الاثنين، 10 أكتوبر 2016

العمــل الفنـي فــي عصر إعــادة إنتاجــه تقنيــاً

بقلم الفيلسوف الألماني والتر بنيامين
ترجمة : نشوان محسن دماج*




إن نشأة الفنون الجميلة وتبلور أنماطها المختلفة يعودان إلى زمن مختلف جذرياً عن زمننا نحن، وإلى أناس كانت طاقتهم كامنة في الأشياء وفي الظروف المحيطة بها، مقارنة بطاقتنا نحن. غير أن النقلة المثيرة للدهشة، والتي أحدثتها وسائلنا من خلال قدرتها على التكيف ودقتها، جعلتنا نتوقع في المدى القريب حدوث تغييرات جذرية في عملية خلق الجمال في العصور القديمة. إن في شتى الفنون جانباً مادياً لم يعد بالإمكان الوقوف عنده ولا النظر إليه ملياً كما كان في السابق؛ حيث إن هذا الجانب لم يعد بإمكانه التحرر من وطأة تأثيرات العلوم النظرية والتطبيقية الحديثة. إنه لا المادة ولا المكان ولا الزمان منذ عشرين سنة، هي نفسها المادة والمكان والزمان منذ القدم. وعليه يجب الإقرار بأن مثل هذه الابتكارات الكبيرة هي التي تقوم بتغيير مجمل تقنية الفنون، وبهذا تكون قد طغت على الحالة الإبداعية نفسها، لتصل ربما في نهاية المطاف إلى تغيير مفهوم الفن نفسه واستبداله بنوع أكثر سحراً.

توطئة

عندما قام كارل ماركس بتحليل وسائل الإنتاج الرأسمالية كانت وسائل الإنتاج تلك ما تزال في بداياتها. كان ماركس واثقاً من أن تحليلاته ستكتسب قيمة تنبؤية. لقد عاد بالمسألة إلى الجذور (الظروف) الأولى للإنتاج الرأسمالي فوجد أن ما أمكن تسميته لاحقاً بالرأسمالية نابع من تلك الظروف. وأفضى الأمر إلى أنه صار يُفهم من هذا المصطلح (الرأسمالية) على أنه ليس فقط الاستغلال البالغ العنف للطبقة العاملة، بل وأيضاً خلق الشروط التي تجعل من فنائها أمراً ممكناً.
إن انقلاب الطبقة الأرستقراطية، والذي كان أكثر بطئاً منه لدى الطبقة البروليتارية، كان بحاجة لأكثر من نصف قرن حتى يُحدث تغييراً في شروط الإنتاج يشمل كافة الميادين الثقافية. أما في أي صورة حدث هذا، فذاك متروك لمعطيات اليوم. وينبغي وضع المعايير التنبؤية المؤكدة في تلك المعطيات. غير أن هذه المعايير تنطبق على النظريات التي تناولت فن الطبقة العاملة بعد استحواذها على القوة، بالأخص فن المجتمع اللاطبقي، أقل من انطباقها على النظريات التي تناولت مسارات تطور الفن في ظل شروط الإنتاج المعاصرة. حيث لم يكن جدل تلك النظريات داخل الطبقة العليا أقل وضوحاً منه في الاقتصاد. ولذا سيكون من الخطأ التقليل من القيمة النضالية لنظريات كهذه. فهي التي وضعت عدداً من المفاهيم التقليدية من أمثال: العمل الخلاق، العبقرية، القيمة الأبدية، الجانب الغامض. وهي مفاهيم يؤدي استخدامها غير المنضبط (والعسير ضبطه في الوقت الراهن) إلى إنتاج مواد مسلم بها في العقلية الفاشية. فالمفاهيم التي سيتم إدخالها على نظريات الفن الحديثة فيما سيأتي، تتميز عن غيرها أنها لا تخدم إطلاقاً الأغراض والأهداف الفاشية. بل على العكس، فهي تخدم صياغة المطالب الثورية داخل سياسة الفن

-1-
إن العمل الفني في الأساس هو عملية إعادة إنتاج مستمرة. فما قام به أناس أمكن محاكاته دوماً من قبل أناس آخرين. إن مثل هذه المحاكاة كانت تمارس حتى من قبل التلاميذ في تمرنهم على الفن، ومن قبل أساتذتهم في توسعهم في العمل، وكانت ممارسة أيضاً من قبل طرف ثالث لا همَّ له سوى الربح. أما إعادة إنتاج العمل الفني تقنياً فأمر مستجد نوعاً ما، أثبت له موضع قدم في التاريخ وإن بشكل متقطع وفي فترات متباعدة، إنما بحضور طاغ. لم يعرف الإغريق سوى نمطين من إعادة الإنتاج تلك للأعمال الفنية، هما: القولبة والصياغة. فكان البرونز والتماثيل والقطع النقدية هي الأعمال الفنية الوحيدة التي كان بمقدورهم إنتاجها بكميات وفيرة. وكل ما عدا ذلك ظل على حاله ولم يتسنَّ إعادة إنتاجه تقنياً. ومع الجرافيك (النحت على الخشب) أصبح النحت للمرة الأولى فناً معاداً إنتاجه تقنياً؛ واستمر الأمر طويلاً حتى أصبحت الكتابة هي أيضاً كذلك، من خلال الطباعة. ومعروفة هي التغييرات الهائلة التي أحدثتها الطباعة، إعادة إنتاج الكتابة تقنياً، في حقل الأدب؛ غير أنها من حيث ظهورها، الذي له اعتباره في المعيار التاريخي العالمي، ليست سوى حالة خاصة، إنما، والحق يقال، حالة في غاية الأهمية. وطوال تاريخ العصور الوسطى كانت اللوحات النحاسية والزيتية تدخل ضمن الجرافيك، مثلما دخل في مجاله أيضاً الليتوغراف (الطباعة الحجرية) في بداية القرن التاسع عشر.

ومع الليتوغراف تكون تقنية إعادة الإنتاج قد بلغت مرحلة جديدة كل الجدة. فالأسلوب البالغ الإيجاز في التفريق بين صبغ الرسمة على حجر وبين نحتها في قطعة خشب أو طبعها على قطعة نحاسية، أعطى فن النحت للمرة الأولى إمكانية تسويق منتجاته، ليس فقط ذات النمط الواحد (كما في السابق)، بل في أشكال متجددة كل يوم. فمن خلاله (أي الليتوغراف) أصبح الجرافيك قادراً على مواكبة ورسم الحياة اليومية المعاشة. وكانت بدايته متماشية مع الطباعة؛ إلا أن تلك البداية لم تحظ بأي تميز بعد اختراع الليتوغراف إلا لعقود قليلة ومن خلال الفوتوغراف. ومع الفوتوغراف كانت اليد قد تخلت للمرة الأولى عن وظيفتها الفنية الأهم في عملية إعادة الإنتاج صورياً، الأمر الذي سيلقي بالمسؤولية من الآن فصاعداً على العين وحدها. ولأن إدراك العين أكثر سرعة من دلالة اليد، فإن عملية إعادة الإنتاج الصورية أصبحت من السرعة الهائلة بحيث يمكن أن تتماشى مع عملية التحدث. إن السينمائي في دار التصوير يقوم بتركيب الصور بنفس السرعة التي يتحدث فيها الممثل. وبما أن الجريدة المصورة متخفية ببراعة داخل الليتوغراف، فكذلك هي السينما الناطقة في الفوتوغراف. في نهاية القرن المنصرم (التاسع عشر) تم الشروع في إعادة إنتاج الصوت تقنياً. هذه الجهود المتقاربة خلقت حالة معروفة مسبقاً، يشير إليها بول فاليري([) بقوله: «مثل ماء، مثل غاز، مثل تيار كهربائي منسرب إلى مسكننا من كل صوب، على قبضة يد، تكاد تكون لا مرئية، هكذا نتشبع بالصور أو بالأنغام، التي نكاد نلمسها بكف صغيرة، لتغادرنا بعدها بالطريقة نفسها»(1).
في القرن التاسع عشر كانت إعادة الإنتاج تقنياً قد وصلت مستوى بدأت فيه ليس بإخضاع مجمل الأعمال الفنية التراثية إليها وإحداث تغييرات جوهرية فيها فحسب، بل وبدأت أيضاً باحتلال مكانة خاصة في وسائل الإنتاج الفني. بالنسبة لدراسة ذلك المستوى ليس ثمة أكثر وضوحا ودلالة من صورتيه المختلفتين: إعادة إنتاج العمل الفني والسينما؛ فالفن معهما قد تأثر في صورته الموروثة.

-2-
حتى لو بلغت عملية إعادة الإنتاج أوْجَ اكتمالها فسيظل هناك شيء ينقصها: مكانية وزمانية العمل الفني؛ وجوده الأول في المكان الذي حدث فيه. ففي ذلك الوجود الأول لا سواه بدأ التاريخ الذي لن ينفك عن كيان ذلك العمل. سنضع في الحسبان التغييرات التي سيعاني منها في بنيته المادية على امتداد تاريخه، وكذلك تبدلات ملكيته التي ستتدخل فيه بقدر ما أمكن(2). إن أثر الأولى ليس له أن يتأتى إلا من خلال تحليل مادته الكيميائية أو الفيزيائية، والذي لا يمكن إلا أن يتغيب عن عملية إعادة الإنتاج. أما أثر الثانية فهو موضوع إرث ينبغي أن يتم اقتفاؤه من منشأ العمل الأصلي.

إن مكان وزمان العمل الأصلي هما اللذان يُبقيان على مفهوم أصالة ذلك العمل. فتحليلات المادة الكيميائية للصدأ العالق بقطعة برونز بالإمكان أن تكون مفيدة للدلالة على أصالة تلك القطعة؛ مثلما أن البرهان على أن مخطوطة من العصور الوسطى تعود إلى (أرشيف) القرن الخامس عشر بوسعه أن يكون صالحاً للدلالة على أصالة تلك المخطوطة. إن حيز الأصالة مغيب تماماً عن مجال عملية إعادة الإنتاج التقنية بل وغير التقنية(3). لكن بينما يحافظ النص الأصلي مع عملية إعادة الإنتاج الخطية، التي هي في الأساس صورة مزيفة عنه، على كامل مكانته، فهو ليس كذلك مع عملية إعادة الإنتاج تقنياً. والسبب هنا مضاعف. أولاً لأن إعادة الإنتاج تقنياً تثبت مع النص الأصلي أنها أكثر استقلالية منها خطياً. فبوسعها في الفوتوغراف مثلاً أن تُصعّد من مَشاهد العمل الأصلي، المتاحة فقط للعدسة المحكمة الضبط والمتحكمة بنقطة رؤيتها، إنما ليس لعدسة العين البشرية، أو أن تبرز – بمساعدة عدد من الطرق كالتكبير والعرض البطيء- صوراً مغيبة عن عدسة العين الطبيعية. هذا هو السبب الأول.

أما السبب الثاني فهو أن بوسعها علاوة على ذلك أن تصل بصورة النص الأصلي إلى حالات ليس للنص الأصلي نفسه أن يبلغها. وقبل هذا وذاك تمكنها من إنزاله عند رغبة المتلقي، سواءً كان إنزالها إياه على هيئة فوتوغراف أم على هيئة اسطوانة. فالكاتدرائية تغادر مكانها لتلقى ترحابا بها في استوديو أحد هواة الفن؛ والعمل الإنشادي المؤدى داخل صالة أو تحت قبة السماء صار بالإمكان سماعه داخل إحدى الغرف.

إن الظروف التي يمكن فيها لنتاج عملية إعادة إنتاج العمل الفني تقنياً أن يستمر، تؤاثر عدم المساس بديمومة العمل الفني، وهي في كل الأحوال لا تعطي أهمية لزمانيته ولا لمكانيته. وإذ إن هذا الأمر ليس سارياً فقط على العمل الفني وحده، بقدر ما هو سارٍ أيضاً حتى على مشهد طبيعي ينبسط ، مثلاً، أمام المشاهد في الفيلم؛ فإن صميماً حساساً في موضوع الفن يكون قد تم المساس به من خلال هذا الحدث، والذي ليس لحدث طبيعي أن يُحدث فيه ذلك الجَرح. وتلك هي أصالته. إن أصالة شيء ما إنما هي محتوى كل شيء فيه، من نشأته إلى أن يصبح موروثاً، من ديمومته المادية حتى شاهديته التاريخية. وبما أن الأخيرة داعمة للأولى فإن ما يحدث في عملية الإنتاج، حيث لا دخل للإنسان في الأمر الأول، كما هو أيضاً في الأمر الأخير، هو تزعزع الشاهدية التاريخية للشيء. ولعمري إن هذا، حتى لو تم زعزعته، هو بعينه سلطة ومكانة ذلك الشيء(4).

بوسع المرء مع ما خرجنا به هنا من مفهوم للـ Aura([) أن يستخلص فيقول: إن ما اندثر في عصر إعادة إنتاج العمل الفني تقنياً هو عبق ذلك العمل (أوراه). إن هذا الحدث علامة فارقة تتعدى أهميتها نطاق الفن. إن تقنية إعادة الإنتاج، هكذا يعبر عنها عموماً، تُخرج العمل المعاد إنتاجه من نطاق الموروث. فبما أنها تقوم بإعادة إنتاج عمل مستنسخ، فإنها تضع مكان وجوده الوحيد وجوده الهائل الكثرة. وبما أنها تسمح لإعادة الإنتاج بالنزول عند رغبة المتلقي حسب وضعه الخاص، فإنها تستحدث العمل المعاد إنتاجه من جديد. كلتا هاتين المسألتين تؤدي إلى حدوث زعزعة قوية للعمل المتوارث، زعزعة الموروث، الذي هو الوجه الباطن للأزمة الراهنة ونهضة الإنسانية. وكلتا المسألتين على علاقة وثيقة بالحشود والتكتلات الشعبية أيامنا هذه. أما فاعليتهما البالغة القوة فهي السينما. إن أهميتها الاجتماعية قائمة على صورتهما الإيجابية ولا تستقيم إلا بها. هذا بالإضافة أيضاً إلى جانبها الهدام ذاك، وهو: القضاء على قيمة الموروث في الحقل الثقافي. هذه الظاهرة موجودة بشكل ملموس جداً في الأفلام التاريخية الكبرى. إنها على الدوام تبسط سيطرتها على أماكن جديدة وتدخلها في إطارها. عندما أطلق آبل جانس([) في العام 1927 صرخته الحماسية: «إن شكسبير ورمبراند وبيتهوفن سيتم تمثيلهم… وإن كل الأساطير والميثولوجيات وكل الشخصيات الأسطورية وأصحاب الديانات كلهم، بل وكل الأديان…، ينتظرون قيامتهم (بعثهم) إلى العدسة، وها هم الأبطال يتدافعون على الباب»(5)، فإنه بذلك قد دعا، دون أن يقصد بالطبع، إلى تصفية شاملة لهم.

-3-
في الحقب التاريخية الكبرى يتغير -بتغير نمط وجود المجتمعات الإنسانية- نمط وأسلوب وعيها (إدراكها الحسي). فالنمط والأسلوب اللذان ينتظم فيهما وعي الإنسان – وهو المادة التي يحدثان فيها- لا يتأتيان من خلال الطبيعة فحسب، بل وأيضاً من خلال التاريخ. إن عصر تحول الشعوب، الذي نشأت فيه صناعة الفن الروماني القديم، وتشكل مدرسة فيينا، لم يكن لديه فن مغاير عن العصور القديمة فحسب، بل ووعي مغاير أيضاً. إن صاحبَيْ مدرسة فيينا، ريجل([) وفيكهوف([[)، اللذين تمردا على ثقل الموروث الكلاسيكي المنضوي في قبره كل فن، كانا أول من حدثته نفسه، استنتاجاً منهما، القيام بإحداث منظومة وعي لعصرهما المنتميَين إليه. وبقدر ما كانت معارفهما واسعة، بقدر ما اقتصر هذان الباحثان على إظهار الطابع الرسمي الذي انطبع به الوعي في العصر الروماني القديم. لم يحاولا –وكان باستطاعتهما فعل ذلك لا الأمل فيه فحسب- إظهار التغيرات الاجتماعية التي تبدت جلية في تحولات الوعي في ذلك العصر. بالنسبة لعصرنا الحالي ثمة شروط أكثر مواءمة لإحداث وعي مناسب. فلو تم فهم هذه التحولات في مادة الوعي، المعاصرين نحن لها، على أنها تداعي (اندثار) الأورا، فإن بوسع المرء تبيين الشروط الاجتماعية لذلك التداعي.

سيكون من الأفضل توضيح مفهوم الأورا المقترح أعلاه فيما يخص المسائل الاجتماعية، بمفهوم الأورا فيما يخص المسائل الطبيعية. فهذه الأخيرة (المتعلقة بالطبيعة) نُعرّفها على أنها ظاهرة بُعد، مهما كانت قريبة. إننا عندما نتتبع باسترخاء بعد ظهرٍ صيفيٍّ امتداد سلسلة جبلية في الأفق أو فرع غصن ينشر ظله على المتفيئين، فإن هذا يعني أن أورا ذلك الجبل وذلك الغصن تتنفسان. في متناول هذا الوصف من البساطة ما يمكننا من فهم الشرط الاجتماعي الذي أدى لاندثار الأورا في العصر الحاضر. هذا الاندثار مبني على ظرفين، كلاهما له علاقة بالأهمية المتنامية للعامة في الحياة المعاصرة. أي أن: «تقريب» الأشياء مكانياً وإنسانياً أصبح هو الشغل الشاغل لجمهور اليوم(6)، مثلما هو ميل ذلك الجمهور إلى تخطي أحادية كل موضوع من خلال الشروع في إعادة إنتاجه. ويوماً عن يوم تظهر الحاجة الملحة للزج بالعمل في تلك التقاربية للصورة، أو قل في الصورة طبق الأصل، أي في إعادة الإنتاج. من الواضح أن عملية إعادة الإنتاج، ومدى تسخير الصحيفة والجريدة المصورة لها، تختلف عن النسخة الأصلية. إن الأحادية والاستمرارية في هذه (أي في العمل الأصلي) هما كل لا ينفصل، تماماً مثلما أن اللامبالاة والتكرارية كل لا ينفصل في تلك (أي في عملية الاستنساخ). إن انتزاع الشيء من غمده، القضاء على الأورا، هو سمة وعي، «حاسته في جعل النمط الواحد سائداً في العالم» من التصاعد والنمو بحيث تريد أن تبسط سيطرتها من خلال إعادة الإنتاج حتى على أحادية العمل. وهكذا يتجلى في المجال التطبيقي ما تم رصده في المجال النظري من أهمية متزايدة لعلم الإحصاء. إن وضع الحقيقة على خط مستقيم مع الجمهور، ووضع الجمهور على خط مستقيم معها، هو عمل خطورته لا محدودة على التفكير، مثلما هي على الرؤية.

-4-
إن أحادية العمل الفني هي نفسها وجوده المكنون في علاقته بالموروث. هذا الموروث بعينه هو بحق الشيء الحي، وهو الشيء المتحول والمتقلب للغاية. إن تمثالاً لفينوس (آلهة الحب)، على سبيل المثال، له علاقة أخرى بالموروث لدى الإغريق الذين شيدوه كدلالة على العبادة، غير تلك التي لدى القساوسة الكاثوليكيين في العصور الوسطى الذين كانوا ينظرون إليه كمعبودٍ شؤم. غير أن الشيء الذي وقف في وجهيهما معاً هو أحادية ذلك التمثال، بمعنى آخر: أوراه. إن الشكل الأصلي لمكنونية العمل الفني داخل الموروث يتجلى في العبادة. حيث إن أقدم الأعمال الفنية نشأت، كما نعرف، لخدمة طقس ما، سحري في البداية، ثم ديني بعد ذاك. ومن الأهمية البالغة بمكان أن الديمومة العبقية للعمل الفني لم تنفصل أبداً وبأي حال من الأحوال عن وظيفته الطقوسية(7)؛ بتعبير آخر: القيمة الفريدة للعمل «الأصلي» لديها ثبوتيتها الراسخة في الطقوس التي اكتسب فيها ذلك العمل قيمته الأصلية والأولى في استعماله كطقس. هذا الأمر هيأ للعمل الفني تلك الثبوتية الراسخة التي ستتجلى أيضاً في الصيغ المعتادة لوظيفة الجمال كطقس خارج الكنيسة(8). إن وظيفة الجمال اليومية التي نشأت في عصر النهضة، لتستمر طوال ثلاثة قرون، أظهرت بعد مضي هذه الفترة، ومع أول صدمة ثقيلة صادفتها، ذلك الرسوخ والثبات. وعندما أحس الفن مع مجيء أول وسيلة حقيقية أحدثت ثورة في عملية الاستنساخ، وهي الفوتوغراف، (بالتزامن مع قيام الاشتراكية)، عندما أحس بدنو الأزمة التي ستصبح جلية فيما تلى من قرون، كان رد فعله مذهب  «l’art pour l’art»([)، وهو نظرية من نظريات الفن. ثم بعد ذلك خرجت من رحمها نظرية سلبية على صيغة فكرة فن «غني»، لا يرفض تلك الوظيفة الاجتماعية فحسب، بل ويرفض تلك الفحوى أيضاً، من خلال طرحه موضوعاً من المواضيع الملموسة (يعد مالارميه([) في الشعر أول من وصل إلى ذلك المستوى).

وأن تستوفي هذه السياقات حقها فتلك مسألة ضرورية بالنسبة لوجهة نظر يشغلها أمر العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنياً. فالسياقات هذه هي التي وسعت من المعرفة، وهي معرفة حاسمة هنا؛ بحيث أمكن معها لعملية إعادة إنتاج العمل الفني تقنياً أن تحرر هذا العمل من وجوده الطفيلي في الطقوس لأول مرة في تاريخ العالم. وهكذا أصبح العمل الفني المعاد إنتاجه عملية إنتاج خاضعة لعملية إنتاج بنسبة متزايدة (9). وصار بالإمكان من صورة فوتوغرافية على سبيل المثال إيجاد عدد كبير من النسخ؛ ويصبح السؤال عن النسخة «الأصلية» أمراً لا معنى له. إنما في اللحظة التي لم ينطبق فيها معيار الأصالة على عملية إنتاج الفن، كانت الوظيفة الاجتماعية للفن قد تبدلت بالمجمل. وبدلاً من ارتهانه بالطقوس أصبح رهن واقع آخر: السياسة.

-5-
إن تقبل الأعمال الفنية يأتي بصور مختلفة تتصدرها صورتان محوريتان، واحدة مبنية على القيمة القداسية للعمل الفني، والأخرى على القيمة الاستعراضية(10) و(11). وتبدأ عملية الإنتاج الفني بالاشتغال على الأعمال الموظفة لخدمة العبادة. بالنسبة لهذه الأعمال فإن وجودها، إذا سُمح للمرء أن يفترض، هو أكثر أهمية من مشاهدتها. إن الظبي الذي رسمه إنسان العصر الحجري على جدران كهوفه، هو أداة من أدوات السحر. صحيح أنه قام برسمه أمام قومه، إنما ليس في النهاية سوى شبح متصور. ويبدو اليوم أن القيمة التعبدية لمثل هذه الأعمال أكثر ما تكون إلحاحاً في إخفاء العمل الفني وتغييبه. إن عدداً من تماثيل الآلهة في سيلا (cella) لم يكن متاحاً إلا للكاهن، وعدداً من لوحات العذراء مريم ظل منفياً عاماً بأكمله، وعدداً من التماثيل في كنائس العصور الوسطى لم يكن للناظر من الطبقات الدنيا أن يرقى إليه. ومع تحرر الممارسات الانفرادية للفن من غياهب الطقوس كثرت فرص عرضه. إن استعراض صورة لوجه إنسان وتوزيعها هنا وهناك أكثر من استعراض تمثال لإله، له مكانه الراسخ داخل المعبد. واستعراض لوحة أمر أكثر من استعراض فسيفساء أو نقش، رغم أسبقيتهما لها. ولما كان استعراض معرض في البيت أقل من استعراض سيمفونية، فما ذاك إلا لأن السيمفونية وليدة عصرها، مما يجعل استعراضها أكثر من استعراض ذاك.

ومع الوسائل المختلفة لعملية إعادة الإنتاج تقنياً كان لاستعراض العمل الفني أن يتنامى بتلك الدرجة من الكثرة بحيث حدث تأرجح كمي بين كل من قطبيه، تماماً كما في عصر ما قبل التاريخ، ليتحول إلى تغير نوعي لطبيعته. ومثلما أن العمل الفني في عصر ما قبل التاريخ، من خلال العبء الثقيل جداً الملقى على كاهل قيمته القداسية، كان أداة السحر الأولى التي عرفها الإنسان لاحقاً على أنها عمل فني، فقد أصبح اليوم، من خلال العبء الثقيل جداً الملقى على كاهل قيمته الاستعراضية، شكلاً ذا وظيفة جديدة كلياً تزيح تلك الوظيفة الفنية المعروفة لدينا، والتي سيتم اعتبارها لاحقاً وظيفة عارضة (12). وهكذا يتأكد لنا تماماً أن الفوتوغراف حالياً، والسينما لاحقاً، يعطيان من الدلائل المادية ما يفي ببلوغ تلك الحقيقة.

-6-
في الفوتوغراف تبدأ القيمة الاستعراضية بإزاحة القيمة القداسية على كافة المستويات. غير أن الأخيرة ليس لها أن تنسحب دون مقاومة؛ فهي تلوذ بحصن أخير هو وجه الإنسان. وليس من باب المصادفة أن يكون البورتريه (صورة الوجه) في صدارة فن الفوتوغراف القديم. فالقيمة القداسية لصورة ما لديها ملاذها الأخير في احترام ذكرى الأحبة البعيدين أو المتوفين. إن في التعابير الخاطفة لوجه إنسان ما يجعل الأورا تنبعث من الفوتوغراف القديم ملوّحة للمرة الأخيرة. وهذا ما يضفي عليها جمالها الحزين للغاية والذي لا يضاهيه جمال. إنما في اللحظة التي يتغيب فيها الإنسان عن الفوتوغراف تكون القيمة الاستعراضية قد اعترضت طريق القيمة القداسية للمرة الأولى وأزاحتها تماماً. وإذا ما أُعطيَ لهذا الحدث مكانتُه فإنها أهميةٌ لا مثيل لها لـAtget([) الذي صور الشوارع الباريسية في القرن التاسع عشر مقفرة من الوجوه. كان أحدهم على حق تماماً حين قال عنه إنه صورها كما لو كانت مسرح جريمة. مسرح الجريمة مقفر هو أيضاً. وتصويره ذاك كان له حيثياته. إلا أنه من الآن فصاعداً سيكون للصور الفوتوغرافية أن تصبح بمثابة أدلة يُستند إليها في المسألة التاريخية. وبهذا يتجلى مغزاها السياسي في أنها تتطلب من المرء قبولاً ذا دلالة محددة. أما التأمل المحلق بجناحيه فليس مناسباً بالنسبة لها. إنها تجعل المتأمل في حيرة من أمره، فيكون شعوره لحظتها أنه لا بد من البحث عن الطريق الصحيح للوصول إليها. وهنا يأتي دور الجريدة المصورة لتضع له العلامات الإرشادية. وسيان أكانت صحيحة أم خاطئة. فالكتابة التوضيحية ستصبح للمرة الأولى في تلك الجرائد أمراً لا مندوحة عنه. من الواضح أن لتلك الكتابة التوضيحية سمة مغايرة تماماً تميزها عن سمة صورة ما. هذه الإرشادات التي يتلقاها متأمل الصور من خلال الكتابة ستصبح عما قريب (في السينما) أكثر دقة وتسلطاً مما هي عليه في الجريدة المصورة، حيث لن يتضح فهم كل صورة على حدة إلا من خلال توالي كل الصور التي تم رسمها مسبقاً.

-7-
ها هو النزاع الذي نشب بين الرسامين والفوتوغرافيين طيلة القرن التاسع عشر، حول عملية إنتاج العمل الفني، يحتدم اليوم بشكل تائه ومعقد. غير أن ذاك لم يكن حديثاً ضد أهمية العمل، بل لربما كان على الأرجح أقرب إلى التأكيد عليها. لقد كان هذا النزاع في الواقع تعبيراً عن تحول تاريخي بعيد المدى، لم يكن مثله معروفاً لكلا الطرفين. ولما كان عصر إعادة الإنتاج تقنياً قد جرد الفن من ثبوتيته، فإن ضوء استقلالية ذلك الفن قد انطفأ إلى الأبد. غير أن تغير وظيفة الفن التي أعطيت له تعدى نطاق ذلك القرن. فكان للقرن العشرين، الذي عايش تطور السينما، أن لا يسلم منه هو أيضاً.
هل أن المرء من قبل قد بدد حدة ذكاء لا طائل منها في البت في السؤال عما إذا كان الفوتوغراف فناً، دون أن يضع سؤالاً سابقاً عما إذا كانت السمة الكلية للفن قد تغيرت بوجود الفوتوغراف. هكذا سيقوم منظرو السينما عما قريب بطرح أسئلة استعجالية من هذا النوع. غير أن صعوبات من تلك التي أحدثها الفوتوغراف في علم الجمال الموروث، لم تكن إلا لعبة أطفال مقارنة بتلك التي انتُظرت من السينما. فهنا كانت الوحشية العمياء التي وُصمت بها بواكيرُ النظريات السينمائية. يقارن آبل جانس مثلاً السينما بالهيروغليفية فيقول: «ها نحن، بعودتنا الغريبة أقصى درجات الغرابة لوجودنا الأول، قد عدنا ثانية إلى مستوى تعبير المصريين… إن لغة الصورة لم تأخذ نضجها الكامل بعد، وذاك لأنه لا طاقة لأعيننا بعدُ بها. لا يوجد بعدُ الاعتبار الكافي ولا الاحترام الكافي لذلك الذي يتحدث عن نفسه فيها»(13). أما سيرفن مارس([) فيكتب: «إن أي فن لم يكن سوى حلم، حلم… أكثر شاعرية وواقعية في نفس الوقت! ولو تم الأخذ بوجهة نظر كهذه فإن السينما ستقدم وسيلة تعبير لا نظير لها. ووحدهم الأشخاص ذوو الأسلوب الراقي في التفكير من سيُسمح لهم في مجال السينما تحريك مسار حياتهم في لحظات بالغة الكمال والغموض»(14). ألكسندر أفوكس([[) من جهته خلص إلى تصور وهمي للسينما الصامتة عبر عنه بسؤال: «أما كان ينبغي لكل تلك الكتابات الجريئة التي استعنا بها أن تؤول إلى تعريف للصلاة؟»(15) سيفيدنا هذا الأمر كثيراً في أن نرى كيف هو السعي لجعل السينما طاغية على «الفن». إن هذا المنظّر كلف نفسه، بلا مبالاةٍ ما بعدها، أن يشرح من تلقاء نفسه عناصر وأسس العبادة. بالطبع هناك أعمال تعود إلى هذا العصر الذي خرجت فيه مثل تلك التأملات، مثل »L,Opinion publique«([[[)  و«La ruée vers l,or«([[[[).  ولم يمنع هذا الأمر آبل جانس من القيام بتلك المقارنة مع الهيروغليفية. أما سيرفن مارس فيتحدث عن السينما كما لو كان المرء يتحدث عن صور Fra Angelico([[[[[). والملحوظ أنه ما زال ثمة حتى اليوم كتاب رجعيون يبحثون في نفس الوجهة عن أهمية السينما، وإن لم فيبحثون عنها في كل ما هو قداسي أو فوق طبيعي. عند صدور فيلم «عاصفة ليلة صيف» أكد فيرفل على أنها –أي السينما- نسخة عقيمة ولا شك للعالم الخارجي بشوارعه ومحتوياته ومحطاته ومطاعمه وسياراته وشواطئه، تحول دون ارتقائها إلى مملكة الفن. «إن السينما لم يُدرَك بعد معناها الحقيقي ولا إمكاناتها الحقيقية. إن إمكاناتها تكمن في قدرتها الفريدة على إحضار كل ما هو آسر ورائع وفوق طبيعي، بوسائل طبيعية وبقدرة لا نظير لها على الإقناع»(16).

-8-
إن أداء الممثل في خشبة المسرح يتم تقديمه للجمهور مباشرة من خلال الممثل نفسه وبشخصه هو؛ بينما في المقابل يكون أداؤه في السينما مقدماً للجمهور من خلال آلة. هذا الأخير تفضي نتيجته إلى أمرين. الأول أن الآلة التي تقدم عمل الممثل للجمهور، ليست في موقف إيلاء هذا العمل ككل متكامل أي اعتبار. فهي على الدوام تخضعه لموقف المصور السينمائي. وبناءً على هذا الموقف الذي يخلص إليه المصور من المادة الموضوعة أمامه، يتم الشروع في الفيلم الجاهز للتجميع. فيكون قد ضم عدداً لا بأس به من اللقطات المتحركة التي لا بد وأن أمثالها معروفة للكاميرا- ناهيك عن عدد لا بأس به من الأمور التقنية، كالصور المكبرة عن قرب. وهكذا يكون عمل الممثل قد خضع إلى سلسلة من التقييمات والاختبارات النظرية. فالنتيجة الأولى إذن هي أن أداء الممثل يتم استعراضه من خلال الآلة (الشاشة). أما النتيجة الثانية فهي أن الممثل، بما أنه لا يؤدي عمله أمام الجمهور، يفقد تلك الحظوة المحفوظة لدى الممثل على خشبة المسرح، في جعل الجمهور متفاعلاً مع عمله أثناء التمثيل. وهو ما جعل أحد المدققين، أصحاب الخبرة النقدية، يعبر عن استيائه من عدم وجود أي تواصل شخصي مع الممثل. إن الجمهور لا يتفاعل مع الممثل إلا لحظة تفاعله مع الشاشة. وبناءً عليه يتخذ موقفه: التقييم (17). أما الموقف الذي يتم فيه التعريض بالقيم القداسية، فهو ما ليس له أن يكون موقفاً.

-9-
أن يقوم الممثل بعرض شخصية أخرى أمام الجمهور فأمر أقل أهمية بالنسبة للسينما من أن يقوم بعرض شخصيته هو أمام الكاميرا. إن Pirandello([) واحد من أوائل الذين شعروا بذلك التحول في شخصية الممثل من خلال أدائه الخاضع للاختبار. وما يخل بملاحظاته، تلك التي أوردها حول هذه المسألة في روايته «يجري تمثيله»، هو أنها قليلاً ما نوهت إلى الجانب السلبي للأمر، وأنها ركزت فقط على الفيلم الصامت. إذ إن الفيلم الناطق بهذا الصدد لم يقم بأي تغيير في الشيء الجوهري، وهو أن هناك تمثيلاً يجري، سواءً بالنسبة لجهاز واحد، أو لاثنين كما في حالة الفيلم الناطق. يقول بيرانديللو: «إن ممثل السينما يشعر كما لو كان في منفى. فهو منفي ليس فقط عن خشبة المسرح، بل وعن شخصيته أيضاً. إنه في ضيقه المعتم ذاك يشعر بخواء لا يعرف له سبباً، يفضي به هذا الخواء إلى أن جسده يصبح في حالة نقصان، إنه يتسرب. فواقعيته وحياته وصوته ونغمته التي يحدثها وهو في حالة استمتاع، كل ذلك يتم سلبه منه ليتحول إلى صورة خرساء ترتعش للحظة أمام الشاشة، ومن ثم يغيبها الصمت…. ولسوف تقوم هذه الآلة الصغيرة بالتمثيل مع ظله (طيفه) أمام الجمهور؛ أما هو فعليه أن يكتفي بالتمثيل أمامها»(18). بالإمكان الإشارة إلى توصيف مماثل على النحو التالي: للمرة الأولى –وهذا هو عمل الفيلم- يكون الإنسان في موقف يتوجب عليه فيه، صحيح أن يكون بكامل شخصيته الحيوية، إنما أن يتخلى عن أورا شخصيته تلك. فالأورا مرتبطة بمكانه وزمانه هو. وليس ثمة نسخة لها هنا. إن الأورا المتعلقة بشخصية مكبث على خشبة المسرح، لا يمكن شطبها من تلك المتعلقة، بالنسبة للجمهور المتفاعل، بشخصية شكسبير، أياً كان من يقوم بتمثيلها. غير أن خاصية التمثيل في دار التصوير السينمائي مبنية على أن التمثيل يضع الآلة مكان الجمهور. وبهذا لا بد للأورا المتعلقة بالشخصية الممثِّلة أن تزول- وتزول معها الأورا المتعلقة بالشخصية الممثَّلة. أن يتمكن كاتب مسرحي مثل بيرانديللو في توصيفه للسينما لا إرادياً من ملامسة أسباب الأزمة التي نراها تحدق بالمسرح، فهذا أمر ليس بمستغرب. ففي الواقع ليس ثمة تضاد أكثر حدة من العمل الفني المسرحي والعمل الفني المستحوذ عليه كلياً من قبل إعادة الإنتاج التقنية، كالسينما المتخلقة من رحم تلك العملية، وأي نظرة تأمل مستفيضة تؤكد هذا الأمر. لقد أدرك المدققون الخبراء منذ زمن أن أفلام السينما «تُحدث آثارها الكبرى على الدوام كلما تقلص <تمثيل> المرء فيها…..  فالتطور الأخير» كما يرى آرنهايم([[) 1932  هو أنه «يتم التعامل مع الممثل كما لو كان لازمة من لوازم المسرح، يختارها أحدهم بعناية ….. ليضعها في المكان المحدد»(19).

وهكذا يصبح الشيء الأهم (الممثل) مرتبطاً أشد ارتباط بالشيء العرضي (اللازمة). إن الممثل على خشبة المسرح يضع لنفسه دوراً يؤديه. أما ممثل الفيلم فإنه محروم تماماً من هذا الدور. وبهذا فإن عمله لا يكون عملاً واحداً، بل مركباً
من طائفة من الأعمال المجتزأة. وإلى جانب  الأمور العرضية مثل: إيجار الاستديو ومقتضيات الشركاء ومسائل الديكور … الخ، ثمة متطلبات ضرورية للأجهزة التي تقوم بتجزئة عمل الممثل إلى سلسلة من الأحداث التجميعية. وقبل كل شيء مسألة الإضاءة وما يقتضيه تمثيل حدث يظهر على الشاشة، كنسق سريع موحد، من تجهيزات ومن تصويرات أحادية يتطلب توزيعها داخل الاستديو الكثير من الساعات. ناهيك عن تجهيزات معداتها. فقفزة من نافذة، مثلاً، سيتم تحويرها داخل استديو التصوير السينمائي إلى قفزة من سقالة، أما الهروب الذي سيلي تلك القفزة فإنه سيستدعي أسابيع من التصوير خارج الاستديو. هذا بالإضافة إلى أن من السهل تركيب ودمج حالات متناقضة تماماً. فطرقة خفيفة على الباب يمكن أن تستدعي الممثل أن ينتفض فزعاً. أما إذا لم تجْرِ تلك الفزعة كما ينبغي، فسيكون باستطاعة المخرج الاعتماد على خبرته، فإذا ما كان الممثل متواجداً داخل الاستديو، قام، دون علم الأخير، بتصويب (طلقة) إلى ظهره. إن إجفال الممثل في تلك اللحظة يتم تصويره ومن ثم إدماجه في الفيلم.

ليس هناك ما هو أشد ولا أكثر تصحراً من أن يتسرب الفن من مملكة «الضوء الجميل» التي طالما كانت تعتبر كلاً لا يتجزأ، والتي كان له أن يترعرع فيها.

-10-
إن اغتراب الممثل أمام الآلة، كما يصفه بيرانديللو، هو اغتراب في الصميم كاغتراب الإنسان أمام منظره في المرآة. على أن صورته المنعكسة منتزعة منه. وإلى أين يتم تصديرها؟ إلى الجمهور(20). لا يغيب هذا الأمر عن إدراك الممثل لحظة واحدة. فممثل الفيلم يعرف، كلما وقف أمام الآلة، أنها آخر مراتب محاكمته من قبل الجمهور: جمهور المستهلكين (الشراة) الذين يحددون معالم السوق. هذا السوق، الذي انصرف إليه الممثل ليس بطاقته فحسب، بل وبشحمه ولحمه وقلبه وكليتيه، يكون هو المتحكم والمتصرف به –أي بالممثل- أثناء أدائه لعمله المحدد له، تماماً كما يتحكم ويتصرف بسلعة يتم إنتاجها في مصنع. أليس لهذه الحالة أن تعطيه نصيبه من ضيق الصدر والخوف المتجدد الذي، حسب بيرانديللو، يعتري الممثل أمام الآلة؟ إن السينما تجيب على انكماش الأورا ببناء «الشخصية» فنياً خارج دار التصوير السينمائي.  إن تقديس النجومية المتطلَّب من رأس مال السينما يحافظ على لمعان الشخصية ذاك الذي ليس له إلا أن يكون لمعاناً نتناً في معيارها السلعي. وطالما أن رأس مال السينما سيظل شاهراً صوته فلن يضيف لسينما اليوم على العموم أي قيمة ثورية أخرى، سوى تصدير نقد ثوري لصورة الفن الموروثة. إننا لا نعارض أن سينما اليوم بوسعها في حالات خاصة أن تقدم نقداً ثورياً بهذا الصدد لطبيعة العلاقات الاجتماعية ولنظم الملكية. غير أن محور البحوث في عصرنا الراهن قليلاً ما يرتكز على المسألة تلك، تماماً كما هو محور الإنتاج السينمائي في أوروبا الغربية.

الأمر المتعلق بتقنية السينما، تماماً كتعلقه بتقنية الرياضة، هو أن كل شخص يؤدي الدور المناط به بخبرة منقوصة. يحتاج المرء فقط إلى مجموعة من صبية الجرائد، مستندين إلى دراجاتهم، يتناقشون حول نتيجة إحدى مسابقات الدراجات، ليتجلى له فهم هذه الحقيقة. ليس عبثاً أن يقوم الناشرون (أصحاب المجلات) بتنظيم رحلات سباق لصبيتهم. فهي تثير اهتماماً كبيراً بالنسبة للمشتركين. إذ إن الفائز في هذه المنافسات يكون لديه فرصة أن يترقى من صبي جرائد إلى سائق دراجة. المجلة الأسبوعية على سبيل المثال تمنح كل شخص فرصة أن يترقى من كونه أحد المارة إلى كومبارس. بل إن بوسع ذلك الشخص العادي إذا اقتضت الظروف -الأمر الذي يذكرنا بقصيدة Wertoff»ثلاث أغنيات إلى لينين» أو بـ Iven  «Borinage»- أن يرى نفسه داخل عمل فني. وبوسع كل إنسان في أيامنا هذه أن يكون من حقه التقدم بطلب أن يتم تمثيل شخصيته. هذا الاستحقاق يتضح كل الوضوح عند إلقاء نظرة على الظرف التاريخي لمدونات اليوم.
لقد ظلت المدونات لقرون طويلة ترتب الأمور على طريقة أن أقل عدد من الكتاب يقابله ألوف مؤلفة من القراء. لكنّ تحولاً طرأ مع نهاية القرن المنصرم. فباتساع رقعة الصحافة التي كانت على الدوام تضع إصداراتها الجديدة، السياسية والدينية والعلمية والرسمية والمحلية، في متناول القراء، كان أكبر جزء من القراء قد وقع- سقوطاً منه أول الأمر- تحت تأثير الكتاب. فكان أن بدأت الصحافة اليومية بفتح «صناديق بريدها» لهم. وهكذا صرت بالكاد ترى اليوم أوروبياً قائماً في عمله ليس بوسعه أن يعثر على مناسبة لإصدار منشور عن تجربة عمل أو عن شكوى أو ريبورتاج أو ما شابه. وبهذا يكون الفارق بين المؤلف والجمهور قد أوشك على أن يفقد سمته الجوهرية. لقد أصبح فارقاً وظيفياً متردياً من سقوط إلى سقوط أو إلى شيء آخر. فالقارئ على أهبة الاستعداد في كل وقت لأن يصبح كاتباً. أما ولديه نصيب من خبرة اختصاصية في شأن من شؤون العمل، جيدة كانت أم رديئة، وحتى لو كان هذا الشأن تافهاً، فإنه يكون قد وجد لنفسه المدخل كي يكون كاتباً. إن الحديث في الاتحاد السوفييتي عن العمل بالذات يعتبر موضوعاً أثيراً. إن تصويره من خلال الكلمة يمثل جانباً من القدرة المتطلبة في  ممارسة العمل. حيث إن رخصة الدخول إلى الأدب لم تعد تقوم على التدريب التخصصي ولا على التدريب التقني الرفيع، بل أصبحت ملكاً مشاعاً (21).

وإذن لا بد وأن تنتقل عدوى كل ذاك، بلا مراء، إلى السينما، حيث سيكون للتحريفات، التي أعطت لنفسها الحق في العبث بمدونات قرون بأكملها، مكانها الفعال هناك على مدى عقد من الزمن. ففي المجال التطبيقي للسينما- وخصوصاً السينما الروسية- كان لهذا التحريف أن يصبح قيد التنفيذ في مواضع كثيرة. إن عدداً كبيراً من الممثلين الذين صادف وجودهم في السينما الروسية ليسوا ممثلين في حقيقتهم، بل أناس عاديون؛ وفي أحسن الأحوال ممثلون في مجال عملهم. يحرّم الاستغلال الرأسمالي للسينما في أوروبا الغربية إعطاء أي اعتبار للأحقية المشروعة التي يمتلكها إنسان اليوم في استنساخ نفسه (إعادة إنتاجها). وبناءً على هكذا ظروف تبدي صناعة السينما جل اهتمامها بوخز وإثارة عواطف الجمهور من خلال ما تبثه فيهم من تصورات وهمية ومن تخمينات ملتبسة.

-11-
إن تصوير فيلم سينمائي، وبالأخص الفيلم الناطق، يعطي مشهداً كما لو أنه – أي المشهد- لم يكن ممكناً من قبل على الإطلاق ولا بوجه من الوجوه. إنه يقدم الحدث بحيث لا يعود بالإمكان إلحاق أي وجهة نظر به، ولا أن يقع في مجال رؤية المشاهد أيٌّ من تلك التوابع المتعلقة بهكذا حدث تمثيلي، كآلة التصوير وأجهزة الإضاءة وما شابه. (فالذي يحدث هو أن موقف حدقة المُشاهد متطابق ومتوائم مع موقف آلة التصوير). هذه الحالة، وهي أكثر من كل حالة غيرها، تجعل من التشابهات القائمة بين مسرح في دار التصوير السينمائي والمسرح الحقيقي سطحية وعديمة الجدوى. غير أن المسرح من حيث المبدأ لديه المكان الذي يمكن من خلاله الحكم على الحدث بأنه غير واقعي. إنما لا وجود لهذا المكان في مسرح التصوير في السينما. إن طبيعتها الخيالية هي طبيعة من الدرجة الثانية؛ إنها نتاج لعملية الاجتزاء. أي أن هذا النوع من الآلات في  استوديو السينما يكون تغلغله داخل الحقيقة من العمق لدرجة أن وجه الحقيقة المشرق والمتحرر من جسم الآلة الدخيل هو نتاج أسلوب خاص، أي نتاج تصويرها من خلال جهاز فوتوغرافي مضبوط بطريقة خاصة ودمجه بتصويرات أخرى من نفس النوع. إن وجه الحقيقة المتحرر من الآلة أصبح هنا هو وجهها الفني الأصدق، والصورة الواقعية المباشرة هي الزهرة السماوية في أرض العملية التقنية.

هذه الحيثية المتفوقة على حيثية المسرح ستضع نفسها وجهاً لوجه، وبشكل أكثر تفوقاً، مع الحيثية الموجودة في فن الرسم. ولدينا هنا سؤال نطرحه: كيف يتصرف السينمائي إزاء الرسام؟ وللإجابة عليه سنسمح لأنفسنا باستخدام معنى مساعد يرتكز على مفهوم كلمة الـ Operateur([)، وهو المفهوم المتعارف عليه في علم الجراحة. سيمثل الجراح أحد طرفي نظام ما، والساحر يمثل طرفه الآخر. إن موقف الساحر، الذي يشفي مريضه من خلال وضع يده عليه، مختلف عن موقف الجراح الذي يقوم بإجراء عملية جراحية لمريضه. يحافظ الساحر بثبات على المسافة الطبيعية بينه وبين المريض؛ أو لنقل بالضبط: إنه يقلصها قليلاً جداً- بحكم يده الموضوعة على المريض- ويباعدها كثيراً جداً – بحكم سطوته. أما الجراح فيتصرف بشكل مقلوب: إنه يقلص المسافة كثيراً جداً بينه وبين المريض وهو ينفذ إلى داخله -ولا يزيد منها إلا قليلاً- بحكم الحيطة التي تتحرك بها يده داخل أجهزة الجسم. بكلمة واحدة: تمييزاً له عن الساحر (والذي هو فوق هذا يتزيى بزي طبيب) يتخلى الجراح في اللحظة الحاسمة عن الوقوف وجهاً لوجه مع مريضه؛ بل ينفذ إليه جراحياً. وإذن فالساحر والجراح يسلكان نفس سلوك الرسام والمصور السينمائي. فالرسام يراعي في عمله المسافة الطبيعية بينه وبين المتلقي، أما المصور السينمائي فإنه يتغلغل عميقاً في نسيج الحدث المعطى(22). والصور التي يسرح بها خيال كل منهما مختلفة اختلافاً جذرياً. فصورة الرسام صورة كلية، أما صورة المصور السينمائي فصورة مجتزأة تماماً تبحث أجزاؤها عن ناموس جديد يجعلها مترابطة. وبهذا أصبح تصوير الحقيقة سينمائياً له أهميته الكبرى التي لا تضاهيها أهمية بالنسبة لإنسان اليوم. أما السبب فهو أن التصوير سينمائياً، نظراً لتغلغله العميق بآلته، يقوم بإظهار وجه الحقيقة المتحرر من الآلة، وهو الوجه الحريّ بالإنسان أن يطلبه من العمل الفني.

-12-
إن إعادة إنتاج العمل الفني تقنياً تغير علاقة الجمهور بالفن (موقفه من الفن). فمن موقف متخلف للغاية من شخص اسمه بيكاسو، على سبيل المثال، إلى موقف متحضر للغاية من شخص اسمه شابلن. مع أن سمة السلوك المتقدم هي أن الإقبال على الشيء المُشاهَد والمُعايَش يخلق علاقة مباشرة ووثيقة مع موقف الناقد المختص. مثل هذه العلاقة يعد ظاهرة اجتماعية مهمة. إذ كلما تقلصت الأهمية الاجتماعية لفن ما كلما انقسم -وهو ما يتضح بجلاء في فن الرسم- الموقف النقدي والموقف المتقبل عند الجمهور. فالشيء المتعارف عليه يتم تقبله دون نقد، أما الطارئ فيتناوله المرء بالنقد لا إرادياً. لكن في دار السينما فكلا الموقفين عند الجمهور، النقدي والمتقبّل، يتطابق مع الآخر. فالمسألة الحاسمة هنا هي: ليس ثمة من مكان تتجلى فيه ردة فعل كل شخص على حدة ليشكل مجموعها ردة الفعل الكاسحة لذلك الجمهور، أكثر من تجليها في دار السينما، بحيث إن أي تكتل مرتقب له سيكون من الآن فصاعداً على علاقة بردة الفعل تلك. وفي اللحظة التي يحتشد فيها ذلك الجمهور يكون قد ملك زمام أمره. كما أنه من الآن فصاعداً سيصبح الفرق بين السينما والرسم فرقاً وظيفياً. صحيح أن أحقّ مطلبٍ للوحة أن تكون موضع تأمل، إنما من قبل شخص أو عدة أشخاص. أما تأملها من قبل حشد كبير دفعة واحدة، كما كان حاصلاً في القرن التاسع عشر، فهو ظاهرة مبكرة لأزمة الرسم التي أثيرت، ليس من خلال الفوتوغراف فحسب، بل وأيضاً من خلال أحقية العمل الفني على الجمهور، وهي نسبياً مسألة لا علاقة لها بالفوتوغراف.

لزام على الرسم أن ليس بوسعه طرح موضوعَ يكون محل إجماع، مثلما هو الأمر مع الفن المعماري في القدم، ومثلما هو مع الملحمات بعد ذلك، ومثلما هو اليوم مع السينما. ومع أننا قليلاً ما نستدل من هذه الحالة بالذات على الدور الاجتماعي للرسم، إلا أنها في هذه اللحظة تدخل في الحسبان بالطبع باعتبارها دلالة على أن هناك خللاً ثقيل الوطأة قد حدث؛ حيث يتم إخضاع الرسم بظروفه الخاصة وخلافاً لطبيعته وجهاً لوجه مع الجمهور. لم يسبق للوحات أن كانت محل إجماع في كنائس وأديرة العصور الوسطى وفي بلاطات الأمراء وحتى نهاية القرن الثامن عشر، بل كان الأمر على درجة من التفاوت والتدرج. لكن عندما تغير الوضع برز صراع من نوع خاص زُجّ فيه الرسم من خلال عملية إعادة الإنتاج التقني للصورة. أما وقد تم جره أيضاً إلى الأروقة والصوالين أمام العامة، فلم يعد ثمة من طريق يمكن للعامة أن ينتظموا فيه على مثل ذلك القبول وأن يملكوا زمام أمرهم(23). وإذن يتوجب على هذا الجمهور بالذات، المتفاعل بشكل تقدمي مع سينما هزلية، أن لا يكون سوى جمهور متخلف أمام السوريالية

-13-
ليست خاصية السينما في كيفية قيام الإنسان باستعراض نفسه أمام آلة التصوير فحسب، بل وأيضاً في كيفية أن يستعرض بيئته المحيطة بمساعدة من تلك الآلة. إن نظرة واحدة لسيكولوجية الأداء ستوضح إمكانية الآلة وقدرتها على التقييم. ونظرةً في التحليل السيكولوجي ستعكس بوضوح تلك الإمكانية من جانب آخر. حقيقة لقد أثْرت السينما عالمنا المعاش بمناهج وأساليب يمكن توضيحها اعتماداً على النظرية الفرويدية. فالتعبير الخاطئ عن رغبات لا شعورية Fehlleistung([) كان قبل خمسين سنة يحدث بشكل غير ملحوظ لا بقليل ولا بكثير. أما أنه قد يفتح أفقاً عميقاً في الحديث، الذي يبدو أنه كان يجري بشكل سطحي، فهذا ما سيدخل في عداد الاستثناءات. إلا أنه منذ «إصابة الحياة بمرض نفسي» تغير الأمر. فالأداء الخاطئ كان يقوم بطرح الأشياء من تلقاء نفسه (أي بشكل منعزل) وتحليلها في نفس الوقت؛ وهي أشياء ظلت تسبح بشكل غائم في النهر العريض للإدراك. فكانت النتيجة أن أصبح للسينما على امتداد عالمنا المحسوس بصرياً، بل وحتى سمعياً، العمق نفسه لـلإدراك بالترابط Apperzeption([[). صحيح أن المواضيع التي تقدمها السينما أكثر دقة واحتواء للمواقف التحليلية من المواضيع المطروحة من جانب اللوحة أو خشبة المسرح؛ غير أن هذا ليس إلا الجانب الآخر للمسألة. فهي بالنسبة للرسم تعبير دقيق لا مثيل له عن الحالة التي تولي العمل السينمائي الكثير الكثير من التحليل. أما بالنسبة للمسرح فإن تلك العملية الكبرى من التحليل للعمل السينمائي لها علاقة بتلك الحالة الانعزالية المترفعة. فالسينما، وتلك هي أهميتها الرئيسية، لديها نزعة إلى إيجاد حالة من التغلغل المتبادل بين الفن والعلم. في الواقع لم يعد للأمر علاقة بأداء معد مسبقاً وفق ظرف معين -خالٍ من أية أخطاء كما لو كان عضلة داخل الجسم- بل هو ذلك التقيد الصارم: من خلال القيمة البهلوانية لها –أي للسينما- أو من خلال قابليتها لتسخير العلوم لصالحها. حيث إن تسخيرها  للفوتوغراف كفن وتسخيرها له كعلم وجعل الأمرين يبدوان أمراً واحداً، هو إحدى الوظائف الثورية للسينما (24).

وبما أن السينما من جهة تزيد من رفع الكلفة المحكوم بها واقعنا، وذلك من خلال الصور المكبرة لمحتوياتها، ومن خلال إبراز التفاصيل الخفية للوازم المسرح المعروفة لنا، ومن خلال البحث عن أوساط مبتذلة وضمها تحت لواء عبقريتها، فإنها من جهة أخرى تفتح أفقاً رحباً لا عهد لنا به! ويا لحاناتنا وشوارع مدننا الكبرى ومكاتبنا وغرفنا المؤثثة ومحطات قطاراتنا ومصانعنا وقد أغلقت أبوابها عنا، مقفرة كصحراء يأس. فإذا بالسينما تجيء وتنسف بديناميت عُشرٍ من الثانية ذلك العالمَ السجنَ، لنستأنف بعدها مغامراتنا بين شظاياه المتناثرة بكل ارتياح وحبور. فها هي الغرفة تتسع بالصورة المكبرة، والحركة تطول بالعرض البطيء. الأمر في عملية التكبير هذه ليس مجرد إظهارٍ لشيء لم يره المرء بوضوح «مهما حاول»، بل هو إظهارٌ لمجمل التعقيدات الجديدة للآلة، كما أن العرض البطيء ليس لإظهار البواعث المعروفة للحركة فقط، بل ولاكتشاف بواعث غير معروفة  تماماً في تلك المعروفة، «ليس عملها تبطيئ الحركات السريعة، بل تبطيئ من نوع خاص، مبهم عائم ليس من هذا العالم»(25). وهكذا يصبح ملموساً أن ثمة طبيعة أخرى تخاطب الكاميرا، غير تلك التي تخاطب العين. بل وقبل كل شيء يصبح ملموساً أن المكان المشغول بحيز شخص هو مشغول أيضاً بحيز شخص آخر غير محسوس. من المعروف أنه لو وقف شخص ما يرصد حركة المارة، حتى لو كان رصده ذاك دقيقاً جداً، فإنه لن يعرف بالضبط ما هو موقفهم لحظة سيرهم. أليست حركة اعتيادية أن نمد أيدينا طلباً لقداحة أو ملعقة، ولا نعلم ما الذي بالفعل يحدث عندها بين اليد والقطعة المعدنية، ولا كيف هو الأمر في حالات أخرى نجد أنفسنا فيها. لكن الكاميرا بوسائلها المساعدة، بصعودها وهبوطها، بتوقفها وانقطاعها، بإبطائها وتسريعها للحدث، وبتكبيرها وتصغيرها، تدرك كل ذاك لأنها تتغلغل في العمق. إننا لا نعرف عن اللا شعور أنه مرئي إلا من خلالها، مثلما لا نعرف عنه أنه محكوم بالغرائز إلا من خلال التحليل السيكولوجي.

-14-
يعتبر أحد أهم واجبات الفن منذ القدم هو قيامه بطرح مسألة لم تحن بعدُ ساعةُ قبولِها(26). وفي تاريخ كل صيغة فنية أوقات عصيبة تقوم فيها تلك الصيغة بإحداث تأثيراتٍ ليس لها إلا أن تستسلم طواعية لأول معيار تقني، وهذا يعني تحولها إلى صيغة فنية جديدة. إن صيغاً فنية من ذلك النوع الخانع، كـ  Extravaganz ([) وKruditat([[)، وبالذات في ما يسمى بعصور الانحطاط، هي في الحقيقة منبثقة من أقوى بؤرها التاريخية وأغناها. لقد انتهى المطاف بالدادائية([[[) أنها غصت تماماً ببربريتها تلك. وأما دافعها فقد أصبح جلياً الآن. حيث إنها حاولت من خلال الرسم (والأدب أيضاً) إحداث التأثيرات ذاتها التي يبحث عنها الجمهور يومنا هذا في السينما.

إن كل صيغة فنية، بسبب طرحها مسألةً مغايرة أو مستجدة، ستغالي في شأنها كثيراً. بل إن الدادائية ستعظم من شأنها لدرجة أنها تضحي بالقيم السوقية، المقدسة بالنسبة للسينما، من أجل أغراض لها مغزاها- والتي لا شك أنها لا تفهمها بهذا الشكل الذي نراه نحن هنا. لم يعط الدادائيون وزناً للاستفادة من أعمالهم الفنية تجارياً مقارنة بالوزن الذي أولوه للإبقاء عليها كمواضيع للتبحر والتأمل. ولعمري إنهم، بانحطاط مادتهم أصلاً، آخر من يتحدث عن بلوغ تلك الحالة. إن قصائدهم عبارة عن «سَلَطة كلام»، تتضمن عبارات سليطة فاحشة، وتحوي كل صنوف الانحطاط المتصور للغة ما. لوحاتهم كذلك ليست شأناً آخر، تلك التي كانوا يُلحقونها بالأزرار أو بتذاكر السفر. والشيء الذي بلغوه بأساليبهم تلك ليس سوى إبادة متخلفة لأورا أعمالهم التي كانوا من خلال وسائل إنتاجهم يسِمُونها بطابع إعادة الإنتاج. من المستحيل على المرء، أمام لوحة لآرب (رسام وشاعر دادائي فرنسي) أو قصيدة لأوجوست شترام (من شعراء ومسرحيي التعبيرية في ألمانيا) أو أمام لوحة لديراين (فنان ورسام فرنسي) أو قصيدة لعصر ريلكه (شاعر نمساوي، من أشهر شعراء اللغة الألمانية)، أن يستحضر ذهناً مركّزاً أو أن يتخذ موقفاً ما. أما حالة التبحر تلك، التي أصبحت في انحطاط الطبقة الوسطى مدرسةَ سلوكٍ شاذ، فقابلتها حالة من التلهي، ستصبح فيما بعد بمثابة سلوك اجتماعي(27). كانت التجمعات الشعبية للدادائيين في الواقع تسمح بحالة من المجون الشديد وتجعل من الأدب واجهةً لأي افتضاح أو سلوك خليع. كان حسبه منهم مطلب واحد لا سواه: إظهار استياء علني. لقد تحول العمل الفني عند الدادائيين من مظهر مُغرٍ أو من شكل له وقع رخيم إلى مقذوف ناري يصب على رأس المتأمل. أي أنه اكتسب خاصية حسية. وبهذا تكون الدادائية قد قدمت عوناً للسينما، التي لا شك أن عنصرها الإلهائي في المقام الأول هو عنصر حسي؛
أي أنها قائمة على تعاقب المَشاهد والرؤى التي تنفذ إلى المُشاهد على دفعات. لو قارن المرء بين الشاشة التي يتم عرض الفيلم عليها والشاشة الموجودة فيها اللوحة، فإن الأخيرة تدفع الناظر إلى التأمل، لكنه يستطيع تركها قبل الانتهاء من تفاعله معها، أما مع السينما فإنه لا يستطيع. إنه بالكاد يفلت عينيه منها، طالما أنها تتغير. وهكذا ليس بوسع النظر أن يشخص طويلاً إليها. إن دوهامل([) الذي كان يُكنّ مقتاً للسينما ولا يعترف بأهميتها ولا ببنيتها، يشير إلى تلك الحالة بقوله: «لم يعد بإمكاني أن أفكر بما أريد أن أفكر به. إن الصور المتحركة حلت محل أفكاري»(28). إن زمن تفاعل ذلك المتأمل للصورة ينقضي فور أن تتبدل بأخرى. وهذا ما يقوم عليه الفعل الإسفيني للسينما، والذي يريد لنفسه ككل فعل إسفيني أن يتراكم عبر حضور مكثف للذهن(29). إن للسينما بفضل بنيتها التقنية فعلها الإسفيني الحسي، تماماً كذاك الذي لدى الدادائية والمغلف في نفس الوقت بأخلاقيات تحررت منها (30).

-15-
إن الجمهور هو الرحم الذي تتخلق منه كل السلوكيات المعتادة في الوقت الحاضر تجاه الأعمال الفنية الوليدة. الكمية هنا قد تحولت إلى كيفية: فهذا الحشد الضخم من المهتمين قام بخلق نوع مغاير من الاهتمام. وهو أمر يجعل المدقق في حيرة من أن هذا الاهتمام بادئ ذي بدء يتجلى بصورة مخزية. إنما هل لهؤلاء أن يلتفتوا لمثل هذه الأمور، وهم المتمسكون بكل ما لديهم من شغف بالجانب السطحي للمسألة. وإذن لم يكن لـ دوهامل إلا أن يعبر عن نفسه بكل تطرف. إن مأخذه على السينما قبل كل شيء هو نوعية الاهتمام الذي تبثه في الجمهور. لقد سمى السينما بـ « تقضية وقت لعبيد، تسلية مخلوقات غير مثقفة، بائسة، كادحة، تتآكلها المخاوف.. فتمثيلية لا تتطلب تركيزاً، ولا تشترط مدارك،… ولا تضرم ضوءاً في القلب ولا تبعث أملاً سوى ما يدعو إلى السخرية، سيصبح بطلها يوماً ما <نجماً> في لوس أنجلوس»(31). إنها في الأساس شكوى قديمة، حيث نرى أن العامة تبحث عن التسلية، بينما الفن يتطلب من المتأملين التركيز. وتلك عبارة مبتذلة. إنما يبقى السؤال عما إذا كان لديه موقف استقصاء لأمر السينما – أي تفحصها عن كثب. التسلية والتركيز هما في موقف نقيض يسمح لنا بالتعبير التالي: إن المتأمل للعمل الفني إنسان يتعمق في نفسه؛ إنه داخل في ذلك العمل وهو يقرأ أسطورة رسام صيني يتأمل لوحته المنتهي من رسمها. وعلى العكس بالنسبة للجمهور المتسلي، فهو يتعمق في العمل الفني. الأبنية أوضح مثال. لقد قدم الفن المعماري منذ القدم النموذج الأولي لأي عمل فني يلقى قبولاً في التسلية عند الجمهور. فمعايير قبول الفن المعماري هي المعايير الأجدى.

إن المباني رافقت الإنسان منذ فجر تاريخه. أما الصيغ الفنية فكثير منها ولد واندثر. لقد نشأت التراجيديا مع الإغريق لتمّحي معهم، ولتعاد الحياة مجدداً بعد قرون، إنما «لنسقها» فقط. ملحمة الـEPOS  (نوع من الملاحم كالأوديسة)، التي يعود مولدها إلى عصر فتوة الشعوب، انطفأت جذوتها في أوروبا في نهاية عصر النهضة. والفن التشكيلي صنيعة العصور الوسطى، ولم تتول تعهّدَه أي فترة زمنية لاحقة. أما احتياج الإنسان إلى السكنى فهو أمر متواصل على الدوام. ولم يكن لفن البناء أن يصبح بُوراً على الإطلاق. إن تاريخه أطول من تاريخ كل فن آخر، وأثره حاضر بأهمية بالنسبة لأية محاولة لتقييم الجمهور من خلال علاقته بالعمل الفني. وللمباني أهمية مضاعفة: الاحتياج والحس الجمالي. أو الأحرى أن نقول: مادي وبصري. ليس ثمة معنى لمثل ذلك التقبل لو تخيله المرء على شكل تقبل جماعي، كما هو معتاد لدى السواح مثلاً أمام مبان شهيرة. وليس ثمة من الجانب المادي أي مقابل لذلك الأمر الذي هو من الجانب البصري محض تأمل. إن التقبل الحسي لا يمكن بلوغه عن طريق التأمل، بقدر ما هو عن طريق التعود. أما بالنسبة للفن المعماري فإن هذا الأخير ينطبق إلى حد بعيد على التقبل البصري. كما أن حدوثه لدى انتباه مشدود أقل بكثير منه لدى تأمل عارض. غير
ان هذا القبول المتصور في الفن المعماري تصبح لديه قيمة كنسية في بعض الظروف. حيث إن الواجبات التي تم وضعها في عصر التحولات لجهاز الإدراك البشري لن يتم التخلص منها عن طريق علم البصريات، أي عن طريق التأمل. بل سيتم تذليلها تدريجياً من خلال التعود، بعد الانتهاء من أمر التقبل الحسي.

إن المتسلي بوسعه أن يتعود هو أيضاً. بل وأكثر فلكي يكون بوسعه في التسلية التنصل من بعض الواجبات، عليه أن يثبت فقط أنه صار ينبغي عليه أن يتخلص منها بالتعود. فمن خلال التسلية، كيف ما كان طرح الفن لها، يصبح التحكم في كيفية التخلص من أي واجبات جديدة لـعملية الإدراك (APPERZEPTION)  أمراً في متناول اليد. وبما أن المحاولة تظل قائمة بالنسبة للفرد في التخلص من مثل تلك الواجبات، فسيفقد الفن واجباته الأصعب والأهم، طالما أن بوسعه تجنيد العامة لخدمته. وهذا ما يقوم به حالياً في السينما.
 
هناك حالة من القبول في مسألة التسلية ملحوظة في شتى ميادين الفن من خلال عملية الاستنساخ المتزايدة، وهي تعد ظاهرةً لتغييرات جوهرية في مسألة الإدراك. وقد أصبح لديها بالسينما أداتها التدريبية الخالصة. فالسينما من خلال فعلها الإسفيني تتقابل وجهاً لوجه مع الصيغة القبولية تلك. إنها، بإعطائها الجمهور موقفاً نقدياً، لا تلغي قيمة الفن فحسب، بل وتجعل من الموقف النقدي الحقيقي موقفاً لا يحظى بأي اعتبار. فالجمهور هو المتفحص، وهو المتسلي أيضاً.

خاتمة

إن البروليتارية المتزايدة لإنسان اليوم والتكتلات المتزايدة للعامة هما وجهان لحدث واحد هو نفسه. تحاول الفاشية تنظيم واستيعاب الجماهير البروليتارية الناشئة حديثاً، دون أي مساس منها بعلاقات الملكية التي تسعى تلك الجماهير إلى إزالتها. فالفاشية ترى سلامتها في أن تترك للجماهير أن تعبر عن نفسها (لا أن تعبر عن حقها بأي وجه من الوجوه)(32).  للجماهير حق في تغيير علاقات الملكية؛ والفاشية تحاول أن تعطيهم انطباعاً بأن يحافظوا عليها. ولذا فإنها تسعى جاهدة إلى تجميل الحياة السياسية. أما اغتصابها للجماهير، الذين تجبرهم على السجود لزعيم ما، يشبه اغتصابها لآلة تسخرها لإنتاج القيم القداسية.

إن كل المساعي في تجميل السياسة تصل إلى نقطة واحدة. هذه النقطة الواحدة هي الحرب. الحرب، وليس سوى الحرب يمكن لها إعطاء الحركات الشعبية على أوسع نطاق هدفاً من أجل الحفاظ على علاقات الملكية الموروثة. على هذا النحو يقدم الحدث نفسه من خلال السياسة. أما من خلال التقنية فيقدم نفسه كما يلي: ليس سوى الحرب يمكنها حشد كافة الوسائل التقنية للحاضر من أجل الحفاظ على علاقات الملكية. وبديهي أن تأليه الفاشية للحرب لا يحتاج إلى مساعدة تلك الحجج. ومع ذلك تكفي نظرة واحدة إليها. يقول بيان سلاح البحرية في حرب المستعمرات الأثيوبية: «منذ سبع وعشرين سنة ونحن نربأ بأنفسنا عن أن يشار إلى الحرب من قبلنا على أنها ضد الجمال…. وبناءً عليه نؤكد ما يلي: … الحرب جميلة لأنها بفضل الكمامات الواقية ومكبرات الصوت الباعثة للرعب وقاذفات اللهب والمدرعات، تثبت سيطرة الإنسان على الماكينة الذليلة. الحرب جميلة لأنها تتطلع إلى تعدين مرتقب للجسد البشري. الحرب جميلة لأنها تحيط المرج النضير بنبتات سحلبية شائكة. الحرب جميلة لأنها توحد بين نار البندقية ونيران المدافع وتوقُّف أصواتها، وبين رائحة العطور ورائحة الجثث، وتجمعها في سيمفونية واحدة. الحرب جميلة لأنها تخلق فناً معمارياً جديداً، مثل الفن المعماري للدبابات، والأسراب الهندسية للطائرات، والأشكال اللولبية الدخانية المنبعثة من قرى محترقة، وأشياء أخرى كثيرة….. فيا شعراء وفناني المستقبل تذكروا هذه الأمور الجوهرية لجمالية الحرب، وذلك حتى تصبح دائرتنا مضاءة بشعر جديد وفن نحت جديد…. مضاءة من تلك الأشياء!»(33)

هذا الخطاب لديه ميزة الصراحة. إن صيغة سؤاله ستصبح مستخدمة من قبل الديالكتيكي. فجمالية حرب اليوم تقدم نفسها له كالتالي: إذا تم تقييد قوى الإنتاج بنظام الملكية في تسخيرها للطبيعة والاستفادة منها، فإن تزايد الحلول المؤقتة وتزايد السرعة ومصادر القوة، سيفضي إلى أن يكون هناك توجه للاستفادة من موارد غير طبيعية. وهكذا فإنها تجد تلك الاستفادة في الحرب، التي، بما تحدثه من دمار، تعطي دليلاً على أن المجتمع لم يكن ناضجاً بما يكفي لجعل التقنية أداته الأولى، وعلى أن التقنية لم تكن متمرسة بما يكفي للتغلب على القوى الاجتماعية. وإذن فالحرب بحملاتها الرهيبة تقررها حالة التناقض بين وسائل الإنتاج الجبارة والاستفادة الضئيلة من الطبيعة في عملية الإنتاج (بكلمات أخرى حالة البطالة والفقر في أسواق الكساد).

 
إن الحرب الإمبريالية هي تمرد التقنية التي أصبح لها حقوق على «المعدن البشري»، هي تلك الحقوق التي حظرها المجتمع عليها في معدنه الطبيعي. فبدلاً من تعميق وتشذيب الأنهار ها هي ذي تقوم بحرف السيل البشري وإضجاعه في خنادقها، وبدلاً من رش الدول ببذور من طائراتها ها هي ترش القنابل على المدن؛ حيث أوجدت لها في حرب الغازات السامة وسيلة لطمس الأورا بنوع جديد.

«Fiat ars – pereat mundus»([)
هكذا تقول الفاشية وتتوقع أن تلقى لدى الحس الفني، المتبدل من قبل التقنية، قبولاً ورضىً، أو لدى ذلك الحس المتبدل، كما تقر البحرية، من قبل الحرب. جلي أنها ذروة وأوج الـ l`art pour l`art([[). فالإنسانية التي كانت يوماً ما موضوع تأمل عند هوميروست بالنسبة لآلهة الأولمب، أصبحت موضوع تأمل نفسها بنفسها. إن انحرافها وصل إلى تلك الدرجة التي جعلتها تشهد إبادتها لنفسها على أنها متعة جمالية من الدرجة الأولى. وهكذا الأمر بالنسبة لجمالية السياسة، تلك التي تمارسها الفاشية. أما الشيوعية فسترد عليها بتسييس الفن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش

([)  Paul Valéry: Pièces sur l,art. Paris [o. J.] p. 103/104  (La conquête de l,ubiquité). بول فاليري، شاعر وفيلسوف فرنسي. يعتبر أحد زعماء المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي. (المترجم).
([)
وتعني: فوح، شذى، عبق.
([[)  Abel Gance 
أحد رواد السينما الفرنسية. (المترجم)
([) Alois Riegl
، مؤرخ الفن النمساوي. مؤسس مدرسة فيينا لتاريخ الفن. (المترجم).
([[)  Franz Wickhoff
،  مؤرخ الفن النمساوي الشهير وأحد أصحاب مدرسة فيينا لتاريخ الفن. (المترجم).
([) 
الفن لأجل الفن
([[)Stéphane Mallarmé 
كاتب وشاعر فرنسي، يعتبر أحد رواد الشعر الحديث في فرنسا. (المترجم)
([) Eugène Atget 
مصور فرنسي. (المترجم).
([) Sèverin Mars
ممثل فرنسي. (المترجم).
([[)Paul-Alexandre Arnoux 
كاتب ومترجم فرنسي. (المترجم).
([[[)
وتعني الرأي العام . (ليالي امرأة جميلة في باريس) فيلم للممثل الأمريكي شارلي شابلن عام 1923. (المترجم).
([[[[)
وتعني: نشوة الذهب. فيلم كوميدي صامت لشارلي شابلن 1925. (المترجم).
([[[[[) Fra Angelico 
رسام من عصر النهضة الإيطالية. عرفه معاصروه باسم فرا جيوفاني. (المترجم).
([)Luigi Pirandello
مسرحي وكاتب وشاعر إيطالي، حائز جائزة نوبل للآداب لعام 1934. (المترجم).
([[)Rudolf Arnheim
كاتب ومنظر ألماني في الفن وعلم النفس والسينما. (المترجم).
([) 
وتعني : جراح،، أو سينمائي
([) Fehlleistung
مصطلح عند فرويد متعلق بالأفعال العفوية والتعبيرات اللفظية التي يشار إليها عادة بأنها اختلال أو زلل في عملية التحدث أو في السماع أو في الرؤية، والتي لها دلالتها في اللاوعي. هذه النظرية وضعها فرويد في أطروحته: الاضطراب النفسي في الحياة اليومية. (المترجم)
([[) Apperzeption
مصطلح استخدمه لايبنتز لتمييز عملية الإدراك العقلية. حيث يتم إدراك الشيء بواسطتها من خلال الذاكرة والسيطرة عليه ومن ثم  إدخاله في الوعي. (المترجم)
([) Extravaganz
وتعني: الإسراف الجنوني. وهي أثر فني ذو نزعة هزلية. (المترجم).
([[) Kruditgt
وتعني: فجاجة. وهي أيضاً أثر فني ذو نزعة هزلية وعدمية. (المترجم).
([[[)
الدادائية حركة ثقافية انطلقت من زيوريخ (سويسرا)، أثناء الحرب العالمية الأولى، كنوع من معاداة الحرب، بعيداً عن المجال السياسي، وإنما من خلال محاربة الفن السائد. وقد برزت في الفترة من  1916 وحتى 1921. أثرت الحركة على كل ما له علاقة بالفنون البصرية، الأدب، الرسم، الفوتوغراف، نظريات الفن، المسرح، والتصميم.
([) 
فليكن فناً- هلاك هذا العالم. عن اللاتينية. (المترجم).
([[) 
الفن لأجل الفن.
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
(1)  Paul Valéry: Pièces sur l,art Paris [o. J], p. 105 ( La conquête de l,ubiquité ).
(2)
بالطبع ما زال تأريخ العمل الفني يحوي الكثير: المونا ليزا على سبيل المثال، نوع وعدد النسخ التي تم استنساخها في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر.
(3)  
تماماً لأن الأصالة لا يمكن إعادة إنتاجها، وما التغلغل العميق لبعض عمليات إعادة الإنتاج، وقد كانت تقنية، إلا دليل مادي على تمايز  وفارق الإصالة عن سواها. فقد كانت أهم وظيفة لتجارة الفن هي التمرس على مثل هكذا فروق. وكان لهذه التجارة اهتمام ملموس بفرز النسخ المختلفة لأي قطعة خشب، قبل وبعد النقش، عن النسخ المختلفة لأي قطعة نحاس وما شابه. ومع اكتشاف النحت على الخشب يمكن للمرء أن يقول: إن جودة الأصالة كانت معطوبة الجذور قبل دفقها لنورها اللاحق. إن صفة «أصلي» لم تعد لوحة عصر أوسطية لمريم العذراء وقت رسمها، بل ستأخذ، طوال القرون اللاحقة، كامل فخامتها.
(4)  
إن التمثيل الهزيل لمسرحية فاوست في الأقاليم تميز على أية حال قبل أي فيلم عن فاوست بأنه أحدث حماساً لتمثيلها في فايمار. والشيء الذي أمكن للمرء استدعاؤه بشكله التقليدي من الذاكرة أمام خشبة المسرح، كان غير مستفاد منه قبل عرض الفيلم، وهو أن يوهان هاينرش ميرك، صديق الشباب لجوته، قد أُودِع شخصية ميفيستو، وغير ذلك من الأشياء المشابهة.
(5)  Abel Gance: Le temps de l,image est venu, in: L,art cinématographique 11. Paris
(6) 
تقريب الأشياء إنسانياً للجمهور يمكن أن يعني: إخلاء الوظيفة الاجتماعية للراصد عن مجال رؤيته. وهذا لا يضمن أن الوظيفة الاجتماعية للراصد  (البورتريه) يومنا هذا، وهو يقوم بتصوير جراح مشهور على طاولة الإفطار أو في مكان تواجده، ستصيب هدفها بشكل أكثر مما كان عليه الرسام في القرن السادس عشر وهو يصور أطباءه، على سبيل المثال رمبراند في علم التشريح، وهو يقوم بعرض أو توصيف ذلك الجمهور.
(7) 
إن تعريف الآورا على أنها «ظاهرة بعد مهما كانت قريبة»، لا يعني شيئاً سوى صيغة القيمة القداسية للعمل الفني في أشكال الوعي المعاصرة لها. فالبعد عكس القرب. والبعد الجوهري هنا هو التباعد المترفع. والترفع في الواقع هو المادة الأساسية للصورة القداسية. وعليه ستظل تلك الصورة بالنسبة لطبيعتها «بعيدة مهما كانت قريبة.». أما القرب الذي بمقدور المرء بالنسبة لطبيعته الاستحواذ عليه، فإنه لا يؤثر على البعد الذي يتم الإبقاء عليه بعد ظهور العمل.
(8)
في المعيار الذي تتأمم فيه القيمة القداسية للوحة وتخرج عن ممتلكات الكنيسة تصبح التصورات عن الإكثار من صورتها الأحادية أكثر غرابة وغموضاً. إن أحادية ظهورها السائد في الصورة القداسية يتم إقصاؤه على الدوام عن أحادية الرسام أو عمله التصويري في تصور المتلقي. إن مفهوم الأصالة ليس له على الإطلاق أن يتوقف عن الجنوح إلى مفهوم أن كل عمل مرتبط بصاحبه. (ويتجلى هذا الأمر بشكل خاص لدى الشخص الشغوف إلى جمع كل ما يتلقى مقابله مالاً من خادم الآلهة، والذي يسهم من خلال ملكيته للعمل الفني بتقوية الطاقة التعبدية). وبالرغم من هذا يظل دور مفهوم العمل الأصلي جلياً وله اعتباره في الفن: فبتأميم الفن ومصادرته عن الكنيسة كانت الأصالة قد حلت محل  القيمة التعبدية.
(9) 
بالنسبة للأعمال السينمائية فإن إعادة إنتاجها تقنياً، وليست كذلك في أعمال الأدب أو الرسم، هي الشرط الوحيد لانتشارها بكثرة هائلة. فإعادة الإنتاج التقنية للأعمال السينمائية ترتكز بشكل رئيسي على تقنية الإنتاج.  وهذه تمكنها ليس فقط من نشرها أكواماً بشكل أكثر من مباشر، بل وتجبرها على ذلك بالقوة. هي تجبرها لأن إنتاج فيلم ما مكلف جداً ولدرجة أن شخصاً واحداً، بوسعه مثلاً القيام برسم صورة بمفرده، ليس بوسعه القيام بإنتاج فيلم بمفرده. في العام 1927 كان في حسبان المرء أن فيلماً ضخماً لا بد، كي يدر أرباحاً، من أن يصل إلى جمهور تعداده تسعة ملايين شخص. إلا أنه مع الفيلم الناطق تراجع الأمر خطوة إلى الوراء؛ حيث أن جمهور الفيلم اقتصر على حدود اللغة، وحدث هذا الأمر بالتزامن مع بروز المصلحة القومية من خلال الفاشية. غير أن الأهم من هذه الانتكاسة، التي تم التخفيف منها من خلال دبلجة الفيلم وترجمته، هو علاقته البادية للعيان بالفاشية. إن تزامن كليهما في الظهور  ناجم عن أزمة الاقتصاد. هذه  الاضطرابات التي أدت بشكل يثير الدهشة إلى محاولة الإبقاء على علاقات الملكية الناشئة بالقوة، هي نفسها التي أدت إلى قيام رأس مال السينما المسبب للأزمة، بالتعجيل من التحضيرات بخصوص السينما الناطقة. ومن ثم أوحت إرهاصات نشوء السينما الناطقة بشيء من الارتياح بمرور الوقت. وبالطبع ليس فقط لأن الفيلم الناطق قاد الجماهير مجدداً إلى دار السينما، بل  لأنه خلق أيضاً من صناعة الكهرباء رؤوس أموال جديدة أضيفت إلى رأس ماله. وكان هذا من المنظور الخارجي أمراً يقتضي اهتماماً محليا، إنما من المنظور الداخلي ظلت صناعة الفيلم مسألة مدولة كما كانت عليه في السابق.
(10)   
لا تستطيع البروليتاريا هذه مع علم جمال المثالية -والتي يحاصرها مفهوم المثالية للجمال بسبب أنها طبقة معزولة (أو طبقة منكفئة على نفسها)- أن تصل إلى حالة تلك. إنها على أية حال تفصح بوضوح عند هيجل كيف أنها تضيق ذرعاً بالمثالية. «إن الصور»، هكذا يقول في محاضراته عن فلسفة التاريخ، «امتلكها الإنسان منذ وقت طويل: والورع هو الذي اقتضاها منذ وقت مبكر بالنسبة للعبادة. غير أن الورع لم يكن بحاجة إلى صور جميلة، فهذه كانت مزعجة بالنسبة له. كما أن هناك شيئاً سطحياً في الصورة الجميلة، لكن طالما أنها جميلة فإن روحها تخاطب الإنسان. بيد أنه في مثل تلك العبادة يكون التعلق بأي شيء أمراً ضرورياً، فالعبادة بحد ذاتها ليست سوى تجلّ للروح لا لون له…. والفن الجميل هو  ….. الذي تولد في الكنيسة بالذات،…. مع أن… الفن قد انتزع نفسه من قواعد الكنيسة.» (جيورج فيلهلم فريدريش هيجل: الأعمال ، الطبعة الكاملة على حساب جمعية أصدقاء المرحوم. الفصل التاسع: محاضرات عن فلسفة التاريخ، بقلم إدوارد جانس. برلين 1837،p.414) ثمة أيضاً في المحاضرات الخاصة بعلم الجمال موضع يشير إلى أن هيجل شعر بمشكلة هنا. حيث يقول في تلك المحاضرات: «… ينبغي علينا من هذا المنطلق أن نقدس أعمال الفن ونؤلهها. إن الانطباع الذي تبعثه تلك الأعمال هو انطباع من نوع رفيع. وأما ما الذي يثار فينا من خلالها، فما يزال بحاجة إلى تدقيق كبير». (هيجل، 1.c.Bd.10 محاضرات عن علم الجمال. بقلم H. G. Hoto. Bd. i. Berlin 1835, p.14).
(11) 
إن انتقال النوع الأول من أنواع تقبل الفن إلى النوع الثاني هو الذي يحدد المسار التاريخي لتقبل الفن بالمجمل. ومع ذلك تتجلى بشكل مبدئي حالة التذبذب بين كلا هذين النوعين من القبول مع واحدية أي عمل فني. على سبيل المثال مع لوحة مريم العذراء لرافائيل [كاتب ورسام نمساوي. يعد أحد أدباء الحركة التعبيرية (المترجم)]. منذ صدور بحث هوبرت جريم – [عالم ألماني في الدراسات السامية (المترجم)]- والمرء يعرف أن هذه اللوحة رسمت في الأساس لغرض الإنتاج. كان دافع جريم للقيام ببحثه هو هذا السؤال: ما معنى هذين العمودين الخشبيين في مقدمة الصورة، اللذين يستند عليهما ذانك الملاكان الصغيران؟كيف أمكن، يواصل جريم سؤاله، لرافائيل أن يحدو به الأمر للإنعام على السماء بمثل هذين البوابين؟ لقد أدى هذا البحث إلى أن لوحة مريم العذراء حين سجي البابا سيكستوس في التابوت أصبح معهوداً بها إليه. إن تسجية الباباوات على التوابيت أمر كان يحدث في زاوية معينة من دير تابع لكنيسة القديس بطرس. ها هي لوحة رافائيل أريد لها أن تهمد في ذلك التابوت، في ركن منزو  خلف الدير. الشيء الذي تصوره رافائيل بلوحته تلك، هو كيف أن العذراء تنبعث من خلف ذلك الركن المحاط بذانك البوابين الأخضرين وتقترب عبر السحاب من التابوت البابوي. لقد لقيت صورة رافائيل قيمة إنتاجية كبيرة في جنازة سيكستوس. بعدها بوقت قليل كانت قد علقت على الهيكل الكبير في كنيسة الرهبان السود في بيانسنسا. أما سبب هذا النفي فهو الطقوس الرومانية. فالطقوس الرومانية تحرم الصور، التي تعرض في احتفاليات الدفن، من أجل الاستزادة من العبادة في الهيكل. وبهذه اللائحة كان عمل رافائيل قد قلل من أهميته. إلا أنه من أجل أن يربح سعراً مناسباً خلصت البابوية المركزية إلى أن تحتمل صبرها بصمت على الصورة المعلقة على الهيكل. ومن أجل منع مشاهدتها، ذهب أحدهم بالصورة إلى جمعية دينية في مدينة صغيرة نائية.
(12)
هناك تأملات مطابقة لبريشت، إنما على مستوى آخر، حيث يقول: «إن مفهوم العمل الفني لا يكون له اعتبار بالنسبة للشيء القائم، حين يُستغل كسلعة، وعليه يتوجب توخي الحذر والاحتراس، إنما بدون خوف، من أن يسقط عنا هذا المفهوم، إن نحن أردنا القضاء على دور هذا الشيء نفسه، ولا بد من تلك المرحلة، وإلا لم يعد له دور خفي. الأمر هنا ليس خطوة غير ملزمة على الطريق الصحيح، بل إن ما يحدث معه سيجعله يتغير من أساسه، وسيطمس ماضيه، بل والأكثر هو أنه حتى لو أعيد المفهوم القديم مجدداً – وأصبح هو المفهوم الحالي، ولم لا؟- لما انطمست ذكرى ذلك الشيء من خلال ذلك المفهوم، فقد كان ذات يوم يدل عليه.» (بريشت)
(13) 
آبل جانس Abel Gance, 1. c. (S. 478 , p. 100/1O1
(14) 
آبل جانس cit. Abel Gance, 1. c. (S. 478>, p. 100 Alexandre Arnoux. Cinéma. Paris 1929, p. 28
(15) 
ألكسندر أرنوكس Alexandre Arnoux: Cinéma. Paris 1929, p. 28
(16) 
فرانس فيرفل: حلم ليلة صيف. فيلم عن شكسبير ورامبراند »Neues Wiener journal«
(17)  «
إن السينما ….. تقدم (أو بوسعها أن تقدم) وبشيء من التفصيل شروحات معتادة لكل ما يزاوله المرء من أعمال… أما أن تقدم شروحات عن شخصية ذلك المرء فذاك أمر مغيّب. فمشاعر وأحاسيس وأفكار تلك الشخصية ليس لها أبداً أن تكون هي الحدث المحوري أو المحصلة الرئيسية للعمل.» (بريشت، 1. C. 286) إن اتساع حقل العملية التجريبية الذي جعل الممثل رهناً للآلة، يتطابق مع ذلك الاتساع الخارج عن المألوف لحقل العملية التجريبية الذي امتد من خلال الأوضاع الاقتصادية حتى على مستوى الفرد الواحد. وهكذا تتزايد الأهمية في اختبار وتقييم الكفاءة الوظيفية على الدوام. حيث يتم استعراض جوانب من أداء الفرد في هذا الاختبار. ولا بد لتصوير الفيلم واختبار الكفاءة الوظيفية أن يكونا أمام فريق من المختصين. فمدير التصوير في دار السينما يقف بالضبط في المكان الذي يقف فيه المراقب في اختبار الكفاءة.
(18)   Luigi Pirandello; On tourne, cit. Léon Pierre Quint: Signification du cinéma, in: L,art cinématographique
(19)
رودولف أرنهايم: السينما كـ فن. برلين 1932 – «هناك عدد من التفاصيل الجانبية الملحوظة التي ينحرف المخرج السينمائي من خلالها عن أسلوب خشبة المسرح، تحظى باهتمام متزايد. وعليه فإن محاولة جعل الممثل يقوم بعمله دون تزويق، هي المحاولة التي كان ينشدها دراير وآخرون في جان دارك [كارل دراير مخرج سينمائي. الدانمارك. (المترجم)]. لقد قضى هذا الرجل شهوراً بأكملها في تأهيل وتدريب أربعين ممثلاً تتألف منهم محكمة المهرطقين. وكان البحث عن هؤلاء الممثلين يشبه البحث عن لوازم مسرح صعبة التجهيز.  بل إنه بذل جهده الأكبر في تفادي الشبه في العمر وفي القامة وفي تقاسيم الوجه».  (cf. Maurice Schultz: Le maquillage, in: L,art cinématographique Vl.).
أما وقد أصبح الممثل لازمة مسرح، فإنه ليس بالأمر النادر أن تقوم اللازمة تلك مقام الممثل. على أية حال ليس من الغريب على السينما أن تكون مستعدة للعهد إلى اللازمة بدور ما. وبدلاً من سرد ما شئنا من الأمثلة الطائلة، سنتوقف عند مثال واحد متعلق بقوة الإقناع. إن ساعة حائطية في الممشى لن تسبب في خشبة المسرح سوى الإزعاج. حيث إن دورها، وهو قياس الوقت، ليس له أن ينضبط في خشبة المسرح من خلالها. أم لعل الزمن الفلكي سيحدث له تصادم هو أيضاً بالزمن المسرحي في مسرحية عادية. لكن بالنسبة للسينما سيكون من الممتاز جداً وفق هكذا ظروف أن يكون بوسعها الاستفادة من تلك الساعة في قياس الوقت. ويمكن للمرء هنا أن يدرك بشكل أكثر وضوحاً من أي حالة أخرى كيف أن بوسع كل لازمة على حدة أن يكون لها وظيفة معينة في السينما. خطوة واحدة فقط من هن ستقودنا ا إلى ذلك البيان الذي أطلقه بودوكين مؤكداً فيه على أن: «عمل الممثل المرهون والقائم على لازمة من اللوازم…. سيظل على الدوام إحدى أقوى النظريات في بناء الفيلم». (بودوكين: الإخراج والتصوير السينمائي W. Pudowkin: Filmregie und Filmmanuskrip). وإذن فالسينما هي الأداة الفنية الأولى التي ستبقى على استعداد لإظهار كيف هو ثقل المادة على الإنسان وتحكمها به. وبوسعها أن تكون عنصراً مميزاً لتمثيل الآلة.
(20)
هذا التحول في وسائل العرض من خلال إعادة الإنتاج له تجلياته في السياسة أيضاً. فالأزمة الراهنة التي تعيشها الديموقراطيات الشعبية هي أزمة شروط حاسمة وقطعية في طريقة عرض الحكام. تقوم الديموقراطيات على الفور بعرض الحاكم في شخصية مستقلة وأمام ممثلي الشعب طبعاً. فالبرلمان هو شعبه! أما مع اختراع آلة التصوير التي أتاحت للمتحدث جعل صوته مسموعاً بلا حدود، ومرئياً بلا حدود أيضاً، فلا بد لاستعراض الرجل السياسي نفسه أمام تلك الآلة أن يكون في المقدمة. كما أن البرلمانيين لديهم نوع من التحسس إزاء الممثلين. فالراديو والسينما لا يحدثان تغييراً في وظيفة الممثل المحترف فحسب، بل وفي وظيفة ذلك الذي، وهذا ما يقوم به الحكام، يقف أمامهما مستعرضاً نفسه. إن وجهة هذا التحول، بغض النظر عن مختلف خصوصياته، هي الوجهة ذاتها التي  لدى ممثل السينما ولدى الحاكم. فهي تسعى جاهدة إلى جعل كل المواد المطروحة أمام الكاميرا مادة فيلمية ووفق شروط اجتماعية محددة. وهذا يؤدي إلى ظهور باقة جديدة توضع أمام الآلة المنبثق منها النجم والديكتاتور كـ بطلين.
(21)
تضيع الملامح المميزة للتقنيات التخصصية. يقول ألدو هوكسلاي:  « لقد أفضى التقدم التقني… إلى الانحطاط… فعملية إعادة الإنتاج التقني والصحافة الدورانية (المطبوعة دورانياً) قد أوجدتا نَسْخاً لا محدوداً من الكتابات والرسوم. إن التعليم في كافة مستوياته، والأجور المرتفعة نسبياً، خلقا جمهوراً ضخماً قادراً على القراءة، بوسعه تزويد نفسه بكل المواد المقروءة والمصورة. ومن أجل هذا نشأت الصناعات الكبرى. إلا أن الموهبة الفنية ظلت أمراً نادراً للغاية؛ والسبب هو …. أن الجانب الأكبر من النتاجات الفنية في كل زمان ومكان ظل منحطاً. على أن نسبة المجموع الكلي للنتاجات الفنية اليوم أكبر مما كانت عليه من قبل… فنحن هنا أمام حالة بسيطة من الناحية الحسابية. بمرور القرن المنصرم كان عدد سكان أوروبا الغربية قد تزايد تقريباً إلى الضعف. غير أن المادة المقروءة والمصورة، إذا أردت أن أقدرها، ستكون على الأقل بضرب النسبة في 20، أو ربما أكثر . فإذا كان تعداد السكان كذا مليون بغير المواهب الفنية، فإنه سيكون كذا كذا مليون مع تلك المواهب. وإذن فالحالة تلخص نفسها كالتالي: إذا كان المرء قبل مائة سنة يقوم بنشر صفحة واحدة من المواد المقروءة والمصورة، فإنه اليوم يقوم بنشر عشرين، إن لم يكن مائة صفحة. من جانب آخر إذا كان هناك موهبة فنية واحدة قبل مائة سنة، فثمة اليوم موهبتان في المكان ذاته. أقر أنه نتيجة عملية التعليم الشاملة تلك يمكن أن يكون لدينا اليوم عدد كبير من المواهب العبقرية لم يتسن له الظهور من قبل، فصار بوسعه أن يخرج الآن. وعليه نكون قد خلصنا إلى…. أن لدينا اليوم ثلاث إلى أربع مواهب فنية بدلاً من واحدة فيما مضى. ومع ذلك لا ريب أن استهلاك المادة المقروءة والمصورة يفوق كثيراً النتاج الطبيعي للكاتب الموهوب والرسام الموهوب. والأمر نفسه مع المادة المسموعة أيضاً. فحالة الرخاء والفوتوغراف والراديو استنهضت جمهوراً يتزايد استهلاكه للمادة المسموعة بمعزل عن كل ما  له علاقة بازدياد السكان وتنامي الموسيقيين الموهوبين. وهكذا يقتضي الأمر أن مجموع النتاجات الفنية في شتى المجالات لم يكن على الإطلاق أكثر من السابق ؛ ولا بد  أن يبقى الأمر على حاله طالما أن البشر ماضون في استهلاكهم الضخم والباهظ للمواد المقروءة والمرئية والمسموعة.» ( (Aldous Huxley: Croisière d,hiver. Voyage en Amérique Centrale من الواضح أن هذا المذهب ليس تقدمياً.
(22) 
إن جسارة المصور السينمائي تقارن في حقيقة الأمر بجسارة الجراح. حيث يضعها لوك دورتاين في قائمة الأعمال الرائعة من المنظور العلمي للتقنية ويسردها بشيء من التفصيل فيقول: «تلك الجسارات متطلبة في علم الجراحة سيما مع العمليات الصعبة. وكمثال سأختار  حالة من حالات الـ OtoRhino Laryngologie   [مصطلح طبي ويعني معالجة الاختلالات الوظيفية للأنف والأذن والحنجرة (المترجم)] ….؛ وسأطلق عليها endonasale perspektiv ؛ أو سأكتفي بالإشارة إلى تلك الأعمال البهلوانية الرائعة التي تقوم، من خلال الصورة المنعكسة في المنظار، بإجراء عملية جراحية للحنجرة؛ كما سيسعني الحديث أيضاً عن جراحة الأذن التي تذكرنا بالعمل المتقن للساعاتي. إن مثل هذه النتيجة التسلسلية للبهلوانية الرشيقة للعضلات ليست هي المطلوبة لمن يريد ترميم جسد الإنسان أو إنقاذه، بل إن ما يتحدث عنه المرء هنا هو تلك العمليات الباهرة، التي يكون للفولاذ فيها حوار مع الأنسجة الرخوة، أو العمليات الجراحية الصعبة».
(23) 
قد يبدو هذا منهجاً أخرق؛ لكن، كما يشير منظره الكبير ليوناردو، يمكن لمثل تلك المناهج الرنانة أن تُجند لصالح زمنها. يقارن ليوناردو بين الرسم والموسيقى بالكلمات التالية: «إن السبب في تفوق الرسم على الموسيقى هو أنه لا يموت طالما بقي يهتف بالحياة، وكيف للموسيقى التعيسة أن تكون على هذه الحال…. وهي المتبخرة فور أن تنشأ والمتخلفة جداً عن ركب فن الرسم، ذاك الفن الذي يتأبد بالرتوش.»  (ليوناردو دافنشي: شظايا أدبية وفلسفية).
(24)
لكي نستحضر حالة شبيهة بتلك سنعود إلى إحدى الحالات التي تبدت جلية في عصر النهضة. لنكون لحظتها وجهاً لوجه مع فن له رواجه المنقطع النظير وأهميته المتأتية من أنه شمل عدداً من العلوم الحديثة أو من الأحداث الجديدة في حقل العلوم. فهذا الفن يضم علم التشريح وعلم الرؤى وعلم الحساب وعلم المتيورولوجيا (الطقس وتقلباته)  وعلم الألوان. يقول فاليري: « إن ما يبدو بالنسبة لنا أكثر بعداً من هذا القول الغريب لذلك الـ ليوناردو، الذي كان يعد الرسم بحد ذاته غاية قصوى ودلالة رفيعة على المعرفة، هو  أن هذا الفن، بحسب معتقد الرجل، يقتضي أن يكون محيطاً وجامعاً لكل شيء، وأن الرجل نفسه لم يكن متهيباً أمام أي تحليل معرفي سنقف- نحن أبناء اليوم- منكسرين أمامه، نظراً لعمقه ودقته». (بول فاليري).
(25)  Rudolf Araberin, 1. c. <S. 490>, p. 138
(26) 
يقول أندريه بريتون [سياسي فرنسي (المترجم)] : «إن قيمة العمل الفني تتجلى فقط باعتباره صورة لانعكاسات المستقبل». وفي الحقيقة إن كل صيغة فنية مبتدئة تقف في نقطة التقاء الخطوط الثلاثة للتطور. الخط الأول: اشتغال التقنية على صيغة فنية بعينها. فقبل مجيئ السينما كان ثمة ألبوم الصور الذي يمرّر المتفرج صفحاته بضغطة إبهام منه مستعرضاً ملاكمة ما أو مباراة تنس، وكان ثمة حركة ديناميكية في الأسواق الشرقية ينبعث نسقها من خلال تدوير تلك الصور. والخط الثاني هو اشتغال الصيغ الفنية المتوارثة، في بعض مراحل تطورها، على التأثيرات التي ستحدثها الصيغ الفنية الجديدة لاحقاً بدون أية مشقة. فقبل أن تظهر السينما إلى الوجود حاول الدادائيون من خلال أعمالهم إحداث نقلة في الجمهور سيحدثها أحد الـ «شابلنـ» ـات فيما بعد بشكل طبيعي. أما الخط الثالث فهو اشتغال التحولات الاجتماعية السطحية على تغيير طريقة العرض التي ليست سوى ركيزة تستند عليها الصيغ الفنية الجديدة. فقبل أن تبدأ السينما بتشكيل جمهورها كانت اللوحات (التي كانت حينها قد توقفت عن كونها جامدة في مكانها) تُستعرض من قبل جمهور محتشد بشكل بانورامي. فقد وجد هذا الجمهور نفسه أمام بارافانت عُلّقت فيه المجسمات، بحيث إن كل مجسم منها ينطبق على أحد الزوار. فراحت الصور الأحادية تظهر آلياً أمام تلك المجسمات، الصور التي كانت قبل قليل خرساء متخذة لنفسها مكاناً آخر. وبالطرق ذاتها سيتحتم على إديسون أن يلقى لنفسه عملاً هو أيضاً، وذلك عندما قام (قبل أن يعرف المرء شاشة السينما وطريقة الإسقاط) بعرض أول شريط سينمائي له على جمهور مبحلق بانشداه إلى آلة من تلك التي يجري فيها استعراض الصور. – هذا فضلاً عن أن جدل التطور سيظهر بوضوح في تراتبية بانوراما الصور. فقبل أن تجعل السينما من اللوحة موضوعاً للتأمل الجماعي، كان تأمل اللوحة بشكل مفرد أمام تلك المجسمات له من الاعتبار والصرامة ما كان للوحة الآلهة عند الكهنة في سيلا.
(27) 
إن الصورة اللاهوتية الأولى لذلك التبحر هي الإدراك؛ وجود الشخص وحيداً مع خالقه. فمن خلال ذلك الإدراك قويت شكيمة الحرية لدى العصور الكبرى للطبقة الوسطى، للتحرر من الوصاية الكنسية. أما في عصور انحطاطها فقد كان على ذلك الإدراك نفسه أن يضع في حسبانه إخفاء نزعته ورفدها بتلك القوى التي أقامها بعلاقته مع معبوده، ويكون بذلك قد ربأ بنفسه عن شؤون العامة.
(28)   Georges Duhamel: Scènes de la vie future. 2e éd., Paris 1930, P. 52
(29) 
إن السينما هي الصورة الفنية المطابقة لخطورة الحياة المتصاعدة التي يلحظها أبناء اليوم بأم أعينهم. والعجز عن التحرر من أفعالها الإسفينية هو تكيف وخنوع الإنسانية أمام الأخطار المحدقة بها. فالسينما كفيلة بإحداث تغييرات جذرية في آلة الإدراك – وهي تغيرات يعايشها كل إنسان عابر  في شوارع المدن الكبرى على مستوى وجوده الشخصي، ويعايشها على المستوى التاريخي كل مواطن اليوم.
(30)
مثلما أن البيانات المتعلقة بالدادائية تحظى باهتمام السينما فكذلك هي المتعقلة بالتكعيبية [اتجاه فني ظهر في فرنسا في بدايات القرن العشرين يتخذ من الأشكال الهندسية أساسا لبناء العمل الفني (المترجم)] والمستقبلية [حركة فنية تأسست في إيطاليا في بداية القرن العشرين. والمستقبلية كلمة شمولية تعني التوجه نحو المستقبل وبدء ثقافة جديدة والانفصال عن الماضي (المترجم)]. وكلا الاهتمامين يبدو محاولة ملحة على الفن، كي يضع في حسبانه تشرب الواقع بالآلة. لقد قامت هذه المدارس بمحاولة تمييز السينما عن غيرها، ليس من خلال الاستفادة من الآلة لتصوير الواقع فنياً، بل من خلال نوع من المزج بين الواقع المعروض والآلة المعروضة وصهرهما معاً. ولهذا فالدور السائد في التكعيبة هو توقع تشييد تلك الآلة من خلال علم البصريات؛ أما في المستقبلية فالدور هو توقع الآثار التي ستحدثها تلك الآلة، وهي الآثار الظاهرة بجلاء في النسق المتسارع للشريط السينمائي.
(31)  Duhamel. 1. c. (S. 503>. p. 58
(32) 
لدينا هنا، لا سيما حين نعود إلى المجلات الأسبوعية التي تكاد تكون لا مغالية في شأنها الدعائي، حالة تقنية في غاية الأهمية. حيث إن عملية إعادة الإنتاج الهائلة للأعمال الفنية تقابلها عملية إعادة إنتاج من نوع خاص للعامة (الجماهير). فحيثما هي المواكب العيدية الضخمة والتجمعات الطقوسية والمهرجانات الرياضية والحرب، لا سيما وأن كل ذلك أصبح متاحاً لآلة التصوير اليوم، فإن تلك العامة ستجد نفسها هناك.  هذا الحدث، الذي لا تحتاج خطورته إلى إيضاح، هو على علاقة وثيقة جداً بتطور عملية إعادة الإنتاج وبتقنية التصوير. فالحشود الشعبية تظهر للآلة بوضوح أكثر من ظهورها للعين.  إن حشداً مكوناً من مئات الألوف ستتاح له رؤية نفسه من علٍ رؤية شاملة. لكن حتى عندما تكون تلك الرؤية متاحة لعين الإنسان، كما هي للآلة، فإن تلك الصورة التي ستعصف بالعين، سيكون من غير الممكن تكبيرها مثل ذلك التكبير الذي تقوم به الآلة. كل ذلك يعني أن نشاطات العامة، وكذلك الحرب، يعطيان صيغة سلوك إنساني خاضع ومستسلم للآلة.
(33)  cit. La Stampa Torino .

*شاعر ومترجم من اليمن.
*مجلة "نزوي" العمانية، العدد 69 ، 1 يناير 2012.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق