ترجمة وتعليق: سعيد بوخليط
غاستون باشلار |
هناك كذلك شعراء صامتون، مسكتون (silenciaires)، شعراء يعملون أولا على إسكات عالم جد صاخب، ثم كل الانقصافات الراعدة. كما يسمعون هم كذلك ما يكتبونه في الوقت ذاته الذي يكتبون فيه، من خلال المقياس البطيء للغة مكتوبة. لا ينقلون القصيدة بل يكتبونها. في حين أن آخرون "يعزفون" ما أبدعوه مباشرة على الصفحة البيضاء! هناك آخرون "ينشدون" في البوق إلقاءات الآبهة. هم يتذوقون إيقاع الصفحة الأدبية حيث الفكر يتكلم، وحيث الكلام يفكر، يعرفون قبل تقطيع الشعر، والاستماع بأن الإيقاع المكتوب هو حقيقي، وبأن الريشة تتوقف من تلقاء ذاتها أمام تعاقب مصوتين (hiatus)، وترفض التجانسات الصوتية غير المجدية، لا يتوخون أكثر من تكرير أصوات سوى أفكار. كم هو عذب أن يكتب كذلك، وذلك بتحريك كل أعماق الأفكار المتأملة! كيف سيمكن الإحساس بالتخلص من أزمة سخيفة، متقلبة، ومبرودة (Salpêtrés)! وبطء القصيدة المكتوبة، تعثر الأفعال على تفاصيل حركيتها الأصلية. حيث يعود لكل فعل، ليس فقط زمن تعبيره، ولكن الزمن الصحيح لحركته. فالأفعال التي تدور والأخرى التي ترسل لا يخلصان أبدا حركتهما. وحينما تأتي صفة لتزهر جوهرها، فإن القصيدة المكتوبة، الصورة الأدبية يتركوننا نعيش بتمهل زمن الازهرارات. إذن فالقصيدة هي حقا الظاهرة الأولى للصمت. فهي تترك حيا، الصمت المنتبه تحت الصور. إنها تؤسس الشعر على الزمن الصامت، حيث لا شيء يطرق، يضغط أو يأمر، على زمن مستعد لكل الروحيات، زمن حريتنا. فكم هو مسكين الوقت الحي لقاء الأوقات التي تبدع داخل القصائد! قصيدة: موضوع زماني جميل يخلق مقياسه الخاص. وقد حلم بودلير بهذه التعددية في النماذج الزمانية (قصائد نثرية صغيرة، مقدمة): "من منا في أيام طموحه لم يحلم بمعجزة نثر شعري، موسيقى، بلا إيقاع ولا قافية، لين وغير مترابط بما فيه الكفاية لكي يتكيف مع الحركات الغنائية للنفس، مع تموجات التأمل الشارد، وكذا انتفاضات الوعي؟". هل يجب أن نشير أنه في ثلاثة سطور، حدد بودلير تقريبا كل التمظهرات الأساسية للديناميكية العروضية مع استمراريتها، تموجاتها وكذا نبراتها المباغتة؟ لكنه خاصة في تعدد أصواتها تتجاوز القصيدة المكتوبة كل إنشاد، ذلك أنه حينما نكتب ونتأمل فإن تعدد الأصوات يستيقظ كصدى لخاتمة (eéilogisme). فللقصيدة الحقيقية دائما طبقات متعددة. الفكر الموجز هو تارة فوق، وتارة تحت الصوت الرخيم. فعلى الأقل ثلاث مخططات ظاهرة في القياس المتعدد (polylogisme) الذي عليه إيجاد توافق الكلمات، الرموز ثم الأفكار. والإصغاء لا يمكن أبدا من الحلم بالصور في العمق. حيث اعتقدت دائما بأن قارئا متواضعا يتذوق بشكل أفضل القصائد وذلك بإعادة كتابتها من إنشادها. الريشة في اليد، وبالتالي سيكون لنا بعض الحظ لكي نمسح الامتياز الجائر للمصوتيات، ثم نتعلم أن نعيش ثانية أكثر التكاملات اتساعا تلك المتعلقة بالحلم والدلالة، تاركين للحلم الوقت لكي يجد علامته، وأن يشكل بهدوء دلالته.
كيف يمكن بالفعل، نسيان الفعل الدال للصورة الشعرية. العلامة هنا ليست استعادة، ذكرى، السمة المتعذر محوها لماضي بعيد، لكي تكون جديرة بلقب صورة أدبية، فيحتاج إلى استحقاق أصلي. ذلك أن صورة أدبية هي معنى لحالة ناشئة، الكلمة -الكلمة القديمة- تأتي لتحصل على دلالة جديدة. ولكن هذا لا يكفي أيضا: فعلى الصورة الأدبية أن تغتنى بحلمية جديدة (Onirisme nouveau). الدلالة على شيء آخر ثم العمل على الحلم بشكل آخر، تلك هي المهمة المزدوجة للصورة الأدبية. القصيدة لا تعبر عن شيء يبقى بالنسبة إليها غريبا. حتى بالنسبة لنوع من الديداكتيكية الشاعرية بشكل محض التي تعبر عن القصيدة، فإنها لا تعطي الوظيفة الحقيقية للشعر. ليس هناك قصيدة سابقة عن عمل الفعل الشعري، كما أنه لا توجد حقيقة قبلية عن الصورة الأدبية، ولا تأتي لتكسو صورة عارية، ولا إعطاء الكلام لصورة خرساء، الخيال فينا يتكلم، أحلامنا تتكلم، وأفكارنا تتكلم. فكل نشاط إنساني يرغب في التكلم، وحينما يعي الكلام بذاته فإن هذا النشاط الإنساني يسعى حينئذ إلى الكتابة، بمعنى تنظيم الأحلام والأفكار. الخيال يبتهج بالصورة الأدبية. فالأدب إذن ليس بديلا عن أي نشاط آخر. بل يتمم رغبة إنسانية ويجسد بروزا للخيال.
الصورة الأدبية تذيع مصوتيات، والتي يجب تسميتها مصوتيات مكتوبة. وذلك وفق نموذج هو بالكاد مجازي. نوع من الأذن المجردة، قادرة على تناول أصوات مضمرة، تستيقظ ونحن نكتب، كما تفرض الشرائع التي تحدد الأجناس الأدبية. ومن خلال لغة مكتوبة بعشق، فإن نوعا من الإصغاء المنقذف يتأهب دون أية تأثرية. فطبيعة (audiens )تتقدم على طبيعة (audita). الريشة تغني! إذا قبلنا هذا المفهوم عن طبيعة (audiens)، فإننا سنفهم كل قيمة التأملات الشاردة لجاكوب بويهم (Jacobe Boehme )"لكن، ماذا تفعل إذن حاسة السمع l’ouie لكي تسمع الذي يرن ويتحرك؟ هل نقول بأن هذا يتأتى من صوت الشيء الخارجي الذي يرن كذلك، لا، هذا يجب أن يكون شيئا يحتجز الصوت، ويكون شنيعا معه، كما يميز الصوت الذي لعب أو غنى". خطوة أخرى ثم الكائن الكاتب يسمع فعل كتب، الفعل الذي جعل للأفراد. بالنسبة للذي يعرف التأمل الشارد المكتوب، يعرف كيف يحيا، يعيش بشكل كلي، فيض القلم، الواقع بعيد إلى حد ما! فما كان عندنا لنقوله أزيح بسرعة كبيرة من قبيل الذي نأخذه على غرة لكي نكتبه. حيث نحس جيدا بأن اللغة المكتوبة تخلق عالمها الخاص. عالم جمل تتموضع بترتيب على الصفحة البيضاء، وذلك في إطار ترابط للجمل لها في الغالب قوانين جد متعددة، لكنها تحرس دائما القوانين الكبرى للخيالي. فالتوارث التي تغير العوالم المكتوبة تتم لحساب عوالم أكثر حياة، أقل تصنعا ولكن إطلاقا دون مسح وظائف العوالم المتخيلة. البيانات الأكثر ثورية، نشكل دائما تأسيسات أدبية جديدة. إنها تقوم بتغيير العالم لنا، ولكنها تأوينا دائما في عالم متخيل.
من جهة أخرى، فحتى في صور أدبية منعزلة، نحس بحركة هذه الوظائف الكونية للأدب. فصورة أدبية تكفي في بعض الأحيان لكي تنقلنا من عالم إلى آخر، حيث هنا تظهر الصورة الأدبية كالوظيفة الأكثر تجددا للغة. اللغة التي تتطور بصورها أكثر من مجهودها السيمانطقي. في تأمل خيميائي، يسمع جاكوب بويهم (Jacob Boehme )"صوت العناصر" بعد انفجارها، حين دمر الانفجار جهنم الإمساكية La géhenne de l'istringenie حينما "اقتحم باب الظلمات". كذلك، فالصورة الأدبية متفجر. تعمل فجأة على فرقعة الجمل المنجزة، كما تهشم الأمثال التي تتدحرج من عصر إلى آخر، وتسمعنا المواد بعد انفجارها، حينما تركت جهنم جذرها، وحينما اقتحمت باب الظلمات، حينما غيرت مادتها. باختصار، الصورة الأدبية تضع الكلمات في حركة كما تردها إلى وظيفتها الخيالية.
بصدد الفعل المنطوق، الفعل الذي نكتبه للامتياز الكبير باستحضار أصداء مجردة حيث الأفكار والأحلام تنعكسان. الكلام المبين يأخذ منا كثيرا من القوة، كما يتطلب أكثر مما ينبغي من الحضور. فهو لا يترك لنا السلطة الكلية على بطئنا. هناك صور أدبية تأخذنا إلى تأملات لا نهائية، صامتة. حيث سندرك امتزاجا عميقا للصمت داخل الصورة ذاتها. وإذا أردنا دراسته، فلا يجب أن نجعل منه مجرد دياليكتيكية خطية للوقفات والصيحات طيلة الإنشاد. بل من الضروري أن نفهم بأن مبدأ الصمت في القصيدة يتحدد في كونه فكرا محجوبا وسريا. فما إن يفطن فكرا إلى الاختفاء تحت صور ترصد قارئا في الظل، حتى تختنق أصوات، ثم تبدأ القراءة المتمهلة والحالمة. كما أنه في البحث عن فكر مختبئ تحت الترسبات التعبيرية، تنمو جيولوجية الصمت. وسنجد في عمل ريلكه (Rilke )مجموعة من النماذج عن هذا الصمت العميق نصيا textuellement حيث الشاعر يلزم القارئ لسماع الفكر، بعيدا عن الأصوات الحساسة، وعن الهمس القديم للأفعال الماضية. وفقط حينما يتم هذا الصمت فإننا نفهم النفس التعبيري الغريب، الوثوب الحيوي لاعتراف:
لا، لا شيء تحبه، أيها الفتى، حتى وإن
أرغم صوتك فمك – ولكن
تعلم نسيان انتفاضة صيحتك. تخطر.
غنى حقا آه! إنه نفس آخر.
نفس حول لا شيء. تحليق إلى الله. ريح.
هكذا فنصيحة الوصول إلى الصمت تم التعبير عنها بإرادة الصيرورة الهوائية، بالقطع مع مادة عينية بما يكفي، أو إلزام الثروات المادية، بتساميات، تحررات وكذا حركيات. فبأحلام الهواء تصبح كل الصور عالية، حرة، متحركة.
لتكون أجمل الصور الأدبية غير مفهومة دفعة واحدة، ولتظهر شيئا فشيئا في الآن نفسه داخل صيرورة حقيقية للخيال، ومن خلال غنى للدلالات، فذلك برهان على إمكانية خاتمة تحدد الصورة الأدبية كوظيفة سيكولوجية جد خاصة، التي عليها يجب أن نلح قليلا.
إن الصورة الأدبية وهي مأخوذة من خلال إرادتها لتشغيل التعبير، تشكل حقيقة فيزيائية لها بروز خاص، وبشكل أدق البروز النفسي، فالنفسية لها مستويات متعددة، إما تنحفر أو ترفع. تعثر ثانية على عمق حيث توحي بارتفاع، تصعد أو تنحدر بين السماء والأرض. إنها متعددة الأصوات لأنها متعددة المعاني. وهي معاني إذا انقسمت بإفراط، فمن الممكن أن تسقط في "لعبة الكلمات"، أما إذا بقيت في معنى واحد، فذلك يمكن أن يؤدي بها إلى الديداكتيكية. والشاعر الحقيقي، هو الذي يتجنب الخطرين، يلعب ثم يعلم. فالفعل عنده يتأمل ويرتد كما أن الزمان يأخذ في الانتظار. القصيدة الحقيقية توقظ رغبة لا تزد بأن تقرأ ثانية حيث سيحضر بسرعة عندنا الانطباع كون أن القراءة الثانية ستقول عنها أكثر من الأولى، وبأنها كذلك –مع الاختلاف الكبير عن قراءة تعقلية- هي أكثر هدوء من الأولى، إنها متأملية. إننا لا ننتهي أبدا بها من الحلم بالقصيدة، أبدا لا ننتهي من التفكير فيها. وفي بعض الأحيان يأتي مقطع شعري كبير، محمل بحزن أو فكر ما حيث يهمس القارئ –القارئ المنعزل-: ولم تكن لتقرأ قبل هذا اليوم.
الصورة الأدبية، ومن خلال العمل الداخلي لقيمها الشعرية تظهر لنا بأن تأليف الصنع المزدوجة (doublet) هو نشاط لساني طبيعي وخصب. حتى إذا لم تظهر لغة عالمة لكي تحتجز المعنى الجديد، فإن حساسية لسانية تبين بإفراط حقيقة ازدواجيات المعنى. فهذه الثنائيات، والثلاثيات في المعنى هي التي تتبادل في "التوافقات". ثنائي، ثلاثي ورباعي كل ذلك يتشكل بشكل أفضل إذا استطعنا تأكيد وتمديد الانطباعات وذلك باتباع التأملات الشاردة للخيال المادي حول اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة عناصر متخيلة. لكن لنعط مثالا عن صورة أدبية حيث نحس بنشاط ثالوث شعري. وسنجد ذلك في لفة من قصة "لإدغار بو Edgar Poe"، عرضا. فهي تحديدا بالنسبة لنا أحد المناسبات لتوقف القراءة، ولم تنته أبدا بواسطتها من الحلم عندها.
إدغار بو (Edgar Poe)، في حكاية إنسان الحشود (L’homme des foules)، يحلم بالليل الساقط أمام الجمهور الثائر لمدينة كبيرة. وبمقدار ما يصبح الليل أكثر عمقا، بقدر ما يصبح الحشد أكثر إجراما. ففيما يعود الرجال الشرفاء، فإن الليل "يسحب كل صنف شائن من جحره". وشيئا فشيئا، فإن شر اليوم الميت، يحصل وهو يسود على لحنية شر أخلاقي. نور الغاز، الحراق المغشوش، يلقي "على كل شيء نورا متلألأ ومضطربا". ثم، دون أي تحضير، تفرض التغيرات المتعددة لهذه الصورة الفضولية التي إليها نستدعي انتباه القارئ: "كل شيء كان أسود، لكن لامعا –مثل هذا الأينوس الذي قارنا به أسلوب تيرتوليان Tertullien".
إذا ذهبنا لنعيش في قصائد أخرى لإدغار بو الصورة المحبوبة للأينوس، لنتذكر بأن الأينوس بالنسبة إليه هو الماء السوداوي، الثقيل والأسود، سنحس بحركية أول تغير مادي، حينما سيصبح الشفق (Le crépusule)، الذي كان هوائيا منذ لحظة، مادة ليلية، كثيفة ولامعة، محركة تحت الغاز انعكاسات للنور سيئة. وما تكاد هذه الأحلام الأولى تتشكل، حتى تكون الصورة قبل ذلك قد اتسعت: الحالم يتذكر أسلوب تيرتوليان (Tertullien) مثل نبؤة معتمة. ها هو إذن الثالوث: الليل، الأينوس، الأسلوب. وفي أكبر عمق، ثم أكثر التبعثر اتساعا، فإن الهواء متجهم من –الماء- فمن المحتمل أيضا أن خشبا معدنيا –ثم صوتا مكتوبا- صوتا صلبا، مرتحل بوزن –تفخم مثل سواد يتكهن- بمعنى الشر، الخطأ، ثم الندم..
كم من التأملات الشاردة في سطرين! وكم هي تغيرات المواد المتخيلة! وخيال القارئ بعد إقامة متمهلة في عالم التأملات الشاردة الذي أتينا على فتحه له، ألا يظهر كحركية خالصة للصور؟ مختصرات عنيفة هي، من الآن ممكنة. نعم، مثل هذا الليل الأسود هو كأسلوب شرس، أما سواد ليل آخر فهو لزج مثل أنشودة حزينة. للصور أسلوب والصور الكونية هي أساليب أدبية. الأدب عالم مقبول. صور أولية. إنها صور الحلم المتكلم الذي يعيش في حده التباث الليلي بين الصمت والهمس. –حياة متخيلة- الحياة الحقيقية! تنتعش حول صورة أدبية محضة. فبالنسبة للصورة الأدبية يجب أن نقول مع ميلوز O.de Miloz (اعتراف لوميل La confession de Lemuel، ص74):
ولكنها هنا أشياء
حيث الاسم لا صوتا ولا صمتا
كم هو ظالم النقد الأدبي الذي لا يرى في اللغة سوى تجليا للتجربة الباطنية! بالعكس، فاللغة هي دائما شيئا ما عند مقدمة فكرنا، شيئا ما أكثر غليانا من حينا، إنها الوظيفة الجميلة للتهور الإنساني، التفاخر المقوي لطاقة الإرادة، الشيء الذي يبالغ في القوة. لقد أشرنا في مناسبات عديدة خلال هذه الدراسة إلى الطبيعة الديناميكية للمبالغة الخيالية، حيث بدونها لا يمكن للحياة أن تتطور. وفي كل الأحوال، فالحياة تأخذ أكثر مما ينبغي لكي تحصل على الكافي. كما أن على الخيال أن يأخذ بشكل مفرط لكي يكون للفكر ما يكفي. وعلى الإرادة أن تتخيل بزيادة لكي تحقق كغاية.
تعليق:
يعرف باشلار من خلال دراساته حول الخيال الإنساني, إلى إيجاد الآليات النظرية التي تمكن من مقاربة الصورة الأدبية عامة والشعرية خاصة، برؤية تحاول النظر إلى هذه الصورة، كحقيقة أولانية غير مسبوقة بأي تحديد قبلي. فالصورة حسب باشلار تدرك في ذاتها وكينونتها من خلال حضورها وتجليها في الوعي. دون ربط هذه الصورة بأي محددات نظرية ومفاهيمية سابقة. لا جسر يربطنا بالصورة إلا الاندهاش. الصورة حسب باشلار تخلق ذاتها باستمرار، تعمل على تجاوز ممكنات إنتاجها الآني، بشكل يجعل ماضيها يساوي الدرجة الصفر. بعد الحاضر فقط هو المتحكم في صيرورة الصورة، فهي حالات ولادة لا نهائية، تتجاوز ممكناتها التحقيبية لتخترق اللانهائي.
فحداثة الصور –الشعرية خاصة- التي يبحث فيها الخيال تتعلق بالمرور إلى صور غير معاشة، لا تهيئها الحياة، والتي يخلقها الشاعر حيث تكون القصيدة مفاجئة، وتتميز صورها بخاصية اللاتوقع حيث يكون حدوثها غير متوقع (imprévisible). لهذا سيتبنى باشلار المنهج الظاهراتي الذي يمكن من مقاربة الصورة الشعرية في مباشريتها، فهي ليست خاضعة لدافع، كما أنها ليست صدى لماضي. وأساس القطيعة بين المنهج الجديد الذي تبناه باشلار وبين التصورات التقليدية للصورة في التحليل النفسي يرجع إلى كون أن هذا الأخير بالإضافة إلى حتميته، فإنه يحاول دائما البحث عن الخلفيات اللماذاتية المتحكمة في إنتاج الصورة، كما أنه يختزل الصورة التي هي راسب (Résidu) للإدراكات القديمة. ويمكن التحدث عن بعض التمرحلات الفكرية الباشلارية في دراسة الصورة الأدبية، وكذا علاقة الخيال بهذه الصورة:
? في كتاب التحليل النفسي للنار(1938) كان باشلار متأثرا بالمنحى العقلاني وبالموضوعية، حيث نظر إلى صور وحدوس النار كعوائق إبستمولوجية، لهذا من الضروري حسب باشلار القيام بتحليل نفسي لنار. وقد كان معيار الموضوعية هو المبدأ المتحكم في مقاربة باشلار للعناصر المادية الأربعة. كما ارتبط الخيال بالخطإ.
‚ شاعرية المكان (1957) أكد باشلار في مقدمة هذا الكتاب بأن الفيلسوف الذي تشكل فكره في ارتباط بالموضوعات الأساسية لفلسفة العلوم، يجب أن ينسى كل معرفته وأن يقطع مع كل عاداته في البحث الفلسفي، إذا أراد دراسة المشاكل التي سيطرحها الخيال الشعري. وقد دعا باشلار في هذا الكتاب إلى تبني المنهج الظاهراتي، كبعد يمكننا من المحافظة على ذاتية الصور وكذا الحصول على قيمتها الجديدة.
ƒ الماء والأحلام (1942) في هذا الكتاب سيتصور باشلار تحليله النفسي للعناصر، ضد التأويل الفرويدي لماري بونابارت.
„ الهواء والتأملات (1943) من خلال هذا العمل، سيكمل باشلار نظريته في الخيال المادي بنظرية في الخيال الديناميكي، والذي سيقود إلى الظاهراتية، وبالرفض لكل التحليل النفسي.
لقد أكد باشلار مرارا بأن قيمة الصورة، تتحدد بهالتها الخيالية. لهذا سيعارض بحداثة الصورة وجدتها مزاعم قوانين الخيال، ذلك أن للخيال حتميته الخاصة. وسيتحدث باشلار عن بسيكولوجيا مباشرة للخيال، ذلك أن الصورة تؤسس ذاتها باعتبارها معطى مباشرا للوعي، كما سينظر إليها من زاوية ديناميكية تنتقذ كل نزعة تذهب إلى الاختزال. ودعا إلى النهوض ضد تأويلية الصورة كرمز يمكن أن تختزله إلى دلالته حيث سيؤاخذ باشلار على التحليل النفسي موقفه التأويلي من الرمز، أي عدم النظر إليه في استقلالية. وقد كانت كتابات باشلار تهدف إلى تحديد استقلالية الرمزية، (Autonome du symbolisme). فالتحليل النفسي حينما يسعى إلى تعريف الصور برمزيتها، فإنه ينسى جانبا بأكمله من البحث، ميدان الخيال نفسه. مع أن النفسية محركة بعطش حقيقي للصورة. فالصور هي الحقائق النفسية الأولى… دراسة الصورة في ذاتها إذن هو الإطار المنهجي الذي وضعه باشلار لذاته، حيث سيقترح منهجية تتحدد في التموضع عند منطلق (Au départ) الصورة، وليس قبل كما يريد ذلك سارتر، أو بعد كما تدعو إلى ذلك كثير من النقدات الأدبية. لهذا سيوظف منهجية فينومينولوجية، ارتبطت بميتافيزيقا للخيال والتي تؤكد كمبدإ: الخيال يولد وينتج الفكر. فباشلار لا يكتفي بفهم بيت شعري لريلكه أو شيلي، بل إنه يريد أن يعيش صور هؤلاء الشعراء في مشاركة وجدانية.
في كتابه الأرض وتأملات الراحة، يلزم باشلار القارئ بمواصلة صور الكاتب والإحساس بحالة الخيال المفتوح، ثم الحصول من المؤلف على الإذن المطلق بالتخيل. وقد اقترح باشلار لإيجاد أصالة الصورة وصفاء الحلم، النظر إلى ذلك من خلال:
1 ـ الخاصية الجنسية، الاجتماعية والإنسانية للحلم.
2 ـ الجماليات.
3 ـ العقلانية.
فالتحليق الحلمي مثلا (Le vol onirique)، ككل الرموز السيكولوجية يحتاج إلى: تأويل شخصي، جمالي ثم عقلي موضوعي. ولكن هذا الثلاثي التأويلي يحصل على قيمته من خلال إعطاء الحلم والصورة صفاءهما الأصلي. وفي كتاب الهواء والتأملات (L’Air et les songes)، ينصح باشلار من أجل تشييد علم نفس للخيال، بالإنطلاق نسقيا ومنهجيا من الحلم. وذلك لاكتشاف الصور الديناميكية. وقد وظف باشلار مصطلح الديناميكية في منحيين:
1 ـ في معنى أولي يتحدث عن الصورة الأولى، أي عن صورة ليس لها ارتفاع حقيقي، حيث هي مستقلة، وتظهر في النشاط النفسي كمحرك أول. باختصار إنها صورة أصلية. وربما تدخل قراءة باشلار لقصيدة "لوتريامون" Lautréamont، في إطار رغبته في استخلاص خصائص ومميزات الصور الديناميكية.
2 ـ وفي معنى آخر، يسمي ديناميكية صورة، والتي سيسميها في بعض المواضع نشطة (active)، من أجل التأكيد على أن الصورة المنبثقة دفعة واحدة داخل الوعي غير ديناميكية، هي نفسها ديناميكية أو مولدة لتجربة الإحساس، لمبدإ أو لجيل من الصور. ذلك أن الصورة يمكن أن تكون مادية وديناميكية في الآن نفسه.
فوحدها نظرية للخيال الديناميكي يمكن أن تدرك وتفهم استمرارية (continuité) بعض الصور، ويعطي باشلار كمثال عن ذلك بالتحليق الحلمي (le vol onirique)، الذي هو مبدأ استمرارية الصور الديناميكية للماء والهواء. ولكي يدرس باشلار الصورة في ذاتها فقد تبنى نوعا من الذرية الخيالية، أي دراسة ممارسة الصور منعزلة ومحددة مثل شعلة قنديل (La falmme d'une chandelle)، معايشة الصورة في ذاتها، في حقيقتها المتخيلة، لأنه بهذا الشرط الوحيد نتحرر من ضغط الأشياء والأشكال لصالح الوظائف الحلمية.
وقد اقترح باشلار خطاطة للخيال الديناميكي: رغبة/ صورة/ كائن، المراحل الثلاث للنشاط الخيالي. فباشلار يحدد الصورة بالقوة التي تولدها. يرد الصورة المتخيلة إلى الخيال، الرغبة عنده لا توجد إلا في الصورة التي تجسدها. فالرغبة في الطيران مثلا هي بالنسبة إليه التخيل بأننا نطير، كما أن صورة الطيران تنطوي على إرادة في الطيران. فالإرادة والتخيل غير منفصلين في النظرية الباشلارية. لهذا سيردد غير ما مرة اسم شوبنهاور: "ليس العالم هو الذي يبدأ، العالم إتارثي". فالخيال هو قوة أولى.
إن معالجة الصورة الأدبية، يتطلب منهجية تختلف عن التي تطبق في معالجة العصابيين أو في تأويل الأحلام. لهذا أكد باشلار على استبدال مسلمة الحتمية التي ميزت التحليل النفسي الكلاسيكي بمبدإ آخر هو أصالة الصورة، كظاهرة لبروز النفسية. فإذا كانت الصورة الأدبية صورة متجولة، مترجمة ومعقلنة، لا يكفي أن نجد لها سوابق بسيكولوجية. وإذا كانت الصورة معنى لحالة ناشئة، فإن البحث عن سوابق ليس فقط غير كاف ولكنه معوز للمعنى. فباشلار لا يهتم بماضي الصورة، وينكب على صيرورتها ثم التغيرات التي يفرضها العقل على الصورة.
ولربما أهم شيء أخذه باشلار من الاتجاه السوريالي، هو هذا الاهتمام المطلق بالصورة الأدبية، على اعتبار أن هذه الأخيرة تشكل نافذة نحو اللانهائي، لهذا كانت محاولات باشلار في الخيال، تذهب إلى تأسيس عناصر فلسفة الصورة الأدبية. ويسعى إلى أن يخلص ذهنيتنا من الآلة العقلانية، التي يمكن أن تحور نقاء وصفاء الصورة الأدبية، وتمنعنا من أن نعيش بشكل صحيح الرؤية التي يدعونا إليها الشاعر. لقد تبنى منهجية تقتضي بالنسبة إليه النظر إلى الصورة في أصلها وكمصدر للوعي. لهذا سينطلق من مسلمة أساسية تعلن كشعار لها: لا اختزالية الصورة L’irréductibilité de l’image، حيث النظر إلى الصورة في كليتها. كما سيتموضع في موقع الانطلاقة، ويعيش كائن الصورة في مباشريته، فهي بدء مطلق. ذلك أن المبدأ الظاهراتي يستند على أساس إعادة تخيل الصورة من أجل فهمها، وعلى المستوى المنهجي لم يؤسس باشلار نسقا محددا بذاته، لدراسة الصورة الشعرية. ذلك أنه كان ملزما بأن يشتغل على مستوى الصور من صورة إلى أخرى. وبالتالي فالمنهج الظاهراتي يمكن باشلار من أن يعيد تخيل الصورة، التي يعطيها الشاعر وذلك من خلال التموضع عند منطلق الصورة. إن الظاهراتي وهو يعتقد بقيمة الصورة، قيمة الصدى (rententissement)، لا يقارب هذه الصورة من منطلق الحتمية. إنه يستقبل الصورة الشعرية كصدى، والصدى لا يمكن أن يكون مجرد إعادة إنتاج. فهو لكي يدرس صور الشعراء, يجب أن يتبنى هو نفسه وعيا خياليا نشطا، أي وعي الشاعر الذي يعيد خلق ما يستقبله. يمكن أن نعرف الفينومنيولوجيا الباشلارية لخيال الصور كفينومينولوجيا للوعي، وفينومينولوجيا الصورة ستكون هكذا فينومينولوجيا للوعي الحالم، أي وعي طيع، متنبه، جاهز لعفوية الصورة.
لكي نفهم إذن الصورة داخل الدرس الباشلاري، يجب التنازل عن الفهم من أجل التخيل، أي فصل لغة المفهوم عن اللغة الخاصة للخيال، تم التعامل مع الصورة كنمط من المعرفة غير قابلة للاختزال إلى المفهوم والإدراك. لذا فباشلار لا يميز الحركة الأصلية للخيال، إلا من أجل إظهار علاقته بالإدراك (La perception). يترقب الخيال في وظيفته الحداثية (Novetrice) واللاواقعية. لقد انطلق باشلار من إبستمولوجيا مؤسسة على موضوعية مطلوبة من قبل العلم، ليأتي في نهاية عمله إلى تأسيس ظاهراتية للخيال الشعري، حيث اعتبر وجود الخيال كنمط من الوعي ينشأ بشكل مستقل، كما عرف الخيال باعتباره وظيفة للاواقع (L’irréel). فالخيل الباشلاري له وظيفة إعطاء اللاواقع حقيقته. فخيال الصورة عنده يؤسس ويبني في بعض الأحيان فلسفته، ومرة يضع كفرضية للعمل كون أن الخيال هو قوة أولية. ثم بمنهجيته التجريبية المسلماتية، ينقله إلى فلسفات مختلطة فيها بصمات الواقعية والمثالية. لقد حارب باشلار الواقعية الساذجة التي ترى بأن لا شيء في الفكر، وحيث المعاني تأتي من الصور، حيث دعا إلى واقعية مفتوحة وليست مطلقة ما دام أن دروس العالم المادي هي دائما متقلبة، كما عارض المثالية، ما دام أن الكائن المتخيل هو بالنسبة إليه الشكل الأول للنفسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق