ترجمة: د. عبدالسلام الربيدي*
Robert Rauschenberg Untitled Combine, 1963 |
"ما بعد الحداثة" مصطلح معقّد، فهو مجموعة من الأفكار، ولم ينبثق كحقل مفهوميّ في الدراسات الأكاديميّة إلا منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين. وهو مفهوم عصيّ على التحديد؛ لأنّه ظهر في مجموعة واسعة من التخصصات والمساحات الدراسية، وهي: الفنون، العمارة، الموسيقى، السينما، الأدب، علم الاجتماع، الاتصالات،الموضة، والتكنولوجيا. وهو، أيضاً، عصيّ على التحديد المؤقّت أو التاريخي؛ فليس من الواضح تماماً متى ظهر المصطلح.
قد تكون الطريقة الأسهل في الشروع في التفكير حول ما بعد الحداثة أن نفكر في الحداثة؛ تلك الحركة التي استقت منها ما بعد الحداثة وأينعت أغصاناً لدوحتها.
إنّ للحداثة وجهين أو مزاجين حال تعريفها، وكلاهما وثيق الصلة بفهم ما بعد الحداثة.
أما الوجه الأول فيأتي من الحركة الجماليّة التي وُسمت بسمة عامة هي "الحداثة"، وهذه الحركة كانت ذات صلة مشتركة مع الأفكار الغربية حول الفن في القرن العشرين (على الرغم من أن التتبع لها في أشكالها المنبثقة يمكن أن يرجعها إلى القرن التاسع عشر). فالحداثة كما تعرفون، هي حركة في إطار الفنون البصرية، الموسيقى، الأدب، والمسرح، رفضت المقاييس الفيكتورية لصناعة الفنون واستهلاكها وطريقة تعبيرها عن المعنى. وفي فترة "ذروة الحداثة"، والتي امتدت تقريباً من 1910 حتى 1930، استطاع رموز الحداثة الأدبية الكبار إعادة تحديد جذري لماهية الشعر والسرد ووظيفتهما. إنّ رموزاً، مثل وولف وجويس وإليوت وباوند وستيفن وبروست وكافكا ورلكه، يُعدّون المؤسسين لحداثة القرن العشرين.
ومن المنظور الأدبي يبدو أهم خصائص الحداثة متضمناً في الآتي:
1- تأكيد الانطباعيّة والفردانية في الكتابة (وفي الفنون البصرية أيضاً). والتأكيد ينصب على كيفية حدوث الرؤية (أو القراءة أو الإدراك) أكثر من تأكيد ماهية ما يدرك. تيار الوعي يمكن أن يكون مثالاً على ذلك.
2- حركة تنأى عن الموضوعية الجلية التي يوفرها الراوي الثالث المحيط بكل شيء؛ أيْ: تنأى عن وجهة النظر السردية الثابتة وعن المواقف الأخلاقية الواضحة القاطعة. قصص فكلنر المتعددة الراوي أمثلة على هذا الجانب من الحداثة.
3- ضبابية في التفريق بين الأجناس الأدبية، فالشعر يبدو أكثر وثائقية (كما هي الحال لدى تي. إس إليوت، ولدى إي. إي. كمنجس). كما أن النثر يبدو أكثر شعريةً (كما هي الحال لدى فرجينيا وولف، ولدى جمس جويس).
4- تأكيد الأشكال المتشظية، والسرد المتقطّع، والصور شبه العشوائية والكولاجية الطابع في اعتمادها على مواد مختلفة.
5- النزوع نحو الانعكاسية أو الوعي الذاتي في إنتاج العمل الفني؛ بمعنى أن كل قطعة تلفت إلى وضعها الخاص بوصفها إنتاجاً، وبوصفها شيئاً يبنى ويستهلك بطرق خاصة.
6- الرفض للجماليات الشكلية المتسعة لصالح التصاميم المبسطة (كما هي الحال في شعر وليم كارلوس وليمز)، والرفض، على نطاق واسع، للنظريات الجمالية الشكلية لصالح التلقائية والكشف لحظة الخلق.
7- الرفض للتفرقة بين "ثقافةٍ عليا" و"ثقافةٍ دنيا"؛ فكلاهما صالحة للاختيار، من حيث هي (أي: الثقافة) مواد لإنتاج الفن وطرائق عرضه وتوزيعه واستهلاكه.
إنّ ما بعد الحداثة، مثل الحداثة، تقتفي معظم هذه الأفكار، فهي ترفض التفرقة الحدية بين أشكال رفيعة وأخرى وضيعة في الفن. كما أنها ترفض الحدود الصلبة بين الأنواع الأدبية، وتؤكد من جهة مقابلة، المعارضات الإجناسية، والمحاكاة الساخرة، والتداخل التأليفي، والسخرية، واللعب بالدوال.
والفن ما بعد الحداثي (وكذلك الفكر) يفضل الانعكاسية، والوعي الذاتي، والتشظي، والتقطع (وكل ذلك، بصورة خاصة، في البنى السردية)، والغموض، والتزامن؛ مع تأكيد تقويض الذات ونزع مركزيتها وسلطتها الإنسانية.
لكن في حين أن ما بعد الحداثة تبدو أكثر شبها بالحداثة في هذه المناحي، فإنها تختلف عن الحداثة في توجهاتها نحو كثير من هذه المناحي؛ فعلى سبيل المثال: تميل الحداثة إلى تقديم رؤية مشتتة عن ذاتية الإنسان وتاريخه (يتبادر إلى الذهن في هذا المقام "الأرض اليباب" لإليوت، و"نحو الفنار" لوولف)، لكنّها تقدم ذلك الشتات بوصفه أمراً مأساويّاً؛ أمراً يدعو إلى الرثاء والبكاء، لأنه خسارة.
إن كثيرا من الأعمال الحديثة يحاول تأييد الفكرة التي ترى أن العمل الفني يستطيع أن يتوفر على الوحدة والتماسك والمعنى، تلك العناصر ذاتها التي تفتقر إليها الحياة الحديثة. فالفن، بذلك، يستطيع أنْ يفعل ما عجزت عن فعله المؤسسات الإنسانية الأخرى.
أما ما بعد الحداثة، بالمقابل، فإنها لا تنعي التشظي والتزامن واللاتماسك، بل تحتفي بكل ذلك.
العالم لا معنى له؟! فاتركنا، إذاً، من ادعاء أن الفن يعني شيئاً. واتركنا، إذاً، نلعب في حُميّا اللامعنى.
ثمة طريق أخرى يمكن أن نسلكها في النظر إلى العلاقة بين الحداثة وبين ما بعد الحداثة، وهي طريق تساعد على جلاء الفروق. فطبقاً لفريدريك جيمسون، الحداثة وما بعد الحداثة تكوُّنان ثقافيان صحبا مراحل معينة من الرأسمالية. ويحدد جيمسون ثلاثة أطوار رئيسية للرأسمالية أملت ممارسات ثقافية معينة (بما تتضمنه من نوعية الفن والأدب المنتج):
- الطور الأول: السوق الرأسمالية، التي ظهرت خلال الفترة من القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، في أوروبا الغربية وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية (وكل فضاءات تأثيراتها). وهذا الطور مرتبط من جهة، بالتطورات التكنولوجية، وعلى وجه الخصوص ظهور المعدات المتحركة بالبخار، ومن جهة أخرى، بظهور نوعية خاصة من الجماليات، وبالتحديد الواقعية.
- الطور الثاني: يمتد من نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين (حتى الحرب العالمية الثانية)، وهذا الطور وهو طور الرأسمالية المحتكرة، المرتبط بظهور المعدات الإلكترونية المتحركة بالاحتراق الداخلي. وهو الطور المصاحب للحداثة.
- الطور الثالث: الطور الذي نحن فيه الآن، وهو الطور المرتبط بالرأسمالية المتعددة الجنسيات، أو الرأسمالية الاستهلاكية (مع تأكيد التسويق والبيع واستهلاك البضائع لا إنتاجها). وهو مرتبط، أيضاً، بالتكنولوجيات النووية والالكترونية. وهو الطور المصاحب لما بعد الحداثة.
وكمثل تمييز جيمسون لما بعد الحداثة تبعا لأنماط الإنتاج والتكنولوجيات المصاحبة، يأتي الوجه الثاني لتعريف ما بعد الحداثة من التاريخ وعلم الاجتماع، لا من الأدب وتاريخ الفن نفسيهما. وفي هذا النهج تتحدد ما بعد الحداثة بوصفها اسما لنظام اجتماعي شامل أو لمجموعة من التوجهات الاجتماعية التاريخية. وبالدقة التامة: فإنّ هذا النهج يقارن بين "ما بعد العصرية" وبين "العصرية"، بدلاً من المقارنة بين "ما بعد الحداثة" وبين "الحداثة".
فما هو الفرق إذاً؟
"الحداثة": تُحيل على الحركة الجمالية الواسعة في القرن العشرين.
"العصرية": تُحيل على مجموعة الأفكار الفلسفية والسياسية والأخلاقية التي تشكل البطانة الحاضنة للجانب الجمالي للحداثة.
"العصرية" أقدم من "الحداثة". فالصفة "عصريّ" أطلقت لأول مرة في علم اجتماع القرن التاسع عشر، وكان يعنى بها التفرقة بين الحقبة الحاضرة والحقبة الماضية التي يطلق عليها صفة القديم أو العتيق.
والعلماء ما يزالون مختلفين حول البداية الحقيقية للعصر الحديث، وحول التفرقة بين ما هو حديث وبين ما ليس بحديث. ويبدو لنا أن العصر الحديث يبدأ دائماً في وقت باكر كلما أعاد المؤرخون النظر حوله. بيد أن المرحلة الحديثة، بصورة عامة، ترتبط بالتنوير الأوروبي، الذي يبدأ، على وجه التقريب، في منتصف القرن التاسع عشر (مع أن بعض المؤرخين يرجع عناصر الفكر التنويري إلى عصر النهضة أو إلى مراحل باكرة قبل ذلك. ولنا أن نجادل ونقول إن الفكر التنويري قد بدأ مع القرن الثامن عشر. وأنا دائماً ما أؤرخ للعصر الحديث بـ1750 فقط، لأنني أخذت إجازتي للدكتوراه من برنامج باستانفورد، الذي يُدعى "الفكر والأدب الحديثان"، ويركز ذلك البرنامج الأكاديمي على الأعمال المكتوبة من بعد العام 1750).
إنّ الأفكار الأساسية للتنوير هي، بصورة مقاربة، نفسها الأفكار الأساسية للفلسفة الإنسانوية. وتقدم جين فلاكس في مقال لها خلاصة لهذه الأفكار والرؤى (انظر: ص41 من مقالها)، وأنا سأزيد إضافاتٍ بسيطة إلى قائمتها:
1- ثمة ذات مستقرة ومتماسكة وعارفة. وهذه الذات واعية وعقلانية ومستقلة وعالمية، وبالتالي فإن أية ظروف أو اختلافات فيزيائية لا تؤثر -جوهرياً- في فاعليتها.
2- وهذه الذات تعرف نفسها وتعرف العالم من خلال العقل، أو العقلانية، التي تتبوأ السمت الأعلى في العمليات الذهنية. وهي، بذلك، الصورة الموضوعية الوحيدة للمعرفة.
3- نمط المعرفة المنتج من قبل ذات موضوعية عقلانية هو "العلم"، الذي باستطاعته أن يقدم حقائق كونية عن العالم بقطع النظر عن وضعية الفرد العارف.
4- المعرفة المنتجة بوساطة "العلم" هي الحقيقة، وبذلك فهي خالدة.
5- المعرفة والحقيقة المنتجة بوساطة العلم (عن طريق الذات الموضوعية العقلانية) ستؤدي دائماً إلى التقدم والكمال. وكل المؤسسات والممارسات الإنسانية يمكن أن تخضع للتحليل بوساطة العلم (العقل /الموضوعية) وبذلك تتطور.
6- العقل هو الحَكَم المطلق فيما هو صحيح، وبالتالي هو الذي يحدد ما هو صائب وجيد (ما هو مشروع وأخلاقي). الحرية تنطوي على الانصياع للقوانين التي تتطابق مع المعرفة المكتشفة عن طريق العلم.
7- وفي عالم يحكمه العقل فإن الصحيح سيكون دائماً هو الجيد والصائب (والجميل)، وبذلك فلن يكون ثمة صراع بين ما هو صحيح وبين ما هو صائب.
8- يمثُل العلم بوصفه النموذج لكل مظاهر المعرفة المفيدة اجتماعياً. العلم محايد وموضوعي. والعلماء، الذين ينتجون المعرفة العلمية من خلال قدراتهم العقلانية غير المتحيزة، يجب أن يكونوا متحرين في اتباعهم لقوانين العقل، ولا ينبغي لهم أن يُدفعوا عن طريق أية اعتبارات أخرى (كالمال والسلطة).
9- اللغة، أو طريقة التعبير التي تستخدم في إنتاج ونشر المعرفة، يجب أن تكون عقلانية أيضاً. وحتى تكون اللغة عقلانية يجب أن تكون شفافة؛ أي أن تكون وظيفتها تمثيل العالم الحقيقي المدرك الذي يلاحظه الذهن العقلاني، فقط وبعبارة أخرى: يجب أن يكون هنالك ارتباط وثيق وموضوعي بين الأشياء الخاضعة للإدراك وبين الكلمات المستخدمة في تسميتها (أي: الدال والمدلول).
تلك بعض المبادئ الجوهرية للإنسانوية أو للحداثة. ووظيفتها -كما يمكن أن يحدس القارئ- تكمن في التبرير أو التفسير العملي لكل البنى والمؤسسات الاجتماعية، وبضمنها الديمقراطية والقانون والعلم والأخلاق والجماليّات.
تُعْنى العصرية في جوهرها بالنظام، بالعقلانية و بالعقلنة، أو بخلق النظام من الفوضى. وفرضيتها هي أن خلق عقلانية على نحو أكبر مرتبط بخلق نظام واسع النطاق. وكلما كان المجتمع أكثر نظاماً ارتقى نحو الأفضل في فاعليته (أي ارتقى في فاعليته العقلانية). ولأن العصرية موكلة بملاحقة مستويات النظام المطردة في تقدمها، فإن المجتمعات الحديثة مجندة بصورة مستمرة ضد أي شيء يوصم بـ "الفوضى"، وذلك حتى لا يعوق سير النظام. ولذلك فالمجتمعات الحديثة تعتمد دائما على ترسيخ الثنائيات الضدية بين "النظام" وبين "اللانظام"، وذلك حتى تظهر تفوّق النظام. ولكن حتى تفعل ذلك، كان لا بد لها من إيجاد أشياء تمثل "اللانظام"، ولذلك ظلت المجتمعات الحديثة دائبة في خلق/ إنشاء "اللانظام". وفي الثقافة الغربية أصبح هذا "اللانظام" هو "الآخر" الذي يعرف في علاقته بثنائيات ضدية أخرى. ووفق هذا المنطق، يصبح غير الأبيض وغير الذكر وغير المتجانس جنسيّاً وغير السليم صحياً وغير المعقول... الخ، جزءاً من "اللانظام"، ويجب أن يمحى من المجتمع النظامي العقلاني الحديث.
وتلك الطرق التي اعتمدتها المجتمعات الحديثة في خلق مقولات توسم بـ"النظام" ذات علاقة بالجهد المبذول لتحقيق الاستقرار. وفي هذا السياق يساوي فرانكو ليوتار (المنظّر الذي عني بوصف أعماله ساروب في مقالته عن ما بعد الحداثة) بين الاستقرار وبين فكرة "الشمولية" أو الأنظمة الشمولية (يتبادر إلى الذهن -هنا- فكرة دريدا عن الشمولية باعتبارها كلانية أو اكتمال النظام). الشمولية والاستقرار والنظام -كما يجادل ليوتار- مترسخة في المجتمعات الحديثة من خلال وسائل "السرديات الكبرى" أو "السرديات السائدة"، وهي القصص التي تحكيها الثقافة لذاتها عن ممارساتها واعتقاداتها. ومن هذا المنظور، فـ"السردية الكبرى" في الثقافة الأمريكية يمكن أن تكون قصة أن الديمقراطية هي الشكل التنويري (العقلاني) للحكومة، وأن الديمقراطية يمكن أن تؤدي إلى السعادة العالمية للإنسان. وكل نظام عقدي أو فكري يملك سردياته الكبرى. فطبقاً لليوتار تكمن "السردية الكبرى" للماركسية، على سبيل المثال، في فكرة أن الرأسمالية ستنهار فوق ذاتها، وأن عالماً طوباوياً اشتراكياً سيبزغ على الأثر. ويمكن أن تفهم هذه السرديات الكبرى بوصفها نوعاً من النظرية الواصفة أو الأيديولوجيا الواصفة؛ أي: الأيديولوجيا التي تشرح أيديولوجيا (كما هي الحال مع الماركسية)؛ قصة تُحكى لشرح الأنظمة العقدية الموجودة.
يحاجج ليوتار بأن كل مظاهر المجتمعات الحديثة، وبضمنها العلم، باعتباره الشكل الأول للمعرفة، تعتمد على هذه السرديات الكبرى. وما بعد الحداثة هي نقد لهذه السرديات الكبرى، انطلاقاً من الوعي بأن هذه السرديات تشكل أقنعة لإخفاء التناقضات والشروخ السارية في كل نظم المجتمع وممارساته. وبعبارة أخرى: إن أية محاولة لخلق "نظام" تتطلب دائماً خلق قدر مساوٍ من "اللانظام". غير أن سرديةً من هذه السرديات الكبرى تخفي تجذر هذه المقولات عن طريق تفسير "اللانظام" بأنّه، حقاً، فوضوي وسيئ، وأن "النظام"، حقاً، عقلاني وجيد. وبالمقابل، فإن ما بعد الحداثة، في رفضها للسرديات الكبرى، تفضل "السرديات الصغرى"، وهي القصص التي تشرح ممارساتٍ صغيرة وأحداثاً محلية، ولا تهتم بالمفاهيم الكونية أو العالمية واسعة النطاق. "السرديات الصغرى" ما بعد الحداثية دائماً مقامية ومتزامنة وعرضية وآنية، وهي لا تدعي أنّ لها صلةً بالعالمية والحقيقة والعقل والاستقرار.
ومظهر آخر من مظاهر الفكر التنويري (النقطة التاسعة من النقاط التي سقتها) يتجلى في فكرة أن اللغة لا بد أن تكون شفافة، بمعنى أن الكلمات لا تخدم أي غرض عدى كونها تمثيلات للأفكار والأشياء. والمجتمعات الحديثة تتكئ على الفكرة التي ترى أن الدوال تشير إلى مدلولات، وأنّ الواقع يقيم داخل المدلولات. أما في التصور ما بعد الحداثي، فلا يوجد إلا دوال، وبذلك تنتفي فكرة أي واقع مستقر ودائم، وتنتفي معها فكرة المدلولات التي تشير إليها الدوال. في المجتمعات ما بعد الحداثية لا توجد إلا أسطح بدون أعماق؛ فقط دوال ولا مدلولات لها.
ويمكن أن نعبر عن ذلك بطريقة جان بودريار الذي يرى أن المجتمعات ما بعد الحداثية لا تنطوي على أصول وإنما نسخ أو ما يدعوها بالصور الزائفة، ويمكن أن نفكر في الرسم أو في النحت، حيث نجد أعمالا أصلية (لفان جوخ مثلا)، لنجد بعد ذلك ما يمكن أن يكون آلافاً من النسخ، بيد أن الأصلية هي تلك التي تحمل قيمة عالية (قيمة تذكارية على وجه الخصوص). وقارنْ ذلك بالأقراص المدمجة (السيديهات) أو الأسطوانات الموسيقية، حيث لن تجد أصولاً كما في الرسم؛ فلا يوجد تسجيل موسيقي معلق على الجدار، أو محفوظ في قبو، فقط ما يسود هو النسخ التي تعد بالملايين بصورة متطابقة، وتباع كلها بثمن متساوٍ تقريباً. ويمكن أن نضرب مثالا لـ"الصور الزائفة" التي عناها بودريار بالواقع الافتراضي، ذلك الواقع المخلوق عن طريق الزيف حيث لا يوجد أصل. ويتجلى هذا الواقع في ألعاب الكمبيوتر (الزيف). ويتبادر إلى الذهن، في هذا المقام، المدينة الإلكترونية الزائفة، والنمل الالكتروني الزائف.
وأخيراً: ما بعد الحداثة تهتم بسؤال النظم المعرفية. ففي المجتمعات الحديثة كانت المعرفة متساوية مع العلم، وكانت قرينة السردية القائلة: العلم هو المعرفة الجيدة، وعكس هذه السردية هو السيئ والمتخلف واللاعقلاني (وغالبا ما يربط ذلك بالأطفال والنساء والبدائيين والمجانين). والمعرفة كانت جيدة في حد ذاتها، حيث كان المرء يكتسب المعرفة من خلال التعلم حتى يكون ذا معرفة بالمعنى العام للكلمة، أو حتى يكون شخصا متعلما. وتلك هي مثالية التعليم الليبرالي للفنون. أما في المجتمعات ما بعد الحداثية، فإن المعرفة قد أصبحت وظيفية؛ فأنت تتعلم أموراً لا لكي تعرفها بل لكي تستخدم تلك المعرفة. وكما يوضح ساروب (ص 138) أن السياسات التعليمية قد اتجهت نحو تأكيد المهارات والتدريب أكثر من المعرفة الإنسانية المثالية المبهمة بالمعنى العام للكلمة. وهذا أمر مخيف لكم أيها المختصون في الأدب الإنجليزي؛ "ماذا ستفعلون بشهاداتكم؟!".
لا تتسم المعرفة، في المجتمعات ما بعد الحداثية، بنفعيتها فحسب، بل في طرائق توزيعها وتخزينها وتنظيمها، المختلفة عما كانت عليه في المجتمعات الحديثة. فظهور تكنولوجيا الكمبيوتر الالكترونية، بصورة خاصة، هو حدث ثوري في أنماط إنتاج المعرفة وتوزيعها واستهلاكها في مجتمعاتنا (ومن هنا صح للبعض أن يجادل في أن أفضل وصف لما بعد الحداثة هو في ارتباطها بظهور تكنولوجيا الكمبيوتر ابتداء من الستينيات بوصفها القوة السائدة في كل مناحي الحياة الاجتماعية). في المجتمعات ما بعد الحداثية أي شيء ليس قادرا على أن يترجم إلى شكل مدرك ومخزّن في الكمبيوتر؛ أي شيء ليس مرقمناً، سوف يتوقف عن كونه معرفةً. وفي هذا النموذج، ليس عكس "المعرفة" هو "الجهل"، كما هي الحال في النموذج الحداثي الإنسانوي، بل إن عكس "المعرفة" هو "الضوضاء"؛ أي شيء لا يملك ما يؤهله لأن يكون معرفة هو "ضوضاء"؛ ذلك أنه شكل غير مدرك في هذا النظام.
يقول ليوتار (وقد أنفق ساروب الكثير من الوقت لشرح هذا القول) إن السؤال المهم بالنسبة للمجتمعات ما بعد الحداثية هو: من يقرر ما هي المعرفة (وبالمقابل، ما هي الضوضاء؟)؟ ومن يعرف ما هي الحاجات التي يُقرر بشأنها؟ إن هذه القرارات حول المعرفة لا تتضمن المؤهلات الحداثية الإنسانوية، فمثلاً: أن تقيّم المعرفة بوصفها حقيقة هو حكم تقني، وبوصفها خيراً أو عدالةً هو حكم أخلاقي، وبوصفها جمالاً هو حكم ذوقي. لذلك فإن ليوتار يحاجج بأن المعرفة تتبع نموذج لعب اللغة، الذي يطرحه وتجنستن(1). وأنا لن أتمادى في شرح أفكار وتجنستن حول لعب اللغة، ومن أراد الاستزادة فإن له أن يرجع إلى مقال ساروب، ففيه شرح رائق لهذا المفهوم.
ثمة الكثير من الأسئلة التي يمكن أن تطرح حول ما بعد الحداثة، ومن أهمها السؤال المتعلق بسياسات ما بعد الحداثة، أو بكلمة أبسط: بحركتها نحو التشظي والتزامن والأدائية واللا استقرار – هل هي جيدة أم سيئة؟ هنالك إجابات كثيرة حول ذلك؛ بيد أن في مجتمعنا المعاصر رغبة في الرجوع إلى الفترة السابقة لما بعد الحداثة.
فالتفكير التنويري الحداثي الإنسانوي يميل إلى التوحد مع الجماعات السياسية والدينية والفلسفية المحافظة. ويبدو أن ظهور الأصوليات الدينية واحدة من نتائج تيار ما بعد الحداثة بوصفها مقاومة لمساءلة "السرديات الكبرى" للحقائق الدينية. ويظهر ذلك بجلاء (لنا في أمريكا، على كل حال) في حالة الأصوليات الإسلامية في الشرق الأوسط، والتي تحرّم الكتب ما بعد الحداثية، مثل "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي؛ لأنها تقوّض تلك السرديات الكبرى.
هذا الربط بين رفض ما بعد الحداثة وبين نزعة المحافظة أو الأصولية يمكن أن يفسر، في بعض جوانبه، سبب جذب المجاهرة ما بعد الحداثية بالتشظي والتعدد لليبراليين والأصوليين على حد سواء. ويفسر لنا، من بعض جوانبه الأخرى، سبب انجذاب منظري النسوية نحو ما بعد الحداثة، كما يوضح ساروب وفلاكس وبتلر.
وعلى صعيد آخر، يبدو أن ما بعد الحداثة، رغم ما ذكر، قد قدمت بعض البدائل لربط الثقافة العالمية بالنزعة الاستهلاكية؛ حيث تُقدّم السلع والأشكال المعرفية بالقوة بعيداً عن سيطرة الفرد. وكل هذه البدائل تركز على كل الأفعال الاجتماعية (أو الصراع الاجتماعي)، من حيث هي -بالضرورة- محلية ومحدودة وجزئية، لكنها غير فاعلة. وعن طريق اطراح "السرديات الكبرى" (مثل تحرير الطبقة العاملة كافةً)، والتركيز، عوض ذلك، على أهداف محلية خاصة (مثل مراكز العناية اليومية المتطورة للأمهات العاملات في مجتمع ما)، عن طريق ذلك، تقدم السياسات ما بعد الحداثية تنظيراً للأوضاع المحلية باعتبارها مائعة وغير قابلة للتنبؤ المستقبلي، لأنها متأثرة بالاتجاهات العالمية. ولهذا السبب، فإن شعار السياسات ما بعد الحداثية يمكن أن يكون: "فكّر عالمياً، واعمل محلياً، ومن ثمّ، لا تقلق نفسك بشأن أي خطة كبرى أو مشروع عام".
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) جين فلاكس: "ما بعد الحداثة والعلاقات الجنوسية في النظرية النسوية"، ضمن كتاب: ليندا جي. نيكلسون (محررة) النسوية/ ما بعد الحداثة، روتلدج للنشر، 1990.
(2) مادان ساروب: "ليوتار وما بعد الحداثة"، الفصل الخامس في كتاب مادان ساروب: مدخل أولي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، منشورات جامعة جورجيا، 1993.
الهوامش:
(1) لودفيغ فتغنشتاين، فيلسوف نمساوي (1889-1951)
الهوامش:
(1) لودفيغ فتغنشتاين، فيلسوف نمساوي (1889-1951)
(*) ماري كليجز(Mary Klages)، أستاذ في الأدب الإنجليزي، جامعة كولورادو، الولايات المتحدة الأمريكية.
(*) مترجم وباحث وكاتب من اليمن.
المصدر: مجلة الآداب العالمية، سوريا، العدد رقم 140، نوفمبر 2009.
المقال باللغة الانجليزية : Postmodernism
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق