الجمعة، 28 أكتوبر 2016

فرانز كافكا بقلم : طه حسين





مر بهذا العالم مرا سريعا , فلم يعش فيه الا أربعين عاما , أنفق جزءا غير قليل منها في الطفولة والصبا , متأثرا بما حوله غير مؤثر فيه , متلقيا ما ينحدر اليه من أبويه الذين منحاه لحياة , وما يقدم اليه أبواه أثناء التربية من ألوان التصور للأشياء , والتقدير لها , والحكم عليها , والوقوف أمامها , قابلا حينا ورافضا حينا اخر , متلقيا كذلك ما تقدم اليه بيئته الخاصة التي تحيط به وبأسرته في مدينة براج , في اواخر القرن الماضي من ألوان الحضارة وفنون الحياة التي كانت الطبقة الوسطى تحياها في ذلك الوقت .ثم أنفق بعض هذا الأمد طالبا في المدارس الثانوية ثم في الجامعة , مندفعا بميله الأول الى العلم , ثم متحولا عن العلم التجريبي الى الفقه والقانون , حتى اذا ما أتم دراسته التمس عملا يكسب منه القوت , ليظفر بشيء من الحياة المستقلة , فوجد هذا العمل في شركة من شركات التأمين .

وهو في أثناء ذلك يتكلف أسفارا قصيرة في وطنه وفي ألمانيا وسويسرا , وايطاليا وفرنسا . ثم لا يكاد القرن العشرون يتقدم قليلا , حتى يقضي عليه الموت سنة 1924 وقد ولد 1883 فحياته العاملة الظاهرة كما ترى قصيرة جدا , بسيطة جدا , ليس فيها عوج ولا التواء , وليس فيها تكلف ولا تعقيد , ومع ذلك فلم يعرف التاريخ الأدبي كثيرا من الأدباء تعقدت حياتهم النفسية , والتوت بهم طرق الاحساس والشعور والتفكير , كهذا الأديب , والذين يدرسون حياته النفسية هذه في اثاره الكثيرة يردون تعقيدها الى طائفة من المؤثرات , قريبة في نفسها ولكنها بعيدة أشد البعد فيما نشأ عنها من ضروب الشعور والتفكير .

فقد كان أديبنا من أسرة يهودية تعمل في التجارة , متأثرة أشد التأثر , وأيسره في الوقت نفسه , بالتقاليد اليهودية المتوارثة , في شرق أوروبا ووسطها , فهي محافظة أشد المحافظة على هذه التقاليد السطحية التي يحافظ عليها اليهود , وهي في الوقت نفسه متهاونة أشد التهاون في حقائق الدين ودقائقه , ترى أنها قد أدت الواجب على وجهه اذا اختلفت الى المعبد في أوقات معلومة , فسمعت ما يسمع الناس , وقالت ما يقولون , وأتت من الحركات والأعمال ما يأتون , دون أن يتجاوز شيء من هذا كله أطراف اللسان وأعضاء الجسم , الى دخائل النفوس وأعماق القلوب فدينها ظاهر من الأمر , كدين غيرها من عامة الناس , صور وأشكال لا تمس الضمير , ولا تؤثر في السيرة اليومية , ولا توجه الحياة الداخلية والخارجية الى وجه حياة الناس , على اختلاف أديانهم وعقائدهم .من هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية , التي تدفع الناس الى العناية بمنافعهم القريبة العاجلة , أكثر من العناية بحقائق الدين ودقائقه , وبتعمق الحياة وما يكون فيها من الاحداث , وما يمكن أن يكون لها من الاغراض العليا والغايات البعيدة .

ولذلك لم يلبث أديبنا أن ضاق بهذه الحياة الدينية الظاهرة المتكلفة التي تقوم على النفاق أكثر مما تقوم على الايمان , فجحد دين الأسرة والشعب اليهودي أولا , ثم جحد الدين نفسه بحقائقه ودقائقه بعد ذلك , وأقام حائرا لا يستطيع أن يعود الى دين أبائه , لأن عقله لا يطمئن الى هذا الدين , ولا يستطيع أن يستغني عن حياة دينية صادقة تعمر القلب , وتملأ الضمير ثقة واطمئنانا , فهو ينكر من جهة أشد الانكار , ويسعى من جهة أخرى أشد السعي , الى أن يجد ما يؤمن به وترتاح نفسه اليه

وهذه المحنة القاسية التي امتحن بها في ايمانه , قد نشأت عنها محنة أخرى ليست أقل منها قساوة وعنفا , وليست أيسر منها تأثيرا في حياته الداخلية , فقد امتحن أديبنا في الصلة بنيه وبين أبيه , أنكر سيرة أبيه في الدين , لأنه لم ير فيها صدقا ولا اخلاصا , ثم أنكر سيرة أبيه في الأسرة لأنه راها تقوم على التسلط والاستطالة وعلى القوة والقهر أكثر مما تقوم على الرحمة والحب وعلى البر والعطف والحنان , ثم أنكر سيرة أبيه في تدبير منافعه التجارية المختلفة , لأنه راها تقوم على الحرص والأثرة وانتهاز الفرص , أكثر مما تقوم على القصد والعدل والانصاف , فنظر الى أبيه على أنه طاغية مخيف , ولن يستطع أن ينظر اليه الا على هذا النحو , وأقام الصلة بينه وبين أبيه على الاشفاق والخوف , ثم على المصانعة والمداراة , ولم يستطع أن يقيمها على شيء اخر من هذا التعاطف الرقيق الرفيق الذي يكون بين الابناء والاباء .

فهو اذن منكر للدين وسلطانه , وهو في الوقت نفسه ضيق بالابوة وسلطانها , وهو لا يلبث أن يوحد بين هذين النوعين اللذين ينكرهما من السلطان : سلطان الدين , وسلطان الأبوة . فيقف منهما موقفا قوامه القلق والفزع والهول , وهو يشقى بهذا الموقف حياته كلها , قد حاول ما وسعته المحاولة , أن يخلص من الشك الى الثقة ومن الخوف الى الأمن , فلم يجد الى ذلك سبيلا .

ثم تنشأ من محنته في الدين وفي الصلة بينه وبين أسرته , محنة أخرى ليست أقل منهما قسورة ولا تعقيدا , وهي المحنة التي تمس حقه في أن يحيا حياة الأباء , فيتخذ الزوج ويمنح الوجود للولد , كما اتخذ أبوه الزوج وكما منحه ومنح اخوته الوجود , فهو يشعر بأنه مدين لأبيه بوجوده , لا يشك في ذلك , ولا يشك في أن الدين يجب أن يؤدى , ولا يشك في أن الوسيلة الوحيدة الى أن يؤدي الابن ما عليه لأبيه من الدين انما أن يمنح الوجود الذي تلقاه من أبيه لأبناء يتلقونه منه ويمنحونه بعد ذلك لأبنائهم , فاذا اتخذ الزوج ورزق الولد , فليس عليه لأبيه دين . وهو يؤمن بهذا كله , ولكنه في الوقت نفسه يقف من هذه القضية موقفا يشبه أبي العلاء في البيت المشهور

                           هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد

ذلك أنه يرى الحياة التي تلقاها من أبيه شرا لا خيرا , لأنها لم تمنحه رضا القلب , ولا هدوء النفس , ولا راحة الضمير , ولا هذه الثقة الباسمة التي تنشأ عنها كل هذه الخصال , وهو مدين لأبيه وما في ذلك شك , وليس أحب اليه من أن يؤدي ما عليه من الدين , ولكن بشرط ألا يكون أداء الدين مصدرا لشر , ولا سبيلا الى الأذى وبشرط ألا يجني على أبنائه , ما جنى عليه أبوه من هذا القلق المتصل , والخوف الملح , واليأس المقيم .

والى جانب هذه المحن التلاث , في الدين والابوة والزواج , تضاف محنة أخرى لعلها أن تكون هي التي أسبغت لونها القاتم على محنه الأخرى كلها , وهي محنة المرض , المرض الذي لا يظهر فجاءة ولا يثقل المريض ثقلا طويلا , وانما يداوره ويناوره , ويسعى اليه سعيا خفيا بطيئا متلكئا , يدنو لينأى عنه , ويلم به ليفارقه , ويقفه من الحياة موقفا غريبا لا هو باليأس الخالص ولا هو بالأمل الخالص , وانما هو شيء بين ذلك , يملأ القلب حسرة ولوعة , ويملأ النفس شقاء وعناء , حتى اذا استبان أنه قد نهك فريسته وكلفها من الجهد أقصاه ولم يبقى فيها قدرة على المقاومة , أنشب فيها أظافره , وصب عليها الاما ثقالا وأهوالا طوالا , ثم قضى عليها الموت في ساعة من ساعات الليل أو من ساعات النهار .

فأنت ترى أن أديبنا عليل قد ألحت عليه العلة , وأن علته معقدة أشد التعقيد بعضها يتصل بالدين , وقد عجز أطباء اللاهو ت عن علاجه , فهو قد قرأ الثوراة وتعمق دراسة التلمود , ودرس المسيحية ودرس فلسفة الفلاسفة المؤمنين والملحدين , فلم يجد لعلته الدينية هذه طبا ولا شفاء

وبعضها يتصل بالوراثة والصلة بين الابن وأبويه , فهو الى علم النفس التحليلي أقرب منه الى أي شيء اخر , وقد عجز علم النفس التحليلي عن علاجه ,فلم يستطع أحد ولم يستطع شيء أن يصلح رأيه في أبيه , أو يصلح العلاقة بينه وبين أبيه , وانما ظل طول حياته واقفا من أبيه موقف الطفل الخائف المروع الذي يرى تفوق أبيه وتسلطه , ويحاول أن يخلص من سلطانه فلا يستطيع , ويحاول أن يحبه وأن يظفر منه بالحب فلا يستطيع .

وبعضها يتصل برأيه في الحياة , وموقفه منها ورغبته في أن يحياها كمت تعود الناس أن يحيوها , وخوفه مع ذلك من العجز عن احتمال أثقالها , وخوفه بنوع خاص من أن يحمل هذه الأثقال قوما اخرين أبرياء , لم يجنوا ما يستحقون من أجله احتمال الأثقال , وهم الزوج والولد .

وبعض علته جسمي يتصل بالفيسولوجيا , وقد عجز الأطباء عن علاجه , فما زال السل يداوره ويناوئه حتى قضى عليه اخر الأمر

فاذا قدرنا هذه المحن كلها , وقدرنا أنها لم تصب على رجل عادي , وانما صبت على رجل ممتاز له من القلوب أذكاها , ومن العقول أصفاها , ومن الأذواق أرقها , ومن المشاعر أدقها , ومن الحس أشده ارهافا , وله بعد ذلك ارادة حازمة صارمة , وقدرة مدهشة على الملاحظة , وعلى ملاحظة نفسه أكثر من ملاحظة غيره من الناس , وبراعة خارقة للعادة في أن يجعل نفسه موضوعا للدرس والبحث والتحليل , ون يكون هو الدارس الباحث المحلل , وأن يسجل ما ينتهي اليه درسه وبحثه وتحليله , في اثار مكتوبة طوال وقصار , أقول اذا قدرنا هذا كله , لم نر غريبا أن يكون أديبنا هذا بهذه المنزلة التي شغلت الناس , ويظهر أنها شغلتهم وقتا طويلا .

وربما كان أخص ما يمتاز به فرانز كافكا أشد الامتياز , أنه كان أصدق الناس لهجة , وأشدهم اخلالصا , وأبغضهم للتكلف , وأبعدهم عن التصنع , وأعظمهم حظا من التواضع الذي يأتي من معرفة الانسان قدر نفسه بعد الدرس المتصل والاستصقاء العميق , وهو من أجل ذلك كان يكتب لنفسه أكثر مما كان يكتب للناس , فقد كان من أشد الناس زهدا في نشر اثاره وأعظمهم اخفاء لها وضنا , لا لأنه كان يكبرها أو يغالي بها , بل لأنه كان يزدريها كما كان يزدري نفسه .

وقد نشر قليل من اثاره أثناء حياته في المجلات , ولم ينشر في أكثر الأحيان الا على كره منه , كان صديقه ماكس برود يختطف هذه الاثار اختطافا , ويدفعه الى نشرها دفعا , فلما أدركه الموت وقرئت وصيته , تبين أنه قد اختار صديقه هذا –ماكس برود- وصيا , وأنه يطلب اليه أن يحرق اثاره كلها وألا ينشر منها في الناس شيئا .وقد وقف الوصي من هذه الوصية موقف الحيرة التي لم تتصل , فشك غير طويل ثم خالف عن أمر صديقه , وأخذ في نشر اثاره ملتمسا لذلك ما شاء من العلل والمعاذير .

وقد مات فرانز كافكا سنة 1924, ولم تمض على وفاته أعوام حتى كانت اثاره بعيدة الانتشار في ألمانيا , بل في أوروبا الوسطى كلها , ثم تجاوزت حدود أوروبا الوسطى الى أوروبا الغربية , فتلقاها الفرنسيون لقاء غريبا . وربما كان من طرائف الأشياء , أن اثار كافكا كانت تستقبل أحسن استقبال في غرب أوروبا , وينكل بها أبشع تنكيل في أوروبا الوسطى , فكان الفرنسيون والانجليز يترجمونها ويفسرونها , على حين كان الألمانيون الهتلريون يحرقونها جهرة في الميادين .

وقد يكون من الخير أن نلاحظ , قبل أن نتحدث عن اثار فرانز كافكا أن ظروف الحياة الأوروبية كانت ملائمة كل الملائمة لظهور هذه الاثار , فقد بدأ كافكا يشعر ويفكر قبيل الحرب العالمية الأولى , فكان كل شيء من حوله يؤذن بالكارثة , ويدفع الى البؤس واليأس .ثم مضى في تفكيره وانتاجه أثناء الحرب العالمية الأولى , فكان في تلاحق الكوارث والفواجع من حوله ما يزيد امعانه في البؤس واليأس , ثم نظر ذات يوم فاذا كل شي من حوله ينهار , فامبراطورية النمسا والمجر تتفرق أيدي سبا , والامبراطورية الألمانية العظيمة تلقي السلاح وتركع متلقية شروط المنتصر , فلا يزيده هذا كله الا ايغالا في البؤس واليأس , ثم يمضي في تفكيره وانتاجه وقد تم الصلح .
ولم تلبث الانسانية بعد امضائه أن استشعرت خيبة الأمل وكذب الظن , فلم يتحقق العدل الذي قيل ان الحرب أثيرت لتحقيقه , وانما عادت الانسانية بعد الحرب , كما كانت قبل الحرب , بائسة يائسة , متخبطة لا تدري الى ي وجه تتجه , ولا في أي طريق تتجه , ولا في أي طريق تسير .

حياة خاصة كلها نكر وشر , وحياة عامة كلها بؤس ويأس , فأي غرابة في أن يكون الأدب الذي ينتجه فرانز كافكا في هذه الظروف كلها هو الأدب الأسود بأدق معاني هذه الكلمة وأشدها سوادا وحلوكا ؟!

وواضح جدا أن هذا القلب الذكي ذا الحس المرهف والشعور الدقيق لم يصور الحياة كما راها من حوله فحسب , وانا صور هذه الحياة وصور اثارها القريبة , فكان في أدبه هذا المظلم , شيء من التنبئ المزعج , بما ستتعرض له الانسانية من الكوارث والأخطار
وكان من أجل هذا بغيضا الى الذين كانوا يريدون أن يعيدوا الحرب جذعة , مثيرا للشوق وحب الاستطلاع عند الذين كانوا يخافون الحرب ويشفقون من أن يدفعوا اليها كارهين . ومن أجل هذا كانت اثار فرانز كافكا في وقت واحد تترجم في باريس , وتحرق في في برلين , والاثار الأدبية التي تركها فرانز كافكا كثيرة منوعة , لم تنشر كلها بعد , وانما نشر أكثرها , وأظهر ما تمتاز به من الخصائص أنها تصور القلق الذي يوشك أن يبلغ اليأس , وتصور الغموض الذي يضطر القارئ الى حيرة لا تنقضي ويدفعه الى كثير من المذاهب في فهم هذه الاثار وتأويلها , وحل ما تشتمل عليه من الألغاز والرموز , فقد كان فرانز كافكا أشد الناس صراحة وأعظمهم اخلاصا في حياته اليومية , وفيما كان ينشأ من الصلات بينه وبين أصدقائه وذوي معرفته , وفيما كان يسجل لنفسه من الخواطر والمذكرات في يومياته المتصلة , ولكنه بعد هذا كله كان أبعد الناس عن الصراحة و أنآهم عن الوضوح , فيما كان ينتج من القصص الطوال والقصار

وليس من المهم أن نلتمس العلل المختلفة لهذا الغموض , فالأدب الرمزي في نفسه ظاهرة سائغة طبيعية , ليست في حاجة الى أن تلتمس لها العلل والمعاذير , وانما هي أثر من اثار بعض الامزجة , ولون من ألوان الفن , في كثير من الاداب القديمة والحديثة , على اختلاف البيئات والعصور. فقل بعد ذلك ان فرانزا كافكا قد أمعن في درس التلمود , وتعمق ما في اداب اسرائيل من الأسرار والألغاز , وتأثر بهذا كله في فنه , فهذا حق من غير شك , ولكنه ليس كل شيء , فما أكثر الأدباء الرمزيين الذين يستمدون رمزيتهم من مزاجهم الفني وحده , لا من دراسة التلمود ولا من تعمق الأسرار والألغاز في أدب اسرائيل

والغموض في أدب كافكا من نوع خاص , فالرجل المثقف حين يقرأ هذا الأثر أو ذاك من اثاره , لا يشعر بالغموض لأول وهلة , وانما يخيل اليه أنه يقرأ شيئا يسيرا سائغا قريب الفهم , لا يتكلف في تذوقه جهدا ولا عناء , ولكنه لا يلبث أن يحس شيئا من الغرابة , أو قل شيئا من الغرابة في هذا الذي يقرأ , لأنه يرى أشياء مسرفة في البساطة مألوفة أشد الالف ليس من شأنها أن ترتفع الى حيث تكون أدبا ينتجه الفن الرفيع , وانما هي من هذه الاشياء التي يراها الانسان في كل يوم وفي كل مكان , وفي الطبقات الساذجة العادية من الناس , فيسأل القارئ نفسه , أو قل يقنع القارئ نفسه بأن الكاتب لم يرد الى هذه البسائط , وانما اتخذها وسائل قريبة لغايات بعيدة . وهنا يدفع القارئ الى التماس هذه الغايات , فيذهب في التماسها كل مذهب , ويسلك الى استكشافها كل سبيل , وقد يصل الى شيء يحسبه الغاية التي قصد اليها الكاتب , ولكنه لا يكاد يفكر ويروي , حتى يشك فيما انته اليه وحتى يسأل نفسه الا يمكن يكون الكاتب قد أراد الى غاية أخرى ا والى غايات أخر , غير هذه التي انتهى هو اليها ؟ 

وكذلك نستطيع أن نقول أن قارئ فرانز كافكا , معلق دائما , يخيل اليه أنه يفهم ما يقرأ , وهو يفهم معانيه القريبة من غير شك ولكنه يشعر شعورا قويا بأن هذا الذي يفهمه ليس هو الذي قصد الكاتب اليه . والى جانب هذا الشعور بالتعليق المتصل يجد القارئ أثناء قرائته حرجا مرهقا وضيقا شديدا , لأنه يرى نفسه في بيئته مهما تكن قريبة في ظاهر الامر فهي غريبة في حقائق الاشياء , وهو من أجل ذلك لا يحس يسرا ولا سهولة ولا سعة , وانما هو يشعر بضيق الصدر وقلق النص , وهذ ا الجهد العنيف الذي يفرض على العقل .

فقارئ فرانز كافكا في الدنيا وليس فيها , هو في عالم غريب , لا هو بالواقعي ولا هو بالوهمي , وانما هو شيء بين الواقع والوهم بلأ النفس حيرة وشوقا وسأما والحاحا في وقت واحد . تأخذ في قراءة القصة فيفاجؤك قربها وتدهشك غرابتها , وأنت لا تكاد تطمئن الى هذا القرب اليسير المألوف , ولو قد اطمأننت اليه لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب , ورأيت أنك لست في حاجة الى تكلف الجهد لتفهم ما لا يحتاج الى الفهم , وأنت لا تطمئن الى هذه الغرابة ولو قد اطمأننت اليها لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب يائسا من القدرة على الفهم . فأنت اذن معلق بين الوضوح الذي يملأ نفسك سأما وبين الغموض الذي يملأ نفسك شوقا , وما تزال في هذه الحال المعلقة مذ تبدأ الكتاب أو القصة الى أن تفرغ منهما .

وأغرب من ذلك أنك حين تفرغ من القراءة , لا تنتهي الى ما يحسن الاطمئنان اليه والسكوت عليه , و أنت معلق بعد الفراغ من القراءة كما كنت معلقا في أولها وفي وسطها , ذلك لأن الكاتب لا يتم قصته وانما يقتضبها اقتضابا , وبنتهي بها الى شيء لا يصلح أن يكون غاية لقصة أو كتاب . ومصدر ذلك في أكبر الظن أن الكاتب نفسه لا يعرف لنفسه غاية يقف عندها أو أمدا ينتهي اليه , وانما هو يمضي بقصته في طريقها ما وسعه المضي , حتى اذا أدركه الاعياء أو انتهى الى بعض الطريق , وجد أمامه سدا منيعا لا يستطيع أن يتجاوزه , فوقف حيث ينتعي به السعي , واستأنف السير في طريق أخرى وانتهى من هذه الطريق الأخرى الى مثل ما انتهى اليه في الطريق الأولى فوقف ثم استأنف السير في طريق تالثة .

فأنت ترى الى الان أن أدب فرانز كافكا يقوم , أو قد يدور حول هذه الأصول التلاثة وهي العجز عن الاتصال بالاله من جهة , والعجز عن فهم الخطيئة والتبرؤ منها مع الثقة بالتورط فيها من جهة ثانية , والعجز عن فهم العلل الغائية لما يكون في العالم من الخطوب والأحداث من جهة تالثة . وأنت اذا قرأت هذه الاثار الكثيرة التي نشرت لفرانزا كافكا على اختلافها في الطول والقصر , وتفاوتها في الوضوح والغموض , رأيتها كلها تدور حول هذه الأصول , وقد يلح هذا الأثر أو ذاك في تجلية هذا الأصل أو ذاك , ولكن مجموعتها تنتهى بك دائما الى هذه الخلاصة القاتمة السلبية , التي تجعل حياة الانسان كلها عجزا وقصورا ويأسا أو شيئا قريبا جدا من اليأس .
ومن أجل هذا وصف أدب فرانز كافكا كما وصف أدب أبي العلاء المعري بأنه أدب قانم حالك , يفل العزائم ويثبط الهمم , ويصد الاسان عن العمل ويرده عن الأمل , ويدفعه الى نشاط عقلي عقيم , يدور حول نفسه أكثر مما يدور حول غيره , ولا يحفز الناس الى طمع أو طموح , وانما يمسكهم في لون من الخوف المنكر , الذي لا أمن معه ولا اطمئنان .

ومن أجل هذا حرقت كتب كفكا في برلين أثناء الحكم الهتلري , ومن أجل هذا كان اليساريون في فرنسا يبغضون هذه الكتب أشد البغض , ويودون لو يحال بينها وبين الشباب , ويعبرون عن هذا كله بهذه الجملة التي كثر حولها الحديث في في فرنسا أثناء الصيف الماضي " يجب أن يحرق فرانزا كافكا"

وواضح جدا أن هذه العبارات ليست الا رمزا , فتحريق الكتب لا يغني شيئا ويكفي أن تحرق الكتب ليزداد انتشارها , انما المهم هو أن هذا الأدب القاثم مثبط لهمم الشباب , فلا ينبغي أن يخلى بينه وبين الشباب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق