الثلاثاء، 24 مايو 2016

الكلماتُ والأشياء: ميشيل فوكو (اقتباسات)

ترجمة: فريق عمل بإشراف مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي

التاريخ : ميشيل فوكو [1]
ــــــــــــــــــــــــــ
   
ميشيل فوكو
أن التاريخ قد ظهر قبل نشوء العلوم الإنسانية، فقد قام، منذ أقدم عصور اليونان، بعدد كبير من الأدوار الكبيرة في الثقافة الغربية: فكان ذاكرة، أسطورة، ونقلاً للكلمة والمثل، موصلاً للتقاليد، وعياً نقدياً للحاضر، استشفافاً لمصير الإنسانية، استباقاً للآتي ووعداً بالعودة . إن ما يميز هذا التاريخ ـ أو ما يمكن علي الأقل أن يحدده في خطوطه العريضة بالقارنة مع تاريخنا نحن ـ هو انه حين كنا نربط زمن البشرية بمصير العالم (في تأريخ كوني كبير، كما عند الرواقيين)، أو حين كنا نطبق، بالعكس، علي أصغر عناصر الطبيعة مبدأ وحركة نهائية بشرية (كما تفعل نوعاً ما العناية الآلهية عند المسيحيين)، كنا نتمثل تاريخاً كبيراً أملس متناسقاً في كل جوانبه، يجر في تيهانه، في سقوطه أو في صعوده، في دورته، كل البشر ومعهم الأشياء، الحيوانات، الكائنات الحية أو الجامدة، وحتي صفحات الأرض الأكثر صفاء. هذه الوحدة هي التي تفسخت في أوائل القرن التاسع عشر عند التحول الكبير الذي طرأ علي الإبستيمية الغربية، فاكتشفت تاريخية خاصة بالطبيعة، وتحددت، حتي بالنسبة لكل صنف كبير من الكائنات الحية، أساليب تكيف مع البيئة سمحت فيما بعد بتحديد سياق تطوره، والأعظم من ذلك أنه تم البرهان علي أن نشاطات إنسانية مميزة جداً مثل العمل واللغة تنطوي في ذاتها علي تاريخية لا تجد مكاناً لها في الحكاية الكبيرة المشتركة فيما بين الأشياء والإنسان: فللإنتاج أنماط تطور، ولرأس المال أنماط تثمير، وللأسعار قوانين تأرجح وتبدل ليس بالإمكان قياسها علي القوانين الطبيعية، ولا حصرها في سيرورة الإنسانية بشكل عام، وكذلك الأمر بالنسبة للغة، التي لا تتغير كثيراً بعوامل الهجرة والتجارة والحروب، تبعاً لما يحل بالإنسان أو لما يستنبطه مزاجه، بل تتغير حسب شروط متعلقة حصراً بالأشكال الصوتية والنحوية التي تتكون فيها اللغة، وإن أمكن القول إن اللغات تولد وتعيش، وتفقد طاقتها حين تهرم، ثم تنتهي إلي الموت، فإن هذه الصورة البيانية المستوحاة من البيولوجيا لا تهدف إلي تذويب تاريخها في زمن هو زمن الحياة، بل إلي التأكيد علي أنها تخضع هي أيضاً لقوانين وظيفية داخلية، وأن تأريخها يتطور وفق زمن مرتبط بالدرجة الأولي بتناسقها المميز.


                                                    ***

مقام الَملك : ميشيل فوكو[2]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة (Les Ménines) للفنان الاسباني دييغو فيلاثكيث (1599-1660)

قد يكون من الواجب التوقُف عند كل هذا الجهل وأمام هذه الأسئلة التي لم تلق جواباً: هنا تقع حدود الخطاب، وربما استئناف العمل. لكن يبقي بضع كلمات تُقال. كلمات يصعب بلا شك تبرير وضعها، إذ المقصود هو إدخال شخص جديد لم يمثُل بعد في لعبة التمثيلات الكلاسيكية، مما يشكل، في آخر لحظة، انقلاباً مفاجئاً. يروق لنا أن نكتشف القوانين المسبقة لهذه اللعبة في لوحة المينين (Les Ménines) حيث صُور التصوير [التمثيل] في كل مرحلة من مراحله: رسام، ملون (palette)، مساحة كبيرة داكنة اللون تمثل لوحة مقلوبة، متفرجون ينظرون ويحيط بهم بدورهم آخرون ينظرون إليهم، وأخيراً في الوسط، وفي قلب المشهد، في أقرب ما يكون مما هو أساسي، المرآة التي تعكس ما يُمثل، وإنما كخيال بعيد، جد غارق في مدي غير واقعي، وجد غريب عن كل الأنظار الشاخصة في اتجاه آخر، لدرجة أنه لم يعد سوي ازدواجاً في غاية الهزال للتمثيل. وتتجه كل الخطوط الداخلية في اللوحة، وبالأخص تلك التي تنبثق من الخيال المركزي، نحو ذاك الشيء المرسوم الغائب عن النظر. الذي هو بالوقت عينه موضوع ـ لأن الرسام ينقله علي لوحته ـ وهو ذات ـ لأن ما كان ماثلاً أمام عيني الرسام، حين كان يرسم نفسه خلال عمله، ما هو إلا الرسام ذاته، ولأن الأنظار الظاهرة في اللوحة متجهة كلها نحو ذاك المكان الوهميّ المخصص لصاحب الجلالة، الذي هو المكان الحقيقي الذي يقف فيه الرسام، وأخيراً، لأن المضيف الذي يحل في هذا المكان المحير الذي يتعاقب علي احتلاله كل من الرسام والملك، بشكل سريع متواصل، هو المشاهد الذي يحيل بنظره اللوحة إلي موضوع، أي محض لهذا النقص الأساسي. غير أن هذا النقص لا يشكل ثغرة إلا بالنسبة للخطاب، الذي يحاول بجهد أن يحلل اللوحة، لأنه لا يكف عن كونه مسكوناً وبشكل وواقعي، كما يبرهن علي ذلك انتباه الرسام المرسوم واحترام الأشخاص الظاهرين في اللوحة، ووجود قماشة الرسم الظاهرة من الخلف، ونظرنا نحن الذين وُضعت اللوحة لأجلنا أخرجت من ساحق الزمن. 

                                                       ***


الرغبة والتمثيل : ميشيل فوكو[3]
ــــــــــــــــــــــــــ

لم يفكر رجالات القرنين السابع عشر والثامن عشر في الثروة والطبيعة واللغات، انطلاقاً مما ورثوه من العصور السالفة، وفي نفس الخط الذي تمحض، فيما بعد، عما تمخض عنه من اكتشاف، بل فكروا فيها انطلاقاً من تربة نظرية عامة، لم تمل عليهم المفاهيم والمناهج التي اعتمدوها فحسب، بل وما هو أهم، إنها حددت كذلك نمطاً معيناً من الوجود بالنسبة للغة ولكائنات الطبيعة، ولموضوعات الحاجة والرغبة، نمط الوجود ذلك، هو التمثيل. عندئذ تبرز أرضية مشتركة جديدة كاملة يبدو فيها تاريخ العلوم كأثر أو ظاهرة سطحية. ولا يعني هذا اننا ، وفيما سيلي، سنضرب عنه صفحاً، بل يعني أن التفكير في التطور التاريخي لمعرفة ما، لم يعد يبيح الاكتفاء بمتابعة تسلسل المعارف عبر الزمن، ذلك أن هذه الأخيرة ليست ظواهر يكون فيها الحاضر استمراراً للماضي، واقتفاء لخطاه وأثره. وطالما اكتفينا بالرجوع بها إلي ما قبلها فإننا لن نتمكن من الوقوف علي ما يسمح بإمكانها، وعلي مظاهر "الطرافة الميتافيزيقية للوعي". شيء ما كالإرادة أو القوة سيطفو علي سطح التجربة الحديثة، ربما كمنشيء لها ومؤشر، علي أي حال، علي أن العصر الكلاسيكي وقد ولي، وولت معه سيادة الخطاب التمثيلي، وهيمنة تمثيل دال بنفسه يوقظ عبر تتالي كلماته نظاماً كامناً وراقداً في الأشياء. 

هذا الانقلاب، زمن صاد (Sade). أو علي الأصح، تكشف أعمال صاد الشيقة، عن التوازن المختل بين قانون (الذي هو بدون قانون) الرغبة الجامحة، وبين الترتيب المتناهي الدقة للتمثيل الخطابي. أي أن نظام الخطاب، يصطدم، في تلك الأعمال، بما يشكل حدّه وقانونه، وإن كانت له القوة مع ذلك، علي أن يظل قابلاً للامتداد واستيعاب ما يحده. وهنا يكمن، بلا شك، مبدأ تلك "الإباحية" التي كانت آخر ما عرفه العالم الغربي (بعدها يبدأ عصر الجنس): إن الإباحي، هو الشخص الذي رغم انقياده لكل نزواته ولاندفاعاتها، يقدر، أو علي الأصح، يضطر الي أن يصفها في أدق حركاتها بواسطة تمثيل واضح يلجأ اليه طوعاً وعن اختيار. فثمة نظام صارم يحكم الحياة الإباحية: إذ علي كل تمثيل أن يتحرك فوراً داخل الجسم النابض للرغبة، كما أن علي كل رغبة أن تفصح عن نفسها خلال النور الصافي لخطاب تمثيلي . من هنا كان ذلك التلاحق الصارم "للمشاهد" (يعني المشهد عند "صاد" ذلك الخلل أو عدم الانتظام الذي يضفي عليه التمثيل حلة النظامية)وذلك التوازن المتقن بين تلاقي الأجساد وتسلسل الحجج داخل المشاهد. وربما أمكن القول، إن موقع جستين (Justine) وجولييت (Juliette) (وهما كتابان لـ "صاد") من نشأة الثقافة الحديثة، كموقع دون كيخوت بين عصر النهضة والكلاسيكية. فبطل "ثرنبطيس" (Cerivantes)، بقراءته لعلاقات العالم وللغة علي غرار ما تم في القرن السادس عشر، وبإحالته المآوي الي قصور، والفتيات والفلاحات الي سيدات نبيلات، بفضل لعبة المشابهة فقط، كان يحكم علي نفسه، من حيث لا يدري، بالبقاء داخل شرك التمثيل، غير أنه لما كان هذا الأخير لا يخضع لأي معيار عدا معيار التشابه والمحاكاة، كان لابد وأن يتجلي في شكل هذيان ساخر. والحال أن "دون كيخوت" في القسم الثاني من الرواية ، كان يحصل من هذا العالم الممثّل، علي حقيقته وقانونه، لم يكن في وسعه إلا أن ينتظر من هذ الكتاب، ـ الذي يرجع الفضل في نشأته، والذي لم يقرأه، بل كان يتتبع سير أحداثه، ـ مصيراً يقرره له الآخرون فيما بعد . كان يكفيه أن يستسلم للحياة داخل قصر حيث أصبح أخيراً، هو ذاته، الذي دخل بفعل حمقه عالم التمثيل من بابه الواسع، مجرد شخصية تؤدي دوراً داخل لعبة التمثيل. فتتجاوب شخوص "صاد" في أقصي العصر الكلاسيكي [مع دون كيخوت]. في طرفه الآخر أي عند لحظة غروبه. بحيث لم نعد [الموضوع كما عند دون كيخوته] والانتصار الساخر للتمثيل علي المشابهة، بل هو العنف الغامض المتكرر للرغبة الذي جاء ليضرب حدود التمثيل. وقد تلتقي جستين مع القسم الثاني من دون كيخوت، فهي موضوع لا محدود للرغبة التي هي منبتها الخالص، مثلما كان دون كيخوت رغم أنفه، والذي هو في أعمق أعماق وجوده تمثيل، موضوعاً للتمثيل. في جستين، الرغبة والتمثيل، لا يلتقيان إلا بفضل حضور شيء آخر يتمثل البطلة كموضوع للرغبة، بينما البطلة نفسها لا تعرف من الرغبة سوي تلك الصورة الباهتة البعيدة الخارجية الجامدة التي يقدمها التمثيل. تلك تعاستها: فبراءتها تظل دوماً ثالثة أمرين هما الرغبة والتمثيل. أما جولييت، فإنها ليست شيئاً أكثر من مجرد موضوع لكل الرغبات الممكنة، لكنها رغبات تستعاد كلها في التمثيل الذي يبنيها بناء معقولاً داخل خطاب ويحولها، عن قصد، إلي مشاهد. بحيث إن الرواية الطويلة لحياة جولييت، تبسط من خلال سردها لرغبات وألوان العنف والوحشية والموت، الجدول اللّامع للتمثيل. إلا أنه جدول بلغ من الدقة والشفافية والافصاح عن كل صور الرغبة التي تتجمع فيه، بدون كلل، وتتكاثر بفعل قوة تأليفها، [بلغ] حداً يجعله في مثل لامعقولية جدول دون كيخوت، الذي رغم اعتقاده أن انتقاله من تشابه الي آخر، يجعله يتقدم عبر دروب العالم المختلطة والكتب، إلا أنه كان يتوغل ضالاَ في متابعة تمثيلاته الخاصة. أما جولييت، فإنها تضعف من كثافة [شخصية] الممثل فيها حتي تظهر كل إمكانيات الرغبة وتبرز دون شائبة أو نقص أو مواربة. 

بذلك، فإن هذه الرواية، تسدل الستار علي العصر الكلاسيكي ذاته، الذي كان دون كيخوت قد افتتحه. واذا كان صحيحاً أنها آخر لغة عاصرت "روسو" و "راسين"، اذا كانت آخر خطاب حاول أن "يمثل" أي أن يسمي، عَلمْنا أنها تحد من ذلك التكلف بوضوح (فهي تدعو الأشياء بأسمائها متحررة بذلك من الفضاء البلاغي بأكمله) كما تُحدّده، في الوقت ذاته، الي ما لا نهاية (وذلك بتسمية كل شيء دون إهمال أدق الامكانيات، ما دام قد تم تصفحها جميعاً حسب الخاصية الشمولية المميزة لأية رغبة). لقد بلغ "صاد" منتهي الخطاب وأوج التفكير الكلاسيكي. وساد بالضبط عند نهايتهما. انطلاقاً من "صاد" نجد أن العنف والحياة والموت والرغبة والجنس، ستنشر تحت التمثيل بساطاً هائلاً من الظل، نحاول اليوم استعادته ثانية، في خطابنا وحريتنا وتفكيرنا، ما وسعنا الجهد لذلك. غير أن قصر تفكيرنا ومحدودية حريتنا وتكرر خطابنا، بلغت حداً صرنا معه مضطرين الي الاعتراف بأن ذلك الظل التحتي شيء يتعذر، في الحقيقة، استعادته. لذا فإن نجاحات جولييت وما حالفها من توفيق هي نجاحات يتأكد دوماً أنها نجاحات منفردة . ولا حد لها. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة بإشراف مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، ص 300.
[2] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة بإشراف مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، ص 257:256.
[3] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة بإشراف مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، ص 183:182.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق