الترجمة لموقع الأوان
كورنيليوس كاستوريارديس |
ركّز أغلب من كتبوا عن العلاقات بين علم النّفس والسّياسة، بشكل أحاديّ الجانب، على صياغات معزولة لفرويد أو على ما كتبه عن رحلاته القصيرة وزياراته العابرة إلى ميادين فلسفة المجتمع والتّاريخ (قلق في الحضارة Malaise dans la civilisation، مستقبل وهم L’Avenir d’une illusion، موسىMoise ). واستخلصوا منها، بصفة تكاد تكون دائمة، نتائج "متشائمة" أو حتّى "رجعيّة" تتعلّق باستتباعات علم النّفس التّحليليّ من جهة برامج التّغيير الاجتماعيّ والسّياسيّ. حتّى علماء التّحليل النّفسيّ أنفسهم، وعلى الرّغم من أنّهم نادرا ما يفصحون عن رأي في هذه المسائل، أظهروا تسرّعا كسولا ومريبا باكتفائهم بتلك "الخلاصات" . ولكي يقوموا بذلك، كان لا بدّ لهم من إهمال أو إسكات مؤلّفات أخرى (مثلا الطّوطم والمحرّم) أو صياغات أخرى لفرويد كنت قد لفتّ لها الأنظار في مناسبة سابقة. والأخطر ممّا سبق، أنّهم أيضا قد غيّبوا مسائل ذات مضمون جوهريّ وأهمّ بكثير من "آراء" فرويد. فما دلالة علم النّفس التّحليليّ في حدّ ذاته كنظريّة وكتطبيق ؟ ما هي استتباعاتها الّتي لم يستكشفها فرويد كلّها بالتّأكيد؟ أليست له أيّة صلة بالحركة التّحريريّة الغربيّة ؟ أليس للجهد المبذول لمعرفة اللاّوعي ولتغيير الذّات أيّة صلة بمسألة الحرّيّة وبمسائل الفلسفة؟ هل كان من الممكن وجود علم النّفس خارج الظّروف السّوسيو- تاريخيّة الّتي تحقّقت في أوروبّا؟ ألا يمكن لمعرفة اللاّوعي أن تفيدنا بأيّ شيء فيما يتعلّق بمجمعة (socialisation) الأفراد، وبالتّالي المؤسّسات الاجتماعيّة أيضا؟ لماذا آليّا يتّهم المنظور التّطبيقيّ، الّذي هو منظور علم التّحليل النّفسيّ في الحقل الفرديّ، بعدم الكفاءة عندما يقع الانتقال إلى الحقل الجماعيّ ؟ تجدر الملاحظة أنّ هذه الأسئلة لا يقع طرحها إلاّ نادرا، وبطريقة غير مرضية دائما. في الأسطر التّالية، سألخّص وأوسّع نتائج عمل دام خمسة وعشرين سنة.
أستهلّ بكلمة لفرويد أعتبرها صحيحة في العمق. لقد صرّح مرّتين أنّ علم النّفس التّحليليّ وعلم التّربية (البيداغوجيا) والسّياسة هي المهن المستحيلة الثّلاث. ولم يفسّر لم كانت مستحيلة [...]. يبدو أنّه بإمكاننا أن نذكر سببا قويّا يجعل من علم النّفس والبيداغوجيا مستحيلين تقريبا: وهو أنّ الاثنين يرميان إلى تغيير النّاس. ورغم ذلك ليست الأمور بهذه البساطة. إنّ عالم نفس سلوكيّ (بافلوفيّ في الواقع)، وعالم تربية مثل أب الرّئيس شرابر (Schreber)، وحرّاس معتقل نازيّ أو ستالينيّ، وأعوان مينيلوف(Minilove) ، وأوبريان (O’Brien) نفسه (في رواية 1984 لأوروال Orwell)، يتصرّفون كلّهم لتغيير أناس، وينجحون في كثير من الأحيان.
ولكنّ غاية النّشاط، في جميع الأحوال، محدّدة بأكملها سلفا في ذهن العون: فالمطلوب هو القضاء في ذهن المريض ونفسه على أيّ أثر لتفكير وإرادة خاصّين به. يستعمل العون وسائل محدّدة أيضا، وهو معنيّ بالسّيطرة عليها كلّيّا وعلى المسار بأكمله [...]. يمكن لعلمه أن يتضمّن طبعا معرفة معيّنة بالمسارات النّفسيّة العميقة، كما وضّح ذلك برونو بتّلهايم (Bruno Bettelheim) في تحليله للملامح الجذريّة لمعاملة المعتقلين في المعتقلات النّازيّة: كان المطلوب هو تكسير الصّورة الشّخصيّة للمعتقل، تقويض سمات هويّته. وقبل بتّلهايم وباستقلاليّة عنه، كان أوروال قد عاين ذلك بوضوح وعمق في ”1984“. إنّ تلك الاعتبارات أيضا هي الّتي جعلتني أثناء مناقشتي لجملة فرويد أتحدّث عن سياسة وليس عن ”حكم“: ”سياسة“ النّاس، عن طريق الرّعب أو عن طريق التّلاعب اللّطيف، يمكن أن تردّ إلى تقنية عقلانيّة، إلى فعل آلاتيّ أو عقلانيّ من جهة الوسائل، وفق عبارة ماكس فيبر (Max Weber).
ولكن، لا شيء ممّا قيل الآن يمكن أن يطبّق على علم التّحليل النّفسيّ. فمهما كانت النّقاشات حول غايات أو غاية التّحليل مفتوحة، فإنّ الهدف الّذي يحاول المحلّل بلوغه لا يمكن تحديده بسهولة في ألفاظ محدّدة ومخصوصة [...]. ولقد عاد فرويد مرّات عديدة إلى مسألة غاية وغايات التّحليل، وقام بتعريفها تعريفات متنوّعة ومختلفة اختلافا بائنا. ومن آخرها واحد هو حسب رأيي الأكثر غنى والأكثر أهمّيّة والأكثر مجازفة، إنّه قوله الشّهير (Wo es war, soll ich werden) أي: «حيث كان هو، عليّ أن أصير». لقد سبق أن علّقت مطوّلا على هذه الصّياغة في مكان آخر، لذلك سأكتفي بتلخيص استنتاجاتي. فلو أنّنا فهمنا هذه الجملة على اعتبار أنّ "هو" يجب أن يقصى أو يخضع لـ "أنا" (وهذا ما تحيل عليه مع الأسف التّتمّة الفوريّة لنصّ فرويد)، فإنّنا سنكلّف أنفسنا بهدف يتعذّر بلوغه ووحشيّ. يتعذّر بلوغه بما أنّه من غير الممكن وجود كائن بشريّ، أخضع لاوعيه لوعيه، أي أخضعت غرائزه إلى مراقبة تامّة من قبل الاعتبارات العقلانيّة، كفّ عن الاستيهام وعن الحلم. ووحشيّ، بما أنّنا لو نصل إلى هذه الوضعيّة، سنكون قد قتلنا ما به نكون بشرا، وليس هو العقلانيّة بل هو الانبثاق المستمرّ، والمنفلت، والحرّ، لخيالنا الإبداعي الفعّال في ومن خلال تدفّق التّصوّرات والانفعالات والرّغبات. على العكس من ذلك، تتمثّل إحدى غايات التّحليل في تحرير تدفّق المكبوت هذا الّذي يتمّ قمعه من قبل ”أنا“ هي في العادة ليست إلاّ تركيبة هشّة واجتماعيّة بالأساس. لذلك، فإنّي أقترح أن نكمل صيغة فرويد بما يلي: (Wo ich bin, soll auch Es auftauchen) أي «حيث أنا موجود/ موجودة، لا بدّ أيضا أن يظهر هو».
ليست غاية التّحليل إقصاء جهاز نفسيّ لمصلحة جهاز آخر، بل تحويل العلاقات بين الأجهزة. ولفعل ذلك، ينبغي عليه أن يحوّل أساسا واحدا من الجهازين التّاليين: الأنا أو الوعي. يتحوّل (يتغيّر) الأنا بتلقّيه وقبوله مضامين اللاّوعي، بأن يعبّر عنها ويصبح قادرا على اختيار الدّوافع والأفكار الّتي يحاول تفعيلها. بعبارات أخرى، للأنا أن يصير ذاتيّة عاكسة، قادرة على الاختيار الواعي وعلى الإرادة. ليس هدف التّحليل القداسة، كما قال كانط، فلا أحد قدّيس مطلقا. إنّ هذه النّقطة حاسمة: لأنّها تضع التّحليل بشكل واضح في تعارض مع جميع الأخلاقيات المبنيّة على إدانة الرّغبة، وبالتّالي على الشّعور بالذّنب. أودّ أن أقتلك، أو أن أغتصبك، لكنّي لن أفعل. وهذا يمكن مقارنته بما قاله ماتّيي (Matthieu): «لقد علمتم بأنّه قد قيل: لا تقم بالزّنا. أمّا أنا فأقول لكم: إنّ أيّ شخص ينظر إلى امرأة ما نظرة اشتهاء فقد ارتكب أصلا، في نفسه، الزّنا معها.» كيف يمكن للتّحليل أن ينسى الواقعة الأساسيّة الّتي ينهض عليها والمتمثّلة في أنّنا نبدأ حياتنا بالنّظر إلى امرأة نظرة اشتهاء (مهما كان جنسنا) والأهمّ أنّ هذه الرّغبة لا يمكن أبدا انتزاعها وأنّه، من دون رغبة، لا نكون أبدا بشرا، بل ببساطة لن تكون حياتنا ممكنة.
لقد تحدّثت عن تغيير العلاقات بين الأجهزة النّفسيّة.
يمكننا وصفها بالقول إنّ الكبت يترك مكانه إلى الاعتراف بالمضامين اللاّواعية، وإلى التّفكير فيها، وإنّ المنع أو التّجنّب أو السّلوك اللاّواعي يترك مكانه إلى الاختيار الحرّ الواعي. إنّ أهمّيّة هذا التّحوّل لا تكمن في إزالة التّصادم النّفسيّ بل في إقامة ذاتيّة تأمّليّة ومفكّرة، كفّت عن أن تكون آلة عقلانيّة مزيّفة ومكيّفة اجتماعيّا وعرفت وحرّرت الخيال الجذريّ (l’imagination radicale) في نواة العالم النّفسيّ.
إنّي أترجم الـ (Werden) عند فرويد بـ صار وليس بـ ”كان“ أو حتّى بـ ”حدث“، لأنّ الذّاتيّة الّتي أحاول وصفها هي في الجوهر صيرورة، وليست حالة نهائيّة. ولهذا السّبب أيضا أقول إنّه بمقدورنا أن نشرح غاية التّحليل لا أن نحدّده تحديدا باتّا. ما أسمّيه مشروع الاستقلاليّة الذّاتيّة (projet d’autonomie)، على صعيد الإنسان الفرد، هو تحويل الذّات بكيفيّة تجعلها تدخل في تلك الصّيرورة. إنّ غاية التّحليل النّفسيّ تتوحّد مع مشروع الاستقلاليّة الذّاتيّة.
لا يمكن بلوغ هذه الغاية ولا حتّى الاقتراب منها إلاّ بنشاط المريض الخاصّ به: أي بتنشيط الذّاكرة والتّكرار والعمل. المريض المعالج هو العنصر الأساسيّ في السّيرورة التّحليليّة النّفسيّة...
بهذا، ليس التّحليل النّفسيّ تقنية، و ليس الحديث عن تقنية تحليليّة نفسيّة صحيحا أيضا. إنّه نشاط تطبيقيّ- إنشائيّ، يكون فيه المشاركان فاعلين. والمريض هو الفاعل الرّئيسيّ لتطوير نشاطه الخاصّ. أسمّي هذا النّشاط إنشائيّا لأنّه خلاّق: فنهايته (يجب أن تكون) التّحوّل الذّاتيّ للمحلّل، أي بتعبير دقيق، ظهور إنسان جديد. وأسمّيه تطبيقيّا، لأنّي أسمّي براكسيسا النّشاط الواعي الّذي يكون موضوعه هو الاستقلاليّة الذّاتيّة الإنسانيّة والّذي في سبيله تكون هذه الاستقلاليّة نفسها هي ”الوسيلة“ الوحيدة لبلوغ تلك الغاية.
من هذا المنظور، فإنّ وضعية البيداغوجيا مشابهة جدّا. تنطلق البيداغوجيا من العمر الصّفر، ولا أحد يدري متى تنتهي. إنّ غاية البيداغوجيا هي مساعدة المولود الجديد، هذا الوحش العامر بالأمل والمخيف، على أن يصير إنسانا. غايتها هي مساعدة هذه الحزمة من النّوازع ومن الخيال على أن تصير إنسان (anthropos)، على أن تصير كائنا مستقلاّ ذاتيّا. يمكننا أن نقول أيضا، ونحن نستذكر أرسطو، أن يصير كائنا قادرا على أن يكون حاكما ومحكوما.
على البيداغوجيا، في كلّ لحظة، أن تطوّر من النّشاط الخاصّ بالذّات، باستعمال هذا النّشاط الذّاتيّ نفسه. فليس موضوع البيداغوجيا تعليم موادّ معيّنة، بل تطوير قدرة الذّات على التّعلّم، أي تعليم التّعلّم، تعليم الاكتشاف، تعليم الابتكار. من البديهيّ أنّ هذا لا يمكن أن يتحقّق إلا بتعليم موادّ معيّنة، مثلما لا يمكن للتّحليل أن يتقدّم من دون تأويلات المحلّل. ولكنّ هذه الموادّ المدرّسة، مثلها مثل تلك التّأويلات، ينبغي أن تعتبر بمثابة المنطلقات أو نقاط الارتكاز الّتي تساعد لا فقط على جعل تعليم كمّ متزايد من الموادّ ممكنا، بل أيضا على تطوير قدرات الطّفل على التّعلّم والاكتشاف والابتكار. على البيداغوجيا بالضّرورة أن تعلّم أيضا، وهنا لا بدّ أن ندين مبالغات الكثير من البيداغوجيين المحدثين. ولكنّ مبدأين اثنين لا بدّ من الدّفاع عنهما بقوّة:
- أيّ مسار تربويّ لا يرمي إلى التّطوير إلى أقصى درجة في النّشاط الذّاتيّ للتّلاميذ هو نشاط سيّء.
- أيّ نظام تربويّ عاجز عن توفير جواب عقلانيّ على السّؤال المحتمل التّالي للتّلاميذ: لماذا يتوجّب علينا تعلّم هذا؟ هو نظام معيب.
عن موضوع العلاقات بين التحليل النّفسيّ والبيداغوجيا، لا بدّ من تبديد سوء فهم واحد على الأقلّ. فعلم التّحليل النّفسيّ لا يسلّم بوجود إنسان خيّر في الأصل، ولا يرى مثل رايش (Reich) وماركيز (Marcuse) وبعض إيديولوجيي الرّغبة الفرنسيين أنّه يكفي ترك الرّغبات والنّزوات تعبّر عن نفسها لبلوغ السّعادة الكونيّة. ففي هذه الحالة سنبلغ الموت الكونيّ بالأحرى. بالنّسبة إلى علم التّحليل النّفسيّ، كما هو الشّأن في الحسّ المشترك وعند المفكّرين منذ أفلاطون وأرسطو حتّى ديدرو، فإنّ الإنسان البالغ قد استبطن بالضّرورة عددا مهولا من الاكراهات الخارجيّة الّتي ستشكّل مستقبلا جزءا لا يتجزّأ من نفسيته (psyché) . ومن وجهة نظر تحليليّة نفسيّة، مثل هذا الإنسان قد تنازل عن النّفوذ، وقبل بأنّ الكلمات لا تعني ما كان يريدها أن تعني، وأقرّ بوجود أناس آخرين تتعارض رغباتهم في أغلب الأحيان مع رغباته هو، وهلمّ جرّا. ومن وجهة نظر سوسيو- تاريخيّة، هو استبطن، افتراضيّا، مجموع المؤسّسة الّتي يقدّمها المجتمع، وبصفة أخصّ، المعاني المتخيّلة الّتي تنظّم في كلّ مجتمع بعينه العالم الإنسانيّ وغير الإنسانيّ وتعطيهما معنى.
وهكذا، من وجهة نظر تحليليّة نفسيّة، البيداغوجيا هي، ويجب أن تكون، تعليم المولود الجديد تعليما يحمله إلى الوضعية الموصوفة آنفا، متضمّنا الكبح الأدنى لخياله الجذريّ والتّطوّر الأقصى لبصيرته. ولكن من الوجهة السّوسيو- تاريخيّة، يتعيّن على البيداغوجيا أن تربّي موضوعها بشكل يجعله يستبطن المؤسّسات الموجودة، مهما كانت، وبالتّالي يقوم بأكثر من القبول بها. من الواضح أنّنا بهذا نصل إلى تناقض جليّ، وإلى مسألة عميقة وعويصة. إنّ هذا يقودنا إلى السّياسة، وإلى مشروع الاستقلاليّة الذّاتيّة باعتباره مشروعا اجتماعيّا بالضّرورة، لا مشروعا فرديّا ببساطة.
قبل الخوض في المسألة، هناك ملاحظة أخرى حول لفظة ”مستحيل“ الفرويديّة الّتي بدأنا بها. تتمثّل استحالة التّحليل النّفسيّ والبيداغوجيا في أنّه يتعيّن عليهما الاثنين أن يعتمدا على استقلاليّة ذاتيّة غير موجودة بعد من أجل المساعدة على صنع استقلاليّة الفرد الذّاتيّة. ويبدو هذا من وجهة نظر المنطق العاديّ بمثابة الاستحالة المنطقيّة. غير أنّ الاستحالة، خصوصا في حالة البيداغوجيا، تتمثّل كما يبدو في محاولة جعل رجال ونساء مستقلّين ذاتيّا داخل إطار مجتمع محكوم غيريّا (hétéronome)، وبعد ذلك، مساعدة البشر على بلوغ الاستقلاليّة الذّاتيّة وفي نفس الوقت- أو رغم ذلك- يستوعبون ويستبطنون المؤسّسات القائمة.
حلّ هذا اللّغز هي المهمّة المستحيلة للسّياسة بما أنّها، هنا أيضا، يتعيّن عليها الاعتماد على استقلاليّة غير موجودة بعد من أجل إنشاء الاستقلاليّة. وهذه هي المسألة الّتي علينا الخوض فيها الآن.
يهدف علم التّحليل النّفسيّ إلى مساعدة الفرد على أن يصير مستقلاّ ذاتيّا، أي قادرا على النّشاط التّأمّليّ المراجع لذاته وعلى الاختيار الحرّ. من هذه الزّاوية، هو ينتمي إلى التّيّار السّوسيو- تاريخي الكبير الّذي يتجلّى في المعارك في سبيل الاستقلاليّة الذّاتيّة، إلى المشروع التّحرّريّ الّذي تنتمي إليه كذلك الدّيمقراطيّة والفلسفة. ولكن، كما ذكرت سابقا، عليه في الحال أن يتصدّى، مثل البيداغوجيا، إلى مسألة المؤسّسات القائمة في المجتمع. في حالة البيداغوجيا، فإنّ الالتقاء بالمؤسّسة القائمة هو التقاء بالأنا الملموس للمريض. هذا الأنا هو، في جزئه الحاسم، صناعة اجتماعيّة: فهو مشكّل ليشتغل في جهاز اجتماعيّ معطى، أي المؤسّسات القائمة، وليحافظ عليه ويواصله ويعيد إنتاجه. هذه المؤسّسات لا تظلّ قائمة بدرجة كبيرة بالعنف والقهر الصّريح، بل خاصّة عن طريق استبطانها من قبل الأفراد الّذين تصنعهم.
إنّ المؤسّسات والتّعابير التخيّلية الاجتماعيّة هي من ابتكار الخيال الجذريّ، الخيال الاجتماعيّ الخلاّق، أي الكفاءة الإبداعيّة للجماعة المجهولة، كما تتجلّى بوضوح مثلا في ومن خلال إبداع اللّغة وأشكال العائلة والأخلاق والأفكار الخ. لا يمكن للجماعة أن توجد إلاّ كمنشأ (اسم مفعول)، فتلك المؤسّسات هي في كلّ مرّة من ابتكارها الخاصّ، غير أنّها، دائما تقريبا، تبدو للجماعة بمجرّد إنشائها كمعطيات (آتية من الأسلاف، من الآلهة، من اللّه، من العقل، من قوانين التّاريخ، من آليات المنافسة، الخ.). وهكذا تصير ثابتة وصلبة ومقدّسة. دائما ما يوجد في المؤسّسات عنصر مركزيّ وقويّ وفاعل هي الدّيمومة الذّاتيّة (مع الأدوات اللاّزمة لهذه الغاية)، وهي ما سيطلق عليها في التّحليل النّفسيّ المعاودة، أمّا الأداة الرّئيسيّة من تلك الموادّ فهي كما قلنا صناعة أفراد متماثلين. أسمّي حالة المجتمع هذه بالتّبعيّة الغيريّة (hétéronomie)، فالآخر، الّذي وضع القانون، ليس إلاّ المجتمع المنشئ ذاته الّذي يجب عليه لأسباب عميقة إخفاء ذلك. وأنعت بالاستقلاليّة الذّاتيّة مجتمعا ما لا فقط يعلم ضمنيّا أنّه هو من أنشأ هذه القوانين، بل وأيضا تأسّس بشكل يحرّر خياله الجذريّ ويجعله قادرا على تبديل تلك المؤسّسات بواسطة نشاطه الجماعيّ الخاصّ والتّأمّليّ المراجع لذاته والتّفكّريّ. وأعني بالسّياسة النّشاط الواعي الّذي يكون موضوعه تأسيس مجتمع مستقلّ ذاتيّا والقرارات المتعلّقة بالمؤسّسات الجماعيّة. يتأكّد فورا أنّ مشروع مجتمع مستقلّ ذاتيّا يفقد كلّ معنى إذا لم يكن في الوقت نفسه المشروع الّذي يهدف إلى إبراز أفراد مستقلّين ذاتيّا، والعكس بالعكس.
هناك فعلا تماثل واضح بين الأسئلة والمهامّ الّتي يتصدّى لها مشروع الاستقلاليّة الذّاتيّة في الحقل الفرديّ وفي الحقل الجماعيّ. ففي حالة التّبعيّة الغيريّة، تتوافق البنية الصّلبة للمؤسّسة وإخفاء الخيال الجذريّ الخلاّق مع صلابة الفرد المصنّع اجتماعيّا ومع كبت الخيال الجذريّ للنّفسيّة. من منظور مشروع الاستقلاليّة الذّاتيّة، حدّدنا أهداف علم التّحليل النّفسيّ والبيداغوجيا بإرساء نمط آخر من العلاقة بين الذّات المفكّرة- ذات الفكر والإرادة- ولاوعيها أي خيالها الجذريّ أوّلا، وبتحرير كفاءة تصوّره وتشكيله لمشروع مفتوح لحياته والعمل فيه ثانيا. يمكننا بطريقة مماثلة تحديد هدف السّياسة بإقامة نمط آخر من العلاقة بين المجتمع المؤسّس والمجتمع المؤسّس، بين القوانين المعطاة في كلّ مرّة والنّشاط التّفكّريّ والتّدبّريّ للهيئة السّياسيّة أوّلا، وبتحرير الإبداعيّة الجماعيّة الّتي تسمح بتشكيل مشاريع جماعيّة لمؤسّسات جماعيّة والعمل فيها. ويمكننا أن نحضر الرّابط الأساسيّ بينهما المتمثّل في البيداغوجيا، في التّربية: إذ كيف يمكن أن توجد جماعة تفكّريّة دون وجود أفراد تفكّريين؟ إنّ مجتمعا مستقلاّ ذاتيّا باعتباره جماعة تؤسّس نفسها وتحكم ذاتها يقتضي تطويرا لكفاءة جميع أعضائه في المشاركة في أنشطته التّفكّريّة والتّدبّريّة. ويمكن تعريف الدّيمقراطيّة في معناها الواسع بأنّها نظام التّفكير الجماعيّ، ويمكننا أن نؤكّد أنّ كلّ ما عدى ذلك يتفرّع عن هذا التّعريف. ولا يمكن للدّيمقراطيّة أن توجد بلا أفراد ديمقراطيين، والعكس بالعكس. إنّ هذا مظهر من المظاهر المفارقة ”لاستحالة“ السّياسة.
يمكننا أيضا أن نؤكّد بشكل أكثر وضوحا الارتباط الوثيق بين الأبعاد الاجتماعيّة والفرديّة في مشروع الاستقلال الذّاتيّ انطلاقا من اعتبار آخر. فمجمعة النّفسيّة وحتّى مجرّد بقائها يقتضي منها الاعتراف والقبول بأنّ رغباتها النّواتيّة الأصليّة لا يمكنها أبدا أن تتحقّق في المجتمعات المحكومة غيريّا، وهذا يحدث دائما لا بمنع التّصرّفات فقط بل أساسا بمنع الأفكار ومحاصرة الدّفق التّصوّري وفرض الصّمت على الخيال الجذريّ، كما لو أنّ المجتمع يستعمل بالمقلوب دروب اللاّوعي لفرضها عليه. إنّه يردّ على جبروت الفكر اللاّواعي بمحاولة استقراء عجز هذا الفكر، وفي آخر الأمر الفكر عموما، كوسيلة وحيدة لتقييد التّصرّفات. وهكذا ظهر أنّ منع التّفكير هي الطّريقة الوحيدة لمنع التّصرّفات. وهذا يتجاوز بكثير ”الأنا الأعلى القاسي والفظّ“ عند فرويد: فالتّاريخ يثبت أنّ هذا المنع أدّى إلى بتر الخيال الجذريّ للنّفسيّة. إنّنا نريد أفرادا مستقلّين ذاتيّا، أي أفرادا قادرين على ممارسة نشاط تأمّليّ مراجع لذاته (activité réfléchie) خاصّ بهم. غير أنّ مضامين هذا النّشاط ومواضيعه وحتّى تنمية أساليبه ومناهجه لا يمكن أن تتوفّر إلاّ بالخيال الجذريّ للنّفسيّة. ففيه يكمن منبع مشاركة الفرد في الإبداع ااسّوسيو- تاريخيّ. ولهذا السّبب، تكتسي التّربية غير المشوّهة، أي البيداغوجيا الحقّ، أهمّيّة كبرى.
أعود إلى ما سمّيته لغز السّياسة. إنّ مجتمعا مستقلاّ ذاتيّا يعني أفرادا مستقلّين ذاتيّا. فهؤلاء يصيرون ما هم عليه باستيعابهم واستبطانهم للمؤسّسات، وهم، بمعنى من المعاني، التّجسيد الرّئيسيّ لتلك المؤسّسات. إنّ أنماط التّفكير والفعل، والمعايير والقيم، وأخيرا هويّة الفرد ذاتها باعتباره كائنا اجتماعيّا، مرتبطة بذلك الاستبطان. في مجتمع محكوم غيريّا، لن يكون لاستبطان جميع القوانين، بالمعنى الأوسع لهذه الكلمة، تأثير إذا لم يكن مصحوبا باستبطان القانون الأكبر، أو الميتا- قانون: عليك ألاّ تشكّ في القوانين. غير أنّ ميتا- قانون مجتمع مستقلّ ذاتيّا لا يمكن أن يكون إلاّ ما يلي: عليك بالخضوع إلى القانون، ولكن بإمكانك التّشكيك فيه، بإمكانك أن تثير مسألة عدالة القانون أو جدارتها...
يمكننا الآن أن نصوغ جوابا للّغز، جوابا هو في الوقت نفسه الموضوع الأوّل لسياسة الاستقلال الذّاتيّ، يعني لسياسة ديمقراطيّة: إنّها مساعدة الجماعة على إنشاء المؤسّسات الّتي لا يحدّ استبطان الأفراد لها من قدرتهم على أن يصبحوا مستقلّين ذاتيّا بل يوسّع فيها. من الواضح أنّه يمكننا انطلاقا من هذه الصّياغة المتّحدة مع مبدأ المساواة المفروض من الجمع، أي الأفراد، أن نشتقّ القواعد الرّئيسيّة لمؤسّسة ديمقراطيّة تماما في المجتمع..
إنّ الاستقلاليّة الذّاتيّة ليست غاية في حدّ ذاتها، ولكنّنا نريدها أيضا وخصوصا لنكون قادرين وأحرارا أن نفعل. هذه النّقطة تنساها دائما الفلسفة السّياسيّة المتجرّدة والمماحكة في عصرنا. إنّ فلسفة الاستقلال الذّاتيّ هي جزء من كلّ تلك المهامّ، هي ليست لا المحلّل النّفسانيّ ولا البيداغوجيّ ولا وعي المجتمع، ولكنّها تمثّل بعدا أساسيّا من تفكّريّته. عليها أن تشتغل على كائنات إنسانيّة باعتبارهم مستقلّين ذاتيّا من أجل مساعدتهم على أن يبلغوا استقلاليتهم الخاصّة بهم، دون أن تنسى أبدا أنّ المصدر الأخير للإبداع التّاريخيّ هو الخيال الجذريّ للجماعة المجهولة. بهذا المعنى يمكننا أن نفهم لماذا السّياسة هي ”مهنة مستحيلة“، مثل التّحليل النّفسيّ ومثل البيداغوجيا، بل أكثر استحالة منهما نظرا لطبيعة وأبعاد شريكه ومهامّها.
سأختم ببعض الملاحظات عن مسألة المسائل، وهي مشتركة بين التّحليل النّفسيّ والسّياسة.
تهيمن المؤسّسات الاجتماعيّة على الأفراد لأنّها تصنعهم وتشكّلهم: تصنعهم كلّيّا في المجتمعات التّقليديّة، وبدرجة كبيرة في مجتمعاتنا اللّيبراليّة. هذا هو معنى استبطان الفرد للمؤسّسات طوال حياته. النّقطة الحاسمة هنا هي استبطان المعاني، المعاني المتخيّلة الاجتماعيّة. ينتزع المجتمع الفرد المفرد من الكون المغلق لنفسيته، ويجبره على الدّخول إلى عالم الواقع القاسي، ولكنّه يعطيه مقابل ذلك معنى، معنى يوميّا. فللأشياء في العالم الواقعيّ الّذي يخلقه المجتمع معنى، الحياة و(عادة) الموت لهما معنى. وهذا المعنى هو الواجهة الذّاتيّة للمعاني المتخيّلة الاجتماعيّة.
إضفاء المعنى هذا، أو بتعبير أفضل ابتكار المعنى، هي اللّحظة الحاسمة والصّعبة. والحال أنّ التّحليل النّفسيّ لا يعلّم معنى للحياة. بإمكانه فقط أن يساعد المريض المعالج على أن يجد، أن يخترع، أن يخلق معنى لحياته. لا مجال لتحديد هذا المعنى مسبّقا وبطريقة كونيّة...
ولكن، لماذا كثيرا ما يفشل التّحليل أو لا ينتهي؟ أظنّ أنّ الموت يلعب دورا حاسما في المسألة، ولكن ليس بالضّبط كما كان فرويد يرى.
إنّ التّحليل اللاّمتناهي يتميّز أساسا بالتّكرار. فهو مثل العصاب بدرجة أكبر: إنّه تكرار مضاعف. لماذا هذا التّكرار؟ اختصارا لنقاش مطوّل، يمكننا أن نقول: التّكرار بمعناه المناسب هنا، أي باعتباره عملة الموت الصّغيرة، هو الدّرب الّذي يسلكه المريض المعالج ليدافع عن نفسه ضدّ حقيقة الموت. يفشل التّحليل أو يصير لامنتهيا بسبب أوّلا عدم قدرة المريض (والمحلّل الّذي يعمل معه) على القبول بموت من كانه من قبل ليصير شخصا آخر، وهذا ما كان يعرفه فرويد جيّدا حتّى وإن وصفه باستعمال مفردات أخرى. وثانيا، وهو الأهمّ، بسبب عدم قدرة المريض- وهنا هو وحيد بالضّرورة - على القبول بحقيقة الموت الواقعيّة، الكاملة، الملآنة. الموت هو الجلمود الأخير الّذي يمكن للمحلّل أن يتكسّر عليه.
الحياة، كما يعرف الجميع، تتضمّن وتنطوي على عرضيّة المعنى، على عرضيّة الأشياء، على عرضيّة الأعمال والمعنى الّذي نخصّها به. ولكنّ الموت، كما نعلم كلّنا أيضا، يعني لامعنى أيّ معنى. زمننا ليس زمنا. زمننا ليس الزّمن. زمننا بلا زمن.
لا ينتهي التّحليل (ولا يتمّ بلوغ النّضج) قبل أن يصبح المرء قادرا على العيش على حافة الهاوية، وهو واقع في هذه العقدة المزدوجة الأخيرة: عش كأنّك بائد- عش كأنّك خالد...
هذه التّفاهات الخرافيّة، كما كان على جيل لافورغ (Jules Laforgue) أن يقول، تجد معادلها الجوهريّ على المستوى الاجتماعيّ، وبالتّالي السّياسيّ أيضا. فالمجتمعات المحكومة غيريّا تنجز للجميع خلقا للمعنى، وتفرض على الجميع أن يستبطنوا ذاك المعنى. وهي كذلك تنشئ ممثّلين حقيقيين أو رمزيين لمعنى أبديّ ولخلود خياليّ يفترض أن يشارك فيهما الجميع بطرق مختلفة. يمكن أن يتعلّق الأمر بأسطورة الخلود الشّخصيّ أو التّناسخ. ولكن قد يتعلّق الأمر أيضا بشيء وقع تأسيسه- الملك، الدّولة، الوطن، الحزب- يمكن للجميع بدرجات متفاوتة أن يتماهى معه.
أعتقد أنّ مجتمعا مستقلاّ ذاتيّا لا يقبل بشيء من كلّ هذا، وأنّ إحدى الصّعوبات الرّئيسيّة الّتي تعترض مشروع الاستقلال الذّاتيّ هي أنّ البشر يجدون صعوبة في أن يسلّموا بموت الفرد والجماعة وحتّى بموت أعمالهم.
كان هوبز محقّا، فالخوف من الموت هو حجر أساس المؤسّسات. ليس الخوف من أن يقتلنا الجار، بل الخوف المحقّ من أنّ كلّ شيء، حتّى المعنى، يذوب.
لا أحد بالطّبع يمكنه أن يحلّ المشكلة الّتي تنجرّ عن ذلك. لا يمكنه ذلك إلاّ بإبداع سوسيو- تاريخيّ جديد وبتغيير متّصل للإنسان ولموقفه من الحياة والموت. في غضون ذلك، سيكون من المفيد بالتّأكيد التّفكير في الحلول الجزئيّة الّتي قدّمها لهذه المشكلة المجتمعان اللّذان نشأ فيهما مشروع الاستقلاليّة الذّاتيّة وترعرع، أي المجتمع اليونانيّ القديم والمجتمع الغربيّ. لا يمكننا، خصوصا، ألاّ نذهل من الفرق الهائل بين هذين الجوابين، وألاّ نربطه بمظاهر أخرى هامّة لهاتين المحاولتين لإنشاء مجتمع ديمقراطيّ. ولكنّها مسألة كبرى لا بدّ من إثارتها في مرّة قادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب: كورناليس كوستورياديس Cornelius Castoriadis: فيلسوف ومحلّل نفسانيّ وعالم اجتماع واقتصاد (1922- 1997).
النص الأصلي: Psychanalyse et politique – منشور في مجلّة Le Passant Ordinaire، عدد34- أفريل/ ماي- 2001.
المصدر : علم النفس التحليلي والسياسة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق