ترجمة: الروائي العراقي حسين عجة
موريس بلانشو |
كلمة واحدة من المترجم، قبل قراءة النص : لقد أثارت مقالة موريس بلانشو عن ثلاثية بيكيت (مولوي، مولون يموت، واللامسمى) في حينها الكثير من ردود الأفعال والنقود غير المتقبلة طواعية لقراءة كهذه. لعل أبرز ما كُتب على عكس نوايا بلانشو نجدها في كتاب المفكر والناقد الفرنسي برونو كليمونت Bruno Clément في كتابه العميق والممتع "عمل بلا صفات" « l’œuvre sans qualités »، وكذلك في كتاب الفيلسوف الفرنسي الآن باديو، الذي يحمل اسم "بيكيت الرغبة التي لا تموت" والذي قمنا بترجمته مع أربع روايات لصموئيل بيكيت، تم نشره عن دار "أدب فن" و"المنتدى الثقافي العربي" في القاهرة. نطرح هنا، في مجلة "الروائي" قراءة بلانشو للتعرف عليها وحسب، ذلك لأنها قد تنطلق، بالرغم من رهافتها وحماستها لعمل بيكيت، من رؤية أو موقف "مسبق" يتعلق بحركة الأدب عموماً، أو تظل أسيرةً، كما يقول برونو كليمونت، للنص نفسه، أي تتحدث عن ما كان النص قد كشفه سلفاً. كذلك لا بد من القول بأن قراءة باديو تبتعد كثيراً عن قراءة بلانشو. فما يرفضه الفيلسوف الفرنسي في قراءة كتلك يتمثل، كما نعتقد، في تركيز بلانشو على مفردات التجربة الوجودية "المعاشة" كالضياع، التيه، العبثية، الشعور بالاقتلاع واللاجدوى، الإنهاك، التفكك والموت، الخ.
لكن، وبالرغم من كل ذلك، يظل ما كتبه بلانشو عن ثلاثية مؤلف في "انتظار غودو" أو "نهاية اللعبة"، ليس جديراً بالقراءة وحسب، بل ويفرض علينا كذلك إعادة قراءة تلك القراءة، لما تتمتع فيه من حدس استثنائي ورؤية متفردة، لا نجدهما في مكان آخر غير المجال الأدبي الجديد والذي كان موريس بلانشو هو أول من فتح آفاقه الواسعة.
(النص)
(النص)
منْ هو الذي يتحدث عبر كتب صموئيل بيكيت؟ منْ هي تلك "الأنا" التي لا تكل والتي تقول دائماً في الظاهر نفس الشيء؟ إلى أين تريد الوصول؟ ما الذي يصبو إليه المؤلف الذي يقول بأنه في مكان ما؟ ما الذي نأمل فيه، نحن الذين نقرأه؟ أو أنه قد دخل في حلقة يدور فيها بغموض، يسحبه الكلام التائه، ليس الفاقد للمعنى، بل للمركز، الذي لا بداية ولا نهاية له، الشره بالرغم من ذلك، الذي لا يريد التوقف أبداً، والذي قد لا نتحمل نحن توقفه، ذلك لأننا سنكون حينها أمام الاكتشاف المرعب التالي : إذا ما توقف سيتواصل، ليس ضمن الصمت، فالصمت يتكلم عبره دائماً.
تجربة دون مخرج، مع أنها تتواصل من كتاب إلى آخر بطريقة أكثر نقاوة، متخلصة من المصادر الضعيفة التي تجعلها تستمر.
ما يصعقنا من البدء هو هذه الحركة. فهنا منْ يكتب لا يكتب من أجل اللذة المشرفة لصنع كتاب جميل، ولا يكتب تحت ذلك الإرغام البديع الذي نسميه ألهام : لكي يقول لنا الأشياء المهمة التي قد يريد قولها، أو لأن تلك هي مهمته، أو لأنه كان يأمل، أثناء الكتابة، التقدم نحو المجهول. من أجل التخلص منها إذاً؟ لأنه يحاول التملص من الحركة التي تجره، والتي توهمه بأنه ما زال هو نفسه المتحكم فيها، وربما كان بمقدوره التوقف عن الكلام، في اللحظة التي يتكلم فيها؟ لكن هل هو الذي يتكلم؟ ما هذا الفراغ الذي يتحول إلى كلام ضمن حميمية مفتوحة تجعل من يتكلم يختفي في كلامه؟ أين وقعَ؟ "أين الآن؟ منْ هو الآن"؟
في منطقة الخطأ
من الواضح أنه يناضل. فهو يناضل سرياً أحياناً وكأنه يقوم بذلك انطلاقاً من سر يخفيه علينا، ويخفيه على نفسه كذلك. أنه لا يناضل دون خديعة، لاسيما تلك الخديعة العميقة القائمة على كشف لعبته. أما إستراتيجيته الأولى فتكمن في وضعه لأقنعة وأشكال ما بينه وبين الكلام. فراوية "مولوي" هي كتاب يحاول فيه ذلك الذي يعبر عن نفسه الحصول على شكل مضمون لقصة، غير سعيدة بالتأكيد، ليس بسبب ما تقوله فقط، البائس تماماً، ولكن لأنها لا تفلح بقوله. فهذا التائه الذي تعوزه بدءً وسائل التيه (لكنه ما زال يحتفظ بساقيه، وعنده دراجة هوائية)، والذي يدور أبدياً من حول هدف غامض، مُغطى، مفضوح، ومغطى ثانية، هدف ذا علاقة ما بأمه المتوفاة، والتي لا تكف عن الموت، شيء ما ينذره إلى الدوران من حول نفسه إلى الأبد، ذلك لأنه قد بلغ ذلك الهدف من اللحظة الأولى التي نفتح فيها الكتاب "أنا في غرفة أمي، أنا من يعيش فيها الآن". أنه يدور مع غرابة ذلك الشيء الذي يتخفى والذي لا يزمع الكشف عن نفسه- فنحن نشعر بأن ذلك المتشرد واقع تحت قبضة خطأ عميق وبأن تلك الحركة المتعطلة تُنجَزُ في منطقة الهوس اللاشخصي « obsession impersonnelle ». لكن مهما كان شذوذ النظرة التي تصلنا منه، يظل "مولوي" شخصية ذات هوية، اسم معروف يحمينا من اضطراب كبير يُهدّدنا. ومع ذلك تنطوي حركة السرد على تفكك مُقلق : أنها تلك الحركة المفرُوضةِ عليه، التي لا تكتفي بجعل المتشرد يفقد الاستقرار في حياته، وينشطر في النهاية على نفسه، أو يصبح واحداً آخر، أو يتحول إلى "مارون" الشرطي، الذي يطارده دون أطالته، ويدخل هو نفسه بسبب تلك المطاردة ضمن طريق الخطأ الذي لا نهاية له. أن يصبح "مولوي" دون علمه "مارون"، فذلك يعني بأنه يغدو واحداً آخر، لكنه يعني أيضاً ولادة شخصية أخرى، وبهذا لا يؤذي التحول عنصر الأمان في القصة، مع انه يدخل عليها مجازاً قد يكون مُخيباً، فنحن نشعر بأنه ليس على مستوى ذلك العمق المتخفي هناك.
يبدو أن رواية "مولون يموت" تذهب أبعد من ذلك. هنا يصبح المتشرد شخصاً ينازع الموت، فالمكان الذي لا بد له منه حتى يواصل تسكعه لم يعد ذلك المكان الذي توفره المدينة، بشوارعها المئوية، وأفق الغابة والبحر الذي كانت رواية "مولوي" قد قدمتهما لنا. إذ لم يعد ثمة من شيء آخر سوى الغرفة، السرير، وكذلك العصا التي يسحب بواسطتها الشخص الذي يجد نفسه على طريق الموت الأشياء ويبعدها عنه، وبهذا يضاعف سكونه؛ لكن هناك بشكل خاص القلم الذي يعينه أكثر من أي شيء آخر، ويجعل من مكانه مكاناً لا نهائياً للكلمات والقصص. أن "مولون" هو مثل "مولوي" اسم وشخصية، لكنه أيضاً متابعة حكايات، بيد أن هذه الحكايات لم تعد ترتكز على نفسها؛ فهي بدلاً من أن تكون مروية لكي يصدقها القارىء، تفضح نفسها كونها خديعة لقصص مُبتدعةً : "هذه المرة، أعرف أين سأذهب... أنها لعبة الآن، سألعب... أعتقد بأني سأكون قادراً على سرد أربع قصص لنفسي، كل واحدة منها عن موضوع مختلف". لمَ هذه القصص العبثية؟ لملأ الفراغ الذي يشعر "مولون" بأنه قد وقع فيه؛ بحكم القلق من هذا الزمان الفارغ الذي سيغدو زمن الموت اللانهائي؛ ولكي لا يدع هذا الزمن الفارغ يتكلم، ليس ثمة من وسيلة أخرى لإسكاته، سوى إجباره على أن يقول شيئاً مهما كلف الثمن، أن يقول قصةً. وهكذا لا يكون الكتاب سوى واسطة للغش المكشوف. من هنا ذلك التنازل الصارخ الذي يفقده توازنه، وكذلك تصادم الحيل الذي تَضَيعُ فيه التجربة، فالقصص تبقى قصصاً؛ أما بريقها وحنكتها التهكمية، وكل ما يمنحها شكلاً وإثارة يفصلها أيضاً عن "مولون"، في لحظة موته، يفصلها عن زمن موته ليعيد ربطه بزمن السرد الذي ما عدنا نصدقه والذي لا يعنينا هنا، فنحن ننتظر شيئاً أكثر أهمية منه.
اللامُسَمى
صحيح أن القصص في كتاب "اللامسمى" تحاول التماسك. فالشخص الذي ينازع الموت كانت لديه غرفة وسرير؛ أما "ماهود"، فهو ليس أكثر من نفاية موضوعة في جرة مغلقة لتزيين مدخل مطعم. هناك أيضاً "فورم"، الشخص الذي لم يلد وليس له من الوجود غير عجزه عن الولادة؛ وفي ذات الوقت تمر أمامنا الشخوص السابقة، كأشباح بلا مادة، صور فارغة تدور ميكانيكياً من حول مركز فارغ تشغله "الأنا" المحرومة من الاسم. لكن في الوقت الحاضر كل شيء قد تغييّرَ والتجربة ذاتها دخلت في عمقها الحقيقي. ذلك لأن الأمر لم يعد عالقاً بشخوص تعيش تحت حماية يضمنها لها تمتعها باسم شخصي، كذلك لم تعد القضية تتصل بالسرد، وإن كان يجري ضمن الزمن الحالي للحوار الداخلي الذي لا شكل له. فما كان بمثابة سرد قد أصبح نضالاً، وما كان يتمتع بشكل، وإن على صورة مزق وقطع، صار الآن دون شكل. منْ الذي يتكلم هنا؟ من هي هذه الأنا المرغمة على الكلام بلا راحة، أنها ذلك الذي يقول "أنا مرغم على الكلام. ليس بمستطاعي السكوت أبداً. أبداً"؟ أما نحن فنرد، بحكم يقين واثق من نفسه : أنه صموئيل بيكيت. من هنا، يبدو أننا نكتشف ما هو ثقيل في موقف معطى، وليس مبتدعاً، يذكرنا بالعذاب الحقيقي لوجود واقعي. فمفردة تجربة تسعى للإيحاء بالمعاناة الحقيقية. لكننا نحاول ثانية، عبر هذه الوسيلة أيضاً، العثور على الأمان الذي يوفره الاسم، ومن ثم وضع "محتوى" الكتاب على المستوى الشخصي، الذي يغدو فيه كل ما يحدث وكأنه يحدث تحت ضمانة وعي ما، وفي عالم يحمينا من أسوء حالات التعاسة، أي العالم الذي فقدنا فيه قدرتنا على قول أنا. غير أن رواية "اللامسمى" هي بالدقة تجربة مُعاشة تحت تهديد اللاشخصي ذاك، مقاربة لكلام محايد يتكلم مع نفسه، ويعبر من فوق سامعه، الشخص المحروم من أية حميمية، المقصى عنها تماماً، والذي لا قدرة له على إسكات الكلام، فهذا الكلام هو المتواصل « l’incessant » ، اللامنتهي « l’interminable ».
منْ الذي يتكلم هنا إذا؟ هل هو "المؤلف"؟ لكن ما الذي يشير عليه هذا الاسم، إذا كان ذلك الذي يكتب لم يعد بيكيت نفسه، لكن الإرغام الذي سحبه خارج ذاته، والذي حرمه ونزعه عنها « l’a dépossédé et dessaisi »، ومن ثم سلمه إلى الخارج، جاعلاً منه كائناً بلا اسم، اللامسمى؛ كائن بلا كينونة غير قادر لا على العيش ولا على الموت، لا على التوقف ولا على الانطلاق، المكان الفارغ الذي تتكلم فيه بطالة كلام فارغ « le lieu vide où parle le désoeuvrement d’un parole vide » والذي تستره بطريقة وأخرى أنا مسامية وتنازع الموت.
التحول هذا هو منْ يعلن عن نفسه هنا. فضمن صميميته يتيه اللامسمى، عبر تسكع لا يتزحزح يجعله يناضل، بدافع البقاء الذي لا يعني قوة ما، بل شؤم ذلك الذي لا يتمكن من التوقف، بقاء ناطق، بقية ملتبسة لا تريد الاستسلام.
ربما ينبغي علينا الإعجاب بكتاب محروماً من أي مصدر، لكنه يقبل الانطلاق نحو تلك النقطة التي تصبح فيها أية مواصلة مستحيلة، ومن ثم يثبت فيها، بلا غش، دون خديعة ويجعلنا نسمع عبر ثلاثة مائة صفحة نفس الحركة المتوقفة، مراوحة ذلك الذي يرفض دائماً أن يتقدم. بيد أن هذا ما هو إلا وجهة نظر ذلك القارىء الغريب، الذي يتأمل بهدوء ما يحسبه مفروضاً بالقوة. ليس هناك ما يثير الإعجاب في امتحان لا يمكن للمرء الإفلات منه، لا شيء يدعو للإعجاب بواقعة كائن محبوس، يدور في الفراغ ضمن مجال لا يمكن للمرء الخروج منه، وإن كان ذلك بفضل الموت، فلكي يقع المرء في الموت، كان عليه أن يسقط أولاً خارج الحياة. ليس للمشاعر الجمالية من مكان هنا. ربما لا نجد أنفسنا أمام كتاب، لكن قد يكون الأمر يتعلق بما هو أكثر من مجرد كتاب : الاقتراب من الحركة المحضة التي تتولد فيها جميع الكتب، تلك النقطة التي يضيع فيها لا محالة العمل، التي تهدم العمل، وتقيم فيه ثانية تلك البطالة اللانهائية، والتي ينبغي على العمل الإبقاء على علاقته الأولية معها ، وإلا لن يكون هناك سوى اللاشيء. لقد حُكمَ على اللامسمى باستنفاذ اللانهائي : "ليس لدي ما أعمله، أي لا شيء على وجه الخصوص. عليَّ أن تكلم، وهذا غامض. يحب أن أتكلم، لا شيء عندي أقوله، سوى كلام الآخرين. لا أعرف كيف أتكلم، ولا رغبة عندي في الكلام، لكن لا بد وأن أتكلم. لا أحد يرغمني على ذلك، ليس هناك من أحد، كان ذلك مناسبة، واقعة. لا شيء يجعلني استعيض عنه، ليس هناك من شيء، لا شيء يمكن اكتشافه، لا شيء يُنقص ما تبقى من القول، عليَّ شرب البحر، ثمة من بحر إذاً".
جنيه
كيف حدث ذلك؟ لقد بينَ سارتر كيف أن الأدب، بتعبيره عن "الشر" العميق الذي كان جنيه مرغماً على معايشته، قد منح هذا الأخير شيئاً فشيئاً السيطرة والقوة، ومن ثم جعله ينهض من السلبية التي كان فيها إلى مصاف الفعل، ومن غياب الشكل إلى الشكل وحتى من الشعر المُلتبس إلى نثر باذخ وذو عزيمة. " تشكل رواية نوتردام الزهور Notre-Dame des fleurs، ومن دون علم المؤلف، يوميات تحرر من التسمم، وهي بمثابة تحول : لقد تحرر جنيه بفضلها من تسممه بنفسه ومن ثم الالتفات نحو الآخرين؛ يمثل هذا الكتاب عمليه التحرر من التسمم ذاتها : لقد ولد وسط كابوس، نتاج عضوي، تكثيف للأحلام، ملحمة استمناء، لكنه يجري عمليته الجراحية سطراً بعد سطر، من الموت إلى الحياة، من الحلم إلى اليقظة، من الجنون إلى العافية، ممر شاخصة فيه حالات السقوط...". "وبنقله للعدوى إلينا، يتحرر هو منها، كل واحد من كتبه هو بمثابة أزمة تملك مطهرة، تمثيل نفساني « psychodrame » : ظاهرياً يبدو كل واحد من كتبه وكأنه لا يقوم بأي شيء سوى إعادة إنتاج ما سبقه، لكن، بفضلها، يصبح ذلك المهووس تدريجياً سيداً للشيطان الذي يتملكه...".
نجد هنا ما يمكننا تسميته بالتجربة الكلاسيكية، تلك التي يستعير فيها التأويل التقليدي كلمة غوته الشهيرة : "الشعر هو الخلاص". "فأناشيد ملادرور" « Les Chants de Maldoror » تقدم شهادة عليها، ما دمنا نرى فيها، بفضل قوة التحولات، انفعال الصور، العودة الدائمة لذات المواضيع المهووسة، كيف أن كائناً جديداً ينبثق، شيئاً فشيئاً من عمق الليل وبفضل الليل حتى، ومن ثم يهفو لكي يعثر ثانية على نور شكله في الواقع : هكذا ولد لوتريامون Lautréamont. لكن سيكون من التسرع الاعتقاد بأن الأدب، حينما يبدو وكأنه يقودنا نحو النور، يوصلنا إلى تلك المتعة الرضية للوضوح العقلاني. فالحماس للوضوح العام، الذي يصل عند لوتريامون حد الإثارة المُقلقةِ للتفاهة، والاندفاع نحو اللغة المشتركة التي تقضي على نفسها بتحولها لإثبات تهكمي ومحاكاة، دفعته هو أيضاً نحو فقدان نفسه ضمن ذلك الوضوح اللامحدود الذي يتوارى فيه. كذلك هو الأمر بالنسبة لجنيه، فسارتر قد رأى بدقة بأنه إذا كان الأدب يفتح للمرء مخرجاً ويُسهل عليه بلوغ السيطرة على عمله، حين يكون كل شيء قد تم بنجاح، فأنه سيكتشف بغتة غياب ذلك المخرج الخاص به أو يكتشف الفشل المطلق لهذا النجاح الذي سينحل ضمن مهنة أكاديمية لا معنى لها. "في زمن "نوتردام"، كان الشعر هو المخرج، أما اليوم : بعد أن أستيقظ، وصار عقلانياً وبلا قلق حيال غده، دون رعب، حينئذ لمَ سيكتب إذاً؟ لمَ يتوجب عليه أن يكون أديباً؟ ذلك ما لا يرغب فيه بالدقة... فالبعض يتخيل بأن المؤلف الذي كان عمله قد تولدَ عن حاجة عميقة، وأسلوبه الذي تمّ نحته كسلاح لغاية محددة تماماً، والذي تختصر كل صورة، كل فكرة فيه حياة برمتها، لن يتمكن من الحديث فجأة عن شيء آخر... فالرابح هو الخاسر : بربحه للقب كاتب، يخسر في آن معاً الحاجة، الرغبة، المناسبة ووسائل الكتابة".
يبقى أن هناك بالفعل طريقة كلاسيكية لوصف التجربة الأدبية، حيث تتم رؤية الكاتب وقد تخلص بفرح من الجانب المظلم في نفسه عبر عمل سيغدو، وكأن ذلك يجري بحكم معجزة، السعادة والوضوح الخاصين بالعمل، الذي سيعثر فيه الكاتب على ملجأه، وحتى أكثر من ذلك على تفتح أناه المعزولة وتواصله الحر مع الآخرين. هذا ما أكد عليه فرويد، بتشديده على فضائل السمو، ومحافظته على ثقته البالغة التأثير بقوى الوعي والتعبير. لكن الأشياء ليست دائماً بمثل هذه البساطة، بل وينبغي القول بأن هناك مستوى من التجربة نرى فيه عذاب ميشيل أونج يتضاعف دائماً وغويا يصبح أكثر وسوسةً، ونرفال الفرح والشفاف ينتهي بالخبال، وهولدرلن يميت نفسه، ويستحوذ عليها بإدراك، لكي يدخل ضمن تلك الحركة الفائقة القوة للتحول الشعري.
مقاربة من كلام محايد
كيف حدث ذلك؟ لا يمكننا هنا سوى الإيحاء بحقلين من التفكير : أولهما، لا يشكل العمل أبداً بالنسبة لذلك الفرد الذي يكتب حصناً يقيم فيه، داخل أناه الراضية والمحمية، بعيداً عن صعوبات الحياة. فهو قد يظن فعلاً بأنه محمياً من العالم، بيد أن هذا ما يجعله عرضةً لتهديد أكبر بكثير من ذلك، فهذا التهديد يصيبه في نقطة ضعفه : التهديد الذي يأتيه من الخارج « du dehors »، ومن حقيقة وجوده في الخارج. حيال تهديد كهذا، لا ينبغي عليه أبداء مقاومة، بل على العكس من ذلك تسليم ذاته له. فالعمل هو الذي يفرضه، إذ لا بد على الكاتب من التضحية بنفسه من أجل العمل، أن يصبح واحداً آخر، ليس ذلك الواحد الحي الذي كان عليه، الكاتب مع واجباته، قناعاته ومصالحه، بل بالأحرى أن يكون لا أحد « personne »، أي المكان الفارغ والنشط الذي يدوي فيه نداء العمل.
لكن لم يتطلب العمل تحولاً كهذا؟ يمكننا الإجابة : لأنه ليس بإمكانه العثور على نقطة انطلاقه فيما هو مألوف وبأنه يبحث عن شيء لم يتم التفكير فيه أبداً، شيء لم يُسمع ولم يُرى من قبل؛ بيد أن إجابة كهذه تترك جانبياً ما هو جوهري. كذلك بمقدورنا الإجابة بالطريقة التالية : ذلك لأن العمل يحرم الكاتب، ذلك الإنسان الحي، الذي يعيش وسط جماعة ويضع يده على ما هو نافع، وحيث يرتكز على تماسك الأشياء القائمة والأشياء التي ينبغي القيام بها، ويشارك، إن كان ذلك برضاه أو عدمه، في حقيقة مشروع عام؛ لأنه يحرم هذا الحي من العالم ويمنحه بدلاً عنه مجالاً مُتخيلاً؛ وذلك ما يشكل، في الحقيقة، جزءً من عسر الفرد الذي يسقط خارج العالم، ويظل، بحكم هذا الشرخ، معلقاً ما بين الوجود والعدم، إذ سيكون من الآن فصاعداً عاجزاً عن الموت، كما هو عاجز عن الولادة أيضاً، تخترقه الأشباح، مخلوقاته، التي لا يؤمن بها والتي لا تقول له أي شيء، تلك المخلوقات التي تذكرنا بها رواية "اللامسمى". وبالرغم من ذلك، ليست هذه هي الإجابة الحقيقية. قد نعثر على تلك الإجابة بالأحرى ضمن الحركة التي تقوده، بالقدر الذي يبحث فيه العمل ويكتمل، نحو تلك النقطة التي يخضع فيها لامتحان الاستحالة. فهنا، الكلام لا يتكلم، لا شيء ينطلق منه، ولا شيء يُقال فيه، لكن عليه دائماً أن يعاود الانطلاق.
أن مقاربة الأصل هذه هي ما يجعل دائماً تجربة العمل تهديداً، تهديد لذلك الذي يحمله، وتهديد للعمل نفسه. غير أن هذه المقاربة ذاتها هي وحدها التي تشكل الفن كبحث جوهري، فلأن "اللامسمى" قد جعل العمل حساساً بالطريقة الأكثر وعورة، لذا فهو يمنح الأدب أهمية أكبر بكثير مما تمنحه إياه تلك الأعمال "الناجحة". لنحاول الإصغاء "هذا الصوت الذي يتكلم، والذي يعرف أنه كاذب، غير مكترث لما يقول، شديد الشيخوخة ربما ومهان تماماً، لكي يكون بمقدوره في النهاية قول الكلمات التي تجعله يتوقف". ولنجرب النزول في تلك المنطقة المحايدة التي يندفع فيها ذلك الفرد الذي تم تسليمه من الآن فصاعداً إلى الكلمات، والذي وقعَ، لكي يكتب، في غياب الزمن « tombé dans l’absence de temps »، في مكان ينبغي عليه الموت فيه بموت لا نهاية له « d’une mort sans fin » : "الكلمات في كل مكان، في داخلي، في خارجي، هكذا إذاً، قبل قليل لم تكن لدي كثافة، ها أنا أسمعها، ليس هناك من حاجة لسماعها، لا حاجة للرأس، يستحيل إيقافها، أنا في كلمات، أنا صنيعة الكلمات، كلمات الآخرين، أي آخرين، المكان أيضاً، والهواء كذلك، الجدران، الأرض، السقف، كلمات، هنا الكون برمته، ينحرف، ينحسر، قناني، أنا كل هذه القناني، تتقاطع، تتحد، تنفصل، حيثما أذهب أعثر على نفسي، أمنح نفسي، أذهب نحوي، أقْدَمُ مني، لا شيء أبداً غيري، سوى جزء مني، يتم تناوله ثانية، يضيع، يُفقَدُ، كلمات، أنا كل تلك الكلمات، كل هؤلاء الغرباء، غبار الفعل هذا « cette poussière de verbe »، دون عمق يضع فيه المرء قدمه، بلا سماء يتلاشى فيها، يلتقي بنفسه لكي يقول، يهرب من نفسه حتى يقول، بأني جميعها، تلك التي تتحد، تلك التي يهجر بعضها الآخر، التي تجهل نفسها، وليس شيء آخر، بلى، شيء آخر مختلف تماماً، أنا شيء مختلف تماماً، شيء أخرس، في مكان قاس، فارغ، مُقفل، ناشف، حادٌ، مُظلمٌ، حيث لا شيء يتحرك، لا شيء يتكلم، وأنا أصغي، أسمع، وأبحث، كبهيمة ولدت في قفص بهائم ولدت في قفص عن بهائم ولدت في قفص عن بهائم ولدت في قفص...".
ــــــــــــــــــــــــــ
حسين عجة
روائي ومترجم عراقي مقيم في فرنسا
hussainagah@yahoo
(المصدر): مجلة الروائي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق