مقدمة الطبعة العربية الثانية
دوستويفسكي : معاصرنا
تصدر هذه الطبعة العربية الجديدة لأعمال دوستويفسكي الأدبية الكاملة بعد انقضاء مائة عام ونيف علي وفاة مؤلفها (1821-1881) الذي يعتبره نقاد الأدب و مؤرخوه واحداً من أعظم الروائيين الروس في القرن التاسع عشر. وغني عن القول ان مترجم هذه الأعمال الكاملة، المرحوم الدكتور سامي الدروبي، كان رائداً في مجال تعريف القاريء العربي بروائع الأدب الروسي منذ ما يقارب الخمسين عاماً. ويعود الفضل في نشر الترجمات الأولي إلي دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر في دمشق. ثم جاء صدور الأعمال الأدبية الكاملة في 19 مجلداً عن وزارة الثقافة في مصر عام 1967 بالتعاون مع المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر ودار الكاتب العربي للطباعة والنشر (القاهرة(وتأتي هذه الطبعة العربية الجديدة التي تقدّمها دار ابن رشد إلي القاريء العربي لتؤكد علي ضرورة الاهتمام بتراث الأدب العالمي عامّة، وعلي فائدة التعرف عن كثب إلي روائع الأدب الروسي بنوع خاص.
ويلاحظ القاريء اعتماد الناشرين منهج التسلسل الزمني في توزيع أعمال ديستويفسكي الأدبية علي امتداد المجلدات الكاملة، فالمجلد الأول يضم باكورة النتاج الروائي لديستويفسكي، و في طليعته الرواية القصيرة (الفقراء 1846) التي اقترن صدورها بالنجاح السريع الذس أحرزه المؤلف الشاب، و جاء بمثابة مؤشر على اهتمامه الباكر بالكتابة الأدبية و الروائية. و في العام نفسه صدرت روايته )المِثل( أو الظل، لتطرح إحدى المسائل التي يتناولها المؤلف في رواياته الكبرى )الجريمة والعِقاب( ، ) الإخوة كارمازوف ( و نعني بها مسألة الصراع الداخلي بين الخير والشر، ولقد جرت مراعاة مبدأ الترتيب التسلسلي الزمني في سائر مجلدات المجموعة.
ولسنا بصدد تقديم نبذة عن حياة دوستويفسكي، أو تناول أعماله بالدراسة في العمق. ولا تهدف هذه المقدمة الي تقسيم مراحل حياته الأدبية، علماً بوجود الرابط الوثيق بين التجارب والمعاناة و الهواجس والمرض الوراثي من جهة و بين الأفكار و المُثل و المعضلات و المعتقدات التي تناولها دوستويفسكي في رواياته واضفاها على شخصياته الروائية ، و هي اعتقاده الراسخ بحاجة الانسان الى الندم و التوبة والتكفير ، و قناعته بان الالم و العذاب و المعاناة تؤلف سبيل الخلاص . مما حدا بالنقاد و الباحثين الى اعتبار تلك الفكرة بمثابة الهاجس المسيطر على كتابات دوستويفسكي و شخصياته الروائية ، فارسى بالتالي دعائم الفهم الديني لرواياته . و ثمة ناحية تسترعي انتباه القاريء في رواية الجريمة والعقاب ، حيث تتجلى براعة الراوي في تصوير الحياة الداخليه للمجرم ، في التركيز على ابراز الجوانب السيكلوجية للجريمة ، و على التناقضات التي تعصف بالذات الانسانية و تشحذ الوعي المتنامي بحدوث شرخ او انفصام يؤججه الصراع النفسي داخل الشخص فيتجلى على شاكلة ازدواج في الشخصية ، و قد أدت هذه الناحية الى تبلور المنظور النفسي في فهم اعمال دوستويفسكي الادبية ، و الى وضع الروائي في مصاف علماء النفس البشرية العظام .
و لا ينتمي دوستويفسكي الى مناخ القرن التاسع عشر فحسب ،إنه احد معاصرينا من خلال اعماله الادبية التي تطالعنا بمعزل عن أبعادها الزمنية و المكانية . ففي مطلع شبابه ارتبط مع مجموعة من الثائرين السياسيين و اصحاب الرؤى و التطلعات الطوباوية. و حين اكتشفت السلطات القيصرية أمر هذه ( الجماعة التآمرية ) تعرض دوستويفسكي للمحاكمة و صدر الحكم باعدامه ، ثم صدر العفو القيصري بترحيله الى سيبريا ، حيث أمضى خمس سنوات في الاشغال الشاقة ، و لم يأت العفو النهائي الا عام 1859 ، و في آواخر ايام حياته يبدو ان المد التمردي قد انحسر في نفسه بعض الشيء ليفسح المجال امام تراجعه صوب النزعة المحافظة ، و للقاريء ان يحسم في هذه المسأله من خلال مطالعته هذه الاعمال الادبية الرائعة . لكن المنحى التمردي يظل طابعا مميزا للشخصيات الروائية ، و لا مناص من اعتباره في فهم ابعاده .
ومما يجدر بقاريء دوستويفسكي تذكره على الدوام هو أن هذا الروائي العظيم سبر أعماق النفس الانسانية و افلح في كشف التناقضات التي تعصف بنفوس البشر و تستحوذ على ارواحهم و شخصياتهم . فقد سبق نيتشة الى القول ان دوستويفسكي هو ( عالم النفس الأوحد الذي تعلمت منه شيئاً ) . و جاء الروائي النمساوي ستيفان تسفايغ ليؤكد (ان دوستويفسكي هو اول انسان اعطانا فكرة عن الناس الذين هم نحن ... ) و في احدى رسائلة كتب فيودور دوستويفسكي يقول " في غمرة شعور بالاعتزاز و احساس بالذنب و اتهام الذات " ( لقد تجاوزت الحدود في كل شيء ، في كل شيء ) .
بيروت 23 آذار (مارس) 1985
د/ أسعد رزّوق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق