ترجمة: سلام ميخائيل عيد
"كنت قد نزلت حتى تقطيبات الإنسان، وصعدت ثانية نحو استقامة الطبيعة"
(بلزاك - علم أمراض الحياة الاجتماعية)
نموذج من اختبار رورشاش ( رورشاخ ) Test de Rorschach |
عبثاً كان للأقنعة تنوّع لا منتهٍ، ولكأنّ إرادة التقنّع بسيطة تماماً وبالنتيجة لكأن فيزيولوجيا الكائن الذي يتقنّع مصنوعة في الحال. ويبدو أنّ القناع يُحقّق الاستتار، دفعة واحدة. محتمياً وراء قناعه، يكون الكائن المُقنّع في مأمن من فضول السيكولوجي. لقد وجد، بسرعة كبيرة، أمان وجه ينحبس. وإذا كان باستطاعة الكائن المُقنّع أن يعود إلى الحياة، وإذا كان يريد أن يأخذ حياة قناعه الخاص، فإنّه يمنح نفسه بسهولة، مهارة المخاتلة. وينتهي الأمر به إلى الاعتقاد بأنّ الآخرين يعتبرون قناعه وجهاً. ويعتقد أنّه يتظاهر بنشاط بعد أن استتر بسهولة. وهكذا فالقناع هو تركيب ساذج لضدين متقاربين جداً: الاستتار والتظاهر. لكنّ خديعة سهلة بهذا المقدار، شاملة بهذا المقدار، ومباشرة بهذا المقدار، لا يمكن أن تكون موضوعاً إلاّ لسيكولوجيا قصيرة. ثمّة, ولاشك، طرائق كثيرة لتوسيع هذه السيكولوجيا. وقد يكفي، خصوصاً، أن نتلّقى وثائق علم خصائص الشعوب التي لا تُحصى كي نكشف القناع كموضوع غريزة إنسانية حقيقية. إنّ سحراً كاملاً للقناع قد تجب دراسته إذاً. وقد نجد أيضاً كثيراً من آثار هذا السحر في الفولكلور. لكن قد تُشّتت هذه التحقيقات كلّها انتباه السيكولوجي الذي يرغب في دراسة رغبة الاستتار، في مصدرها. إنّ فينومنولوجيا للاستتار يجب أن ترجع إلى جذر إرادة أن نكون غير ما نحن عليه. وقد لا تتثقف كثيراً بإكثار الملاحظات على الأقنعة التي لا تُحصى، وعلى الأقنعة المخيفة، على الأقنعة التي خصصّتها أساطير، وأعراف وتقاليد. على فينومنولوجيا الاستتار إذاً أن تركّز بحثها على العقلية الغربية.
لكن ورغماً عن كون القناع، برأينا، وجهاً مصطنعاً جوهرياً، ورغماً عن كون الأقنعة أشياء كأشياء أخرى، ورغماً عن أنّ هذه الأشياء قد أهملت بطريقة ما، أليس مدهشاً أننّا لا نستطيع تطوير سيكولوجيا للاستتار من غير استخدام تصوّر القناع؟ ويعمل مفهوم القناع بغموض، في نفسيتنا. وما أن نرغب بتمييز ما يستتر وراء وجه، ما أن نرغب في أن نقرأ في وجه، حتى نعتبر، ضمناً، هذا الوجه قناعاً.
لكن من الوجه إلى القناع ومن القناع إلى الوجه، ثمّة مسافة على الفينومنولوجيا اجتيازها. عبر هذه المسافة سنتمكّن من تمييز مختلف عناصر إرادة الاستتار. عندئذٍ سيصل بحث سيكولوجي متنبّه إلى إظهار درجات مفهوم القناع، وإلى إدراك هذا المفهوم في القيم الأنطولوجية المختلفة. وهكذا وقد تصّفى مفهوم القناع فإنّه يسلّمنا مجموعة حقيقية من الأدوات لدراسة الاستتار.
وقد قام الدكتور رولان كوهن، تحديداً، بجرد أدوات التحقيق التي جُمِعت في ألواح رورشاش. فهو في عمله يعطي، على نحوٍ ما، التحليل الطيفي لإرادة الاستتار، كلّ تدرّج لهذا الاستتار يتحقّق في تفسيرات للقناع تعطيها نسبة هامة من الأشخاص المدروسين عن بقع رورشاش. وكما يقول رولان كوهن: "كي نرى في بقعة حبر شيئاً آخر غير البقعة، يجب على قوى خلاقّة أن تتدخّل. " إذا رأى شخص مدروس قناعاً في بقعة حبر، فذلك حتماً الدليل على أنّه يخلق قناعاً، على أنّه يريد قناعاً، على أنّه يعرف سعر قناع،
باختصار، ذلك هو دليل على أنّه يُطيع وظيفة الاستتار الأساسية، وظيفة ترضيها الأقنعة الفعلية مباشرة، وبسعر زهيد جداً.
ويقدّم لنا عمل رولان كوهن المتحف الغني والمنظّم جيداً، للأقنعة الكمونية التي اكتشفها كثير من الأِشخاص في ألواح رورشاش.
ولأنّ هذه الأقنعة كمونية، فهي تسلّمنا صيرورة الاستتار بالذات. إنّها تسمح للطبيب النفساني بأن يقيس، إن صحّ القول، صدق الاستتار، وطبيعية الإصطناعي. وقد يمكننا، في قياس لكمونية الأقنعة، أن نتابع إلى أيّ حدّ يتورّط وعي الكائن الراغب بالاستتار. ومرة أخرى، يفقد القناع الفعلي، في نجاحه الفظّ في الاستتار، جذور الاستتار الفينومنولوجية. إنّ الكائن وراء قناع حقيقي لا يدخل حقاً في سيرورة استتار. حينئذٍ تكون فينومنولوجيا الكائن المُقنَّع فعلاً، والمُتنّكر تماماً سلبيةً صرفاً لكائنه الخاص. ويستطيع أن ينام في هذه السلبية، وأن يفقد حتى الوعي لإرادته في القناع. كلّ شيء يُصنع بضربة واحدة: إنّ التقنّع أو أن نكون بلا قناع، هو تناوب منطقي نقي، من غير أيّة قيمة وجودية.
إنّ فينومنولوجيا الكائن الذي يستتر، وحتى الكائن الذي قد يرغب ببلوغ طمأنينة القناع الكاملة، لن يمكنها أن تكون محدّدة في تدرّجاتها إلاّ بوساطة أقنعة جزئية نوعاً ما، غير مُنْجَزة، هاربة، تؤخذ ويُعاد أخذها باستمرار، وشروعية دائماً. إذاً فالاستتار هو، منهجياً، سلوك وسيط، سلوك مهتزّ بين قطبيّ المُخبَّأ والمُظهَر. ما من استتار بارع من غير تباهٍ.
يجب إذاً أن تدخل جيداً في منطقة تكون التحكيمات فيها مستمرّة، في مركز ديالكتيك حقيقي للتبسيط وللتعدّدية، وأن نقرن، بشكل ما، القناع الجامد بالوجه الحيّ. على الوجه المُشاهَد في بقع الحبر أن يعطي السمات الحاسمة للسحنة. حينئذٍ يكون القناع الكوني رسماً بيانياً حقيقياً لتحليل إنّ تفسير القناع الكموني هو الدخول إلى المنطقة ذاتها حيث يتبادل التمثّل والمصورة أعمالهما بلا نهاية. وكما يقول جورج بيرو، بدقّة كبيرة، في كتابه الجميل، الأقنعة: "الأقنعة هي أحلام مثبتّة" و، بتلازم، والأحلام هي أقنعة عابرة في حركة، أقنعة غامضة تولد وتمثّل كوميدياها أو دراماها وتموت". إذاً فتفسير الأقنعة ليس مُبعداً عن تفسير الأحلام. على الطبيب النفساني أن يحيا قناع المريض كما يجب أن يحيا أحلام المريض. وإذا تكيّف الطبيب النفساني مع القناع الذي عزله الشخص عن البقعة، فإنّه سيقرأ في هذا القناع البياني أفكار المريض السريّة، الأفكار التي تريد الاختباء وراء القناع. وسيقرأ، تقريباً، في داخل القناع. كيف لا نتذكّر الصفحة التي يتحدّث "إيدغارباو" فيها عن منهجه في قراءة الفكرة: "عندما أرغب في معرفة إلى أيّ حدّ يكون أحدهم يقظاً أو أرعن، إلى أيّ حدّ هو طيّب أو شرير، أو ما هي أفكاره حالياً، فإنّي أؤلّف وجهي وفق وجهه، بقدر الإمكان من الدِّقة، وانتظر حينئذٍ كي أعرف أيّة أفكار أو أحاسيس ستولد في ذهني أو في قلبي، كما لُيْهّيأ نفسه وليتطابق مع سحنتي. "يبدو أنّ القناع الذي يقتطعه المريض على ألواح رورشاش هو "سحنة وسيطة" حتى أنّ الطبيب يستطيع بسهولة أن ينتحلها كي يُحلّل إرادة الاستتار.
وتأخذ هذه المنطقة الوسيطة أهمية كبيرة في تفسيرات ألواح رورشاش. هنا أمر لا نزاع فيه. وتكشف البروتوكولات العديدة التي سجلّها رولان كوهن بُعداً حقيقياً للتفسير. إنّها تنطلق نحو وقائع وضعية، نحو وقائع يمكن تصنيفها. لا توجد هنا أيّة مصادفة، أيّ جواز، أيّ "فانتازيا". إنّ نسبة هامة من الأشخاص المفحوصين لا تستخرج من بقع رورشاش هيئات ولا كاريكاتورات ولا رموز وإنّما تستخرج أقنعة، تحديداً. والحالة هذه، ثمّة من الكاريكاتور إلى القناع قلبٌ أساسي للنفسية الديناميكية. عندما يُرى كاريكاتور فإنّه يُدرك. إنّ قناعاً يريد أن يُلبس، يكشف التماساً بالاستتار، ويعرض نفسه كأداة استتار. فهو لا يُدْرَك ببساطة، إنّه "محسوس". إنّه يشير فعلاً، إلى جذر يُحدّد انطلاقاً فينومنولوجياً. بإختصار، إنّ القناع هنا نشيط للغاية. ويكشف نشاطه كشفاً أفضل. ويتأقلم مع الشخص المفحوص تأقلماً أفضل كلّما كان كمونياً. يصلحه الشخص المدروس في الوقت نفسه الذي يشكّله فيه. يصلحه كي يصير، فعلاً، قناعه.
سنجد، ولا شك، أشخاصاً يقصّون من الصحف المصوّرة، هيئات يستخدمونها كأقنعة. لكن، في هذه المناسبة، يكون للعكس الفينومنولوجي قطبية ضعيفة جداً، فليس له ديناميكية الأقنعة التي يستخرجها الخيال من رورشاش. وبالعكس، وإذ نتبع بوفاء، اقتفاء الأقنعة التي وصفها رولان كوهن، نرى كيف تتوضّح نرجسية الوجه الكاذب، نرجسية تتأمّل إمكاناتها في الكذب على سطح بركة السواد الصغيرة هذه التي يكونها لوح رورشاشي.
فليُسمح لنا بأن نشير، مروراً، إلى أهمية فينومنولوجيا للمصطنع. إنّ الكائن الذي يريد التصّنع بحاجة إلى تشكّل وعي نقيّ جداً. وتزداد حالة الوعي هذه شدّة كلمّا كان موضوعها أكثر سيولة. نرى على مسألة الكائن الذي يستتر، صيانة وعي الاستتار تعمل. سيتحتّم علينا أن نعترف لتفسيرات الأقنعة برسوخ أكبر من رسوخ الاستيهامات الأخرى. وباختصار، مهما بدا ذلك مفارقياً، فجذر تفسير الأقنعة قويّ فينومنولوجياً.
نماذج من اختبار رورشاش ( رورشاخ ) Les dix planches du test de Rorschach |
إذاً فالأقنعة التي يُشّكلها الخيال في رورشاش هي وقائع نفسية كبيرة. لكن سببيتها لا تكمن، طبيعياً، في اللوح المنقوش. ولم يجعل السيكولوجي الأقنعة تُنقش. ولم يجعل حتى مظاهر الأقنعة تُنقش. إنّنا تماماً أمام كمونيات. يستطيع الكائن إذاً أن يتنازل عن أقنعته أثناء التفسير. ويمكنه أن يستبدل هذه الأقنعة الغارقة في البقع، بذكرى ضائعة في الماضي، وأن يرى ثانية وجهاً شرساً، وجهاً مقُنَّعاً بالغضب، وجهاً من القديم يحرس سلطة الخُبث. إذاً فقد أطلق الطبيب النفساني، من خلال رورشاش، أحد موضوعات التحليل الكلاسيكي: لقد أُعيد إلى مكانه أمام دراسة الوعي الحالم، أي أمام الوعي الطبيعي. ولا يعطي هذا الوعي الذي تغشاه الذكريات، بسبب سلّبيته، تربة غنيّة، كما نظّن للفحص الفينومنولوجي.
إنّ تجلّي الماضي هذا سيكون، على كلّ حال، دائماً نصفَ تحليل نفسي مُحرِّر. وسيكون، أيضاً، القناع - الذكرى دائماً مثُقّفاً على نحو أقلّ من القناع - الإرادة الذي يظهر غالباً في تفسيرات رورشاش، يساعدنا القناع على مواجهة المستقبل. إنّه هجومي دائماً أكثر منه دفاعي. دفاعي، إنّه تمثيل لكائننا الحذر. ويكتب لودفيغ بينسفانغر هذه العبارة المركزّة: "يتغذّى الحذر من الماضي. "وعلى العكس، يقول رولان كوهن: "يقطع القناع علاقته مع الماضي." إذا قسرنا قليلاً، علاقات الهيئة والوجه، إذا كاملنا القناع، يبدو أنّ بمقدوره أن يكون قراراً بحياة جديدة. ولكان صفّى بسحبة واحدة، الكائن الذي يختبىء. ولكان دافعاً لتأكيد حياة ثانية، ولادة جديدة. وحتى إذا قلبنا المسألة بالأساليب كلّها، يجب دائماً أن نصل بها إلى الخلاصة ذاتها: إنّ القناع هو أداة عدوان؛ وكلّ عدوان هو اتصال مع المستقبل.
لكن من غير أن نعطي القناع كثيراً من المستقبل، ومن غير أن نجعل أيضاً، من الاستتار قدراً لا رجوع فيه، كيف لا نلاحظ قوة التجديد عندما نظنّ أننّا نستطيع الدنو من المستقبل بوجه جديد؟ ويقول رولان كوهن: "يقطع القناع التوتّر الموجود بين وعي الذات ووعي الشخصية من جهة، وبين هذه الحاجة إلى التجربة الجمالية من جهة أخرى. "أمّا نحن، فكنّا وضعنا هذه الحاجة إلى التجربة الجمالية تحت تأثير علم جمال للإرادة، في الفرح الجمالي بأخذ سمة.
في هذه الظروف، إذ نجتاز الوسطاء كلّهم كي نجد الجذور الفينومنولوجية للإختباء، للتنّكر، وأساسياً لإرادة التقنّع، نجد أنّ القناع هو إرادة تملّك مستقبل جديد، إرادة، ليس فقط، السيطرة على وجهنا الخاص، بل إرادة إصلاح وجهنا، إرادة أن نمتلك وجهاً جديداً من الآن فصاعداً.
وطبعاً يمكننا إذ نتلّقى فائدة تحليلات رولان كوهن كاملة، أن نلعب، بلا نهاية، غموض الوجه والقناع. وما كانت الأمور لتجري بالطريقة نفسها لو كنّا ندرس، ببساطة، أقنعة حقيقية. لكنّ الأقنعة الكمونية المُستمدة من الخيال في ألواح رورشاش هي أقنعة سيكولوجية. إنّها تلخّص قرارنا في أن تكون لنا سحنة. نلتقطها خاصة في التفسيرات. إنّها، على نحوٍ ما، وجوه محكيّة، وجوه وصفها الحكي. ولو كان لدينا الوقت لمتابعة تحقيق رولان كوهن حول التربة المألوفة لنا قليلاً، ففي اتجاه الأدب كنّا سنقود أبحاثنا.
إن الوجوه كلّها التي وصفها الروائيون هي أقنعة. إنّها أقنعة كمونية. ويطابقها كلّ قارئ، مُغيّراً شكلها على مشيئته، حسب إرادته الخاصة بامتلاك سحنة. كم من الكنوز السيكولوجية تنام منسيّة في الكتب! وكم من القرّاء لا يعيرون الكثير من الانتباه لحياة الوجوه الموصوفة في الكتب!
إنّ كلّ وجه -وبالنتيجة الأقنعة الكمونية المفُسِّرة كلّها- يسجّل الزمن تسجيلاً نوعياً. ويشّدد القناع في الحاضر، على إرادةِ لا انفعاليةٍ. وقد لا نستطيع القيام بسيكولوجيا اللاانفعالية من غير الرجوع إلى مفهوم القناع. إنّ اللاانفعالية هي أوّلاً قيمة للقناع. سنضع من ثمّ، في السيطرة على قسمات وجهنا، إرادات انبساط غريبة وصعبة، إرادات تحليلية، إرادات قد ترغب بالعمل عضلة فعضلة، وأن تقطع السحنة المُحضَّرة بكثير من الترابط. ذاك، ولا شك، ما كان سيكون سهلاً لو كنّا نعمل على قناع مادي، على قناع خشبي أو ترابي أو جلدي أو عاجي. لكننا نرغب الآن في أن يكون لوجهنا حيل القناع مع وجهنا الحيّ. إنّ هذا الوجه الذي هو حقل تعبيرنا الخاص، الذي تنشط قسماته كلّها طبيعياً، تبعاً لتقلبّات شعورنا، نرغب في أن يكون حقل حيلنا الخاص، خلاصة إرادة بأن نُعجِب، بأن نفتن، بأن نُقنع، هذا المقدار من الأشكال التابعة لإرادة القيادة. إنّ الوجود من أجل أنفسنا لا يكفينا. يلزمنا أن نوجد من أجل الآخرين، أن نوجد من خلال الآخرين. لقد تخلّينا عن محور فينومنولوجيا طبيعية كي ننصب محور فينومنولوجيا التظاهر، محور المظهر الخادع.
إنّ هذه الفينومنولوجيا متدرّجة بالضرورة. ونقترب من نوع من ميكرولوجيا قوى القناع التي تعمل في تفصيل السحنات المُستعارة، السحنات التي نوضّعها على سحنتنا الطبيعية. إنّ التجربة الأقلّ تثقفّا تعرّف تماماً تعددّية الوجه نفسه هذه. في الواقع، إنّ وجهاً إنسانياً هو مسبقاً لوح من ألواح رورشاش. نأخذ قناعاً من وجه الآخرين. ونُحكِم على هيئة الواحد القناع المأخوذ عن هيئة الآخر. ونقول عندئذٍ أننّا أدركنا تشابهاً. ونظنّ أننّا علماء بالفِراسة في الوقت ذاته الذي ننسى فيه أن نجوب الدارات الطويلة لفينومنولوجيا مكوِّنة متعلّقة بمسائل الوجه. وغالباً ما تسير المطالبات بالسحنة، بالحدس الفِراسي، متكافئة مع سيكولوجيا مبتورة. إنّ أحد ميزات عمل رولان كوهن الكبيرة هي أنّه يضعنا إزاء أغلبية المسائل، وأنّه يجعلنا نجرّب أغلبية الانطلاقات الفينومنولوجية التي تسعى إلى علم فِراسة.
لو تبعنا دروس علم الفِراسة المُنشَّط هذا الذي يكونه كتاب رولان كوهن، ولو أثبتت لنا الدراسة المدققِّة للبروتوكولات التي فسّرها الطبيب النفساني، تعدّدية وسائل التحليل، لكُنّا انقدنا إلى هذا الاعتقاد بأنّ وجهاً إنسانياً هو فسيفساء تتألّف فيها إرادة استتار وحتمية التعبير الطبيعي. تتعارض فيها نزعتان فينومنولوجيتان، وتتقاربان فيها. ولا يكفّ ديالكتيك الاستتار والصدق عن أن يكون فعّالاً.
في الواقع، لا تستطيع طلبية الاستتار أن تكون كاملة ونهائية. وإذا كانت كاملة فذلك لأنّ القناع قد لا يكون كاملاً، والحالة هذه قطعة واحدة كما أشرنا أعلاه. قد يكون قناعاً فعلياً، قناعاً ساداً للسحنة، والحالة هذه، في النهاية، قناعاً من غير قيمة استتار.
اطردوا الطبيعي، يَعُدْ خبباً. احبسوا سذاجة التعبير، تنبثقْ في نقطة، في سمة غير مراقبة جيداً. يلزمنا مقدار كبير من الطاقة لنتكيّف حميمياً مع قناع ، إذ تضعف هذه الطاقة في مكان ما. عندئذٍ، يتصدّع الوجه المُركّب بخداع أكبر. ويكون الاستتار قد فقد وحدته الجوهرية.
وتضيء إحدى صفحات بلزاك هذه الجدلية كلّها. يخرج بلزاك، في علم أمراض الحياة الاجتماعية، مشهداً لرأس مالي ولمصرفي. يطلب المصرفي سلفة بنصف مليون لمدّة 24 ساعة واعداً بإعادتها بقيمة كذا وكذا. وإليكم حاصل المحادثة كما رواها الرأس مالي: "عندما فصّل لي المصرفي و.... القيم، أبيضّ طرف أنفه، من الجانب الأيسر فقط، في الدائرة الخفيفة التي ترسمها المساحة الموجود فيها. ولقد كانت لي فيما مضى فرصة أن ألاحظ أنّه في كلّ مرّة كان و... يكذب فيها، كانت هذه المساحة تصبح بيضاء. وهكذا عرفت أنّ خمسمائة الألف التي هي لي قد تكون عرضة للخطر خلال بعض الوقت.... ويضيف بلزاك: " لدى كلّ واحد منّا مساحة ما تنتصر النفس فيها، غضروف أذن يحمّر، عصب يرتعش، طريقة مُعبّرة جداً لبسط الأجفان، تجعّد يتجوّف في غير زمنه، ضغط شفاه ناطق، ارتعاش بليغ في الصوت، تنفّس يتضايق. مهما شئتم! "ليس العيب كاملاً".
صفحة مُدهشة تكون فيها مساحة صغيرة بقيت بيضاء وساكنة الدليلَ على طبيعة تقاوم الاستتار الكامل. لهذا السبب، فإنّ فسيفساء الصدق والكذب ينقصها الضبابي: وإذ يتظاهر المصرفي أقلّ، تظاهر على نحو أفضل. لكان احتفظ، على الأقلّ، في وجهه بهذا الغموض الجوهري الذي يوحّد، ديالكتيكياً، علم أمراض الحياة الاجتماعية وعلم أمراض الكائن المتوحّد.
إنّ هذا المثال الوحيد المأخوذ من أحد أكبر المحلّلين النفسيين للنفسية الإنسانية يثبت لنا جيداً ضرورة تحليل إرادة التقنّع، إرادة مراقبة تعابير الوجه. وهنا يتقدّم عمل رولان كوهن كأوّل نظام للتحليلات مزوّد بالوثائق الموضوعية. وينطلق كلّ نظام استتار من نظام جزئي. وتُعلّمنا قصاصة قناع مقتبسة من رورشاش كيف نعيد تشكيل القناع. وتحديداً، ولأنّ الأقنعة تقدّم نفسها هنا في نبذات، لا يعود التحليل تحت سيطرة التركيبات الشاملة بسهولة كبيرة، المُغلَّفة باكراً جداً، التي تُسلّم باكراً جداً، وحدة تشخيص.
في الواقع، إنّ القناع الذي يستخرجه الخيال من لوح رورشاش هو مقطع لحظي في صيرورة استتار. ويستطيع قناع اللحظة هذا، ولا شك، أن يكشف لنا ماضياً، لكن عليه، خاصة، أن يُحدّد لنا ثيولوجيا للاستتار، إغواء مستمرّ بالاستتار، نزوع إلى أن نكون غير ما نحن عليه. وخلاصة، يُحقّق القناع الحقّ الذي نعطيه لأنفسنا في أن ننفصم. إنّه يعطي سبيل كون لِمثلنا، لمِثل كامن لم نعرف كيف نعطيه الحقّ في الوجود لكنّه ظِلّ لكائننا، ظلّ مسقط، ليس وراء كائننا، بل أمامه. إذاً فالقناع هو تكثّف ما كان في إمكانه أن يكون. ويبقى كائن ما كان في إمكانه أن يكون كسديم للكائن في الفلسفة البيرغسونية للمدّة المعيشة.
ويصبح القناع مركز تركيز تجد إمكانات الكائن فيه تلاحماً. وندرك أنّ القناع يوحي بزمنيات خاصة، بزمنيات مُحلّلة بمهارة في عمل رولان كوهن. وطبعاً، القناع هو عقدة إبهامات متنوّعة أكثر من إبهامات التظاهر والصدق المُنشَّطة باستمرار. كان على رولان كوهن أن يلحظ، مثلاً، في بروتوكولاته حول تفسيرات الأقنعة، إبهامات الهلع والضحك، إبهامات التراجيدي والكوميدي، المخيف والهزلي. وإذ نمضي إلى أقطاب هذه الإبهامات بالذات، سنجد جدلية الموت والحياة. يضع الموت قناعاً على الوجه الحيّ. الموت هو القناع المُطلق.
لم نتمكّن، في مقدّمة قصيرة، أن نقيم ثروات عمل رولان كوهن السيكولوجية كلّها. ولقد فضّلنا أن نركّز ملاحظاتنا كلّها على مسألة الاستتار. إضافة لذلك، هناك مسألة صدق الجنون. نستطيع دائماً أن نتساءل عمّا إذا كان الفعل الشعوري الجذري الذي يربط كلّ فينومنولوجيا، يستطيع أن ينكشف تحت "الجنون": وبمقولة أخرى، نستطيع أن نتساءل عما إذا كان المُستَلب يمتلك كائن استلابه. في الحالة القصوى للوجه المُجمَّد، الوجه الذي ما عاد يُخبر، القناع المُستلَب، قد نكون أمام ظاهرة لا شيء. وعلى العكس، هل يلزم أن نرى أيضاً في عمق ظلمات الاستلاب إرادة الكينونة هذه التي ترتبط بالإنسان، بالكائن الذي لا تتركه أبداً حاجة التظاهر؟ ويطرح السؤال شاعرٌ كبير، مُفكّر كبير ذهب إلى عمق دراما الإنسان. يكتب إيد غار باو، في نبذة من مارجيناليا: " فيما يخصّ هاملت، فليُسمح لنا بإضافة ملاحظة صغيرة... كان على شكسبير أن يعرف أننّا نلاحظ لدى عدّة أشخاص ثملين للغاية، أيّاً كان الثمل المقصود، ميلاً يكاد لا يُقاوم، إلى التظاهر بأنّ ضلالهم تام أكثر مما يكابدونه في الواقع. ونُقاد بطريق القياس، إلى الارتياب بأنّ الأمور تجري بالطريقة نفسها في الجنون، الأمر الذي يبدو، من جهة أخرى خارج مجال الشك. وقد أحسّ الشاعر أنّ الأمر كان كذلك، لكنّه لم يعتقد به. كان يحدس الأمر، بفضل قدرته العجيبة على التمييز، المصدر الأسمى لتأثيره على الناس."
في صحفات إيدغار باو هذه، وُضعت في بؤرة الضوء، سمة الجنون الإيجابية، وإيجابية الاستتار والحفاظ، في الاستلاب ذاته، على شعور ما بالازدواج. ليست التعارضات الوجدانية أبداً متجاورة ببساطة. فبين أقطابها ثمّة عكس للقيم يعمل دائماً. إنّ عكس القيم هذا هو الذي يعمل في سيكولوجيا الكائن المُقنَّع. يعمل الكائن المُقنَّع إلى القناع، ثمّة مدّ وجزر، حركتان تدويّان، بالتناوب، في الشعور. وتعطينا فينومنولوجيا القناع خلاصات حول هذا الازدواج لكائن يريد أن يظهر غير ما هو وينتهي به الأمر إلى أن يكتشف نفسه إذ يستتر، من خلال استتاره. إنّ فحوص رولان كوهن هامة حتى أنّ هذه الرغبة بالاستتار تنكشف هنا فعلاً من غير علم الأشخاص المفحوصين. مرّة أخرى تظهر ألواح رورشاش نفسها كأدوات دقيقة وصالحة جداً لأن تعمل على حدود الوعي واللاواعي، في منطقة يكون على حسّ النباهة لدى الطبيب النفساني فيها أن يغلب الدفاعات الماهرة للنفسية المفحوصة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عن كتاب "باشلار" بعنوان "الحق في الحلم"، عنوان الكتاب باللغة الفرنسية ،
( Le Droit de rêver )
( Le Droit de rêver )
(المصدر): مجلة "الموقف الأدبي"،مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - سوريا - العدد 315 تموز "صفر1997".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق