الاثنين، 23 مايو 2016

الآن باديو.. فيلسوف في العصر

حوار مع مجلة "ماغازين ليترير" (المجلة الأدبية)  

ترجمة: الروائي العراقي حسين عجة


إذا كانت مهمة الفلسفة هي "تعزيز الشجاعة عند كل فرد"، يمكننا القول، إذاًً، بأن فكر
الآن باديو
الفيلسوف الفرنسي الآن باديو (Alain Badiou) يشكل إحدى العلامات الكبرى التي لم تكفّ عن إثارة الاهتمام واستقطاب المزيد من المداخلات والنقاش من حول تحاليله ومواقفه على صعيدي الفكر والعالم معاً . فمن تعاظم الحماس لعمله في الولايات المتحدة الأمريكية وتزاحم الجمهور على محاضراته في باريس، مروراً بالفلاسفة الشباب الذين يعثرون في عمله على قوة تجعلهم يرغبون في مواصلة ذلك المراس الفكري الذي ارتبط باسم أفلاطون، يفرض فكر هذا الفيلسوف، الذي تم الكشف عن خصوصيته عبر "الكينونة والواقعة" (L'Être et l'Événement
)، نفسه يوماً بعد آخر باعتباره عملاً فلسفياًً عظيماً في العصر الذي نعيش فيه ً. فعبر أسلوبه المتسم بجديته، صرامته، وتشخيصاته القاطعة، إلى جانب الوضوح الذي يضعه في خدمة خلق مسلّمات جديدة، بمقدورها جعل الإغواء الفلسفي قوةً للفكر، قوة غير شخصية تدعو كل فرد لعطاء ما يقدر عليه.

في كتابه العصر (Le Siècle) يحاول باديو رسم خصوصيات القرن العشرين، مستخدماً طرقا يستعيرها من الشعر، السياسة، والمسرح لكي يخلق منها، كما يقول بودلير "منارات" – لعصر قادم –

- ماغازين ليترير (المجلة الأدبية) : لقد أصدرتَ عام 1988، كتاباً ضخماً وصارماً هو "الكينونة والواقعة"، منهج فلسفي حقيقي ما عاد المرء يعثر على مثيل له. ما هي العلاقة بين هذا العمل الذي ينتمي إلى اللحظات الكبرى للفلسفة الجذرية وكتابك الجديد عن القرن العشرين؟

- الآن باديو : هناك على الأقل علاقتان. الأولى تكمن في تمسكي بالقول، من داخل ذلك المشروع المنهجي الذي هو مشروعي بالفعل، بأن الفحص الذي تقوم به فلسفة ما للعصر الذي توجد فيه يشكل جزءً من الفلسفة ذاتها. فالفلسفة تأتي فيما بعد، وأنا هنا على اتفاق مع هيغل، بعد أشياء أخرى غيرها، كالحبّ، الفن، العلم، السياسة، والتي هي إبداعات من المستوى الأول، فيما تَقدَمُ الفلسفة في لحظة ثانية، بيد أن هذا لا يعني أنها ثانوية. فهي تُجَمْعُ عبر هذا التأخير قولاً يتعلق بالعصر، يتلازم مع التباس يجعلها تدعي أن ذلك القول هو قول أبديّ يتعلق بالزمن، أي لا يمكن اختزاله برمته إلى مستوى العصر. أن سؤال "ما هو القرن العشرين"؟ سؤال يتولد من داخل الفلسفة ذاتها، كما كان الأمر بالنسبة لأفلاطون، الذي طرح سؤال "ما هي المدينة الإغريقية؟" أو سؤال كانط "ما هو عصر الأنوا؟ر" تلك هي العلاقة الأولى، علاقة تقليدية تتطابق مع فكرتي عن الفلسفة. بعد ذلك، هناك علاقة أخرى، سجالية. وهي تشكل بدورها بعداً طبيعياً للفلسفة، أي وظيفتها في إزالة العوائق : الجانب النزاعي المستمر الذي أشار إليه كانط سلفاً... هنا، نجد أنفسنا ضمن لحظة خاصة تماماً. من ناحية أخرى، ينطوي كتابي "العصر" (Le Siècle)، على مجموعة من المحاضرات التي ألقيتها في "المدرسة الثانوية العالمية للفلسفة" (Collège international de philosophie) عن المقاربات المتعلقة بالقرن العشرين. كانت غايتي هي الرد على سلسلة من الوجوه السائدة للعصر التي حدثت بالفعل على صعيد الواقع، أي تلك المقاربات التي تعاملت مع القرن العشرين باعتباره قرناً للمجازر، القضاء على الأجناس، حروب عالمية دموية، ومشاريع مُجهضةِ، بيد أن تلك الوجوه قد رُكبت ضمن فكرة أعتقد أنها فكرة مزيفة، لأنها تدّعي أن القرن العشرين لم يكن سوى مثاليات إجرامية، عصر مُتخيل ذهبَ باندفاعه إلى ما هو أبعد من مبدأ الواقع، وما كان بمقدوره الوصول إلى نهايته دون إنتاج أشكال مختلفة من التدمير. أنا لا أقول إن هذه الأحداث كانت غائبة عن العصر، لكن ذاتية ممثليها (la subjectivité de ses acteurs) الذين التقيت بهم، عاشرتهم، وعرفتهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عبر الأدب، ضمن النصوص السياسية، ومحاوراتي مع المناضلين، وحتى داخل عائلتي التي ساهم أفرادها في المقاومة والتحرير، كان دافعها الأساسي هو قبول ما يفرضه الحاضر كضرورة. أما أن تُثقل تلك الضرورة في ما بعد بالتصورات المتعلقة بالمستقبل، فهذا قانون عامّ. وذلك ما يشبه بالدقة ما يقوله المرء لنفسه، في بداية علاقته الغرامية، "سأحب إلى الأبد" وذلك لأسباب متنوعة. غير أن قولاً كهذا لا يشكل قوة اللقاء الغرامي، لكنه يعززه وحسب.

Le concept de modèle


- تقول إن ما كان يميز القرن العشرين هو "حماسه للواقع". لكن ألا يمكن لهذا الحماس أن يوصل الفلاسفة إلى حد التخلي عن الفلسفة؟ ألم يراودك، أنت بالذات، إغراء كهذا. لقد كتبت عام 1969 كتابك المعنون "مفهوم النموذج" « concept du modèle ». وفي عام 1982 فقط، نشرت كتابك "نظرية الذات" « Théorie du sujet » . ثلاثة عشر عاما لم تكتب فيها كتاباً فلسفياً واحداً...

- نعم، كان ذلك أحد الإغراءات الكبرى للقرن العشرين. هنا أيضاً، يجري الحديث عن إغواء يماثل إغواء التضحية : كان يمكن لعلاقة المثقفين بالحزب الشيوعي الفرنسي، بالثورة، بالطبقة العاملة أن تحتل المكانة الأولى وذلك بسبب نوع من المازوخية « masochisme » جعلت أولئك المثقفين يتخلون عن العقل النقدي والفطنة، وعن كل شيء، باسم القضية. لكن الإغواء الأكثر جذرية كان يتمثل في التعامل مع الفلسفة باعتبارها شيئاً ثانوياً، وبالتالي إلحاقها شرعياً بالالتزام السياسي. فهذا الالتزام، عندما يكون حقيقياً، يتطور عبر ميدان مُحايث، له قواعده الخاصة. ذلك لأنه يقع ضمن ضرورة الحاضر وتنظيم المهمات، كما أنه يتطلب أسلوباً خاصاً باتخاذ القرار، وخوض الصراع تحت مؤثر أميزه عن باقي المؤثرات التي يمكن أن تمس الفلسفة، أي مؤثر الحماس والاندفاع. فهذا الحماس يفترس كل شيء في الحقيقة، ويمكنه الظهور وكأنه أفضل من كتابة كتب فلسفية، ذلك لأن كتبا كهذه لا تمثل نزعة محاطةً ببريق خاص. وذلك ما قمت به خاصةً على صعيد السياسة – ما عدا نص "الوشاح الأحمر" (L’Echarpe rouge)، والذي كان نصاً غنائياً مسرحياً على طريقة كلوديل، أي ما لم تمله عليَّ أيديولوجية المرحلة- أنا لست نادماً أبداً على ذلك، بالرغم من أن شيئاً كهذا قد أخّر اتصالي بالفلسفة.

- لقد قمت بذلك الاتصال في كتابك "نظرية الذات"، القائم من حول أطروحة ترتبط تماماً بالنتيجة التي تحدثنا عنها قبل قليل. أما في "الكينونة والواقعة"، فأنت تقول بأنك كنت تبحث عن انطولوجيا تتوافق مع الطريقة التي تحولت بها مقولة الذات بفضل الممارسات الماركسية والتحليل النفسي. لماذا تكتسب إعادة التحديد هذه مثل تلك الأهمية، لمَ كانت بحاجة إلى انطولوجيا، ولماذا قلت في "الكينونة والواقعة" بأنك سلكت "طريقاً خاطئاً" في كتابك "نظرية الذات"؟

- ينطوي كتاب "نظرية الذات" على نوع من النضارة الخاصة، المُتشابكة مع شيء لم تتضح كل ملامحه بعد. لقد كانت الفلسفة حاضرة في ذلك الكتاب، لكنها كانت ممتزجة بشيء آخر سواها. لقد شرعتُ، في عامي 1975-1976، بكتابة نوع من اليوميات عن تلك الحقبة السياسية. كذلك فإن "نظرية الذات" هو مجموعة من المحاضرات. ولأن الأمر كان يتعلق باليوميات، لذا فقد كانت في منتصف طريق ما بين شيء قريب تماماً من تلك التجربة، وشيء آخر يفتح دروس تلك التجربة على ما هو أكثر عمومية أو تفرداً. لهذا كان ينبغي عليَّ وضعُ نظام أكثر اتساعا يمكنني من داخله أن أوضحَ لنفسي الطبيعة الاستثنائية للذات التي كانت تقوم بتلك الممارسات. فما كنت أهتم به بعمق، ما يشكل حماسي، هو الاستثنائي، أي ما يتمتع بمكانة واضحة في تفرده القوي. من زاوية النظر هذه، أقف على النقيض من التيار الفلسفي السائد حالياً، أي القائم على المصلحة المكشوفة والتي لا يمكن نكران أهميتها بالنسبة لما هو عادي: فلسفة للغة المتداولة، لما هو يومي، أو التأملات الميكروسكوبية للحياة. كل ذلك لا يشكل موضوع اهتمامي. وربما احتفظ بهذا البعد القادم من أفق بطولي. أن تلك الاستثنائية ذاتية (cette exceptionnalité est subjective). إذ لا يمكن للمرء تفسيرها بقوله : "نعم، أنها استثنائية لأنها لا تشبه أي شيء آخر"، أي عن طريق المقارنة، والاختلاف. فهي غير متميزة تماماً إذا ما تم النظر إليها من داخلها. غير أني لا أرغب في اختزال نظام الاستثناءات هذا إلى مصاف السياسة وحدها. لقد حدث وكانت هي المهيمنة في عام 1968 لسبب معروف. لقد كان ذلك وما زال دائماً بالنسبة لي متأتياً من انبهاري بالرياضيات، والذي يتناقض مع أي زهد. فأنا سبينوزي عند هذه النقطة : يتمتع الجمال الذهني بشكله الخالص. لقد جربت ذلك منذ حداثتي، ولم أستطع التخلي عنه، لأني كنت سارترياً.

- بالفعل، فأنت تنهي كتابك في الحديث عن التباعد ما بين "الإنسانية الجذرية" لسارتر و"الإنسانية ـ المضادّة الجذرية" لفوكو (l’antihumanisme radicale de Foucault) . لقد كنتَ موزعاً ما بين الصراع الذي كان شاخصاً وسط أعوام الستينات تحت تسمية "الوجودية" (existentialisme) من جهة، و"البنيوية" (structuralisme) من جهة أخرى، أليس كذلك؟

- بالضبط. أنها تاريخانيتي (mon historicité)، لحظتي الفلسفية الشخصية : الوجود والفكرة، وكذلك الإنسانية والإنسانية المضادّة بطبيعة الحال، أي جميع تلك التوترات التي مررتُ بها في أعوام الستينات، والمُنبثقة عن انبهاري السارتري. يُقال لي أحياناً بأني أسعى للإمساك معاً بهذين الطرفين المتعارضين تماماً. وبأني ما زلت احتفظ، عبر مقولة الذات، بالحد الأدنى من البطولة الوجودية، المُصاغة ضمن طغيان الأشكال. أعتقد أن هذا صحيح، كما هو صحيح القول بأني ما زلت أحتفظ بما يشكّل عندي أهم شيء في البنيوية، أعني "لاكان" Lacan. إذ بالرغم من رؤيته التشاؤمية وحتى الضيقة للذات، أشعر أن لديه شيئاً لا يقبل الانحلال ضمن النتائج النهائية للتقعيد المحض، وذلك عبر المثل التي كان يطرحها، كقوله "لا تتنازل عن رغبتك"، وكذلك بسبب من علاقته الدائمة بالبعد الأدبي. لا تمثل الذات عند"لاكان"، بطبيعة الحال، سوى نتيجة، بيد أن ذلك لا يختلف كثيراً عما هو عند سارتر. لنأخذ مثلاً كتابه عن "فلوبير". كل حادث في حياة هذا الأخير كان سارتر يسنده إلى وظيفة بناء ذات يطلق عليها اسم "فلوبير". ذلك لأن الذات، في العمق، هي دائماً نقطة غير قابلة للتقرير (indécidabilité) ما بين الإيجابية والسلبية. إذ يمكن للمرء الدخول من هذا الجانب أو ذاك، كذلك يمكن اتهام أحدهم بمغالاته بما هو سلبي، أي بما هو قائم (constitué)، فيما يُتهم الآخر بقبوله بما يُقَوْم (constituant)، لكن إذا كان ثمة من منطق للإبقاء على هذه المقولة، فذلك بسبب نقطة اللاتقرير تلك.

- بعد "الواقعة والكينونة"، كتبتَ أشياء كثيرة للمسرح. هل تُغير هذه الفاعلية المكرسة في الزمن المتبقي للفلسفة الشيء الكثير؟

- هذا سؤال ضخم. لقد قمت بتعقيد الأشياء نوعاً ما، كما حدث ذلك في سلسلة المسرحيات التي تحمل اسم "أحمد الفيلسوف" التي تم لعبها أكثر من غيرها، ما دامت هي سلسلة حول الفلسفة. لكن بمقدور المرء دائماً طرح سؤال إذا ما كان الشيء الجديد الخالص، غير المعروف تقريباً في العمل المسرحي قد أضرّ، بطريقة مؤذية، لا الفلسفة، ولكن على الأقل ميلها إلى أن تكون في الزمن المتبقي. أنا لا أكتب، في مطلق الأحوال، ضمن هذه النية. بالمناسبة، لقد بدأتُ سيرتي بالأدب، وإذا ما عدت إليه، فذلك لأني اعتبره عنصراً جديداً أو أصيلاً كالعنصر الآخر. إن قدرة المرء على الإقامة ضمن الجدة (nouveauté) يفترض ضربة الحقيقة العمياء إلى حد ما، كنتيجة لغموض معين. أنا أتفق مع دولوز عندما يقول ضربة يتلقاها المرء من خلفه، وبأنه لا يستطيع الاستدارة نحوها بسهولة. وهذا ما لا ينطبق حقاً على الفلسفة، ما دامت مرغمة دائماً على الأخذ بنظر الاعتبار الشروط التي تُحدّدها. فحتى أكثر فلاسفة-الضد من بين الفلاسفة يعاودون القبض على ما يقولونه. يمكننا، إذاً، التفكير بأنهم عندما يكتبون لا يكتبون شيئاً اعتباطياً. وهذا ما ألاحظه عند سارتر. فعندما أقرأ "دروب الحرية"، أشعر بالتطبيق... ذلك لأن الأمر عنده لا يتعلق برواية مكرسة لأطروحة، بل شيء يتم التحكم فيه تماماً، ونشعر بأن لمصير شخوصه قاعدة. فأبطال الحرية أولئك ليسوا أحراراً تماماً. وهذا ما يمكن أن تعثر عليه عندي أنا أيضاً، بلا شك. لكن ليس في المسرح، كلا. فأنا أكتب كوميديات، أو حتى مقالب مضحكة. هنا، أقول لنفسي إذا كان هذا يثير الضحك... فذلك لأنه مقياس للأثر، معيار للحقيقة. إذ علينا الإقرار بأن الفيلسوف نادراً ما يقوم بإضحاك الآخرين، لأن هذا لا يشكل نزعته الرئيسية، التي يمكن أن تكون لئيمة، ساخرة، نعم. غير أن الضحك شيء آخر.

- قد يكون مرد ذلك هو أن المرء أقل عزلة في المسرح...

- أما في ما يتعلق بالفلسفة، فعزلتها نسبية: توجهها نحو الآخرين يشكل جزءًا من ممارستها. كذلك ليس ثمة من فيلسوف لا يحتاج للجمهور، أو مخاطبة الناس جماعياً عبر دروسه الشفهية. ذلك هو الأمر، مهما قيلَ ضد الفلسفة ولاسيما من قبل دريدا Derrida ، ذلك لأن الشفهية « oralité » هي القاعدة. فحتى وإن حظيت الكتب باهتمام كبير، تتوجه الفلسفة لأفراد يجدون أنفسهم مباشرة هنا. ذلك لأنها تعليمية « didactique »، لسبب يرتبط بجوهرها. إذ ينبغي الكشف عن الحقائق، والعمل من أجل إيجادها. ففي الفلسفة، يسعى المرء لإعطاء شيء من الشجاعة للجميع. فحتى الفيلسوف الأكثر خيبةً وتخيباً منذور لهذا الغرض: إذ يمكن استبطان الخيبة ورفعها إلى مستوى المثال عند البعض، فيما يتعلق الأمر بالنهوض بالموقف. فالفلاسفة لم يخترعوا شخصية المعلم وحسب، بل وأيضاً أستاذ الجامعة. وهذا يعني بأن الفلسفة يمكن أن تصبح أكاديمية وكئيبة، لكنها أستاذية « professorale » دائماً.

أن نزعة التعليم هذه تظهر بأن الفلسفة ليست قريبة من العصر وحسب، بل وأيضاً من الشبيبة. فمهمتها هي تحريف الشباب، وليس ثمة من خيار آخر...

- وكذلك هو الأمر في الواقع، فكتابك الأخير يمتلأ بالإرشادات المتعلقة بالقراءة. إنه كتاب عن عملية التوصيل أيضاً.

- بالمطلق. فالفلسفة منشغلة بهمّ توصيل أسرار العصر. لأنها لا تطرح على نفسها سؤال "لمَ هناك شيء ما بدل اللاشيء" وحسب، بل وأيضاً "هل هناك شيء حقاً". من ناحية أخرى، كنت قد وضعت في كتابي "بيان من أجل الفلسفة" (Manifeste pour la philosophie) مُلحقاً طويلاً يحمل عنوان "إرشادات مقدمة لفيلسوف من شباب اليوم" (conseils pour un jeune philosophe d’aujourd’hui) : إرشادات متفرعة عن القراءة أو أسئلة يمكن أن تدور من حولها نقاشات جماعية. لقد حاول البعض ثنيي عن نشرها بقولهم لي إنها تشكل نموذجاً تعليماً قريبا مني تماماً. ومع ذلك، فإن هذا التوجه نحو الشباب ليس توجهاً أحادياًً. إنها الطريقة التي نحاول بها أن نكون في المقدمة، بعدما كنا في المؤخرة، وأن لا نكتفي بإلقاء خطب جنائزية عن الليل الذي يغمرنا، لكن أن نؤكد بأن غداً سيكون ثمة صباح آخر. إن ما يمكن للفلسفة فعله هو بالدقة أن تكون شاهدة أبدية ولا يستعاض عنها ،عن الطريقة التي استقبلت بها ذلك الشيء الذي توارى عن الأنظار. فهي كانت قد حولت المُتواري إلى إمكانية للظهور. وهذا ما يحدث بالضبط الآن، إذ يمكن للمرء أن يقول في نفسه وهو يقرأ أفلاطون : "كانت هناك الرياضيات الإغريقية، الحوار مع هوميروس، والسفسطائيون" –عالم بكامله، وليس تاريخياً وحسب، بل عقلياً أيضاً، عالم حقائق صار فيه أفلاطون شاهداً فيما بعد، ولكن من قبل أيضاً. كذلك فإن مشهد سقراط في سنّ الخمسين وهو يحادث الشباب ليس شيئاً آخر سوى مجاز. فنحن نأتي في الآخر، بيد أننا نملك إمكانية أن نأتي في البداية، إذا ما قبلنا بفكرة أننا نقوم، عبر المقولات التي نصوغها، بجني وإعادة بعث ذلك الشيء الذي نحن معاصروه المتأخرون« contemporains tardifs » . فكما تحدثنا قبل قليل عن تلك الحقبة الخاصة، أي إيصال القرن العشرين برؤيته من الداخل، يمكننا القول إنّ ذلك يشكل دعوة فلسفية بامتياز.

- فلسفياً، يبدو أن ما تقوله قد حدث عبر إعادة تحديد الديالكتيك، وذلك ما نلمسه ثانية في قراءتنا لكتابك "العصر". كما يمكننا القول إن هذا هو ما كان يبحث عنه دولوز، الذي ظن في لحظة ما أنه قد عثر عليه في البنيوية. وهو نفس الشيء، إذا ما صدقنا ما يقوله "فنسان ديكومبس" Vincent Descombes، الذي يبحث عنه الفلاسفة الفرنسيون منذ قدوم "كوجيف" Kojève إلى باريس في عام 1933...

- نعم، ربما... السؤال هو التالي : "هل يمكن تحديد الديالكتيك من جديد إذا ما استثنينا النفي négativité"؟ نعم يمكننا القول إن ذلك التحديد كان شيئاً مشتركاً بيننا جميعاً، إذا ما بقينا عند هذا المثال العام. ذلك لأن المحاولة الأولى لتطوير الديالكتيك بعد الحرب العالمية الثانية كانت محاولة سارتر ضمن بعد العدمية « néantisation »، أي الوعي. وذلك ما نجده عند التوسر، لاكان، فوكو، دولوز ومن ثم أنا، آخر منْ بقى منهم...

- ما بقى منهم؟

- حسناً، ثمة فارق في العمر ما بيننا، غير أن لدي إحساسا بأني رأيتهم وهم يتوارون ، لم يموتوا شبوخا... وذلك ما يولد لدي شعوراً ضبابياً، فأنا لست آخر منْ تبقى منهم بعد معركة خاسرة؛ هذا ليس مزاجي، لكني رأيتهم رغم كل شيء وهم يسقطون. ولقد كانت لدينا أشياء مشتركة، كما قلت ذلك من قبل.

- ضمن عنوان الديالكتيك الإيجابي هذا، تشير في كتابك "العصر" إلى طريقين : طريق المُنازعة التي تؤكد عبرها بقوة على عدم إمكانية اختزال "الاثنين" إلى "الواحد"، والطريق "الإخراجي" « soustractive » الذي تقول إنه طريقك.

>نعم، لكنني أصررت فيه، في ذات الوقت، على القول بأنه خيط حصري، سري نوعاً ما، وقد شغلَ القرن العشرين في مواجهة مخطط ديالكتيك النفي الاحتفالي والتهديم. فلوحة "مالفيتش" Malevitch المعنونة "مربع أبيض فوق عمق أبيض" « carré blanc sur un fond blanc » ، مثلاُ، هو تهديم للون والشكل، لكن يمكن التعامل معها كذلك باعتبارها ما يحيل الشكل واللون إلى اللوحة التي يلتقيان فيها، أي الكشف من داخل الموقف على الفارق الأدنى كعمق أبيض أو شكل أبيض... إذا ما سلمنا بأن الديالكتيك الإيجابي يدور من حول سؤال "ما هو الجديد، وما هو الإبداع"؟، حينئذ يمكن طرح السؤال التالي : "ما هي علاقته بالقديم؟ هل ينبغي على القديم أن يموت كي يظهر الجديد"؟ إذا كان المرء يتفق مع المخطط الحياتوي « vitaliste »، فسينتهي بالقول بأنه بالإمكان التفكير بكل ذلك بطريقة تأكيدية ضمن مجال العودة الأبدية بالمعنى النيتشوي للمفردة، ومن ثم فإن التهديم نفسه ما هو إلا ظل لإعادة الإثبات تلك. لكن إذا لم يضع نفسه، كما هي حالتي، ضمن المخطط الحياتي ذاك، فسوف يكون الأمر أكثر تعقيداً. إن الإخراج يشكل واحداً من العمليات الدائرة من حول ذلك السؤال. بيد أن هذه العمليات هي الأركان الأشد تعقيداً للقرن العشرين، فهي في آن معاً ما نشترك فيه جميعاً، وما لا نشترك فيه. التهديم أو الإخراج « Destruction ou soustraction » . إذ ليس هناك من فارق جوهري غير هذا الفارق الذي انتهى معه القرن العشرون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمت ترجمة هذا الحوار إلى العربية عن عدد مجلة "ماغازين ليترير" 438، كانون الثاني/يناير 2005.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق