنزعات أكثر عمقا وشمولية في الحياة الاجتماعية ككل. إذا افترضنا أن الأدب الحديث والحداثة- أبعد من أن تكون نوعا من الفضول الجمالي المتخصص- تنبأ حقا بالتطورات الاجتماعية وفقا لهذه الخطوط، وإذا افترضنا أنه منذ تلك العقود التي انبثقت فيها الأساليب الحديثة العظيمة، بدأ المجتمع بالتفكك بهذه الطريقة، حيث كل مجموعة تتحدث لغة خاصة تمثلها، وكل مهنة تطور عرفا خاصا أو خطابا يخصها، وأخيرا كل فرد ينتهي به المطاف ليكون جزيرة لغوية معزولة، منفصلا عن كل ماعداه؟ في حالة كهذه، فإن احتمال وجود أي عرف لغوي يستطيع المرء من خلاله أن يتهكم باللغات الخاصة والأساليب الغرائبية لابد أن يتلاشى، وسينتهي بنا الحال إلى أن لا نملك شيئا سوى التعددية الأسلوبية والمغايرة.

هذه هي اللحظة التي ظهرت فيها تقنية المزج وأصبحت المحاكاة الساخرة مستحيلة. المزج، كالمحاكاة، هو تقليد أسلوب فريد أو غريب، وارتداء قناع لغوي، والتكلم بلغة ميتة: لكنه ممارسة حيادية لتلك المحاكاة التنكرية، مع غياب الدافع البراني للمحاكاة، وغياب الهاجس الهجائي، وغياب الضحك، وغياب ذاك الشعور الكامن بوجود شيء سوي يظهر -بالمقارنة مع ما تتم محاكاته- بأنه مضحك وهزلي. المزج محاكاة بيضاء، محاكاة فقد ت حسها بالطرافة: المزج هو أن تحاكي ذاك الشيء الطريف، وهو تلك الممارسة الحداثية لذاك النوع من المفارقة البيضاء ومقارنتها مع ما سماه وين بوث، المفارقات المستقرة والهزلية للقرن الثامن عشر، مثلا.

غير أننا نريد الآن أن نضيف قطعة جديدة لهذه الأحجية، والتي يمكنها أن تساعدنا في تفسير لماذا تكون الحداثة الكلاسيكية شيئا من الماضي، ولماذا يجب أن تحتل ما بعد الحداثة مكانها. هذا المكون الجديد هو ما يدعى، عامة، بـ"موت الفاعل"، أو لنقولها بلغة أكثر تقليدية، نهاية الفردية كفردية. الأشكال العظيمة للحداثة، كانت تقوم، كما نوهنا، على ابتداع أسلوب شخصي خاص، لا يمكن للمرء أن يخطئه، مثل بصمة الإبهام، وكالجسد، غير خاضع للمقارنة. غير أن هذا يعني، بشكل ما، أن الجمالية الحداثية مرتبطة، عضويا، بمفهوم الذات الفريدة والهوية الخاصة، بالشخصية الفريدة والفردانية الفريدة، والتي ننتظر منها أن تولد رؤيتها الفريدة للعالم، وصياغة أسلوبها الفريد، والمتميز.

مع ذلك، نجد اليوم، ومن أكثر من منظور متميز، أن المنظرين الاجتماعيين، والمحللين النفسانيين، وحتى اللغويين، هذا إذا لم نتحدث عنا نحن العاملين في حقل الثقافة والتغيير الثقافي والشكلاني، يتناولون، جميعا، فكرة أن ذلك النوع من الفردانية والهوية الشخصية شيء من الماضي، وأن الفرد القديم أو الفاعل الفرداني "ميت،" بل أنه يمكن للمرء أن يصف مفهوم الفرد المتفر د والأساس النظري للفردانية أيديولوجيا. ثمة في الواقع، موقفان حول هذا الأمر، احدهما أكثر راديكالية من الآخر. الأول يرضى بالقول، نعم، ذات يوم، في العصر الكلاسيكي للرأسمالية التنافسية، وفي أوج العائلة النووية، وظهور البرجوازية، كان ثمة ما يسمى الفردية، والفاعلين الأفراد. ولكن اليوم، في عصر الرأسمالية المتحدة، وما يسمى إنسان التنظيم، في عصر البيروقراطية في العمل، وفي الدولة، والانفجار السكاني- هذا الفرد الفاعل البرجوازي الأقدم، لم يعد له وجود.

أما الموقف الثاني، الأكثر تطرفا، فيمكن تسميته بالموقف ما بعد البنيوي. وهو يضيف أنه ليس الفرد البرجوازي شيئا من الماضي فحسب، بل إنه أيضا خرافة، ولم يكن موجودا أبدا، ولم تكن توجد ذوات مستقلة من هذا النمط. والحال، أن هذه البدعة ليست سوى تعتيم فلسفي وثقافي سعى إلى إقناع الناس بأنهم "كانوا" يتحلون بذوات فردية، ويمتلكون تلك الهوية الشخصية المتفردة.

بالنسبة لما يخص غاياتنا، ليس من المهم، على وجه التحديد، أن نقر رأيا من هذين الموقفين هو الصحيح. (أو أيهما أكثر متعة وخصوبة.) ما يجب أن نستخلص من كل هذا هو محنة جمالية، إذ إذا كانت تجربة وأيديولوجية الذات الفريدة، التجربة والأيديولوجيا التي غذ ت الممارسة الأسلوبية للحداثة الكلاسيكية، كانت قد انتهت ومضى أوانها، فإنه لم يعد واضحا ماذا يترتب على كتاب وفناني الفترة الراهنة أن يفعلوه. ما هو واضح فحسب هو أن النماذج الأقدم- بيكاسو، بروست، ت.س. إليوت- لم تعد تعمل، (بل تسبب، إيجابيا، أذى ما) بما أنه لا أحد يملك ذاك النوع من الأسلوب الفريد والخاص، يتيح له إمكانية التعبير. وهذه بالضبط ليست مجرد مسألة "سيكولوجية": علينا أيضا أن نأخذ بعين الاعتبار الثقل الهائل لسبعين أو ثمانين عاما من الحداثة الكلاسيكية نفسها. ثمة شعور آخر بأن كتاب وفناني الوقت الحاضر لم يعد بمقدورهم ابتكار أساليب وعوالم جديدة. فهذه ابتكرت لتوها، والمتاح هو ابتداع عدد محدود من التوليفات، وقد نظرنا للتو في تلك النماذج الأكثر فرادة بينها. إذن، إن ثقل التقليد الجمالي الحداثي- الميت الآن-"يخيم على عقول الأحياء كالكابوس،" كما يقول ماركس في سياق آخر.

من هنا، مرة أخرى، كانت ولادة المزج بين الأساليب (pastiche) إذ في عالم لم يعد فيه الابتكار الأسلوبي ممكنا، لم يبق هناك سوى تقليد الأساليب الميتة، والتكلم من خلال الأقنعة، وبأصوات الأساليب لذلك المتحف المتخيل. ولكن هذا يعني أيضا أن الفن المعاصر أو ما بعد الحداثي سيدور حول الفن نفسه بطريقة ما جديدة؛ بل ويعني أيضا أن إحدى غاياته الجوهرية تضمر الإخفاق الضروري للفن والبعد الجمالي، وإخفاق الجديد، والارتهان للماضي.

فيلم Chinatown للمخرج بولانسكي

وبما أن هذا يمكن أن يبدو تجريديا جدا، أريد أن أعطي بعض الأمثلة. احدها شائع ومهيمن جدا بحيث أننا نادرا ما نربطه بأشكال التطور التي شهدها الفن الرفيع ونوقشت هنا.إن الممارسة الخاصة لطريقة المزج ليست فعالية ثقافية متعالية، بل تدخل في صلب الثقافة الجماهيرية، وهي تعرف عموما "بفيلم النوستالجيا" (أو ما يطلق عليه الفرنسيون بكل أناقة "أسلوب الاستبطان ( la mode retro). وعلينا أن ننظر إلى هذه الفئة بطريقة موسعة. إذ لاشك أنها تتضمن فحسب، وبالمعنى الضيق، أفلاما عن الماضي، وعن لحظات أجيال في الماضي. ومن بين هذه الأفلام الرئيسية من هذا "النمط" الجديد (إذا كان حقا نمطا ) فيلم (American Graffiti) للمخرج لوكاش، والذي أراد، إبان عرضه في عام 1973، أن يعيد القبض على جميع الخصائص المثالية والمناخية لحقبة الخمسينيات في الولايات المتحدة، وتحديدا أمريكا في عهد آيزنهاور. فيلم بولانسكي العظيم (Chinatown) يفعل الشيء نفسه بالنسبة لحقبة الثلاثينيات، وكذا يفعل فيلم بيرتولوتشي (The Conformist) ضمن السياق الأوروبي والإيطالي للحقبة ذاتها، وتحديدا المرحلة الفاشية في إيطاليا، وما إلى ذلك. يمكننا أن نزيد على قائمة هذه الأفلام، ولكن لماذا تقع في خانة المزج بين أساليب عديدة؟ أليست أفلاما تنتمي إلى نمط أكثر تقليدية، والمعروف بالفيلم التاريخي- نمط من السهل التعرف عليه، من خلال موازاته بشكل كتابي آخر، معروف جيداً، وهو الرواية التاريخية؟

لدي أسبابي في التفكير بأننا نحتاج إلى تصنيفات جديدة لهكذا أفلام. لكن دعوني أضيف أولا بعض الاستثناءات: لنفترض أنني اعتبرت (حرب النجوم) فيلم نوستالجيا؟ ماذا يمكن أن يعنيه ذلك؟ أظن أننا يمكن أن نتفق بأنه ليس فيلما تاريخيا عن ماضينا المتداخل في مجراته. دعوني أعرض ذلك بطريقة مختلفة قليلا: إن من أهم التجارب الثقافية للأجيال التي عاشت بين حقبتي الثلاثينات والخمسينات كانت عرض مسلسل (Buck Rogers)، ظهيرة كل سبت، والذي يضم أوغادا غرباء، وأبطالا أمريكيين حقيقيين، وبطلات يعانين الاكتئاب، وشعاع الموت أو صندوق يوم القيامة، ومتسلق الجرف في النهاية، والذي ينحصر حله الإعجازي بمشاهدته ظهيرة السبت القادم. فيلم (حرب النجوم) يعيد خلق هذه التجربة على شكل مزج بين الأساليب: بمعنى أنه لم يعد مجديا النسج على منوال تلك المسلسلات بما أنها أصبحت بحكم المنقرضة منذ أمد طويل. و (حرب لنجوم)، بعيدا عن كونه هجاء عبثيا لتلك الأشكال، يلبي شوقا عميقا (وهل يمكنني أن أضيف مكبوتا ؟) من أجل معايشتها من جديد، وهذا ابتكار مركب يتيح للأطفال والمراهقين، في احد مستويات الفيلم، أن يتلقوا المغامرات مباشرة، في حين يمكن للمشاهدين البالغين، في مستوى آخر، أن يلبوا رغبة دفينة، تضرب جذورها في النوستالجيا، من خلال العودة إلى تلك الفترة الأقدم، ومعايشة رموزها الجمالية الغريبة من جديد. الفيلم، استعاريا، فيلم تاريخي أو فيلم نوستالجيا: إذ على نقيض فيلم (American Graffiti) فإنه لا يعيد صياغة صورة عن الماضي في كليتها المعاشة، بل يسعى، من خلال إعادة صياغة شعور وهيئة تلك الرموز الجمالية الفنية المتعلقة بحقبة أقدم (المسلسلات)، إلى إيقاظ حس بالماضي مرتبط بهذه الرموز بالذات. أما فيلم (Raiders of the Lost Ark) فيحتل منطقة وسطى هنا: في جزء منه، يتناول حقبة الثلاثينيات، والأربعينيات، لكنه يحاول، في الواقع، أيضا أن يقارب تلك الفترة استعاريا، من خلال التركيز على قصص المغامرات السائدة آنذاك، (والتي لم تعد ملكنا الآن). 

فيلم Body Heat

دعوني الآن أناقش شذوذا طريفا آخر يمكنه أن يأخذنا أبعد باتجاه فهم فيلم النوستالجيا بوجه خاص، وتقنية المزج بين الأساليب، من جهة أخرى. هذا يتضمن فيلما ظهر مؤخرا يدعى (Body Heat)، والذي يعتبر، كما استفاض العديد من النقاد، إعادة ابتكار لفيلم (Th Postman Always Rings Twice) أو فيلم (Double Indemnity). (إن السرقة التناصية المخادعة للحبكات القديمة هي بالطبع إحدى خصائص تقنية المزج). الآن، إن فيلم (Body Heat)، تقنيا، ليس فيلم نوستالجيا، بما أن أحداثه تجري في بيئة معاصرة، في قرية صغيرة في فلوريدا قرب ميامي. من جهة أخرى، إن هذه الراهنية التقنية هي الأكثر غموضا حقا: سطور التعريف بالعمل- هي دائما ملمحنا الأول- كُتبت أو طبعت بأحرف من نوع Art Deco-30 والذي لا يمكن إلا أن يثير شجون الحنين (أولا باتجاه فيلم China Town، بلا شك، ومن ثم تتجاوزه إلى دلالة تاريخية معينة). كما ان أسلوب البطل نفسه غامضا: ويليام هيرت نجم جديد، لكنه لا يتحلى بأي من الخواص الأسلوبية المتميزة للجيل السابق من الممثلين الكبار مثل ستيف ماكوين، أو حتى جاك نيكلسون، إذ ان دوره هنا في الفيلم، مزيج من خصائصهم المميزة، يضاف إليها دور أقدم لذلك النمط الذي يميز بوجه عام أداء كلارك غيبل. هنا أيضا يوجد، بشكل غامض، إحساس بالقدامة. يبدأ المتفرج بالتساؤل لماذا هذه تجري أحداث القصة، التي كان بالإمكان أن تقع في أي مكان آخر، في بلدة صغيرة في فلوريدا، بالرغم من مدلولاتها المعاصرة. يدرك المرء، بعد حين، أن لبيئة القرية الصغيرة وظيفة استراتيجية مفصلية: إنها تتيح للفيلم أن يستمر دون الحاجة إلى معظم الإشارات والإحالات التي يمكن نربطها بالعالم المعاصر، وبمجتمع الاستهلاك- الأدوات والأيقونات، النسب المرتفعة، وعالم الأشياء الذي يميز الرأسمالية المتأخرة. تقنيا، إذن، نجد أن أشياءه (سياراته، على سبيل المثال) هي من منتجات حقبة الثمانينيات، غير أن كل شيء في الفيلم يتآمر لتعتيم تلك الدلالة المباشرة والمعاصرة، ما يتيح لنا استقباله كعمل مرتبط بالنوستالجيا أيضا - سرد يقع في ماض نوستالجي غامض، لا ملامح له، أو قل في حقبة أزلية من الثلاثينيات، خارج التاريخ. ويبدو لي أن هذه النزعة تشكل باطراد سمة أسلوب أفلام النوستالجيا التي تغزو وتستعمر حتى أفلام اليوم التي تصور بيئات معاصرة: وكأننا، كما يبدو، لم نعد قادرين اليوم، لسبب ما، على التركيز على حاضرنا، ولم نعد قادرين على تقديم تشخيصاتنا الجمالية لتجربتنا الراهنة. ولكن، حتى إذا كان الأمر كذلك، فهذا ليس سوى اتهام دامغ للرأسمالية الاستهلاكية- أو على أقل تقدير، عرض مقلق، يثير الشفقة، من أعراض مجتمع لم يعد قادرا على التعاطي مع الزمن والتاريخ.


رواية Ragtime

نعود، الآن، إلى سؤالنا، ولماذا يعتبر فيلم النوستالجيا أو المزج بيت أساليب عدة (pastiche)، مختلفا عن الرواية التاريخية الأقدم أو الفيلم التاريخي. (سوف أضم في هذه المناقشة أيضا المثال الأدبي الرئيسي عن كل هذا، ويحضرني هنا روايات إ. ل. دوكتورو- رواية (Ragtime) ومناخها العام عن انصرام القرن، ورواية (Loon Lake) التي تتحدث، في مجملها، عن حقبة الثلاثينيات. غير أن هذه، في تصوري، روايات تاريخية، في المظهر فقط. إن دوكتورو فنان جاد، وأحد القلة من الروائيين اليساريين أو الراديكاليين الحقيقيين ممن يعملون اليوم. ولا ينقص من أهميته إذا أوحينا بأن سردياته لا تمثل ماضينا التاريخي، بقدر ما تمثل أفكارنا أو مفاهيمنا الثقافية المسبقة عن ذاك الماضي.) لقد انكفأ الإنتاج الفكري إلى داخل العقل، وإلى داخل الذات الفردية نفسها: لم يعد بمقدور "الفاعل" النظر مباشرة خارج عينيه إلى العالم الحقيقي من أجل البحث عن دلالة، بل يترتب عليه، كما هو الحال في كهف أفلاطون، اقتفاء صوره الذهنية عن العالم كما تتجلى على الجدران الساجنة. وإذا كان ثمة واقعية تبقت هنا، فإنما هي "واقعية" تنبثق من صدمة القبض على حالة السجن تلك، والإدراك -بغض النظر عن غرائبية الأسباب- بأننا أصبحنا محكومين بالبحث عن ماض تاريخي عبر تلك الصور والمفاهيم المسبقة المتوهمة عن الماضي، والتي تظل نفسها، إلى الأبد، عصية على التحقق.

أريد الآن أن أعود إلى ما أعتبره الخاصية الرئيسية الثانية لما بعد الحداثة، وتحديدا علاقتها الخاصة بالزمن- والتي يمكن للمرء أن ينعتها بـ"التناص"، والتي أجد من المفيد مناقشتها في ضوء النظريات الراهنة للشيزوفرنيا. أسارع إلى استباق عدد من المفاهيم الخاطئة التي يمكن أن تثار حول استخدامي لهذه الكلمة: إنها هنا وصفية وليست تشخيصية. أنا بعيد كل البعد، في الحقيقية، عن الاعتقاد بأن أهم فناني ما بعد الحداثة- جون كيج، جون أشبري، فيليب سوليرز، روبرت ويلسون، آندي وارهول، اسماعيل ريد، مايكل سنو، بل وحتى صاموئيل بيكيت نفسه -هم، بأي حال من الأحوال، أناس يعانون من الشيزوفرنيا. وليست الفكرة هنا تشخيص يقوم على سبر الشخصية والثقافة ضمن سياق مجتمعنا وفنونه: ثمة أشياء أكثر ضرراً يمكن أن تقال عن نظامنا الاجتماعي لا يمكن ان يوفرها البحث النفسي الشعبي. كما أنني لست متأكدا بأن مفهوم الشيزوفرنيا الذي سأعرضه بعد قليل -وهو مفهوم طوره بشكل موسع عالم النفس الفرنسي جاك لاكان- سريريا دقيق؛ لكن ذلك لا يهم كثيرا أيضا فيما يتعلق بغرضي.

إن أصالة فكرة لاكان في هذه المنطقة تكمن في اعتباره الشيزوفرنيا، جوهريا، اضطرابا لغويا، وفي ربطه التجربة الشيزوفرينية بمنظور كلي لتعلم اللغة بوصفها الحلقة الأساسية المفقودة في المفهوم الفرويدي لتشكل أنا الفرد الناضج. وقد فعل لاكان ذلك من خلال تقديم نسخة لغوية لعقدة أوديب لا يوصف فيها النزاع الأوديبي في ضوء الفرد البيولوجي الذي يرى نفسه خصما في نيل انتباه الأم، بل في ضوء ما يسميه "اسم الأب" حيث يُنظر إلى السلطة الأبوية الآن باعتبارها وظيفة لغوية.

أما بالنسبة للغة، فإن نموذج لاكان الآن بنيوي متطرف، يقوم على مفهوم الإشارة اللغوية باعتبارها مؤلفة من عنصرين (أو ربما ثلاثة). تصاغ الإشارة، الكلمة، النص، كعلاقة بين دال (signifier)- شيء مادي، صوت الكلمة، نص النص- ومدلول (signified)، أي "معنى" الكلمة المادية أو النص المادي. العنصر الثالث هو ما يصطلح على تسميته بموضوع الإشارة (referent)، أي الشيء "الحقيقي" في العالم "الحقيقي" الذي تحيل إليه الإشارات- القطة الحقيقية في مقابل مفهوم القطة أو صوت كلمة "قطة." غير أن البنيوية، بوجه عام، تنزع إلى الظن بأن موضوع الإشارة هو نوع من الخرافة، وبأن المرء لم يعد بمقدوره التحدث عن "الحقيقي" بتلك الطريقة البرانية أو الموضوعية. وبالتالي نجد أنفسنا أمام الإشارة نفسها وعنصريها الاثنين. كما أن النزعة الأخرى للبنيوية تتجلى في محاولتها التخلي عن المفهوم القديم للغة كفعل تسمية (على سبيل المثال، وهب الله اللغة لآدم من أجل أن يسمي الحيوان والنبات في جنة عدن)، يتطلب تراسلا متبادلا بين الدال والمدلول. وإذا ما تبنى المرء وجهة النظر البنيوية، يشعر، محقا، بأن الجمل لا تعمل بتلك الطريقة: إننا لا نترجم الدوال أو الكلمات الفردية التي تصنع الجملة ونرجعها إلى مدلولاتها وفقا لتطابق أحادي متبادل. بل إننا نقرأ الجملة كاملة، ونستخلص معنى أكثر شمولية - يسمى الآن "أثر المعنى" -من خلال تداخل العلاقات بين الكلمات أو الدوال. يصبح المدلول- وربما وهم أو سراب المدلول أو المعنى بوجه عام- أثرا تنتجه العلاقات المتداخلة بين الدوال المادية.

كل هذا يضعنا في موقع نرى فيه الشيزوفرنيا تقويضا للعلاقة بين الدوال. وحسب ما يذهب إليه لاكان، فإن تجربة الوقت، الزمن الإنساني، الماضي، الحاضر، الذاكرة، واستمرارية الهوية الشخصية على مدى أشهر وسنوات- هذا الشعور الوجودي أو المعيشي بالزمن نفسه- يكون أيضا بمثابة أثر للغة. ولأن للغة ماض ومستقبل، بسبب أن الجملة تتحرك في الزمن، فإن هذا يوفر لنا ما يبدو لنا على أنه تجربة حية وملموسة بالزمن. ولكن بما أن الشيزوفرني لا يعي تعبير اللغة بهذه الطريقة، فإنه لا يملك تجربتنا بالتواصل الزمني، بل إنه محكوم بالعيش في حاضر أزلي، تجد لحظات ماضيه المتنوعة معه علاقة واهية، والتي لا تملك في الأفق مستقبلا منظورا. بكلام آخر، التجربة الشيزوفرينية هي تجربة دوال مادية، معزولة، متقطعة، ومتشظية، تفشل في التلاحم فيما بينها لتشكيل تواتر متماسك. الشيزوفريني، إذن، لا يعرف الهوية الشخصية بمفهومنا، بما أن شعورنا بالهوية يعتمد على إحساسنا باستمرارية "الأنا" وما هو "لي" عبر الزمن. 

من جهة أخرى، للشيزوفريني تجربة كثيفة عن حاضر العالم تفوق تجربة أي منا، بما أن حاضرنا هو دائما جزء من مجموعة أكبر من المشاريع التي تجبرنا، انتقائيا، على تركيز تصوراتنا. بمعنى آخر، إننا لا نتلقى العالم الخارجي ببساطة بوصفه رؤية موحدة: إننا دائما منشغلون في استخدامه، وفتح مسالك عبره، والتركيز على هذا الشخص أو الشيء داخله. ليس الشيزوفريني، فقط، "لا أحد" بما أنه لا يتمتع بهوية شخصية، لكنه لا يفعل شيئا أيضا، بما أن امتلاك مشروع ما يعني أن يكون المرء قادرا على الالتزام باستمرارية معينة في الزمن. وفقا لذلك، يكون الشيزوفريني ضحية رؤية موحدة للعالم في الحاضر، وهي ليست، بأي حال من الأحوال، تجربة ممتعة:

أتذكر بجلاء اليوم الذي حدثت فيه. كنا نقيم في الريف، وكنت قد خرجت وحيدا في نزهة قصيرة، كما يحلو لي أن أفعل بين الحين والآخر. فجأة، وفيما كنت أعبر بجوار المدرسة، سمعت أغنية ألمانية؛ كان التلاميذ يأخذون درسا في الغناء. توقفت لأستمع، وفي تلك اللحظة انتابني شعور غريب، شعور من الصعب تحليله، لكنه مرتبط بشيء كنت سأعرفه لاحقا بشكل جيد- شعور مقلق بالحيرة. بدا لي أنني لم أعد أعرف المدرسة، وأنها أصبحت كبيرة كثكنة، وبدا المنشدون الأطفال سجناء، مجبرين على الغناء. بدا وكأن المدرسة وأغنية الأطفال كانت معزولة عن بقية العالم. في نفس الوقت، وقعت عيني على حقل من القمح لا حدود له. الاتساع الأصفر، المتوهج تحت الشمس، الممتزج بأغنية الأطفال المسجونين في ثكنات المدرسة ذات الأحجار الملساء، أصابني باضطراب شديد جعلني أنفجر بالبكاء. ركضت باتجاه البيت، إلى حديقتنا، وبدأت ألعب "لكي أجعل الأشياء تبدو كما هي عليه في العادة،" بمعنى، العودة إلى الواقع. كان ذلك أول ظهور لتلك العناصر التي ظلت دائما حاضرة في أحاسيسي اللاحقة عن اللاواقع: الاتساع اللامتناهي، الضوء الساطع، لمعان ونعومة الأشياء المادية. 

لاحظ أن التواصل الزمني ينقطع، وتصبح تجربة الحاضر ساطعة "ومادية" بقوة وطغيان: يحضر العالم أمام الشيزوفريني بتركيز مضاعف، حاملا شحنة غامضة وقامعة من التكلف، متلألئا بطاقة من الهلوسة. ولكن ما يظهر لنا على أنه تجربة مرغوبة- تصاعد في تصوراتنا، تكثيف ليبيدي وهلوساتي لمحيطنا المألوف والمعتاد- يشعر به هنا كخسارة، و"لاواقع". 

ما أريد التأكيد عليه هنا، على أي حال، هو تحديدا الطريقة التي يصبح فيها الدال بمفرده أكثر مادية- أو، بشكل أفضل، أكثر حرفية - وأكثر توهجا بالطرق الحسية، سواء كانت التجربة الجديدة جذابة أو مخيفة.

ـــــــــــــــــ
(*) فريدريك جيمسون في موسوعة ويكيبديا
(*) المصدر: مجلة نزوي، العدد 41 ، 2005.
نشرت ايضا بكتاب (ما بعد الحداثة: تجلياتها وانتقاداتها) إعداد وترجمة: محمد سبيلا و عبد السلام بنعبد العالي، سلسلة دفاتر فلسفية: نصوص مختارة، دار توبقال للنشر- المغرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق