ترجمة: أحمد الفوحي
أود تقديم بعض الملاحظات حول الفلسفة الفرنسية بالبدء ب[إثارة] المفارقة [التالية]: إن
الأمر الأشد كونية هو، في الآن ذاته، الأشد خصوصية. إنه ما يطلق عليه هيجل الكوني الملموس، خلاصة الكوني المطلق الذي ينطبق على الجميع، وخلاصة ما يتوفر، في الآن نفسه، على مكان وزمان خاصين. والفلسفة خير مثال [على ذلك]: فهي،كما تعلمون، كونية لا مراء في ذلك. إنها تتوجه إلى الجميع؛ غير أنها تتميز بخصوصيات وطنية وثقافية. فهناك ما يمكن أن أسميه لحظات فلسفيةً في الزمان وفي المكان. فالفلسفة إذن، طموح كوني نحو العقل وفي الآن، نفسه، تتجلى في لحظات بالغة التفرد. ولْنأخذ مثالين، لحظتين فلسفيتين معروفتين تتميزان بالكثافة. فهناك لحظة الفلسفة الإغريقية الكلاسيكية الممتدة من پارمينيد إلى أرسطو، بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد. إنها اللحظة الفلسفية الخلاقة والمؤسِّسة، الاستثنائية التي لم تُعمَّر طويلا. ثم هناك المثال الآخر، لحظة [الفلسفة]المثالية الألمانية الممتدة من كانط إلى هيجل مرورا بفيخته وشيلينغ. إنها، أيضا، لحظة فلسفية استثنائية، تقع بين نهاية القرن الثامن عشر وبين بداية القرن التاسع عشر؛كثيفة وخلاقة، وهي [مثل سابقتها] لم تُعمَّر طويلا.
الآن باديو |
كما أود أن أدافع عن فرضية تاريخية ووطنية: لقد كانت هناك، أو هناك اليوم، بحسب موقعي من هذا التحديد، لحظة فلسفية فرنسية واقعة في النصف الثاني من القرن العشرين، شبيهة إلى حد ما بالمثالين المذكورين سلفا، لحظتي الفلسفة الإغريقية الكلاسيكية والفلسفة المثالية الألمانية، سأحاول تقديمها إليكم. لنأخذ النصف الثاني من القرن العشرين: الفترة التي ظهر فيها كتاب الوجود والعدم (1943) المؤلف الأساس لسارتر وآخر كتابات دولوز ما الفلسفة؟ الذي ظهر في بداية التسعينات. فما بين 1943 ونهاية القرن العشرين تجلت اللحظة الفلسفية الفرنسية؛ وما بين سارتر ودولوز يمكن ذكر باشلار وميرلو-پونتي وليفي-شتراوس وألتوسير وفوكو ودريدا ولاكان وأنا أيضا، ربما، سنرى ذلك. إن وضعيتي خاصة، تتمثل في أنه إذا كانت هناك لحظة فلسفية فرنسية، فأنا آخرُ من يمثلها. إن هذا المجموع الواقع بين مؤلفات سارتر الأساسية وآخر كتابات دولوز، هو ما أطلق عليه الفلسفة الفرنسية المعاصرة التي أود الحديث عنها. إنه يشكل، في نظري، اللحظة الفرنسية الجديدة الخلاقة، المتفردة والكونية في الآن ذاته. ويتمثل الإشكال في تحديد هذا المجموع: ما الذي حدث في فرنسا، في الفلسفة، ما بين 1940 ونهاية القرن [العشرين]؟ ما الذي جرى حول هذه الأسماء العشرة التي ذكرتها؟ وماذا نعني بالوجودية والبنيوية والتفكيكية؟ وهل هناك وحدة تاريخية وفكرية تَسِم هذه اللحظة؟ وإن كانت فما هي؟
جان بول سارتر |
إنها الأسئلة التي أرغب في إثارتها معكم هذا المساء. سأقوم بذلك بطرق أربع مختلفة. سأنطلق من مسألة الأصل: من أين جاءت هذه اللحظة؟ وما ماضيها؟ وما نشأتها؟ ثم أعرض الإجراءات الفلسفية الرئيسية الخاصة بهذه اللحظة. تأتي بعد ذلك مسألة في غاية الأهمية، إنها [مسألة] علاقة هؤلاء الفلاسفة بالأدب، وبصفة عامة، علاقة الفلسفة بالأدب في تلك المرحلة. وسأتناول، في النقطة الرابعة، الحوار الدائم، خلال تلك الفترة، بين الفلسفة وبين التحليل النفسي. إن مسائل الأصل فالإجراءات والأسلوب والأدب ثم التحليل النفسي هي معتمدي في محاولة تحديد هذه الفلسفة الفرنسية المعاصرة.
[1- الأصل]: يجب، لتناول مسألة الأصل، الرجوع إلى بداية القرن العشرين، حيث حدث انقسام جوهري في الفلسفة الفرنسية، أدى إلى بروز تيارين متباينين تباينا فعليا. سأذكر بعض المعالم: في 1911 ألقى برغسون في أوكسفورد محاضرتين شهيرتين، نشرتا في مصنف برغسون الذي يحمل عنوان الفكر والحركة. وفي 1912، أي في نفس الفترة، ظهر كتاب برونشفيغ الذي يحمل عنوان (مراحل الفلسفة الرياضية). لقد وقعت هاتان المداخلتان الفلسفيتان قبيل الحرب العالمية الأولى. فهاتان المداخلتان تشيران إلى وجود توجهين شديدي الاختلاف. ففي حالة برغسون هناك ما يمكن تسميته فلسفة الجوّانية الحيوية، فرضية الوجود والتحول، فلسفة الحياة والصيرورة. وسيستمر هذا التوجه إلى غاية نهاية القرن مع دولوز. وفي كتاب برونشفيغ نكتشف فلسفة للمفهوم مستندة إلى الرياضيات؛ إمكانيةً لنوع من الشكلانية الفلسفية، فلسفةً للفكر أو للرمزي. واستمر هذا التوجه [أيضا] طوال القرن وبخاصة مع ليفي-شتراوس وألتوسير ولاكان.
إننا في بداية القرن أمام ما يمكن أن أسميه صورة منقسمة وجدلية للفلسفة الفرنسية. فمن جهة هناك فلسفة الحياة، ومن جهة أخرى هناك فلسفة المفهوم. وسيكون هذا الإشكال، إشكالُ الحياة والمفهوم، إشكالَ الفلسفة الفرنسية المركزيَّ، بما في ذلك اللحظة الفلسفية التي أتحدث عنها، لحظة النصف الثاني من القرن العشرين.
إن النقاش [الدائر] حول الحياة والمفهوم هو، في نهاية المطاف، نقاش حول مسألة الذات؛ وهو النقاش المنظم للمرحلة برمتها. لماذا؟ لأن الذات الإنسانية هي، في الآن ذاته، جسد حي ومبدع للمفاهيم. فالذات هي القاسم المشترك بين الفريقين: والتساؤل دائر حول [تجليات]حياتها، الذاتية والحيوانية والعضوية. وهو دائر أيضا حول تفكيرها، وقدرتها على الإبداع والتجريد. وستحدد العلاقة بين الجسد والفكر، بين الحياة والمفهوم، مآل الفلسفة الفرنسية؛ وقد كانت هذه المواجهة حاضرة منذ بداية القرن مع برغسون من ناحية، ومع برونشفيغ من ناحية أخرى. وعليه، يمكننا القول إن الفلسفة الفرنسية ستشكل، رويدا رويدا، ما يشبه ساحة معركة حول مسألة الذات. لقد كان كانط أول من عرف الفلسفة بأنها ساحة معركة، نشكل فيها [نحن الفلاسفة] محاربين أصابهم بعض العياء. إن معركة الفلسفة الكبرى، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ستكون معركة حول مسألة الذات. وإليكم بعض المعالم: يعرف ألتوسير التاريخ بأنه سيرورة خالية من الذات، والذات بأنها مقولة إيديولوجية؛ ويعتبر دريدا، في تأويله لهايدغر، الذات من مقولات الميتافيزيقا، وأما لاكان فقد ابتدع مفهوما للذات؛ هذا دون الحديث عن المكانة المركزية للذات عند سارتر أو ميرلو-پونتي. وهكذا، ستكون أول كيفية لتحديد اللحظة الفلسفية الفرنسية بالحديث عن سجال حول مفهوم الذات؛ ذلك أن المسألة الأساسية فيها هي مسألة العلاقة بين الحياة والمفهوم، وأن هذه العلاقة ليست في الأخير سوى التساؤل الأساسي حول مصير الذات.
ولنلاحظ، في مسألة الأصل، أنه بإمكاننا العودة إلى الوراء والقول، في نهاية المطاف، إن قضية الذات من مخلفات الإرث الديكارتي؛ وإن الفلسفة الفرنسية، في النصف الثاني من القرن العشرين، تشكل نقاشا عميقا حول ديكارت. ذلك أن هذا الأخير هو المبدع الفلسفي لمقولة الذات، وأن مصير الفلسفة الفرنسية، بل انقسامها، هو انقسام للإرث الديكارتي. فديكارت هو، في الآن نفسه، منظِّر للجسد الطبيعي، والحيوان-الآلة، ومنظِّر للتأمل الخالص. فقد كان، بمعنى ما، يهتم بطبيعة الأشياء وبميتافيزيقا الذات. وهذا ما يفسر حضور ديكارت في نصوص كل الفلاسفة المعاصرين الكبار: فقد رفع لاكان شعار العودة إلى ديكارت، وكتب سارتر مقالة مهمة حول الحرية عند ديكارت، وكانت لدى دولوز كراهية شديدة لديكارت. وإجمالا فقد حضر ديكارت عند كل الفلاسفة الفرنسيين في النصف الثاني من القرن العشرين؛ وهو أمر يدل ببساطة على أن هذه السجال الفلسفي هو، في نهاية المطاف، سجال حول دلالة الديكارتية ورهانها. وهكذا يمكِّننا حديث الأصل من أول تعريف لهذه اللحظة الفلسفية بأنها سجال مفهومي حول مسألة الذات.
[2- الإجراءات]: سأبين في المرحلة الثانية الإجراءات الفكرية المشتركة لدى كل هؤلاء الفلاسفة. وسأحدد أربعة منها، أعتقد أنها توضح بجلاء طريقة اشتغال [هؤلاء] الفلاسفة، وهي عبارة عن إجراءات منهجية.
الكسندر كوجيف |
الإجراء الأول ألماني، أو إجراء فرنسي حول الفلاسفة الألمان. ذلك أن الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين، هي في الواقع نقاش حول الإرث الألماني. لقد كانت هناك لحظات مهمة من ذلك النقاش؛ من ذلك محاضرات كوجيف عن هيجل في السنوات الثلاثين التي كانت ذات أهمية بالغة، وهي المحاضرات التي تابعها لاكان وأثرت في ليفي-شتراوس. ثم هناك اكتشاف الفلاسفة الفرنسيين الشبان في السنوات الثلاثين والأربعين للفينومينولوجيا عبر قراءة هوسرل وهايدغر. فسارتر، مثلا، غير تماما منظوره عندما قرأ هوسرل وهايدغر بالألمانية أثناء إقامته ببرلين. وأما دريدا فهو، أولا وقبل كل شيء، شارح أصيل للفكر الألماني. ثم هناك نيتشه، الفيلسوف المعتمد لدى فوكو ودولوز معا. يمكن القول، إذن، إن الفرنسيين ذهبوا يبحثون عن شيء ما في ألمانيا، عند هيجل ونيتشه وهوسرل وهايدغر.
فما هو هذا الشيء الذي ذهب الفلاسفة الفرنسيون يبحثون عنه في ألمانيا؟ يمكن تلخيص الجواب في جملة: [لقد ذهبوا يبحثون] عن علاقة جديدة بين المفهوم وبين الوجود، علاقة تجلت في تسميات عدة: التفكيكية والوجودية والهرمينوطيقا. و الخيط الناظم بين هذه التسميات هو البحث المشترك، المتمثل في تغيير وتحويل العلاقة بين المفهوم وبين الوجود. وكما كان سؤال الفلسفة الفرنسية منذ بداية القرن [متعلقا] بالحياة والمفهوم، فإن هذا التحول الوجودي في الفكر، وهذه العلاقة بين الفكر وموطنه الحيوي، هو ما كانت الفلسفة الفرنسية تبحث عنه. إنه ما يمكن أن أطلق عليه الإجراء الألماني [المتمثل في] البحث في الفلسفة الألمانية عن وسائل جديدة لتناول العلاقة بين المفهوم والوجود. إنه إجراء، ذلك أن الفلسفة الألمانية أصبحت في مجال سجال الفلسفة الفرنسية، بفضل الترجمة، شيئا بالغ الجِدَّة. لقد كنا أمام إجراء بالغ الخصوصية، يتمثل، إن أمكن القول، في تملك الفرنسيين الفلسفة الألمانية. إنه الإجراء الأول. ويهم الإجراء الثاني، الذي لا يقل أهمية [عن الأول]، العلم. لقد أراد فلاسفةُ النصف الثاني من القرن الفرنسيون انتزاع العلم من اختصاص مجال فلسفة المعرفة؛ وذلك بالبرهنة على أنها أشد اتساعا وعمقا من كونها مسألة بسيطة [من مسائل] المعرفة، باعتبار هذه الأخيرة نشاطا منتجا وابتكارا لا مجرد تأمل وإدراك. لقد أرادوا البحث في العلم عن نماذج للابتكار والتحويل، ليصلوا في النهاية إلى إدراج العلم مثالا لنشاط الفكر ونشاط خلاق مماثل للنشاط الفني، لا في الكشف عن الظواهر وتنظيمها. ويتمثل الإجراء المتعلق بالعلم في زحزحة العلم من مجال المعرفة إلى مجال الابتكار، لتقريبه تدريجيا من النشاط الفني. وتنتهي هذه السيرورة عند دولوز الذي يقارن بطريقة رفيعة وحميمية بين الابتكار العلمي والابتكار الفني؛ غير أنها بدأت قبلُ باعتبارها واحدا من الاجراءات المكونة للفلسفة الفرنسية.
وأما الإجراء الثالث فإجراء سياسي. لقد أراد فلاسفة تلك الفترة الزج بالفلسفة في صلب المسألة السياسية: فسارتر وميرلو-پونتي ما بعد الحرب وفوكو وألتوسير ودولوز، كانوا جميعهم نشطاء سياسيين. لقد بحثوا، عبر هذا النشاط السياسي، عن علاقة جديدة بين المفهوم والفعل. وكما كان الشأن عند الألمان، فقد بحثوا عن علاقة جديدة بين المفهوم والوجود؛ لقد بحثوا في السياسة عن علاقة جديدة بين المفهوم والفعل وبخاصة الفعل الجماعي. وستنتهي هذه الرغبة الأساسية في إقحام الفلسفة في الشأن السياسي بتغيير العلاقة بين المفهوم والفعل.
وفي الأخير هناك الإجراء الرابع، الذي يمكن تسميته إجراء حداثيا يتمثل في تحديث الفلسفة. لقد كانت للفلاسفة الفرنسيين رغبة جامحة في الحداثة، فقبل الحديث كل يوم عن تحديث الفعل الحكومي يجب اليوم تحديث كل شيء، (وهو ما يعني تدمير كل شيء). يعني هذا الأمر متابعة التحولات الفنية والثقافية والاجتماعية وتحول العادات عن كثب. وكان هناك اهتمام فلسفي شديد بالرسم اللاتجسيمي وبالموسيقى العصرية وبالمسرح وبالرواية البوليسية وبالجاز والسينما. لقد كانت هناك رغبة في تقريب الفلسفة من كل ما هو كثيف في العالم الحديث. كما كان هناك اهتمام قوي بالجنس وبطرق العيش الجديدة. وعبر كل هذا، كانت الفلسفة تبحث عن علاقة جديدة بين المفهوم وبين حركة الأشكال: الأشكال الفنية والاجتماعية وأشكال الحياة. تمثل ذلك التحديث في البحث عن صيغة جديدة لتقريب الفلسفة من ابتكار الأشكال.
لقد كانت هذه اللحظة الفرنسية إذن، تملكا جديدا للابتكار الألماني، رؤية للعلم خلاقة، راديكالية سياسية وبحثا عن أشكال جديدة للفن وللحياة. وعبر هذا كله، تعلق الأمر بموقع جديد للمفهوم، تنظيمٍ جديد له، زحزحةٍ لعلاقة المفهوم ب[تجلياته في] الخارج: [تعلق الأمرب] علاقة جديدة بالوجود وبالفكر وبالفعل وبحركة الأشكال. فما هو جديد في فلسفة القرن العشرين الفرنسية، هو جِدَّة العلاقة بين المفهوم الفلسفي و[تجلياته في] الخارج.
[3-علاقة الفلسفة بالأدب]: إن مسألة الأشكال، [مسألة] البحث عن [علاقة] حميمية بين الفلسفة وابتكار الأشكال، مسألة في غاية الأهمية. وهذا ما أثار، بطبيعة الحال، سؤال شكل الفلسفة ذاتها؛ فلم يكن من الممكن زحزحة المفهوم دون ابتكار أشكال فلسفية جديدة. وكان من اللازم تغيير لغة الفلسفة لا الاكتفاء بابتكار مفاهيم جديدة. فأدى هذا إلى إقامة علاقة خاصة بين الفلسفة والأدب، الميزة الجلية للفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. ويمكن القول إنها قصة فرنسية قديمة، بالتذكير بأن من كنا نسميهم في القرن الثامن عشر فلاسفة كانوا كتابا كبارا، أمثال فولتير وروسو وديدرو، كلاسيكيي الأدب الفرنسي وأسلاف هذه القضية. هناك في فرنسا بعض المؤلفين نحار في تصنيفهم ضمن الأدباء أم الفلاسفة، نحو پاسكال الذي لا شك في أنه أحد عظماء المؤلفين في تاريخنا الأدبي، و أحد مفكرينا النابغين.
ونجد في القرن العشرين، العقدين الثالث والرابع، ألان الفيلسوف ذا المسحة الكلاسيكية تماما، والفيلسوف غير الثوري، الذي لا ينتمي إلى هذه اللحظة التي أتحدث عنها، أكثرَ قربا من الأدب. والكتابة، بالنسبة إليه، أمر أساسي؛ وقد صنف شروحا عديدة على الروايات- تكتسي كتاباته عن بالزاك أهمية بالغة- وشروحا على الشعر الفرنسي المعاصر، وبخاصة شعر فاليري. فحتى الصور الكلاسيكية للفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، نلحظ فيها هذه الصلة الوثيقة بين الفلسفة والأدب. كما لعب السورياليون، أنفسهم، دورا مهما: فقد راموا، هم أيضا، تغيير العلاقة بابتكار الأشكال وبالحياة الحديثة وبالفنون. لقد أرادوا خلق أشكال عيش جديدة. وشكل هذا البرنامج بالنسبة إليهم برنامجا شعريا؛ غير أنه هيأ، في فرنسا،[الظروف] للبرنامج الفلسفي لسنوات العقدين الخامس والسادس. وأود التذكير بالروابط بين الاثنين: فلاكان وليفي-شتراوس عرفا السورياليين واختلطا بهم. وفي هذا التاريخ المعقد علاقة بين البرنامجين الشعري والفلسفي يمثلها السورياليون. وابتداء من السنوات الخمسين والستين ستضطلع الفلسفة نفسها بخلق شكلها الأدبي؛ وأصبح لزاما عليها إيجاد رابطة تعبيرية مباشرة بين العرض والأسلوب الفلسفيين والانزياح المفهومي الذي تقترحه. وأدى هذا إلى تغير مذهل في الكتابة الفلسفية. لقد ألِف الكثير منا هذه الكتابة، كتابة دولوز وفوكو ولاكان؛ إلى الدرجة التي أصبح يصعب معها تصور هذه القطيعة العجيبة مع الأسلوب الفلسفي القديم. كل هؤلاء الفلاسفة عملوا على امتلاك أسلوب خاص [بهم]، وعلى ابتكار كتابة جديدة؛ [وبعبارة] لقد أرادوا أن يكونا كتابا. نجد عند دولوز وفوكو شيئا غير مسبوق في حركة الجملة. فالعلاقة بين الفكر وحركة الجملة أمر جديد تماما. هناك إيقاع تأكيدي جديد تماما؛ وهناك منحى في الصياغة خلاقٌ كذلك. ونجد عند ديريدا علاقة اللغة باللغة معقدة وصلبة، اشتغالَ اللغة باللغة، ويتبلور الفكر باشتغال اللغة بذاتها. والتركيب عند لاكان بالغ التعقيد ولا يشبه غير تركيب مالارميه. فتركيبه وريث مباشر لتركيب مالارميه، وهو بهذا تركيب شعري.
جيل دولوز |
فقد كان هناك إذن، تحول في الأسلوب الفلسفي، ومحاولات لزحزحة الحدود بين الفلسفة والأدب؛ ويجب التذكير بأن سارتر روائي ومسرحي، وهو ما يشكل جديدا، وهي حالتي أنا أيضا. فما يميز هذه الفلسفة الفرنسية توظيفها لمستويات عدة من [مستويات] اللغة وزحزحة الحدود بين الفلسفة والأدب أو بين الفلسفة والمسرح. ونكاد نقول، في العمق، إن أحد أهداف الفلسفة الفرنسية تمثل في خلق فضاء جديد للكتابة، فضاء لا يمكن التمييز فيه بين الفلسفة وبين الأدب؛ لا يختص لا بالفلسفة ولا بالأدب، ولكنه فضاء كتابة لا نميز فيه بين الفلسفة والأدب، بين المفهوم وبين الحياة. وعبر هذا الابتكار وهذه الكتابة الجديدة، يتعلق الأمر بالتعبير عن الذاتالجديدة وابتكار صورة جديدة للذات في الفلسفة، في سبيل ابتكار سجال جديد حول الذات. فلا يمكن أن تكون هذه الذات الذاتَ العاقلة الواعية المعهودة عند ديكارت. وبعبارة دقيقة، لا ينبغي أن تكون الذاتَ المتأملة، بل شيئا ما شديد الغموض ووثيق الصلة بالحياة وبالجسد، ذاتا أوسع من الذات الواعية، شيئا شبيها بإنتاج ما أو إبداع يكثف في داخله قوى واسعة الانتشار. فأن يُطلق عليه لفظة ذات أو شيء آخر، هو ما كانت الفلسفة الفرنسية تحاول التعبير عنه أو العثور عليه أو التفكير فيه. وهذا ما يسوغ إقحام التحليل النفسي [في العملية]، ذلك أن ابتكار فرويد الكبير تجلى في تقديم اقتراح جديد حول الذات. فما جاء به فرويد بإثارة مسألة اللاشعور، هو أن مسألة الذات أوسع من الوعي وأنها تشمل الوعي من دون أن تُختزل فيه. إنها الدلالة الأساسية للفظة اللاشعور.
[4- علاقة الفلسفة بالتحليل النفسي]: نستنتج مما سبق أن الفلسفة الفرنسية المعاصرة برمتها، دخلت في حوار واسع مع التحليل النفسي. ويشكل هذا الحوار في فرنسا، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مشهدا بالغ التعقيد ويمكننا من الحديث طويلا عن هذا الأمر وحده ؛ ذلك أن هذا المشهد (هذا المسرح) بين الفلسفة والتحليل النفسي معبر وبالغ الدلالة. ولقد أدى رهانه، في العمق، إلى انقسام الفلسفة الفرنسية منذ بداية القرن العشرين إلى تيارين كبيرين.
ولنعد إلى هذا الانقسام. فنحن من جهة، أمام ما يمكن أن أسميه الحيوية الوجودية التي نجد أصلها عند برغسون، وتمر أساسا بسارتر وفوكو ودولوز؛ ومن جهة ثانية، نحن أمام ما يمكن تسميته الشكلانية المفهومية التي نجدها عند برونشفيغ وتمر بألتوسير ولاكان. وما يجمع الفريقين، الحيوية الوجودية والشكلانية المفهومية، مسألة الذات. فالذات هي، في النهاية، ما يحمل وجودها المفهوم. وهكذا يمكننا تعريف الذات في الفلسفة الفرنسية. وبمعنى ما، فإن لاشعور فرويد يحتل بالضبط هذا الموقع؛ فاللاشعور هو أيضا، شيء حيوي أو موجود، يحمل المفهوم. فكيف لوجود أن يحمل المفهوم؟ وكيف لشيء ما أن يُخلق انطلاقا من جسد؟ إنه السؤال المركزي، الذي يفسر هذه العلاقة المتينة بين [الفلسفة] والتحليل النفسي. وهي، بطبيعة الحال، علاقة في غاية الصعوبة، ما دامت تشبه العلاقة بين طرفين يقومان بنفس الشيء، ولكن بطريقة مغايرة. ويمكن القول إنها علاقة تواطؤ- بما أن الأمر يتعلق بفعل الشيء نفسه-، وفي الآن نفسه علاقة تنافس- ما دام هذا الفعل يتم بطريقة مغايرة. فالعلاقة بين الفلسفة والتحليل النفسي، في الفلسفة الفرنسية، هي بالتحديد هذه العلاقة: علاقة تواطؤ وتنافس. إنها [في الآن ذاته] علاقة انبهار وعشق وعلاقة صراع وكراهية. وهو ما يجعلها مشهدا عنيفا ومعقدا.
هناك ثلاثة نصوص أساسية توضح ما سبق:
فالنص الأول هو بداية كتاب باشلار (التحليل النفسي للنار) الصادر سنة 1938، الواضحة بخصوص هذه المسألة. فباشلار يقترح تحليلا نفسيا جديدا يستند إلى الشعر والحلم، يمكن تسميته تحليلا للعناصر [الأربعة]: النار والماء والهواء والتراب، أي تحليلا نفسيا عناصريا. ويمكن القول،في العمق، إن باشلار يحاول أن يستعيض عن الإكراه الجنسي عند فرويد بالاستيهام، ويبين أن الاستيهام شيء أشد اتساعا وانفتاحا من الإكراه الجنسي. وهذه المسألة نقف عليها بجلاء في بداية التحليل النفسي للنار.
والنص الثاني هو نهاية [كتاب] الوجود والعدم التي اقترح فيها سارتر ابتكار تحليل نفسي جديد، سماه التحليل النفسي الوجودي؛ والتي تظهر فيها [الثنائية] تواطؤ/ تنافس جلية. ويضع سارتر التحليل النفسي الوجودي في مقابل التحليل النفسي الفرويدي الذي يطلق عليه التحليل النفسي التجريبي. فهو يقترح تحليلا نفسيا نظريا، خلاف فرويد الذي اقترح تحليلا نفسيا تجريبيا.
وإذا كان باشلار أراد إبدال الإكراه الجنسي بالاستيهام، فإن سارتر أراد تعويض العقدة الفرويدية، أي بنية اللاشعور، بما سماه المشروع. فما يحدد الذات عند سارتر ليس البنية، عصابية كانت أو منحرفة، وإنما المشروع الأساسي، مشروع الوجود. ونجد هنا أيضا، مثالا جليا عن التوليف بين التواطؤ والتنافس.
والنص الثالث هو الفصل الرابع من كتاب دولوز وغواتاري نقيض أوديپ، الذي تم فيه اقتراح تعويض التحليل النفسي بمنهج آخر أطلق عليه دولوز التحليل-الفُصامي schizoanalyse ، وهو منهج مضاد للتحليل النفسي عند فرويد تضادا مطلقا. إنه لأمر رائع، ثلاثة من الفلاسفة الكبار يقترحون تعويض التحليل النفسي بشيء آخر؛ باشلار يقترح الاستيهام بدل الإكراه الجنسي، وسارتر المشروع بدل البنية أو العقدة، ودولوز البناء بدل التعبير كما يوضحه نصه بجلاء- فما يعيبه على التحليل النفسي أنه لا يقوم إلا بالتعبير عن قوى اللاشعور، في الوقت الذي ينبغي له أن يبني فيه هذا اللاشعور. يقول دولوز: لِنبْدلِ التعبير عند فرويد بالبناء الذي أثبت فاعليته التحليل-الفُصامي!".
[استنتاجات]:
يرتسم من كل ما سبق مشهد فلسفي سألخصه أمامكم [على النحو الآتي]:
فبالنظر إلى الأهداف المسطرة كان هناك برنامج فلسفي، وأعتقد أن ما يحدد اللحظة الفلسفية هو البرنامج الفكري [المسطر]. ومن الآكد أن الفلاسفة مختلفون وأن البرنامج متناول بطرق مختلفة. ويمكننا الوقوف على ما هو مشترك تاريخيا؛ وهو البرنامج، لا المؤلفات ولا النسق ولا حتى المفاهيم. فعندما تكون القضية مركزية تشغل بال أكثر من واحد، نكون حينئذ أمام لحظة فلسفية بتنوع كبير في الوسائل والمصنفات والفلاسفة. فما كان هذا البرنامج [الفلسفي]خلال الخمسين سنة الأخيرة من القرن العشرين؟
[يتحدد هذا البرنامج في ما يلي]:
1- عدم إقامة تعارض بين المفهوم والوجود، ووضع حد للفصل بينهما؛ وتبيين أن المفهوم حي وأنه ابتكار وسيرورة وحدث؛ وأنه، بهذا الاعتبار، غير مفصول عن الوجود.
2- إدراج الفلسفة في الحداثة، مما يعنى إنزالها من برجها الأكاديمي وجعلها تلتصق بهموم المعيش اليومي. يجب على الفلسفة أن تهتم بالحداثة الجنسية والفنية والاجتماعية.
3- التخلي عن مقابلة فلسفة المعرفة بفلسفة الفعل، ذلك الفصل الكبير الذي أقامه كانط، مثلا، بين العقل النظري والعقل العملي؛ وإبراز أن المعرفة في حد ذاتها ممارسة، وأن المعرفة العلمية هي في واقع الأمر ممارسة.
4- إقحام الفلسفة مباشرة في المشهد السياسي دون التعريج على الفلسفة السياسية، وجعلها في واجهة النضال السياسي. لقد أراد هؤلاء الفلاسفة، جميعهم، ابتكار ما أسميه المناضل الفلسفي، وجعْلَ الفلسفة ممارسة نضالية، في حضورها وفي صيغة وجودها. لم يريدوا أن يجعلوا من الفلسفة تأملا في السياسة فحسب، وإنما تدخلا فعليا فيها.
5- العودة إلى مسألة الذات والتخلي عن النموذج التأملي، مما يعني الدخول في حوار ومنافسة مع التحليل النفسي، والقيام بما يقوم به ومحاولة تجاوزه في مجاله.
6- خلق أسلوب فلسفي، أسلوب جديد في الكتابة الفلسفية يجعل هذه الأخيرة تنافس الأدب. وهو أمر يقتضي، في العمق، ابتكارا ثانيا أو إعادة خلق للكاتب الفيلسوف كما كان عليه الأمر في القرن الثامن عشر.
هذه هي اللحظة الفلسفية الفرنسية، ببرنامجها وطموحها الكبير. وأعتقد أنه كانت هناك رغبة أساسية؛ وفي نهاية المطاف، فإن كل هوية هي هوية رغبة ما. لقد كانت هناك رغبة أساسية في جعل الفلسفة كتابة فاعلة؛ أي وسيلة ذاتٍ جديدة ومواكبة لها؛ [وهو] ما يجعل من الفيلسوف شيئا آخر غير الحكيم، ويضع حدا لصورته [النمطية] كمتدبر ومعلم ومفكر. فأن يُجعل من الفيلسوف شيء آخر غير الحكيم، معناه أن يجعل منه شيء آخر غير منافس القس؛ كاتب مناضل، فنان لقضية الذات وشغوف بالإبداع. فالكاتب المناضل، فنان الذات، الشغوف بالإبداع والمناضل الفلسفي، كلها تسميات لتلك الرغبة التي شهدتها الفترة [المتحدث عنها] والتي كانت تروم جعل الفلسفة تتكلم باسمها لا غير. لقد جعلني هذا الأمر أفكر في الجملة التي أوردها مالرو في كتابه السنديانات التي نقتلعها والتي عزاها إلى دوغول، وهي أن "العظمة سير في طريق نحو شيء مجهول". وأعتقد أن الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين، اللحظة الفلسفية الفرنسية، دفعت الفلسفة إلى تفضيل [السير في] الطريق على معرفة الهدف، الفعل أو التدخل الفلسفي على التدبر والحكمة. لقد كانت فلسفة عارية من الحكمة، وهو ما يعاب عليها اليوم.
لقد فضلت اللحظة الفلسفية الفرنسية العظمة على السعادة. واعتقد أننا كنا نرغب في شيء بالغ الخصوصية، شيء مثير للإشكال: لقد رغبنا في أن نكون مغامري المفهوم. وفي حقيقة الأمر، لم تكن الرغبة في الفصل الجلي بين الحياة والمفهوم، ولا أن يكون الوجود خاضعا للفكرة أو المعيار، وإنما في أن يكون المفهوم نفسه طريقا لا ندري بالضرورة نهايتها. وفي العموم، تأتي فترة إحلال النظام بعد فترة المغامرة. وهذا هو الإشكال [بعينه]، وهو مفهوم: لقد كان في هذه الفلسفة جانب من روح القرصنة، يطلق عليه دولوز نزعة الترحال.
فالصفة التي يمكن أن نشترك فيها جميعا، هي أننا كنا مغامرين في سبيل المفهوم، وهو ما يسمح لي بالقول إن فرنسا عرفت خلال القرن العشرين لحظة مغامرة فلسفية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عنوان المحاضرة التي ألقاها الفيلسوف الفرنسي ألان باديو (المولود بالرباط في 17 يناير 1937) يوم فاتح يونيو 2004 بالمكتبة الوطنية بالعاصمة الأرجنتينية والتي سطا عليها محمد أندلسي ونشرها في العدد الأول من مجلة مقاليد (يونيو-غشت) التي تصدرها الملحقية الثقافية للسفارة السعودية بباريس بعنوان: مشاهد من الاتجاهات الفكرية في فرنسا. وقد ترجمناها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق