الأحد، 29 مايو 2016

ظلّ ـ خرافة للشاعرالأمريكيّ: إدجار ألن بو(*)

ترجمة: محمد عيد إبراهيم 



                                   معَ ذلك سرتُ في وادي الظلّ. 
                                                   ـ مزمور داود. 


كلّ مَن يقرأ لا يزالُ ضمنَ الأحياءِ؛ لكني الذي يكتبُ سأشتاقُ منذ مضيتُ على طريقي في منطقةِ الظلالِ. ستحدثُ واقعياً أشياءُ غريبةٌ، وستُعرفُ أشياءُ سريّةٌ، وستمرّ قرونٌ عدّةٌ، وسيرى الناسُ في وقتها هذهِ الذكرياتِ. وحينَ تُرى، سيكونُ ثمةَ ما لا يُصدّق، وبعضٌ من الشكّ، وهناك قليلٌ سيجدُ الكثيرَ يفكّر ملياً في السّماتِ المنقوشةِ هنا بقلمٍ مستدقٍّ من حديد. 


كانَ العامُ عامَ فزعٍ؛ وبمشاعرَ أشدّ توتّراً من فزعٍ لا اسمَ له على الأرضِ. حدثَت معجزاتٌ وعلاماتٌ عدّة، بكلّ مكانٍ، عبرَ البحرِ وفوقَ الأرضِ، وقد انبسَط جناحا طاعونٍ أسودَ في كلّ اتّجاه. معَ ذلكَ، كانَ مكرٌ في النجومِ، ولم يُعرف أن السّماواتِ كانت تتلبّسُ هيئةَ مرضٍ؛ بالنسبةِ لي، كان أوينوس(*) اليونانيّ، بين أشياءَ أُخَر، شاهداً على بلوغِ التعاقبِ عام سبعمائة وأربع وتسعين، حينَ انضَمّ كوكبُ المُشتري، بمُدخلِ بُرجِ الحَمَل، إلى حلقةٍ حمراءَ من زُحَلَ المريعِ. ظهرت روحٌ عجيبةٌ في الأعالي، إن لم أُخطئ كثيراً، لا في مدارِ الأرضِ الطبيعيّ فحسبُ، بل في الأرواحِ، الخيالاتِ، وتأمّلاتِ الجنسِ البشريّ. 

عبرَ قواريرِ نبيذِ "شِيانَ" الأحمرِ، بينَ جدرانِ رواقٍ نبيلٍ، في مدينةٍ معتمةٍ تُدعَى بطليموس، جلَسنا، ليلاً، ثلةٌ من سبعةٍ. أما غرفتنا فلم تكن بمدخلٍ محدّد لولا بابٌ مرتفعٌ من نحاسٍ: وكان البابُ على نمطِ الصانعِ الماهرِ كورينوس، بحِرفيّةٍ نادرةٍ، مربوطاً من الداخلِ. ستائرُ سودٌ، أيضاً، في غرفةٍ كئيبةٍ، مُسدَلةٌ لحجبِ رؤيتنا القمرَ، الأنجمَ الوَهّاجةَ، والشوارعَ الخاليةَ من المارّةِ ـ إلا فيما نَدُرَ وذكرياتُ الشرّ المُستَبعدَةُ. ثمةَ أشياءُ من حولنا لكن من دونِ أن ألمحَ أيّ قيمةٍ مميزةٍ ـ أشياءُ ماديةٌ وروحانيةٌ ـ ثقلٌ في الجَوّ ـ حِسٌّ بالاختناقِ ـ التوتّرِ ـ وفوقَ هذا كلّهِ، حالةٌ من وجودٍ مريعٍ تجربةٍ عصبيةٍ بأحاسيسَ بالغةِ الحيويةِ والتنبّهِ، وبهذهِ الأثناءِ، تقعُ قوَى التفكيرِ هامدةً. ثقلٌ ميتٌ فوقنا يتعلّقُ. يتعلّقُ فوقَ أوصالنا ـ فوقَ أثاثِ منازلنا ـ فوق الأقداحِ التي منها نشربُ؛ وكلّ ما أَحبَطنا، وما تولّدَ عنه ـ كافّة الأشياءِ تحتفي فقط بمشاعلِ المصابيحِ السبعةِ التي تُنيرُ احتفالَنا. وهي ترتفعُ في خطوطٍ أسطوانيةٍ طويلةٍ من النورِ، وتظلّ هناكَ تُضيء كلّ ما هو شاحبٌ ساكنٌ؛ وفي المرآةِ حيثُ يتشكّلُ البريقُ فوقَ طاولةٍ مستديرةٍ من الأبنوسِ نجلسُ إليها، كلٌّ منا مجتمعٌ باللقاءِ ممتَقَعُ الملامحِ، بالوَهجِ الساطعِ في عينيهِ المُسبلتَين ضمنَ رفاقهِ. ومعَ أننا نضحكُ وكنا سعداءَ بطريقتنا السديدةِ ـ وكانت هستيريةً؛ نردّد أغنياتِ أناكيرون(*) ـ وهي الجنونُ بعينهِ؛ ونشربُ مستغرقين ـ برغمِ أن النبيذَ القرمزيّ يذكّرنا بالدماء. لكن ثمةَ نزيلٌ آخرُ بغرفتنا في شخصِ زويلس(*) الشاب. كانَ ميتاً، وبطول جسمه رقدَ، مكفّناً؛ المشهدُ عبقريٌّ شيطانيٌّ. حَسرتاهُ! لم يكن يحملُ ذرّةً من جذَلنا، ناهيكَ عن ملامحِنا، فهو مشوّهٌ من الطاعونِ، وعيناهُ، ملؤهما الموتُ بل نصفُ مطفأتَين من نيرانِ الوباءِ، أبدَى اهتمامَه بجذَلنا كما يفعلُ الموتى فرحينَ في جذَلِ بمَن حانَ حينهم. ومعَ أني أحسَستُ، أنا، أوينوس، أن عينَيْ الفقيدِ منصَبّتان عليّ، إلا أني غصَبتُ نفسي ألاّ أدركُ مرارةَ ما فيهما من تعبيرٍ، وظللتُ أحدّقُ أسفلي في أعماقِ المرآةِ الأبنوسِ، أردّد بصوتٍ عالٍ جَهوريٍّ أغنياتِ ابنِ زيوس. لكن أغنياتي سَكَنت تدريجياً، من ثم تدَحرَجت أصداؤها مبتعدةً بينَ جوخِ ستائرِ الغرفةِ، وهَنَت، ولم تعد مميزةً، فتلاشَت. وعَجباً! من بينِ تلكَ الستائرِ السودِ حيث انقَضَت أصواتُ الأغنيةِ، هَلّ أمامي ظِلٌّ داكنٌ هُلاميٌّ ـ ظِلٌّ لكأنهُ القمرُ، وهو خفيضٌ بالسماءِ، لربما كانَ بشكلِ جسمٍ بشريٍّ: لكنّ الظلّ لم يكن لإنسانٍ أو إلهٍ، ولا لأيّ شيءٍ أليفٍ. وقد رجَفَ فترةً بينَ ستائرِ القمرِ، ارتاحَ بطولهِ كلّهِ في منظرٍ تامٍّ على سطحِ البابِ النحاسيّ. لكنهُ ظِلٌّ مبهَمٌ، وعديمُ التشكّلِ، لا يحدّهُ شيءٌ، ولم يكن الظلّ لإنسانٍ أو إلهٍ ـ لا رباً من الإغريقِ، لا رباً من الكِلدانيّين(*)، لا رباً من أربابِ المصريّين. وارتاحَ الظلّ على المدخلِ البرونزيّ، وتحتَ قنطرةٍ من مِدماكِ البابِ، فلم يهُمّ بحركةٍ، ولا نبَسَ بكِلمةٍ، بل ظَلّ جامداً وتلَبّث. وكانَ البابُ حيثُ ارتاحَ الظلُّ، لو تذكّرتُ صحيحاً، فوقَ قدمَيّ زويلس الشابّ مكفّناً. لكننا، السبعةَ المجتَمعينَ هناكَ، رأينا الظِلّ وهو يخرجُ من بينِ الستائرِ، لا نجرؤ على النظرِ إليهِ بثباتٍ، بل نصرفُ أعيننا، محدّقينَ على الدوامِ بأعماقِ المرآةِ الأبنوسِ. وتكلّمتُ، أنا، أوينوس، طويلاً، بضعَ كلماتٍ بصوتٍ خفيضٍ، طالباً من الظِلّ أينَ يقيمُ واسمَهُ. ورَدّ الظِلّ "إني أنا الظِلّ، مُقامي قريبٌ من سِردابِ الموتى(*) في بطليموسَ، وقاسٍ جنبَ وديانِ الجِنانِ المعتمةِ التي تحدّ قناةَ شارون(*)". فانطلَقنا، نحنُ السبعةَ، مِن مقاعدنا في رعبٍ، وانتَصَبنا نرتجفُ، ونرتجّ، مذعورينَ، من نبراتِ صوتِ الظِلّ فلم تكن نبراتٍ لأيّ كائنٍ كانَ، بل لِجَمعٍ من الكائناتِ، تتنوّعُ إيقاعاتُها من مقطعٍ إلى مقطعٍ وهي تسقطُ قاتمةً على آذانِنا بعلاماتِ نطقٍ مألوفةٍ نذكُرها جيداً من بينِ آلافٍ مما نعُدّ من الصِحابِ الراحلينَ. 

                                                                                                                                        (1835) 

ـــــــــــــــــــــــــ

(*) Edgar Allan Poe: ولد في بوسطن بولاية ماساشوسيتس عام 1809. تيتّم في الثالثة، وربّاه أب في ريشموند بولاية فرجينيا. أجبرته ديون القمار على ترك جامعة فرجينيا. التحق بالجيش 1827، ونشر عامها ديوانه الأول "تايمورلين". كان يكسب قوته بنشر القصص والمراجعات، ثم صار محرّر مجلات في نيويورك وفيلادلفيا. يُعزى إلى إليوت مقولة "بو ذو عقل موهوب للغاية حتى قبل بلوغه"، فقد ابتكر أساليب لا تزال ملهمةً. وليس أفضل منه في حكايات الأشباح، ففي قصته "جريمة قتل في شارع مورج" 1841، ابتكر القصة البوليسية كنوع أدبيّ. مارس تأثيراً عميقاً على بودلير ومالارميه، الذي ترجمه، وعلى "الرمزية الفرنسية" عامةً. في "قبر إدجار بو" كتب مالارميه إن تراث بو أنه "منح حساً أنقَى لكلمات القبيلة". بعد وفاة زوجته الشابة بذات الرئة في 1847، صار بو كارهاً عابثاً مدمناً للخمور، ليغصب نفسه على السُلوان. يوم 3 أكتوبر 1849، وجد فاقداً وعيه في بلتيمور، ثم توفي بعد 4 أيام بسكتة دماغية. (م) 
(*) Oinos: نوع من النبيذ اليونانيّ. (م)
(*) Anacreon: شاعر غنائيّ يونانيّ (582/ 485 ق.م). (م)           
(*) Zoilus: ناقد بلاغيّ يونانيّ، اشتُهر بنقده قصائد هوميروس. (م)    
(*) Chaldaea: الكلدانيين، كانوا يسكنون جنوب العراق. (م)           
(*) Catacombs: سرداب للموتى أُقيم أيام الحضارة الرومانية، لترسيم احتفالات دينية. (م)
(*) Charonian: شارون هو العجوز الذي يهدي أرواح الموتى إلى العالم السفليّ، بحسب الأساطير اليونانية. (م)           
       
(*) شكر خاص للشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق