الاثنين، 9 مايو 2016

عقدة برميثيوس : غاستون باشلار

ترجمة: محمد صوف 


[1]


  Prometheus- Jan Cossiers
إن النار والحرارة تمنحان وسائل التفسير في مجالات متنوعة، لأنهما بالنسبة لنا، فرصة لاستحضار ذكريات حية دائماً. وتجارب شخصية بسيطة وحاسمة. النار، اذن، ظاهرة متميزة تستطيع تفسير كل شيء. اذا كان كل ما يتغير ببطء يعني الحياة، فإن كل ما يتغير بسرعة يعني النار. النار فوق ـ حية. النار حميمية وكونية. إنها تعيش في قلوبنا. تعيش في السماء. تصعد من أعماق المادة وتمنح نفسها كعاشقة. إنها تنزل من جديد في المادة وتختفي. خفية ومحتواة كالكراهية، كالثأر. وهي الوحيدة من بين كل الظواهر، التي تستطيع أن تتلقي بوضوح التقييمين المتناقضين: الخير والشر. تلمع في الجنة وتحرق في النار. انها العذوبة والعذاب، إنها المطبخ والقيامة. انها متعة الطفل الجالس بأدب قرب المدفئة، وعقابه عن كل عقوق إذا ما أراد أن يلعب مقترباً جداً من لهيبها. إنها الشعور بالراحة، والاحترام. وهي إله واقِ، حام وخبيث. تستطيع النار ان تتناقض: هي إذن أحد المباديء لتفسير الكون. 

ومن دون هذا التقويم الأولي لن ندرك معني احترام الحكم الذي يقبل التناقضات الصريحة. ولا الحماسة التي تراكم، دون برهان، النعوت الاكثر مدْحاً: مثلا، أي رقة وأي لا معني نجدهما في هذه الصفحة التي حررها طبيب في نهاية القرن الثامن عشر "لا أعني بهذه النار، الحرارة القوية، الصاخبة، المثيرة والمضادة للطبيعة. تلك التي تحرق الأمزجة والأغذية، بل تلك النار الهادئة، المعتدلة، الترياقية التي اذا رافقتها رطوبة تتوافق مع رطوبة الدم، تتغلغل في الامزجة المتنوعة. وكذا في العصير المغذي، تفرقها، تهدئها، تنشر قسوة ومرارة أجزائها، وتحيلها إلي درجة من العذوبة والرقة تجعلها تتوافق مع طبيعتنا"[1]. في هذه الصفحة لا وجود لبرهان واحد ولا لصفة، يمكن لهما تلقي معني موضوعياً. ومع ذلك، كم هي مقنعة! يبدو لي انها تجمع بين قوة الاقناع لدي الطبيب والقوة التي توحي بالعلاج. وبما أن النار هي العلاج الأكثر إيحاءاً، يصبح الطبيب أكثر اقناعاً إذا نصح باستعمالها. علي أي حال لن أعيد قراءة هذه الصفحة، فليشرح كل واحد هذا التقارب المتين ما استطاع، دون أن أتذكر الطبيب، الطبيب ذي الساعة الذهبية، الذي زارني وأنا طفل، وهدأ بكلمة أمّي القلقة. حدث ذلك في صباح شتوي، في بيتنا المتواضع، وكانت النار تلمع في المدفئة. أعطاني ملعقة من مشروب الطولو، لحست الملعقة. أين هو زمن الحرارة البلسمية والعلاجات الدافئة؟ 


[2]

عندما كنت مريضاً، كان أبي يوقد النار في غرفتي، وكان يضع الأخشاب المشتعلة علي الحطب بعناية كبري، ويمرر حفنة من النجارة بين الأخشاب الصغيرة. 

أن يخطيء في ايقاد النار فهو أمر في غاية البلادة المهينة. لم أكن أتصور أن لوالدي، مثيلاً، في هذه المهمة، التي لم يفوضها لأحد، ولا أعتقد أني أوقدت ناراً قبل سن الثامنة عشرة. لم أكن سيد مدفأتي إلا عندما عشت في الوحدة. لكن فن التدفئة الذي تعلمته من والدي ظل محل اعتزاز بالنسبة لي. كنت أفضل أن أتخلف عن درس الفلسفة ولا أتخلف عن إيقاد نار الصباح. ولهذا، فإني أقرأ بتعاطف كبير، لكاتب مقتدر يشتغل بالأبحاث الجادة، هذه الصفحة من مذكراته الشخصية[2]، "غالباً ما كنت أتسلّي بهذه الوصفة، كلما كنت عند الآخرين، أو كان عندي شخص ما في بيتي: تتبأطا النار وتميل إلي الانطفاء. يجب، اذكاؤها دون جدوي، بدراية ولمدة طويلة عبر دخان كثيف. يتم الالتجاء في النهاية إلي الاخشاب الصغيرة، إلي الفحم. لم تكن دائماً تأتي في الوقت المناسب، وبعد أن أخوض في الاخشاب السوداء، أتوصل إلي الحصول علي شرارات صغيرة: الشيء الذي يتطلب الصبر والجرأة والمتعة. كنت أحصل علي مهلة كهؤلاء التجريبيين الذين تمنحهم الكلية مريضاً بائساً. ثم اكتفي بأن أضع أمام ناظري بعض الجمرات دون أن أثير انتباه أحد. كنت أرتاح دون أن أكون قد اشتغلت، فتتجه إليّ النظرات كأنها تطلب مني أن أفعل شيئا. يتحكم اللهب في الحطب، فأتلقي الاتهام بأني رميت بمسحوق ما في النار. ثم يأتي الاقتناع كالعادة، بأني عرفت كيف أتعامل مع التيار. لم يستخبر أحد عن الحرارة التامة، المندفعة، اللاهية، ولا عن ذاك الجزء من الارض الواقع بين القشرة ونواتها، ولا عن السرعة التي تتصاعد بها درجات الحرارة".

ويستمر دوكارلا مظهراً طاقاته العائلية، ومعارفه النظرية الطموحة، حيث يصف انتشار النار كمتوالية هندسية وفق "سلسلات حرارية". وبالرغم من هذا الحساب الذي جاء في غير موضعه، فان المبدأ الأول للفكر الموضوعي لدوكارلا جد واضح، وتحليله فوري، لنضع جمرة علي جمرة وسيُسعدُ اللهبْ بيتنا.

[3]


قد نستطيع ان نستخرج من هذا مثلا للمنهج، الذي نقترح اتباعه من اجل تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية. والامر يتعلق بالعثور علي فعل القيم اللاواعية انطلاقاً من المعرفة التجريبية والعلمية. يجب علينا اذن ان نبين النور المتبادل الذي ينطلق من المعرفة الموضوعية والاجتماعية الي المعرفة الذاتية والشخصية، والعكس صحيح. يجب اظهار اثار تجربة الطفولة في التجربة العلمية، وبهذه الطريقة نستطيع ان نتحدث عن لا وعي العقل العلمي، وعن الطابع المتنوع لبعض البديهيات، ونري عدة قناعات تكونت في عدة مجالات تقبل علي دراسة ظاهرة خاصة.

ولعلنا لم نلاحظ بما فيه الكفاية أن النار كائن اجتماعي اكثر منه كائناً طبيعياً. لادراك صحة هذه الملاحظة، لسنا في حاجة الي تضخيم الاعتبارات المتعلقة بدور النار في المجتمعات البدائية، ولا الالحاح علي الصعوبات التقنية في التعامل مع النار. يكفي أن ندرس علم النفس الايجابي بتفحصنا بنية وتربية عقل متحضر. ان احترام النار احترام مكتسب وليس طبيعياً. ورد الفعل الالي الذي يجعلنا نسحب إصبعنا من لهيب شمعة لا يلعب أي دور واع في معرفتنا. قد نتفاجأ ونحن نعطي هذا اهمية كبري في كتب علم النفس المبدئية، حيث نجده ملازماً مستمراً لتدخل نوع من التأمل في رد الفعل، ولمعرفة  الحساسية الاكثر عنفاً. وفي الحقيقة، فإن الموانع الاجتماعية هي الأولي، وتأتي التجربة الطبيعية في المرتبة الثانية، لتضيف دليلاً مادياً مفاجئاً، أي من الغموض بشكل يحول دون تأسيس معرفة موضوعية. ان الاحتراق، أي الكبت الطبيعي، بتأكيده للمحظورات الاجتماعية، يمنح ـ في نظر الطفل ـ قيمة أكبر لذكاء الأب. هناك إذن في أساس معرفة الطفل للنار خلط بين الطبيعي والاجتماعي يطغي فيه الاجتماعي دائماً. لعلنا ندرك ذلك أحسن إذا قارناً بين اللسع والاحتراق. الاثنان يحثان علي التأمل. لماذا لا تكون اللسعة، كالنار، موضع احترام أو خوف. لأن المحظورات الاجتماعية المتعلقة باللسع أضعف من المحظورات الاجتماعية المتعلقة بالنار. 

وهذا، إذن، هو الاساس الحقيقي للاحترام أمام اللهب: اذا قرب الطفل يده من النار، ضربه والده علي أصابعه بالمسطرة. إن النار تضرب دون أن تحتاج إلي الاحراق، سواء كانت هذه النار لهباً أو حرارة، مصباحاً أو موقداً. فحرص الوالدين لا يتغير.النار اذن، منذ الاول، موضوع منع عام، ومن ثم هذه الخلاصة: إن هذا المنع الاجتماعي هو أول معرفة عامة عن النار.. ما نعرف أولاً عن النار، هو علينا أن لا نمسّها. وبمجرد ما يكبر الطفل، تأخذ الممنوعات بعداً عقلياً: فيحل الصوت الغاضب محل الضرب بالمسطرة، ويحل سرد أخطار الحريق والأساطير التي تحكي عن نار السماء محل الصوت الغاضب. وهكذا فإن الظاهرة الطبيعية تحشر بسرعة في المعارف الاجتماعية المعقدة والغامضة، التي لا تدع مجالاً للمعرفة الساذجة. 

إذن، بما أن الكبت في البدء من الموانع الاجتماعية، فإن مشكل المعرفة الشخصية للنار هو مشكل عقوق ذكي. عندما يكون الطفل بعيدأ عن والده يرغب في تقليده، وكبروميثيوس صغير يسرق عود الثقاب ويركض في الحقول. وفي عمق حافة ما يؤسس بيتاً للهاربين من المدرسة بمساعدة أصدقائه. ان طفل المدن لا يعرف هذه النار التي توقد بين ثلاثة أحجار. لم يذق البؤبؤ مقلياً ولا الحلزون اللزج علي الجمر الاحمر. قد يفلت من عقدة بروميثيوس التي شعرت دائما بفعلها. وحدها هذه العقدة تستطيع ان تجعلنا نفهم الاهتمام الذي نلقاه دائما الاسطورة الفقيرة في ذاتها، عند أب النار، ولا يجب التعجيل والخلط بين هذه العقدة وعقدة أوديب في التحليل النفسي الكلاسيكي. إن المكونات الجنسية للأحلام بالنار هي دون شك تكتسي أهمية كبري. وسنحاول أن نبينها، ولربما كان الأفضل أن نشير الي كل ايحاءات القناعات اللاواعية، بصيغ مختلفة، ولو عرفنا بعد ذلك كيف نترابط العقد. ويبدو لنا أن أحد امتيازات التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، التي نقترح، هوتفحص منطقة أقل عمقاً من تلك التي تدور  فيها الغرائز البدائية. ولأنها منطقة وسطي فإن فعاليتها حتمية بالنسبة للفكر الواضح والفكر العلمي. إن المعرفة والخلق حاجتان نستطيع تحديدهما في ذاتهما، دون أن تربطهما بإرادة القوة. وفي الإنسان إرادة حقيقية للإدراك.

إننا نحتقر الحاجة إلي الفهم عندما نضعها، كما فعل البراغماتيون والبرغسونيون، تحت السيطرة المطلقة لمبدأ المنفعية. نقترح اذن أن نصنف تحت اسم عقدة بروميثيوس كل النزعات التي تدفعنا الي المعرفة كآبائنا، بل اكثر من آبائنا، كأساتذتنا، بل اكثر من أساتذتنا. وبتعاملنا بدراية مع الموضوع، وبتطوير معرفتنا الموضوعية، نسطيع ان نتطلع إلي وضع أنفسنا علي المستوي العقلي الذي نال إعجابنا لدي آبائنا وأساتذتنا. إن السمو عبر غرائز أقوي يثير، بالطبع، عدداُ كبيراً من الافراد، لكن عقولاً أقل علي عالم النفس أن يتفحصها. وإذا كان العقل الخالص متفرداً، فهو أيضاً يتميز بتطور بشري خاصة. 

إن عقدة بروميثيوس هي عقدة أوديب في الحياة العقلية. 

ــــــــــــــــــــــــ
(*) عقدة برميثيوس، غاستون باشلار، الفصل الأول من كتاب " النار في التحليل النفسي " الذي صدر سنة 1938.


[1]
A-ROY-Desjonade, Les lois de la nature, applicables aux loix physiques de la medecine, et au bien ---general de lhumanite.

 [2]
Ducarla, Du feu complet, p. 307
المصدر: مجلة الكرمل، فلسطين، العدد رقم 30، 1 أكتوبر 1988.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق