ترجمة: د. منذر عياشي (سوريا)
«لا يستطيع الإنسان أن يتكلم عن فكره من غير أن يفكر بكلامه »
بونالد.
رولان بارت |
إن للأدب كل السمات الثانوية للعلم.وهذا يعني أن له صفات لا تحدده. فمضامينه هي عين مضامين العلم. ولا توجد، بكل تأكيد، مادة علمية واحدة لم يعالجها الأدب العالمي في لحظة من اللحظات: إن عالم العمل هو عالم كامل حيث تأخذ كل المعرفة (الاجتماعية، والنفسية، والتاريخية) مكانها. ولما كان كذلك، فقد كان للأدب بالنسبة إلينا هذه العظمة التي تتجلى في نشأة الوحدة الكونية، والتي كان يتمتع بها الإغريقيون القدماء، غير أن الحالة التجزيئية لعلومنا تمنعها عنا اليوم. وإضافة إلى هذا، فإن الأدب منهجي كما هو العلم، وله برامجه في البحث، وإن هذه البرامج لتتغير بحسب المدارس والعصور(كما هو الأمر على كل حال بالنسبة إلى برامج العلم). كما أن له قواعد في الاستقصاء، وله في بعض الأحيان مزاعمه التجريبية. وكذلك، فإن للأدب أخلاقه كما للعلم أخلاقه. وإن هذا يظهر، على نحو ما، في استخلاصه قواعد صناعته من الصورة التي يعطيها لنفسه عن كائنه. وإنه ليخضع، في النتيجة، مشاريعه إلى نوع من الفكر المطلق.
ثمة سمة أخيرة توحد بين العلم والأدب، ولكن هذه السمة تميز بينهما أيضاً بشكل أكثر تأكيداً من أي فارق آخر: العلم والأدب، كلاهما خطاب(وهذا ماتعبر عنه فكرة العقل القديم) ،ولكن اللغة إذ تكوّن الواحد والآخر، العلم والأدب، فإنها لا تنهض بهما، أو إذا كنا نفضل، فإنها لا تفصح عنهما بالطريقة نفسها. وإنه ليكون من مصلحة المرء، والحال كذلك، أن يجعلها شفافة وحيادية قدر الإمكان، وأن يخضعها للمادة العلمية (العمليات، والفرضيات، والنتائج) التي يقال إنها توجد خارج اللغة وتسبقها: توجد من جهة أولى مضامين الرسالة العلمية، وهذه تعد كلاً واحداً . ويوجد من جهة أخرى الشكل اللغوي المكلف بالتعبير عن هذه المضامين، والتي هي لا شيء . وليس من قبيل المصادفة، بدءاً من القرن السادس عشر، إذا كان الانطلاق المزدوج للتجريبية والعقلانية وللبدهية الدينية ( مع الاصلاح)، أي للفكر العلمي (بالمعنى الواسع للكلمة)، قد توافق مع انحسار لاستقلالية اللغة، أي اللغة التي ترفعت إلى مرتبة الأداة أو "الأسلوب الجميل" ،بينما تقاسمت الثقافة الإنسانية، في القرون الوسطى، تحت مظلة الأنواع السبعة، أسرار الكلام وأسرار الطبيعة بالتساوي.
أما بالنسبة إلى الأدب، أو على الأقل بالنسبة إلى المذهب الكلاسيكي والإنسانوي، فإن اللغة لم يعد في وسعها أن تكون الأداة المريحة أو الزينة الفاخرة "لواقع" اجتماعي، عاطفي أو شعري يسبقها. فقد أخذت على عاتقها، استطراداً، أن تعبر عنه بشرط أن تخضع إلى بعض القواعد الأسلوبية: اللغة هي كائن الأدب، وهي عالمه أيضاً: إن الأدب كله قائم في فعل الكتابة، وليس في فعل "التفكير"، و"الرسم"، و"الإحساس" . وكما يرى جاكبسون من منظور تقني، فإن "الشعري" (أي الأدبي)، ليشير إلى هذا النموذج من نماذج الرسالة، الذي يتخذ من شكله الخاص وليس من مضامينه موضوعاً له. وأما من منظور أخلاقي، فإن الأدب يتابع، من خلال المعْبَرِ اللغوي وحده، زلزال المتصورات الأساسية لثقافتنا، وعلى رأس كل ذلك متصور "الواقع". وأما من منظور سياسي، فقد كان الأدب ثورياً، وذلك بالافصاح والإعلان بأنه لا توجد لغة بريئة، وبممارسة ما يمكن أن يُسمى أيضاً "اللغة الكاملة". وهكذا، فإن الأدب يجد نفسه اليوم وحيداً في حمل المسؤولية الكاملة للغة. والسبب لأن العلم إذا كان محتاجاً إلى اللغة كما هو أكيد، فإنه لا يكون في اللغة كما يكون الأدب فيها. فالعلم يتم بالتعليم، أي بقوله وبعرضه، بينما الأدب، فإنه يتحقق إنجازاً أكثر مما يتحقق نقلاً (فما يُدرس هو تاريخه فقط) . ثم إن العلم يُنطق به، بينما الأدب فينكتب. وهكذا يقود الصوت أحدهما، بينما يتبع الآخر اليد. ولقد يعني هذا أنه خلف الواحد منهما والآخر لا يقوم الجسد نفسه، ولا الرغبة نفسها.
وإذا انصب التعارض جوهرياً بين العلم والأدب على شكل معين من أشكال التعامل مع اللغة، فتتواري هنا ويُضطلع بها هناك، فإنه سيكون شديد الأهمية بالنسبة إلي البنيوية. وبكل تأكيد، لقد فُرضت هذه الكلمة من الخارج. غير أنها تغطي حالياً مشاريع متنوعة جداً، فتكون في بعض المرات متباعدة، وتكون في بعضها الآخر متعادية. ولا يوجد أحد يستطيع أن يدعى الحق بأنه يتكلم باسمها. وحتى كاتب هذه السطور لا يزعم فيها ذلك. إنه يأخذ فقط من «البنيوية الحالية» صورتها الأكثر خصوصية، والأكثر ملاءمة في النتيجة. كما يفهم من هذا الاسم طريقة لتحليل الأعمال الثقافية، بشرط أن تستلهم من المناهج اللسانية الحالية. ولقد يعني هذا أن، البنيوية نفسها، بوصفها ناتجاً عن نموذج لساني، تجد في الأدب الذي هو عمل لغوي، موضوعاً أكثر قرابة: إنه التجانس مع الذات، ولا تنفي هذه المصادفة بعض الحيرة، بل لا تنفي بعض التمزق. وإن الأمر ليتعلق بالبنيوية. فهي إما تريد أن تحتفظ بالبعد العلمي مع موضوعها ، وإما أن تقبل، على العكس من ذلك، أن تجازف بالتحليل الذي تحمله، فتضيعه في لا نهائية اللغة التي يشكل الأدب اليوم ممرها. وبكلمة واحدة نقول، إن الأمر يتعلق بالبنيوية تبعاً إذا كانت البنيوية تريد أن تكون علماً أو أن تكون كتابة.
إن البنيوية، بوصفها علماً، تجد نفسها قائمة في كل مستويات العلم الأدبي. فهي تكون أولاً في مستوى المضامين، أو بشكل أدق في مستوى شكل المضامين. وما كان ذلك كذلك إلا لأنها تريد أن تقيم "لغة" الحكايات المروية، ومفاصلها، ووحدتها، والمنطلق الذي يربط بعضها ببعض. وباختصار إنها تريد أن تقيم الأسطورة العامة التي يساهم فيه كل عمل أدبي. وأما على مستوى أشكال الخطاب، فإن البنيوية، بفضل منهجها، تركز انتباهاً خاصاً على التصنيفات وعلى الأنظمة، وعلى الترتيب. وإن التصنيف ليكون هو هدفها الجوهري، أو نموذجها التوزيعي ،الذي وُضِعَ قدرياً بوساطة كل العمل الإنساني، سواء كان مؤسسة أم كتاباً . والسبب لأنه لا توجد ثقافة من غير تصنيف. وما دام الحال هكذا، فإن للخطاب، أو لمجموع الكلمات التي تشكل كياناً أعلى من الجملة، أشكالاً من التنظيم. وإن هذا التنظيم ليعد هو أيضاً تصنيفاً. ألا إنه لتصنيف دال. وفيما يخص هذه النقطة ، فإن للبنيوية جَدَّاً مدهشاً، لم يُقَدَّر دوره التاريخي حق قدره. أو كان فاقداً للثقة لأسباب أيديولوجية: هذا الجد هو البلاغة. فهذه عبارة عن جهد ثقافة كاملة، يهدف إلي تحليل أشكال الكلام، وتصنيفها، وجعل عالم اللغة مفهوماً. وإذا جئنا أخيراً إلى مستوى الكلمات، فسنجد أن الجملة لا تملك فقط معنى حرفياً وذاتياً، وإنما هي محشوة بالمعاني الإضافية. وبما أن الكلمة "أدبي" هي في الوقت نفسه مرجع ثقافي، ونموذج بلاغي، وغموض تعبيري إرادي، ووحدة بسيطة للدلالة الذاتية، فإنها تكون عميقة بوصفها حيزاً، وإن هذا الحيز ليكون هو حقل التحليل البنيوي نفسه، والذي يرى أن مشروعه أكثر اتساعاً من مشروع الأسلوبيات القديمة، والمؤسسة كلها على فكرة مغلوطة "للتعبيرية" . وإذا أخذنا كل هذه المستويات، مستوى المحاجة، ومستوى الخطاب، ومستوى الكلمات، فسنجد أن العمل الأدبي يبسط للبنيوية صورة لبنية متماثلة(تميل الأبحاث الحالية إلى إثبات ذلك) مع بنية اللغة نفسها. وبما أن البنيوية ناتجة عن اللسانيات، فإنها تجد في الأدب موضوعاً ناتجاً عن اللغة. وإن كان هذا هكذا، فإننا نفهم أن البنيوية تستطيع أن ترغب في تأسيس علم للأدب، أو في تأسيس لسانيات للخطاب بصورة أدق. ويكون موضوع هذا العلم "لغة" الأشكال الأدبية، أي الأشكال التي تمَّ الوقوف عليها في مستويات عديدة. ويعد هذا الأمر مشروعاً جديداً جداً، لأن الأدب حتى الآن لم يقارب علمياً إلا مقاربة هامشية للغاية. وقد قام بهذا تاريخ الأعمال، والمؤلفين، أو قامت به المدارس، أو مدارس النصوص(فقه اللغة).
ومهما كان هذا المشروع جديداً، فإنه مع ذلك لا يرضي، أو هو لا يكفي على الأقل. ذلك لأنه يترك المعضلة التي تكلمنا عنها في البداية كاملة. وهي معضلة أوحى بها مجازاً التعارض بين العلم والأدب، بما أن الأدب يضطلع بلغته الخاصة- تحت اسم الكتابة- وأن الكتابة تراوغها، وهي تتظاهر بأنها أداة محضة. وباختصار، فإن البنيوية لن تكون سوى علم آخر (ففي كل قرن تلد بعض العلوم، ويكون بعضها عابراً).فإذا لم تتوصل البنيوية إلى أن تضع في قلب مشروعها هدم اللغة العلمية، أي بإيجاز إذا لم تتوصل إلى "كتابة نفسها"، فكيف لا يقوم الشك في اللغة التي تعينها في معرفة اللغة؟ ومن هنا، فإن الإطالة المنطقية للبنيوية لا تستطيع إلا أن تتصل بالأدب، ليس بوصفه موضوعاً للتحليل، ولكن بوصفه نشاطاً كتابياً، كما لا تستطيع إلا أن تزيل التمييز الناتج عن المنطق والذي يجعل من العمل "لغة- موضوعاً" ومن العلم "لغة- واصفة". وأخيراً، فإنها لا تستطيع بقاء إلا إذا غامرت بالامتياز الموهوم الذي علقه العلم بخصوصية اللغة المُستَعْبَدة.
لا يبقى أمام البنيوي إذن سوى أن يتحول إلى كاتب. وليس ذلك لكي يعلم أو لكي يمارس " الأسلوب الجميل" ، ولكن لكي يعثر ثانية على القضايا التي تحرق كل تعبير إذا لم يُغَلِّف نفسه بغيم يصطنع أوهاماً واقعية، تجعل من اللغة وسيطاً للفكر. ويشترط هذا التحول- يجب الاعتراف أنه مقبول نظرياً- عدداً من التوضحيات أو الاعترافات . ونستطيع، بادئ ذي بدء، أن نقول ما عاد يمكن التفكير في الذاتية والموضوعية- أو إذا كنا نفضل، فيمكننا أن نقول لم يعد بالإمكان التفكير في مكان الفاعل في علمه- وذلك كما كان حال العلم التجريبي في أوج أزمنته. فالموضوعية والدقة إنما هي صفات العالم، ونحن لا نزال نوجع الرأس بها. وهذه الصفات هي صفات تحضيرية بشكل أساسي، وضرورية في لحظة العلم. وما دمنا نقول هذا ، فلا يوجد أي سبب للشك فيها أو للتخلي عنها. ولكن لا يمكن نقل هذه الصفات إلى الخطاب إلا عن طريق المراوغة، أوبوساطة إجراء كنائي محض يخلط الحذر بأثره الاستدلالي. ألا وإن كل تعبير يفترض وجود فاعله الخاص. فهذا الفاعل يعبر في الظاهر بشكل مباشر وهو يقول "أنا" ، أوهو يعبر بشكل غير مباشر مشيراً إلى نفسه بالضمير "هو"، أو بلا شيء، لاجئاً في ذلك إلى أشكال تعبيرية غير شخصية . ونلاحظ أن المقصود هنا هو خِدَعٌ قاعدية محضة. وإنها لخدع تغير فقط الأشكال التي يتكون الفاعل بها في الخطاب ، أي الأشكال التي يعطي بها نفسه للاخرين مسرحياً أو خيالياً. ونجد أن الشكل الأكثر نزوية من هذه الأشكال هو الشكل السالب. وإنه لشكل يُمارس في الخطاب العلمي تحديداً وعادياً ، وبه يُقصي العالم نفسه. فشاغله في ذلك هو الموضوعية.
وهكذا فإن ما هو شخصي لن يكون أبداً مع ذلك سوى"الشخص"(النفسي، والانفعالي، وصاحب السيرة). أما الفاعل فلن يُقصي أبداً. بل ثمة ما هو أكثر من ذلك. إن هذا الفاعل ليمتلىء، إذا جاز القول، بكل الاقصاء الذي يفرضه على شخصه بعلانية مدهشة. وهكذا تبدو الموضوعية، على نحو من الأنحاء ، متخيلاً كأي متخيل آخر. ولكي نقول حقاً، فإن تعقيداً استنباطياً جذرياً للخطاب العلمي (فيما يخص العلوم الإنسانية، فإنه يتم الاتفاق عليه، أما فيما يخص العلوم الأخرى فقد بات مكتسباً قبلياً بشكل واسع) يستطيع وحده أن يجنب العلم مخاطر المتخيل- إلا إذا قبل العلم ، طبعاً، أن يمارس هذا المتخيل بمعرفة كاملة. وهي معرفة لا يمكن الوصول إليها إلا بالكتابة . فالكتابة وحدها تمتلك الحظ في إقصاء سوء النية التي تتعلق بكل لغة يصار إلى تجاهلها.
تنفذ الكتابة اللغة في كليتها . وهذه هي أول مقاربة لتعريفها. وإن اللجوء إلى الخطاب العلمي بوصفه أداة للفكر، يعني طرح مسلمة مفادها أنه توجد حالة حيادية للغة، يُشتق منها عدد كبير من الانزياحات والمحسنات، كما يُشتق منها عدد من اللغات الخاصة، مثل اللغة الأدبية أو اللغة الشعرية. وإننا لنعتقد أن هذه الحالة الحيادية ستكون هي شرْعَة المرجع لكل اللغات"المنحرفة" ، والتي لن تمثل سوى الشُرَع التحتية (SOUS-CODES) . وإن الخطاب العلمي إذ يتطابق مع هذه الشُرعة المرجعية، والتي تعد أس كل معيارية ، فإنه يستأثر بسلطة من واجب الكتابة ان تعترض عليها تحديداً . وما كان ذلك كذلك إلا لأن مفهوم "الكتابة" يتطلب بالفعل الفكرة التي تقول إن اللغة نظام واسع، ولا تُفضل فيه أي شرعة على أخرى، أو لاتوجد فيه أي شُرْعة مركزية. وإن الأقسام لتقوم فيه على علاقة" تراتبية متموجة" . ومن هنا، فإن الخطاب العلمي يعتقد أنه يمثل شرعة عليا، بينما تريد الكتابة أن تمثل شرعة كلية، تتضمن قواها التفكيكية الخاصة.
وينتج عن هذا أن الكتابة وحدها تستطيع أن تحطم الصورة اللاهوتية التي يفرضها العلم. فهي ترفض الإرهاب الأبوي الذي تشيعه"الحقيقة" الطغيانية المتمثلة في المضامين وفي المحاجات ، كما أنها تفتح أمام البحث الحيز الكامل للغة، مع مالها من تمرد منطقي وخلط في شرعها، ومع ما فيها من انزلاقات ، وحوارات، ومحاكاة ساخرة. ولذا ، فإن الكتابة وحدها تستطيع أن تعارض اطمئنان العالم- ما دام "يعبر" عن علمه - بما سماه لوتريامون "تواضع" الكاتب.
يوجد أخيراً، ما بين العلم والكتابة، هامش ثالث ، يجب على العلم أن يسير فيه: إنه هامش اللذة. ففي حضارة كاملة يقيمها التوحيد على فكرة الخطيئة، حيث تكون كل القيم انتاجاً للجهد، نجد أن هذه الكلمة تقرع قرعاً سيئاً: إن لها شيئاً خفيفاً، ومبتذلاً، وجزئياً. وقد كان كوليردج يقول: "إن الشعر هو نوع من التأليف الذي يتناقض مع الأعمال العلمية من حيث الهدف، وذلك لموضوعه المباشر ولذته، ولكن ليس لحقيقته".
هذا الإعلان هو إعلان غامض، والسبب لأنه إذا كان يضطلع بالطبيعة الغزلية للقصيدة على نحو من الأنحاء(وللأدب) ، فإنه يوكل إليها مقاطعة محجوزة أو محروسة، ومتميزة من الأرض العامة للحقيقة. ومع ذلك فإن اللذة- نحن نقبل هذا بصورة أفضل اليوم- تتطلب تجربة أكثر سعة، وأكثر دلالة من مجرد إرضاء "الذوق". غير أن لذة اللغة لم تكن قط موضع تقدير جدي. أما البلاغة القديمة، فقد كان عندها، على طريقتها، بعض الأفكار حول هذا الأمر. وقد تجلى ذلك في تأسيسها لجنس خاص من أجناس الخطاب، كُرِّس للعرض والإعجاب . ولكن الفن الكلاسيكي، غطى الإعجاب ، وجعل منه علانية قانونه، وخص به كل القيود المتعلقة "بالطبيعي" (راسين: القاعدة الأولى هي الإعجاب). ولذا، فإن فن الباروك، الذي يمثل تجربة أدبية تم السماح بها في مجتمعاتنا، أو على الأقل في المجتمع الفرنسي، قد تجرأ وحده فقام ببعض السبر لما يمكن أن نسميه "غريزة الحب اللغوي". والخطاب العلمي بعيد عن هذا . والسبب لأنه إذا قبل الفكرة، فيجب عليه أن يتخلى عن كل المميزات التي تحيطه بها المؤسسة الاجتماعية ، كما يجب عليه أن يقبل بالدخول إلى هذه "الحياة الأدبية" ، تلك الحياة التي يقول لنا بودلير عنها، وذلك بخصوص إدغار بو، إنها العنصر الوحيد الذي تستطيع أن تتنفس فيه بعض الكائنات المهملة".
هل هذا تبدل في الوعي ، وفي البنية، وفي مقاصد الخطاب العلمي، ربما يكون هذا هو ما يجب السؤال عنه اليوم. فهنا، حيث العلوم الإنسانية تكونت وأزهرت، نجد أنها تبدو قد تركت مكاناً يضيق أكثر فأكثر أمام أدب متهم عموماً بأنه غير واقعي وغير إنساني. ولكن دور الأدب تحديداً إنما يكون في إعادة تقديم ماترفضه المؤسسة العلمية تقديماً نشطاً، أي تقديم سيادة اللغة. وإذا كان ذلك كذلك، فيجب أن تكون البنيوية هي أفضل من يثير هذه الفضيحة. فالبنيوية على وعي حاد بالطبيعة اللسانية للأعمال الإنسانية . ولما كانت هي كذلك، فإنها الوحيدة التي تستطيع اليوم أن تعيد فتح قضية المكانة اللسانية للعلم. وبما أن موضوعها هو اللغة- كل اللغات- فقد توصلت سريعاً إلى تعريف نفسها بوصفها اللغة الواصفة لثقافتنا. ومع ذلك فهذه مرحلة يجب تجاوزها، لأن التعارض بين "اللغات -الموضوع" ولغاتها الواصفة يبقى في النهاية خاضعاً إلى نموذج أبوي لعلم من غير لغة. ولذا ،فإن المهمة المعروضة على الخطاب البنيوي هي في أن يكون هو نفسه متجانساً مع موضوعه. ولا يمكن لهذه المهمة أن تنجز إلا من خلال طريقين، الواحد مهما أكثر جذرية من الآخر: فإما أن نتبع تعقيداً استنباطياً شاملاً، وإما أن نتبع كتابة كاملة . وسيصبح العلم في الفرضية الثانية (التي ندافع عنها هنا) أدباً.
فالأدب - لقد خضع على كل حال إلى بلبلة متنامية للأجناس التقليدية (قصيدة، قصة، نقد، دراسة)- كان علماً من قبل، وكان دائماً كذلك. وما تكتشفه العلوم الإنسانية اليوم، سواء كان هذا في علم الاجتماع، علم النفس، وفي التحليل النفسي، أو اللسانيات، إلى آخره ، فإن الأدب قد عرفه على الدوام. والفارق الوحيد هو أن الأدب لم يقل ذلك، بل كتبه .وإزاء هذه الحقيقة الكاملة للكتابة، فإن "العلوم الإنسانية" التي تشكلت في وقت متأخر في إطار الوضعية التجريبية، تبدو وكأنها حجج تقنية قد أعطاها مجتمعنا لنفسه لكي يبقي في الكتابة وهم حقيقة تقنية، تخلصت بشكل رائع- بشكل مسرف- من اللغة.
المصدر: هسهسة اللغة، رولان بارت، ترجمة: د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري ـ حلب ـ سوريا ،الطبعة الأولي 1999، ص: 13: 23.
المصدر: هسهسة اللغة، رولان بارت، ترجمة: د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري ـ حلب ـ سوريا ،الطبعة الأولي 1999، ص: 13: 23.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق