1- تعريف بالتأملات :
“التأملات في الفلسفة الأولى ” من روائع المؤلفات الفلسفية على الإطلاق ، وهي بلا
ريب أهم أجزاء الفلسفة الديكارتية وأجدرها بالاعتبار. ونظرة إلى المسائل التي تناولتها ، والحقائق التي بينتها تقنعنا بأنها أوفى ما ألف الفيلسوف في الميتافيزيقا بوجه عام ، وأبدع ما كتب في النفس الإنسانية ،ووجود الله بوجه خاص ، كما يشير إلى ذلك النص الكامل لعنوان الكتاب :” تأملات في الفلسفة الأولى ، وفيها يبرهن على وجود الله وخلود النفس .
René Descartes |
نشر ديكارت ” التأملات ” سنة 1641 باللغة اللاتينية، دون الفرنسية، وكان قصده من ذلك كما يحدثنا هو نفسه أن يقصر كتابه على الخاصة دون العامة، إذ أنه قد التزم في شرح المسائل الميتافيزيقية سبيلاً قلّ سالكوه ، وبَعُد عن الطريق المألوف بعداً كبيراً .
ورأى ديكارت أن يقدم للتأملات برسالة إهداء ” إلى العمداء والعلماء بكلية أصول الدين المقدسة بباريس ” يسألهم فيها أن يؤيدوا آراءه، ويبيّن لهم أن منهجه الجديد في الفلسفة، على الرغم مما بينه وبين منهج ” المدرسين ” من اختلاف عميق، يستطيع ان ينصر العقيدة والدين ببراهين قاطعة من شأنها أن تخرس ألسنة الملحدين ، ولكي يضمن أن يظفر كتابه بحسن القبول عند علماء اللاهوت المسيحيين ، أرسله قبل الطبع إلى صديقه الأب ” مؤسن ” ليُطلع عليه مشاهير العلماء والفلاسفة ورجال الدين ، أمثال ” أرتو ” و ” جَسَّندي ” و” هويز ” و” كاتروس ” و ” بوردان ” وغيرهم ، وتلقى مرْسن من هؤلاء العلماء طائفة من الاعتراضات التي أوردوها على كتاب التأملات . وكتب ديكارت ردوده عليها ، وجمعت الاعتراضات والردود ، ونشرت في ذيل الطبعة الثانية لكتاب ” التأملات ” سنة 1642 وفي سنة 1647 نُشِرت للكتاب ترجمة فرنسية بقلم الدوق دو لوين، وقد راجعها ديكارت وصححها بقلمه ، وهذا مما يجعل الترجمة في منزلة طبعة أصلية .
ألف ديكارت كتابه هذا ليعرض على الخاصة مذهبه في الميتافيزيقا عرضاً علمياً منظماً ، ويلاحظ أن الفيلسوف كان يحيل من أراد الوقوف على جملة نظراته في الميتافيزيقا غلى هذا الكتاب وحده ، دون سائر كتبه ، صحيح أنه قد أورد بعض المسائل الميتافيزيقية في القسم الرابع من كتاب ” المقال في المنهج ” ولكنه عرضها هناك عرضاً سريعاً ومسها مساً رفيقاً لم يكن يقصد فيه إلى التعمق و الاستقصاء . على أن هذا العرض نفسه لا يفهم حق الفهم إلا بالرجوع إلى التأملات . وصحيح كذلك أن الباب الأول من أبواب كتاب مبادئ الفلسفة يبحث في أصول المعرفة الإنسانية ، وهو لهذا كان أدخل في بحوث الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى ، لكن هذا الباب أيضاً لا يتيسر فهمه جيداً إلا بعد قراءة التأملات أما كتاب البحث عن الحقيقة فهو محاورة نقدية بين أشخاص مختلفي الآراء ، ولا ندري على التحقيق ما قصد إليه ديكارت في كتابتها ، وإذن فيجب على الباحث عن الميتافيزيقا الديكارتية أن يلتمسها أولاً في كتاب التأملات الذي هو المرجع الأول في هذا الباب .
التأملات في الفلسفة الأولي ترجمة وتقديم عثمان أمين |
2- الفلسفة الأولى :
والفلسفة عند ديكارت إنما تبدأ بالميتافيزيقا ، أي الفلسفة الأولى ، والفلسفة عبارة عن دراسة الحكمة، والحكمة ليست هي التبصر في الأمور وحسب ، وإنما هي أيضاً وعلى الخصوص معرفة نظرته كاملة لجميع ما يستطيع الإنسان أن يعرفه لتدبير حياته ، وحفظ صحته ، واختراع جميع الفنون ، ولكن هذه المعرفة الكاملة ليست في المعاني التي يجدها كل شخص في نفسه بدون تأمل ، ولا في المعارف المكتسبة من التجربة والمحادثة ، والقراءة ، إنما هي المعرفة عن طريق العلل والمبادئ الأولى التي يُستنبط منها كل ما يستطاع معرفته . والمبادئ التي يتحدث عنها ديكارت هنا هي الميتافيزيقا عينها : فإننا إذا وضعنا الميتافيزيقا استطعنا أن نستنبط منها سائر ما عداها : ” رأيت أن وجود هذا الفكر هو المبدأ الأول ، واستنبطت منه المبادئ التالية : أن هنالك إلهاً هو خالق كل ما في العالم ، ولما كان هو مصدر كل حقيقة ، فإنه لم يخلق أذهاننا بحيث تكون عرضة للخطأ فيما تقرر من أحكام على الأشياء التي نتصورها تصوراً واضحاً جداً ومتميزاً جداً . تلك هي المبادئ التي اصطنعتها في الأشياء اللامادية أو الميتافيزيقية ، ومنها استنبطت بتمام الوضوح مبادئ الأشياء الجسمانية أو الفيزيقية ، أي أن هناك أجساماً ممتدة طولاً وعرضاً وارتفاعاًَ ، وأن لها أشكالاً وتتحرك على هيئات مختلفة “
قد كان ” المدرسون ” يعرّفون الميتافيزيقا بما عرّفها أرسطو حين قال إنها ” علم الموجود بما هو موجود ” ، أي أنها العلم بالخصائص الجوهرية للوجود لكن هذا التصور المدرسي للميتافيزيقا لا يقبله ديكارت ، إذ أن المشكلة الكبرى عنده هي أن نتبين متى يسوغ لنا إثبات الوجود ، وبعبارة أخرى أن الميتافيزيقا الديكارتية إنما تهتم بالذات التي تعرف والتي تقرر الوجود أكثر مما تهتم بالموضوع الذي يمكن أن يُعَرف أو يكون موجوداً .
وما دام ديكارت لا يستطيع أن يحدد الميتافيزيقا من جهة الموضوعات التي تتناولها ، فلا بد من أن يميزها بعلامة ذاتية تحمل طابع الذات العارفة ، وإذا كان الأمر كذلك فالميتافيزيقا عنده هي أشد العلوم يقيناً ، وهي العلم الذي ينبغي أن نستيقن من نتائجه قبل أن نستيقن من نتائج العلوم الأخرى ، والذي يضفي على الميتافيزيقا يقينها ليس هو طبيعة موضوعها ، بل الطريق الذي يسلكه الذهن في طلبها ، ونحن نقرأ في كتاب ” القواعد ” : ” ليس أمام الجنس البشري طرق مفتوحة للمعرفة اليقينية سوى طريق الحدْس البديهي والاستنباط الضروري اللذين بينهما المنهج “
والمنهج الذي يحدد ماهية الميتافيزيقا هو المنهج الذي وصل إليه الفيلسوف بملاحظة العمل الذهني في الرياضيات ، فقد لاحظ أن في الرياضيات استدلالات صحيحة لا نجدها في غيرها ، وقرر أن من مرّن ذهنه على عمليات الرياضيات أصبح أهلاً للبحث عن الحقائق الأخرى ، لأن منهج الفكر واحد من جميع الأمور .
وفي كتاب ” القواعد لهداية العقل ” و ” المقال في المنهج ” بيان للمنهج الدقيق الذي يجب أن يتوخاه طالب الميتافيزيقا.
وإذن فالميتافيزيقا علم دقيق يمكن إثبات قضاياه بيقين رياضي ، وقد صرح ديكارت في الرسالة التي كتبها في 15 إبريل سنة 1630 أنه اهتدى إلى ” السبيل إلى البرهنة على الحقائق الميتافيزيقية ببراهين هي أكثر بداهة من براهين الهندسة ” ، وهو يقول في موضع آخر : ” ثِقْ أنه ليس في الميتافيزيقا شيء إلا اعتقد أنه واضح كل الوضوح للنور الفطري ويمكن أن يبرهن عليه برهنة دقيقة ” , وإذن فالميتافيزيقا هي علم يعادل في يقينه علم الهندسة إن لم يزد عليه ، وهي أكثر يقيناً من الهندسة ، لأن طائفة كبيرة من الحقائق الميتافيزيقا يمكن اكتشافها قبل أن يرفع الشك عن حقائق الرياضيات ” . ولهذا ظن الشكاك وغيرهم أن إثبات وجود الله أمر غير ممكن ، وكثرون حتى يومنا هذا يظنونه مستحيلاً ، مع أن شأنه كشأن جميع الحقائق الميتافيزيقية ، إثباته ميسور جداً ، ويقينه أكثر من يقين براهين الرياضيات .. ” وإّذن فالبراهين الميتافيزيقية أكثر يقيناً من البراهين الرياضية .
والميتافيزيقا عند ديكارت هي علم منهجه هو عين منهج الرياضيات ، بل إنها أكثر العلوم يقيناً ، لأنها من بين جميع العلوم الإنسانية الخالصة أكثرها إمكاناً للبرهنة العقلية ، فوجود الله ، وطبيعة الذهن ، والمادة يمكن إثباتهما بدقة رياضية ، زد على ذلك أن الميتافيزيقا يمكن أن يتعقلها جميع من يهتمون ببراهينها اهتماماً كافياً وينظرون في أدلتها ” بأذهان قد تجردت عن الحواس ” . ومن أجل هذا لم ير ديكارت داعياً إلى مناقشة ” التأملات ” أو مراجعتها ، فما دامت تحتوي على برهنة كاملة للحقائق الميتافيزيقية فقد انتهى الأمر ولا حاجة إلى زيادة عليها فيما خاضت فيه من مسائل ، وقد اعتقد ديكارت أن ميتافيزيقاه وحدها هي الميتافيزيقا الصحيحية ، وأنه لا حاجة بالناس إلى ميتافيزيقا بعدها ، وإن كان من الميسور لغيره أن يهتدي إلى براهينها ، وهو يقول : ” أرى أن جميع من أنعم الله عليهم بنعمة العقل يجب أن يستعملوه قبل كل شيء في محاولة معرفة الله ومعرفة أنفسهم ؛ وهذا هو الأمر الذي اتفقت عليه جمهرة الناظرين ، والذي وفقني إلى أن أبلغ فيه ما يرضيني تمام الرضا ” .
ولما كانت الميتافيزيقا الديكارتية تسيطر عليها مشكلة الوصول إلى اليقين ، فهي ليست نظرية في وجود النفس والله والعالم فحسب ، إنما هي إعداد للمعرفة ، وللمعرفة العلمية على وجه الخصوص .
(ج) طريق التأملات :
ولنلق الآن نظرة على الطريق الذي سلكه ديكارت في تأملاته .
خصص تأمله الأول لنظر ميتافيزيقي مداره البحث في الضرورة العقلية التي تقضي بانتهاج سبيل الشك ، باعتباره تمهيداً للفلسفة ، ولكي نفهم منهجه في ذلك يجب أن نتبين الأسباب التي جعلته يدعونا إلى أن نصطنع الأناة ، ونتوقف عن الحكم ، ونرفض التصديق لما يُلقَى إلينا من أقوال وآراء حتى ما كان منها شديد الرجحان ، فلا نسلم بأن شيئاً من ذلك ما لم نتبين بالبداهة أنه كذلك : لأن بداهة العقل عند الفيلسوف هي معيار اليقين بمعنى أنها هي العلامة المميزة للمعرفة الصحيحة المبرأة من الخطأ والزلل .
ويلخص الفيلسوف تأملاته فيقول : ” قدمتُ ، في التأمل الأدلة ، الأسباب التي تجعل في استطاعتنا أن نشك على العموم في الأشياء جميعاً وعلى الخصوص في الأشياء المادية ، على الأقل ما دمنا لم يتيسر لنا من أسس أخرى في العلوم سوى ما تيسر لنا حتى الآن . غير أن شكاً عاماً كهذا ، إن لم يظهر نفعه أول الأمر ، له مع ذلك نفع عظيم جداً ، من حيث إنه يجعل من غير الممكن ، في المستقبل أن نشك أبداً في الأشياء التي قد نهتدي فيما بعد إلى أنها صحيحة ” .
” وفي التأمل الثاني نجد الذهن يستعمل حريته الخاصة فيفترض أن جميع الأشياء التي يقع له عن وجودها أدنى شك هي أشياء معدومة ، لكن يتبين أن من الممتع إطلاقاً حينئذ أن يكون هو نفسه غير موجود ، وهذا أمر فيه كذلك نفع عظيم ، فإنه بهذا الوجه يتيسر له أن يميز الأشياء التي تخصه ، أي التي تخص الطبيعة الذهنية ، من الأشياء التي تخص الجسم “
” لكن قد يتوقع بعض القراء مني أن أورد في ذلك الموضع أدلة لإثبات بقاء النفس ، ومن أجل ذلك أرى لزاماً عليّ هاهنا أن أنبههم إلى أنني حاولت ألا أكتب في هذه الرسالة كلها شيئاً إلا ولديّ عنه براهين دقيقة جداً ولذلك وجدت نفسي مضطراً إلى اتباع ترتيب شبيه بالترتيب الذي يصطنعه أصحاب الهندسة ، وهو تقديم جميع الأشياء التي تتوقف عليها القضية التي نبحث عنها قبل استنتاج أي شيء منها ” .
“وأول وأهم ما يُطلب للتحقق من معرفة بقاء النفس أن نكوّن عنها تصوراً واضحاً صريحاً ومتميزاً كل التميز عن جميع التصورات التي يمكن أن تكون لدينا عن الجسم : وهذا ما صنعته في ذلك الموضع ، ويطلب فضلاً عن ذلك أن نعرف أن جميع الأشياء التي نتصورها بوضوح وتميز صحيحة على نحو ما نتصورها ؛ وهذا ما لم أستطع إثباته قبل التأمل الرابع ويلزم أيضاً أن يكون لدينا عن الطبيعة الجسمية تصور متميز ، يقوم بعضه في هذا التأمل الثاني ، وبعضه في التأملين الخامس والسادس ” .
” ويلزم أخيراً أن نستخلص من ذلك كله أن الأشياء التي نتصور بوضوح ونميز أنها جواهر متباينة ، مثلما نتصور الذهن والجسم ، هي حقاً جواهر متميز بعضها عن بعض في واقع الأمر ؛ وهذا ما انتهيت إليه في التأمل السادس ، ومما يؤيده أيضاً في هذا التأمل نفسه أننا لا نتصورها إلا غيرمنقسمة ، ذلك أننا لا نسنتطيع أن نتصور نصف أي نفس ، كما نستطيع أن نتصور النصف لأصغر جسم بين الأجسام ، وعلى هذا النحو نتبين أن طبيعتهما ليستا متباينتين فحسب بل هما متضادتان بوجه ما ، ولم أزِدْ على هذا القدر في معالجة الموضوع في هذا الكتاب : لأن في ذلك ما يكفي لإفهام الناس ،بدرجة من الوضوح لا بأس بها ، أن فساد الجسم يقتضي فناء النفس ، ولملئ قلوبهم بالأمل في حياة أخرى بعد الموت ؛ وكذلك لأن المقدمات التي يمكن أن نستنتج منها بقاء النفس تعتمد على شرح الفيزيقا بأسرها : أولاً لمعرفة أن جميع الجواهر على العموم ، أي جميع الأشياء التي لا يمكن أن توجد دون أن تكون مخلوقة لله ، غير قابلة للفساد بطبيعتها ، وأنها لا يمكن أن تنقطع عن الوجود أبداً ، إلا إذا منع الله نفسه عونه عنها فأحالها إلى العدم ؛ ثم لملاحظة أن الجسم على العموم جوهر ومن أجل ذلك أيضاً لا يفنى ؛ لكن الجسم الإنساني ، من حيث هو مختلف عن الأجسام الأخرى ، ليس مركباً إلا من أعضاء على هيئة معينة ومن أعراض أخرى تشابهها .
أما النفس الإنسانية فليست كالجسم مؤلفة من أعراض ، ولكنها جوهر محض : فمهما تتغير جميع أعراضها ، ومهما تكن مثلاً نتصور أشياء وتريد وتحس أشياء أخرى ..إلخ .. فلن تصير شيئاً آخر ؛ في حين أن الجسم الإنساني يصير شيئاً آخر متى تغير شكل بعض أجزائه ، ويلزم عن ذلك أن فناء الجسم الإنساني أمر ممكن ميسور ، أما ذهن الإنسان أو نفسه فباقية بطبيعتها ” .
” وفي التأمل الثالث بينتُ ببعض الإسهاب فيما يلوح لي أهم دليل استخدمته لإثبات وجود الله ، ولكني لم أرد أن استخدم في هذا الموضع تشبيهات مشتقة من الأشياء الجسمية ، لكي أبعد أذهان القراء بقدر ما في وسعي عن استعمال الحواس والاتصال بها ، ولذلك ربما بقيت هنالك مسائل كثيرة غامضة ( أرجو أن أوضحها توضحياً تاماً في ردودي على الاعتراضات التي وجهت إلى الكتاب منذ فرغت من تحريره ( ، ومنها المسألة التي أوردها فيما يلي : كيف أن فكرة موجد كامل إطلاقاً – وهي فكرة نجدها فينا – تشمل قدراً من الحقيقة الموضوعية ، أي تشارك بالتصور في قدر من درجات الوجود والكمال بحيث يلزم أن تصدر عن علة كاملة على الإطلاق ؟ وهذا ما أوضحته في تلك الردود بإيراد التشبيه بآلة في غاية البراعة والاتقان ترِدُ فكرتها على ذهن صانع ما ؛ فإنه كما أن ما لهذه الفكرة من إتقان موضوعي لا بد له من علة معينة إما أن تكون علم ذلك الصانع أو علم واحد غيره تلقى هو عنه تلك الفكرة ، فكذلك يمتنع بالنسبة إلى فكرة الله ، التي هي فينا ، ألا يكون الله ذاته علة لها “.
” وفي التأمل الرابع أقمتُ الدليل على أن جميع الأشياء التي تتصورها تصوراً واضحاً جداً ومتميزاً جداً هي كلها صحيحة، كما أوضحت طبيعة الخطأ أو الباطل، مما تلزم معرفته ضرورةً لتوكيد الحقائق السابقة. ولفهم الحقائق التي تتلوها فهماً صحيحاً لكن ينبغي أن يلاحظ أني لا أنظر هنالك في الخطيئة أي في الخطأ الذي يُقّترف في طلب الخير والشر. بل الخطأ الذي يقع في الحكم وتمييز الحق من الباطل وليس قصدي أن أتكلم هنالك في الأمور التي هي من شأن الإيمان أو سلوك الإنسان في الحياة، بل في الأمور التي تتصل بالحقائق العقلية والتي يمكن معرفتها بمعونة النور الطبيعي وحده ” .
ويتحدث ديكارت في التأمل الخامس عن ماهية الأشياء المادية، ثم يعود إلى الحديث عن الله ووجوده وهو يستند إلى معيار البداهة ، فيرفض مرة أخرى أن يضفي على المادة من الخواص إلا الإمتداد، أي خاصة الجسم في أن يكون ممتداً ، ولا يقبل إلا الحركة في المكان، وينكر في الوقت نفسه جميع ” الصور الجوهرية ” و ” الصفات الخفية ” وغيرها من الكائنات والمبادئ التي كان يتحدث عنها الفلاسفة ” المدرسون ” .
وقد نستطيع هنا أن نلاحظ أن ” نيوتن ” حين قال بمبدأ ” الجاذبية العامة ” قد أدخل في العلوم ما يشبه تلك المبادئ الخفية التي ذهب إليها علماء القرون الوسطى، وقد خُيّل إلى الناس أول الأمر أن العلم النيوتوني قد ظفر في هذا السبيل بنصر حاسم، ولكن منذ ظهور ” أينشتين ” قد صار العلم ديكارتياً من جديد، كما قال بعض المعاصرين .
وينبغي ألا ننسى أن ديكارت عالم رياضي ، وأن المثل الأولي للبداهة عنده هو البداهة الرياضية ، فهو ينظر إلى الفكرة الواضحة التي تكون في أذهاننا عن الله ، فيجد أن شأنها كشأن فكرة المثلث، ومن ثم يعود إلى البرهنة التي قام بها في التأمل الثالث وينقلها إلى هذا المستوى الفكري الجديد، منتهياً إلى القول بأن القضيتين : ” مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين ، و ” الله موجود ” هما قضيتان متعادلتان في اليقين .
وليس من الضروري ، في التأمل السادس ، أن نتابع ديكارت في تفاصيل مذهبه ، فهو يكتفي هنا ببسط النتائج العملية لما انتهى إليه ، بعد أن يبيّن أن النفس الإنسانية مستقلة عن البدن، قرر أنها مع ذلك متحدة به اتحاداً وثيقاً، وأن هذا الاتحاد أمر واقع تشهد به التجربة والمشاهدة ، وكل امرئ لا بد متنبه إلى أنه يجمع في ذاته بين طبيعتين متباينتين ، جسمانية ونفسانية : وهذا أمر واقع لا سبيل إلى المنازعة فيه .
ويختتم الفيلسوف تأملاته مبيناً أن الأدلة على وجود عالم الماة والأجسام ليست من المتانة والوضوح بمنزلة الأدلة التي تؤدي إلى معرفة النفس وإلى معرفة الله .
ويقول ديكارت نفسه في تلخيص التأمل السادس ما يلي ” وانتهي في التأمل السادس بتمييز فعل الفهم من فعل المخيلة، وأصف علامات هذا التمييز، وفيه أبيّن أن نفس الإنسان متميزة عن الجسم حقاً، وأنها مع ذلك واحداً وفيه أبسطُ جميع ضروب الخطأ الناشئة من الحواس، مبيناً الوسائل لاجتنابها، وأورد أخيراً .
جميع الأدلة التي يمكن أن يستنتج منها وجود المادية ، لا لأنني أرى لها فائدة كبيرة في إثبات ما تثتبته – أعني أن العالمَ موجود وأن للناس أجساماً ، وما شابه ذلك لأن إمعان النظر فيها يطلعنا على أنها لم تبلغ من المتانة والبداهة مرتبة الأدلة التي توصلنا إلى معرفة الله ومعرفة النفس ، وبهذا الاعتبار تكون الأدلة الأخيرة أوثق وأبيَن ، ما يمكن أن يقع للذهن الإنساني من معرفة ." وهذا كل ما قصدتُ إلى إثباته في هذه التأملات الستة ، ومن أجل هذا أغفلت ها هنا مسائل أخرى كثيرة تكلمت عنها عَرضاً في هذه الرسالة ".
إن لتأملات ديكارت آثاراً بعيدة المدى في التاريخ، كانت آراء الفيلسوف بمثابة ثورة فكرية هائلة، بل كانت على التحقق أكبر ثورة فلسفية عرفها الناس منذ أيام الفيلسوف اليوناني ” سقراط ” حتى عهد الفيلسوف الألماني ” كانط ” وقد جاءت المثالية الألمانية التي أبدعها ” كانط ” . وكذلك المثالية ” الكانطية الجديدة” ( عند ” فشته ” و شوبنهور” موافقتين لبداية المثالية الديكارتية ، وإن كانتا قد اختلفتا عنها في النتائج الواقعية التي انتهت إليها، ولقد رأى ” شِلْنج ” ان الطابع الذي يميز الفلسفة الحديثة هو الفصل بين ” المتناهي ” و ” اللامتناهي ” وأن ديكارت قد عبّر عن الثنائية تعبيراً علمياً، وما الفلسفة النقدية إلا تحقيق تلك الفكرة التي بدأت بديكارت، ويبدو مفكرو الألمان اليوم ميالين إلى قبول نظرية ديكارت في المعرفة، وهم يجلون الفيسلوف الفرنسي ، ويرون فيه مثال المفكر الصحيح العميق . ومن أشهر من تأثروا في عصرنا هذا بفلسفة ديكارت الفيلسوف الألماني ” إدموند هوسّرْل ” وهو نفسه يعترف في مستهل كتابه ” تأملات ديكارتية ” بأثر ديكارت عليه ويقول بصدد مذهبه في ” الفينومنولوجيا ” : ” ربما صح أن نسمي هذا المذهب ديكارتية جديدة ، وإن كنا قد اضطررنا إلى أن نطرح على التقريب كل ما للديكارتية من فحوى معروف، وذلك لأننا بسطنا بعض المسائل الديكارتية بسطاً قائماً بذاته ” . ولا نزاع اليوم في أن فيلسوفنا كان مصدر إلهام قوي لفلسفات الحرية التي ظهرت آثارها في الأجيال اللاحقة في الغرب والشرق على السواء .
شكرا جزيلا 🌚❤ عمل في المستوى
ردحذف