الجمعة، 6 مايو 2016

جنة المأوي : ابتهال يونس


ابتهال يونس
كلية الاداب، جامعة القاهرة

تعد الابداعات الفنية للتصوف من أبرز تجليات الفن بالقرآن. يستمد التصوف جذوره، سواء علي المستوي الفلسفي او المستوي الشعري، من سيرة النبي محمد صلي الله عليه و سلم و من القرآن الكريم. التصوف إذن هو رؤية للاسلام تقوم علي الحب و التسامح و التواضع و عبادة الله و تنمية الذات من خلال الانضباط الذاتي و المسؤلية. لذلك فإن منهاج حياة المتصوف هو حب و خدمة الاخرين و التخلي عن الذات الزائفة و كل الاوهام الزائلة حتي يصل الي النضج و الكمال و يتمكن اخيرا من الوصول الي الله، الحق و الواقع "المتعين". هو باختصار دين الحب الذي نجده عند كافة المتصوفة من ابراهيم بن ادهم الي رابعة العدوية و  عمربن الفارض، و علي وجه الخصوص الامام الاكبر محي الدين بن عربي و مولانا جلال الدين الرومي.

و من أهم طرق الحب للوصول إلي مرحلة الكمال طريقة مولانا جلال الدين الرومي الذي ما أحوجنا اليوم للكثير من تعاليمه و أهمها: إذا كانت علاقتنا بالله هي علاقة حب فيجب علينا أن نحب كافة مخلوقاته علي أختلاف أنواعها و أجناسها ودياناتها. و من سمات هذا الحب خدمة هذه المخلوقات كما فعل مولانا الذي كان يقوم بنفسه علي خدمة المسافرين و عابري السبيل حتي أنه كان يقوم بنفسه بغسل أقدامهم. لذلك لم يكن من المستغرب انه عندما توفي صار في جنازته المسلمون و المسيحيون و اليهود و العرب و الروم ألخ...

لكن ما يهمنا في هذا البحث هو الإبداع الفني المرتبط بالقرآن. و من أهم الإبداعات الفنية لطريقة مولانا جلال الدين الرومي هو ما يسمي بطقس رقصة المتصوفة الدوارة و هو أهم ما يميز الطريقة المولوية و التي امتدت علي مدي سبعة قرون. يعتمد هذا الطقس علي تعاليم مولانا جلال الدين الرومي بالإضافة لتأثره بالعادات و الثقافة التركية.

يرتكز المعني العميق لهذا الطقس علي حقيقة علمية مؤكدة و هي أن الوجود بأكمله يقوم علي الدوران، سواء في الكون الكبير (العالم) أو الكون الصغير (الإنسان). ففي الكون الكبيرنري دوران الأرض حول الشمس و دوران النجوم في المجرات و الالكترونات في الذرة بالإضافة إلي دوران فصول السنة إلخ... أما في الكون الصغير فنجد الدورة الدموية في الجسم و دورة مراحل الحياة من ضعف الطفولة إلي وهن الشيخوخة

سُوۡرَةُ الرُّوم

۞ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٍ۬ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٍ۬ قُوَّةً۬ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ۬ ضَعۡفً۬ا وَشَيۡبَةً۬‌ۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ‌ۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ (٥٤)

بالإضافة إلي الخلق من تراب و العودة إلي التراب عند الممات. إذن فالطبيعة و الإنسان يتشاركان في الدوران بصورة طبيعية و تلقائية

سُوۡرَةُ  الإسرَاء

تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَٲتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيہِنَّ‌ۚ وَإِن مِّن شَىۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَـٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡ‌ۗ إِنَّهُ ۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورً۬ا (٤٤)

و إذا كانت الكائنات الأخري تقوم بالدوران دون أن تعي ذلك، فإن الإنسان يتميز بالعقل و الإدراك. لذلك يقوم المتصوف بالدوران عن وعي و بكامل إرادته ليتناغم مع كل شئ في الطبيعة، من أصغر الخلايا إلي النجوم في السماء ليؤكد عظمة الخالق و يحمده و يسبحه، مجسدا بذلك الأية الأولي من سورة التغابن:

سُوۡرَةُ التّغَابُن
بِسۡمِ ٱللهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَمَا فِى ٱلۡأَرۡضِ‌ۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ‌ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ۬ قَدِيرٌ (١)

إذا كان تسبيح المخلوقات للخالق قد ورد في عدة سور في القرآن مثل سورة الإسراء (أية 44) و سورة النور (أية 41) و سورة الحديد (أية 1) و سورة الحشر (أية 1 و 24) و سورة الصف (أية 1) و سورة الجمعة (أية 1)، إلا انه يقتصر فقط علي ذكر فعل التسبيح. أما الأية الأولي من سورة التغابن فهي تكشف عن ماهية و وظيفة التسبيح: لله الملك و بالتالي القدرة، و علي المخلوقات الحمد.
و لا يجب أن ننسي أهمية رمز الدائرة (وهو أحد تجليات الدوران) لدي فلاسفة التصوف مثل محي الدين بن عربي و كتابه "إنشاء الدوائر" علي سبيل المثال.
و من أهم ما يميز هذا التعبير الفني للطريقة المولوية، و الذي لا نجده في غيرها من الطرق، هي وحدة العناصر الثلاثة المكونة للطبيعة الإنسانية و هي العقل، أي المعرفة و الفكر، و القلب، أي التعبير عن الأحاسيس بالإضافة إلي الشعر و الموسيقي، و الجسد، أي تنشيط الحياة و الدوران.
و من المعروف علميا أن تكرار الدوران و سرعته يؤدي إلي التصاعد للأعلي كما نري في ظاهرة الإعصار علي سبيل المثال حيث تدور الرياح فتتصاعد بشكل دائري. لذلك فإن دوران متصوف طقس الطريقة المولوية يوصله إلي السمو و الإرتقاء.

يمكنا القول أن هذا الطقس يمثل رحلة الإنسان الروحية للصعود من خلال الفكر و الحب إلي الكمال، أي ما يعرف بالمعراج الصوفي المستلهم من معراج النبي صلي الله عليه و سلم. فبالدوران حول الحقيقة ينمو الإنسان من خلال الحب و يتخطي ذاته فيلتقي بالحقيقة و يصل إلي الكمال. ثم يعود من معراجه الصوفي بعد أن نضج و اكتمل، ليحب ويخدم الخلق بأكمله و كافة مخلوقات الله علي اختلاف معتقداتها و جنسها و نوعها. الحب إذن هو المفهوم الأساسي و الطريق الأوحد. فقد خلق الإنسان بحب و لكي يحب. و كما قال مولانا جلال الدين الرومي :"كل أنواع الحب ما هي إلا جسور للوصول إلي الحب الإلهي. لكن الذين لم يتذوقوه بعد لا يعرفون".

ننتقل الأن إلي رداء متصوفة الطريقة المولوية الذين يؤدون هذا الطقس و ما يرمز إليه. يظهر المولوي و هو يرتدي قميصا أبيض فوقه عباءة سوداء و غطاء رأس مصنوع من وبر الجمل. يرمز القميص الأبيض إلي قبر الذات و غطاء الرأس إلي شاهد هذا القبر. و عندما يقوم بخلع العباءة السوداء يولد من جديد علي مستوي الروح لتلقي الحقيقة.

قبل أن نبدأ في استعراض مراحل هذا الطقس يجب توضيح و التأكيد علي أن متصوفي الطريقة المولوية الذين يؤدون رقصتهم لا يقدمون عرضا للجمهور بل يعيشون فعلا تجربة المعراج الصوفي. لذا وجب علي الذين يشاهدونهم إلتزام الصمت التام احتراما للتجربة الروحية المعاشة، و عدم التصفيق أو حتي إبداء الإعجاب إلا عندما يغادر المولويون الساحة.
في البداية يظهر المولويون و قد عقد كل منهم ذراعيه مجسدا رقم 1، مشيرا بذلك إلي وحدانية الله. يجب الإشارة هنا إلي أهمية رقم 1 و مرادفه حرف الألف كرمز من رموز التصوف لأنهما خط مستقيم يشير إلي وحدانية الله. عندما يبدأ المولوي في الدوران يتجه ذراعه الأيمن نحو السماء لتلقي النفحات الإلهية. أما ذراعه الأيسر، و الذي يركز نظره عليه، فيتجه نحو الأرض ليشرك الذين يشاهدونه في المنح الإلهية التي تلقاها. اتجاه الدوران من اليمين إلي اليسار حول القلب يعني أن المولوي يحتضن الإنسانية كلها بحب.
يتكون طقس المولوية من عدة مراحل تحمل كل واحدة منها معني مختلف عن الأخري. المرحلة الأولي تسمي "نعت الشريف" و هي مديح رسول الإسلام و كافة الرسل الذين سبقوه و الذين يمثلون الحب. هذا المديح هو حمد لله الذي خلقهم و ارسلهم، كرحمة منه، إلي الإنسانية. مما يجسد مفهوم "الرحمة المهداة" النابع من الأية الكريمة:
سُوۡرَةُ الاٴنبیَاء

وَمَآ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةً۬ لِّلۡعَـٰلَمِينَ (١٠٧)

يقوم مفهوم "الرحمة المهداة" عند المتصوفة علي علاقة الحب بين الله و عباده: لأن الله يحب عباده فقد أرسل لهم، رحمة منه، هدية حب: النبي محمد عليه الصلاة و السلام و كافة الأنبياء الذين سبقوه. يلي هذا المديح قرع طبول يسمي "قدوم" و هو يرمز للأمر الإلهي "كن" الذي خلق به الله الكون بأكمله. و هو أيضا تجسيد للأية الكريمة:
سُوۡرَةُ مَریَم

ۤ‌ۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرً۬ا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ ۥ كُن فَيَكُونُ (٣٥)
سُوۡرَةُ یسٓ

إِنَّمَآ أَمۡرُهُ ۥۤ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُ ۥ كُن فَيَكُونُ (٨٢)

سُوۡرَةُ  غَافر

هُوَ ٱلَّذِى يُحۡىِۦ وَيُمِيتُۖ فَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرً۬ا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ ۥ كُن فَيَكُونُ (٦٨)


يلي "نعت الشريف" مرحلة تسمي "تقسيم" و هي عزف منفرد علي الناي يشير إلي مفهوم "النفس الإلهي الخلاق" أي النفخ في الروح، تجسيدا للأيات الكريمة:

سُوۡرَةُ الحِجر

فَإِذَا سَوَّيۡتُهُ ۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ۥ سَـٰجِدِينَ (٢٩)

سُوۡرَةُ الاٴنبیَاء

وَٱلَّتِىٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَـٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةً۬ لِّلۡعَـٰلَمِينَ (٩١)

سُوۡرَةُ صٓ

فَإِذَا سَوَّيۡتُهُ ۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ۥ سَـٰجِدِينَ (٧٢)

سُوۡرَةُ التّحْریم

وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٲنَ ٱلَّتِىٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَـٰتِ رَبِّہَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَـٰنِتِينَ (١٢)

و المرتبطة بخلق أدم و خلق عيسي:
سُوۡرَةُ آل عِمرَان

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ‌ۖ خَلَقَهُ ۥ مِن تُرَابٍ۬ ثُمَّ قَالَ لَهُ ۥ كُن فَيَكُونُ (٥٩)


و إذا كان الأمر الإلهي "كن" يخلق المادة، فإن النفس الإلهي الخلاق يهب الحياة المادة ولكل شئ نطلق عليه كلمة "حي".

ثم يلي ذلك مرحلة "سلطان وليد" أو "دور وليد" و هي حركة دائرية عكس عقارب الساعة يؤديها المولويون مجسدين بذلك المراحل الثلاثة للمعرفة: "علم اليقين" أي المعرفة المكتسبة عن طريق الغير و عبر الدراسة، و"عين اليقين" أي المعرفة المكتسبة عن طريق الرؤية و الملاحظة، و "حق اليقين" أي المعرفة المكتسبة عبر التجربة الشخصية المباشرة أوما يسمي بالعرفان.
يبدأ بعد ذلك الطقس الأساسي و هو مكون من أربع حركات موسيقية مختلفة تسمي "سلام". في بداية و نهاية كل "سلام" يقوم المولويون بالأقرار بوجود الله و وحدانيته و جلاله و قدرته.
و إذا تعمقنا في معني هذه الحركات الأربعة نجد أنها مبنية علي الأيات الثمانية عشر الأولي من سورة النجم، و خاصة من الأية 6 حتي الأية 18 علي وجه الخصوص. تتسم هذه الأيات بالغموض و بقدر كبير من الروحانية. و مع التعمق في القراءة نجد أنها تتحدث عن معراج النبي صلي الله عليه و سلم. و بما أن المعراج الصوفي مستلهم من معراج النبي الكريم نجد أن هذه الحركات الأربعة تمثل خطوات هذا المعراج الصوفي و تجسد تلك الأيات الأولي من سورة النجم. يمثل "السلام" الأول مولد الإنسان للحقيقة من خلال الإحساس و العقل، كما يمثل تسليم الإنسان بأنه مخلوق من مخلوقات الله و عبد من عباده. ثم تبدأ رحلة الصعود و الإرتقاء نحو المرحلة الأولي للتجربة الروحية و هي مرحلة الرؤية عن طريق القلب:

سُوۡرَةُ النّجْم

مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ (١١)

و من خلال الروحانية الخالصة و تكرار الدوران، يصل إلي مرحلة الرؤية العينية أو المعاينة وفقا للتعبير الصوفي، كما نري في "السلام" الثاني حيث يري روعة الخلق و عظمة و قدرة الخالق:
سُوۡرَةُ النّجْم

مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (١٧) لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَـٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ (١٨)

بفضل الانصهار في الحب و التضحية بكل ما سواه، نصل في "السلام" الثالث إلي التسليم و التوحد و إنعدام الذات في المحبوب حيث يحتضنه الحب الإلهي. أي ما يعرف في التصوف بالفناء في الله:
سُوۡرَةُ النّجْم

عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ (١٤) عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ (١٥)

يجب الإشارة هنا إلي أن "المأوي" و مرادفاته كالملاذ و الحمى هي من أهم مفردات التصوف، حيث الذوبان في أحضان الحبيب و الفناء فيه.
من جهة أخري، "جنة المأوي" التي نجدها في سورة النجم تختلف تماما عن جنات عدن و وصف الجنة التي اعدت للمؤمنين في مختلف سور و آيات القرآن الكريم. فتعبير "جنة المأوي" لم يذكر إلا مرة واحدة فقط، أي في سورة النجم. و نجد تعبير قريب منه، مرة واحدة ايضا، في سورة السجدة وهو "جنات المأوي"(أية 19). هي إذن شئ مميز و مختلف تماما عن الجنة التي يتكرر وصفها في القرآن الكريم. هي منزلة خاصة، هي الملجأ و الملاذ للذين يتوقون لأحضان الحبيب و الفناء فيه. يشير القرآن الكريم علي مدي آياته و سوره إلي الذين آمنوا و الذين كفروا، إلي أصحاب اليمين و أصحاب الشمال، الذين سيدخلون الجنة و الذين مصيرهم إلي النار. أي مجموعتين، إلا في سورة الواقعة حيث نجد، بالإضافة إلي أصحاب الميمنة و أصحاب المشئمة، مجموعة ثالثة:
سُوۡرَةُ الواقِعَة

وَكُنتُمۡ أَزۡوَٲجً۬ا ثَلَـٰثَةً۬ (٧) فَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ مَآ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ (٨) وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ مَآ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ (٩) وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ (١٠) أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ (١١)

من هم هؤلاء "المقربون"؟ تصفهم الأية بأنهم:
سُوۡرَةُ الواقِعَة

ثُلَّةٌ۬ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ۬ مِّنَ ٱلۡأَخِرِينَ (١٤)

و هو وصف عام و غير محدد. لكن من أقرب من الذي يتوق للذوبان في أحضان الحبيب و الفناء فيه؟ من جهة أخري، إذا كانت سورة الرحمن تتحدث عن جنتين:
سُوۡرَةُ الرَّحمٰن

وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ (٤٦)
وَمِن دُونِہِمَا جَنَّتَانِ ( 62)

إلا أننا لا نجد إلا وصفا عاما لا يميز بين الجنتين. كما أن سورة الرحمن بأكملها مبنية علي صيغة المثني. أما في سورة الواقعة فنجد تأكيدا علي وجود جنتين و وصف لكل منهما: جنة المقربين و جنة أصحاب اليمين. إذا قارنا بينهما نجد أن جنة أصحاب اليمين تتسم بالمتع الحسية كالمأكل و المشرب و الحور العين. أما جنة المقربين فنجد من جهة أن المتع أكثر تعددا و ثراءا من جنة أصحاب اليمين فهم:

لَّا يُصَدَّعُونَ عَنۡہَا وَلَا يُنزِفُونَ ( 19)

و لكن الأهم أننا ، من جهة أخري، نجدها أكثر روحانية و ذلك من خلال آيات لا نجدها في وصف الجنة الأولي، علي سبيل المثال:

سُوۡرَةُ الواقِعَة

لَا يَسۡمَعُونَ فِيہَا لَغۡوً۬ا وَلَا تَأۡثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلاً۬ سَلَـٰمً۬ا سَلَـٰمً۬ا (٢٦)

أما جزاء يوم الحساب فنجده في نهاية سورة الواقعة حيث يتميز المقربون عن أصحاب اليمين:
سُوۡرَةُ الواقِعَة

فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوۡحٌ۬ وَرَيۡحَانٌ۬ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ۬ (٨٩)

يمكن أن نعتبر أن هذا الوصف ينطبق علي جنة المأوي التي ذكرت في سورة النجم حيث أن الفناء في الله هو "سلام و روح و ريحان".
نعود مرة أخري لطقس المولوية و إلي "السلام" الرابع حيث إنكار الذات و نبذ الأنانية و التضحية من أجل باقي البشر علي الأرض. تماما كما فعل النبي صلي الله عليه و سلم عندما وصل من خلال معراجه الروحي إلي "العرش" لكنه عاد مرة أخري إلي الأرض ليتم مهمته كعبد الله و رسوله إلي الإنسانية. كذلك يفعل  المولوي بعد أن وصل إلي مبتغاه في الفناء في الحبيب من خلال معراجه الصوفي، عليه أن يعود مرة أخري لمهمته علي الأرض: عبوديته لله و خدمة كتبه و رسله و كافة خلقه.
يلي ذلك تلاوة سورة مريم حيث معجزة ميلاد المسيح و رسالته من خلال مفهومين نجدهما في طقس المولوية و هما الأمر الإلهي "كن":

سُوۡرَةُ مَریَم

مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ۬‌ۖ سُبۡحَـٰنَهُ ۥۤ‌ۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرً۬ا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ ۥ كُن فَيَكُونُ (٣٥)

و النفخ في الروح الذي لا نجده بصورة مباشرة كما في سورة الأنبياء:
سُوۡرَةُ الاٴنبیَاء

وَٱلَّتِىٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَـٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةً۬ لِّلۡعَـٰلَمِينَ (٩١)

لكننا نجده بالمعني المجازي في سورة مريم:

سُوۡرَةُ مَریَم

فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابً۬ا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرً۬ا سَوِيًّ۬ا (١٧)

نتوقف هنا عند اختيار سورة مريم. تحتل هذه السورة مكانة خاصة في التقاليد و الثقافة التركية. فهي تقع في منتصف المصحف تقريبا (تبدأ في صفحة 305 من إجمالي 604 صفحة في المصحف) و غالبا ما تحظي صفحاتها بزخرفة خاصة تختلف عن باقي السور في المصاحف التركية. لكن الأهم هو أن سورة مريم تحتوي علي مجمل المفاهيم التي يجسدها طقس الطريقة المولوية. يمكنا القول أن المفهوم الجوهري في سورة مريم هو مفهوم الرحمة، بمشتقاته و مرادفاته. إذ ورد اسم الله "الرحمن" 16 مرة في السورة و لفظ "رحمة" خمس مرات و كلمة "حنانا" مرة واحدة. كما أن السورة تبدأ بهذا المفهوم:
سُوۡرَةُ مَریَم

ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُ ۥ زَڪَرِيَّآ (٢)

يرتبط مفهوم الرحمة في السورة ببعث الأنبياء و هو تجسيد لمفهوم "الرحمة المهداة" الذي يبدأ به طقس المولوية. فنجد علي سبيل أن السورة تصف معجزة مولد المسيح بأنها: "رحمة منا"(آية 21) و مولد يحيي: "حنانا من لدنا"(آية 13)، و اسحاق و يعقوب: "و وهبنا لهم من رحمتنا"(آية 50) و موسي: "و وهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا"(آية 53). يقترن مفهوم "الرحمة المهداة" بالعبودية لله و ذلك منذ بداية السورة: "ذكر رحمة ربك عبده زكريا"(آية 2) فالرسل و الأنبياءهم أولا عباد الله ثم رسله، كما في حال عيسي علي سبيل المثال: "قال إني عبد الله أتاني الكتاب و جعلني نبيا"(آية 30). يمتد مفهوم العبودية لله ليشمل خلق العالم و الإنسان:
سُوۡرَةُ مَریَم

إِن ڪُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِى ٱلرَّحۡمَـٰنِ عَبۡدً۬ا (٩٣)

إقرار المخلوقات بقدرة الخالق و عبوديتها له يتجلي من خلال الحمد و التسبيح، أي المفهوم الذي نجده في طقس المولوية و الذي يتجسد من خلال الآية الأولي من سورة التغابن السابق ذكرها.

في نهاية الطقس يقوم المولويون مرة أخري يعقد ذراعيهم بخشوع مجسدين بذلك وحدانية الله. ثم ينسحبون بهدوء إلي خلوتهم للتأمل و ذكر الله، بعد أن قاموا يتجسيد إحدي أجمل ابداعات الفن بالقرآن.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق