فيلسوف وإبستيمولوجي وواحد من أبرز فلاسفة العلم المعاصرين الذين كان لهم أثر عميق في مفكرين وفلاسفة، مثل ميشال فوكو (Michel Foucault) وألتوسير (Althusser) وغيرهما. إنه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (Gaston Bachelard).
ولد "باشلار" في "بار - سير - أوب" (Bar-sur-Aube) في الريف الفرنسي في 27 يوينو 1884، وتوفي بباريس في 16 أكتوبر سنة 1962. عمل عشرة أعوام في البريد من 1903 إلى 1913، ثم انتقل لتدريس الفيزياء والكيمياء في كلية "بار – سير – أوي" بين 1919 و1930. استأنف دراسته في مجال الفلسفة، فحصل فيها على الإجازة عام 1922، ثم حصل على شهادة الدكتوراه سنة 1927 عن أطروحة بعنوان "مقالة عن المعرفة التقريبية"، ونشر معها أطروحة مكملة بعنوان "دراسة حول تطور مشكلة فيزياوية: سريان الحرارة في الأجسام الصلبة". وفي سنة 1940، عين "باشلار" أستاذا بجامعة السوربون ليشغل كرسي تاريخ العلم وفلسفته حتى العام 1954. وحصل سنة 1961 على الجائزة الوطنية الكبرى للآداب.
اهتم "باشلار" بحقل الإبستيمولوجيا وضرورتها في العلم؛ فالفلسفات التقليدية في نظره قد استنفذت ذاتها، لما تجاهلت الثورات العلمية المعاصرة وتأثيرها في القيم المعرفية، وفي الفكر نفسه. لذلك دعا "باشلار" إلى ضرورة قيام إبستيمولوجيا بإمكانها مواكبة هذه التطورات المتلاحقة في الفكر العلمي، وتستطيع التوفيق بين الجانب التجريبي من ناحية ومبادئ العقل من ناحية أخرى.
لم يعد ممكناً الفصل بين التجريبية والعقلانية في الفكر العلمي المعاصر. فالأولى، عند "باشلار" بحاجة إلى الدليل العقلي، والثانية بحاجة إلى الاختبار والتجربة. يقول في كتابه "الروح العلمية الجديدة": "لا بد للتجريب من أن يذعن للبرهان أو الحجة، كما لا بد للبرهان أو الحجة من أن يرجع إلى التجريب". وفي ذلك إقرار بعلاقة جدلية وصلة وثيقة بين العلم والواقع. وقد بين في كتابه "الروح العلمية الجديدة"، أن هناك قاعدتين ميتافيزيقيتين سائدتين هما العقلانية والواقعية. تشمل العقلانية الفلسفة والنظرية وميدانها التأويل والعقل، في حين أن الواقعية توفر للعقلانية مادتها لتتمكن من بناء تأويلاتها. ونبه "باشلار" إلى أن الإعلاء من أحد الجانبين عائد بالضرر على المعرفة حتما. فالتوقف عند المستوى التجريبي وحده يصيب العلم بالركود، لأنه يبقى بحاجة إلى وعي ما يفعله. ومن ناحية أخرى، يؤدي الاكتفاء بالجانب العلمي وتقديسه في بناء الحقائق وعقلنة الظواهر الجديدة يؤدي إلى مثالية متعالية لا جدوى منها. لذلك لا بد من الإقرار بالصلة الوثيقة بين الجانبين: الواقع/التجربة والعلم/النظرية. وقد ناقش هذا في كتابه "العقلانية التطبيقية" الذي بين فيه الأسس النظرية للتجربة. يقول: "إذا جاز لنا أن نترجم إلى اللغة الفلسفية تلك الحركة المزدوجة التي تغذي الفكر العلمي في الوقت الراهن قلنا إنها حركة تتأرجح لزوماً بين ما هو قبلي وما هو بعدي، حركة ترتبط فيها النزعة التجريبية بالنزعة العقلانية في الفكر العلمي ارتباطاً غريباً لا يقل قوة عن ارتباط اللذة بالألم والواقع أن كل واحدة منهما تعزز الأخرى وتبررها: إن النزعة التجريبية في حاجة إلى أن تتعقل، والنزعة العقلانية في حاجة إلى أن تطبق، فمن دون قوانين واضحة استنتاجية مترابطة ومنسجمة لا يمكن للنزعة التجريبية أن تكون موضوعا للتفكير ولا مادة للتعليم، ومن دون براهين ملموسة ومن دون التطبيق على الواقع المباشر لا يمكن للنزعة العقلانية أن تتوفر على قوة الإقناع التام، فالقانون التجريبي لا تتأكد قيمته إلا عندما يصبح أساساً للتجربة. إن العلم الذي يقوم على الجمع بين البراهين والتجارب وبين القواعد والقوانين، بين البداهة والحوادث هو إذن في حاجة إلى فلسفة ذات قطبين. وبعبارة أدق هو في حاجة إلى نمو دياليكتيكي، لأن المفهوم لا يتضح إلا بالنظر إليه نظرة متكاملة ومن وجهتي نظر فلسفتين مختلفتين".
تقوم فلسفة النفي عند "باشلار" على النقد المستمر للمسلمات نقداً يكشف بناها الداخلية، كما تنقد الطرق المعتادة في التفكير وتناقش الأفكار لكشف ما تنطوي عليه من غموض، وهي بهذا المعنى فلسفة إيجابية، لأن غايتها هي البناء لا الهدم فحسب، وكل علم يدعي الكمال والانتهاء لا يمكن أن يكون علما حقيقيا، وهو – ما لم يخضع للمراجعة والتحيين والنقد المستمر – مجرد مثالية ساذجة. يقول في كتابه "فلسفة النفي": "فلسفة النفي ليست من الناحية السيكولوجية نزعة سلبية، ولا هي تقود إلى تبني العدمية إزاء الطبيعة، فهي بالعكس من ذلك فلسفة بناءة سواء تعلق الأمر بنا نحن أو بما هو خارج عنا، فلسفة ترى في الفكر عامل تطور عندما يعمل. إن التفكير في الموضوعات الواقعية معناه الاستفادة مما يكتنفها من لبس وغموض قصد تعديل الفكر وإغنائه، وتجديل الفكر معناه الرفع من قدرته على إنشاء الظواهر الكاملة إنشاء علميا، وعلى إحياء جميع المتغيرات المهمة التي كان العلم والفكر الساذج قد أهملاهما في الدراسة الأولى".
يرفض "باشلار" العقل قبل العلمي والطرق المضادة في التفكير، ويرى في العلم عامل تطور مطرد من خلال نقد الواقع. ولا يعترف ببناء معرفي كامل أو نسق منته بل إنه متطور في الزمان. والسمة الأساسية للإبستيمولوجيا الباشلارية هي اهتمامها المتزايد بجوانب النقص والخطأ في حقول المعرفة والعلم، وتصبح الموضوعات العلمية مجموعة من الانتقادات التي وجهت إلى صورتها قبل العلمية قصد البحث لها عن حلول علمية. ذلك أن المعرفة مرتبطة بالعقل أساسا، وهو عقل منخرط في واقعه يتأثر بما يستجد من أفكار علمية، ويعيش جدلاً متصلا مع المعارف التي ينتجها، وهذا ما يجعله عقلاً أبعد ما يكون عن الثبات والركود خلافاً لما تتبناه المعرفة التقليدية من أن العقل حاصل قبلاً على كل ما يحتاجه من أجل معرفة الواقع. كما أن العقل عند "باشلار" عقل منطلق ليس له حدود. فإذا كانت الفلسفات التقليدية تعتقد أنه محدود بقدرة ما، فإن "باشلار" يرى أنه ليس معطى ثابتاً، ويؤكد أن له قدرة غير محدودة. ذلك أن ما كان يبدو قديما غير قابل للحل، أثبت العقل قدرته على تجاوزه وإيجاد الحلول والتفسيرات المناسبة له. لذلك دعا "باشلار" إلى إعادة النظر في الفلسفة ذاتها كي تواكب ما يطرحه التطور العلمي الجديد، وكي تكون مطابقة لعلوم العصر، وذلك ما يقتضي إعادة النظر في المقولات الفلسفية في ضوء ما يستجد في ساحة الفكر العلمي المعاصر.
ترك "باشلار" مدونة فلسفية غنية ساهم من خلالها في إثراء الفلسفة المعاصرة وتحديث مقولات كثيرة، كانت إلى عصره تعتبر مسلمات راكدة. وكان فيلسوفاً وعالماً من علماء المعرفة متميزاً أثرى حقول المعرفة المعاصرة وطور النظر الفلسفي مستفيدا من تكوينه الذي جمع بين العلم والفلسفة.
ــــــــ
المصدر : غاستون باشلار فيلسوف العلم المعاصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق