بقلم الباحث المغربي :سعيد بوخليط
حينما نتحدث عن التراث النقدي لدى
طه حسين، فإننا نموقع النقد العربي، ضمن لحظة فكرية، كان يبحث فيها عن مشروع
متكامل يغطي كل الحقول المعرفية، بحيث يمثل طه حسين، أول رمز فكري تبنى مفهوما
كهذا، موظفا في سبيل ذلك آخر النظريات النقدية،المتداولة خلال عصره. هذه النظرية،
التي حاول بها قراءة مجموعة من التجليات المعرفية العربية، تنتمي في مجملها إلى
التراث العربي. ولعل، محاولته المهمة في مقاربة الأدب الجاهلي، تدخل في نفس السياق
الفكري، بل أهم محطاته النظرية. ذلك أن ما وصل إليه من نتائج تشكل ثورة
مفهومية ونظرية في مسار النقد العربي.
إن ما قام به طه حسين، لم يكن من
الممكن ولوجه، لو لم يستند على حس نقدي عميق، وعلى وعي حضاري كبير بضرورة إعطاء
محفزات تاريخية للذات العربية تخرجها من مقولاتها التأطيرية الجافة، التي أضحت
مفاهيم دوغماطيقية تكبح اندفاعة هذه الذات. وظلت ملامح المشروع النقدي عند طه
حسين، غير مكتملة بل تم وأدها في المهد نظرا لمجموعة من العوامل، عملنا على
توضيحها سابقا.
ولعل من أكبر الأسانيد التي حكمت المنهج النقدي
عند طه حسين، تأثره وتشبعه بروح القراءات الغربية، لاسيما الممارسة النقدية
الفرنسية، ولعل أشهر الأشياء، كذلك التي
وسم بها النقاد العرب طه حسين، في دراساتهم لنصه هو التأكيد على حضور المنهج
الديكارتي، الذي ينطلق من مقولة الشك والارتياب، من أجل الوصول إلى اليقين. وإن كان البعض يعتقد، أن
منهج الشك لم يأخذه طه حسين من عقلانية ديكارت، إنما يستمد مقوماته المفهومية من
التراث العربي : ((ذلك لأن وجوب الشك قبل الاعتقاد منهج من أقوم مناهجها الأصلية
في التفكير والبحث. فالجاحظ قبل ديكارت بسبعة قرون قد اهتدى إليه وآمن به ودافع عنه، وجعله منهجا من ألزم مناهجه في
التفكير، ووسيلة من أهم وسائله للوصول إلى درجة من اليقين العلمي، فهو يشك ويدعو
إلى الشك، وللشك عنده حالات موجبة لابد أن يفطن إليها الإنسان حتى يشك في مواضع
الشك نفسه)) (1). هذا
المنهج، إذن سواء استعاره من عقلانية القرن 17، أو انحدر من التراث العربي، كان الفهم، الذي حاول من خلاله قراءة الأدب
العربي قراءة تاريخية و تطورية، يقول :
(أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت"
للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة
الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن
يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه
خلوا تاما، والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في
الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب
المناهج وأقواها وأحسنها أثرا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غير
مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا
العصر) (2).
طبيعة هذا المنهج في رأي طه حسين تخول
للناقد العربي، دراسة تاريخه الأدبي،
بذهنية خالية من أي معطيات سابقة عن الموضوع، والتجرد خاصة من المشاعر والعواطف
القومية، وكذا الإحساس الديني : (إذا لم ننس هذه العواطف وما يتصل بها فسنضطر إلى
المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغل عقولنا بما يلائمها. وهل فعل القدماء غير هذا ؟
وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا ؟ كان القدماء عربا يتعصبون للعرب، أو كانوا
عجما يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد) (3).
اعتبر طه حسين، المشاعر التي تحدد
أفقنا النظري، اتجاه تراثنا الأدبي بمثابة "أغلال"، تكبح التحرك الحر
والطبيعي، للذات العربية في اشتغالها على تراثها الأدبي، خاصة وأن هذه الذات تنظر إلى تراثها الأدبي، برؤية
دوغماطيقية تحكمها نزعة تقديسية، تجعل من الصعب اختراق هذا النسيج الفكري
بحس علمي موضوعي بفكر مختلف مع ذاته، يتعامل مع الحقائق باعتبارها تحققات تاريخية
مرتبطة بسياق ثقافي معين، وبمعطيات اجتماعية واقتصادية وسياسية.
تطبيق طه حسين لمنهجه التشكيك، أفضى به نحو الخلاصات
النظرية التي شكلت قطيعة منهجية، معرفية مع طبيعة الرؤية، التي تحكم الذات العربية
في موقفها من التراث الجاهلي، أو بعبارة
أخرى أن تأويلاته خلخلت المعهود والمألوف، هكذا يمكن لنا مثلا في هذا السياق،
الوقوف على بعض تصورات طه حسين بخصوص الشعر الجاهلي :
(أ ـ لا يعكس
الحياة الدينية الجاهلية.
ب ـ لا يعكس الحياة الاقتصادية
الجاهلية.
ج ـ يرينا الأخلاق على غير ما هي
عليه في القرآن.
د ـ لا يتحدث عن البحر الذي كان
يحيط بالجزيرة العربية. وباختصار أن الأدب الجاهلي لا يعكس الحياة الجاهلية بصدق
على نحو ما يعكس شعر عمر بن ربيعة، وشعر أبي نواس وكتابات الجاحظ عصور هؤلاء
الشعراء والكتاب) (4).
هذه التصورات، تأسست بالإضافة إلى
الروح الديكارتية على روافد معرفية أخرى، تتمثل مثلا في قراءة أساتذة طه حسين المستشرقين للشعر الجاهلي، والمنهج
اللغوي الذي طبقوه عليه، ثم تأثره بمنهج "تاريخ الأدب الإغريقي" للأخوة
"كروازيت"، بالإضافة إلى قناعته المعرفية بالتصورات المنهجية لعلم النقد
التاريخي، كما اشتغلت عند نقاد القرن 19، والتي كانت تفهم الأدب باعتباره تعبيرا
فكريا، عن وضع اجتماعي معين،بالتالي لا يمكن فصل الأدب عن بيئته، و ظروف المبدع
الذاتية والموضوعية، ف "الأدب ابن بيئته".
انطلاقا من هذه المعطيات ، سينتهي
البحث ب "طه حسين" إلى أن : ((الكثرة
المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من
الجاهلية في شيء .. وإنما هي منتحلة مؤلفة بعد ظهور الإسلام. فهي إسلامية
تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم أكثر مما تمثل حياة الجاهلين وأن ما
بقي من الشعر الجاهلي الصحيح، وهو عنده قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه
في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأن أكثر ما نقرأه من شعر
امرئ القيس، أو طرفة، أو ابن كلثوم، أو عنترة ليس من هؤلاء في شيء، وإنما هو من
انتحال أو اختلاق الرواة))((5).
تصور،سيثير ضجة فكرية كبيرة أدت إلى مصادرة الكتاب، بل واتهام
صاحبه بالإلحاد، والكفر، وكذا عمالته للأطروحات الاستشراقية، ويعتقد البعض، أن طه
حسين ما كان ليجلب عليه حساسية الرأي العام المصري في تلك الفترة : (لو لم يستغل
خصومه جملا جاءت استطرادا في صلب البحث الذي عقده عن الشعر العربي واللغة، وعن القحطانية والعدنانية، والعرب
البائدة والمستعربة، والخلاف الجوهري بين اللغة التي كان يصطنعها في جنوب البلاد
العربية واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمالها، وقد ساق الدكتور طه حسين أكثر من
حجة على صدق نظريته التي انتهت به إلى أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي، لا يمثل
اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا وأنه وجد بين الشعراء الذين يضيفون إليهم
شيئا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي
كانت تتكلم لغة غير القرآن. والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى غير اللغة
العربية) (6).
ولعل أهم الاستطرادات، التي جاءت في ثنايا بحثه
ومست الشعر الجاهلي، فاستفزت المتلقي العربي، هي :
1 ـ يعتقد طه حسين، أن حديث القرآن
والثوراة عن إبراهيم وإسماعيل، وكذا إثبات
قصة هجرة إسماعيل ابن إبراهيم إلى مكة، لا يكفي ذلك لإثبات وجود هذه الوقائع تاريخيا.
2 ـ مسألة أخرى، تدخل في إطار
انتحال الشعر الجاهلي، وإضافته إليهم ، وتدخل هذه المسألة كذلك في تأثير الفكر
الديني، بحيث يتعلق الأمر بتعظيم شخص
النبي وأسرته. ثم نسبه من قريش: ( اقتنع الناس بأن النبي يجب أن
يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون
بنو مناف صفوة بني قصي، وأن يكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان،
وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة
الإنسانية...)(7).
3 ـ الاعتقاد بأن الدين الإسلامي،
ما هو إلا تجديدا وتطويرا لدين إبراهيم، وبالتالي
أخذ الناس بالاعتقاد، أن الإسلام هو نفسه دين إبراهيم.
وقد استندت الانتقادات الموجهة إلى
طه حسين، التي اتصفت بكونها عنيفة ذهبت حد التظاهر والتوجه إلى البرلمان، على
أربع نتائج نظرية توصل إليها وهي : (1/ أنه كذب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما
السلام. 2/ أنه أنكر القراءات السبع المجمع عليها فزعم أنها ليست منزلة من الله تعالى.3/ أنه طعن في نسب النبي صلى
الله عليه وسلم. 4/ أنه أنكر للإسلام أوليته في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم)(8).
تلك، أهم "المقدسات"
التي مسها مشروع طه حسين، فأثارت استنكار الرأي العام وتطورت حتى مستوى الدعوة إلى
إلغاء وظيفة طه حسين الجامعية، كأستاذ بها، وإحالته على النيابة. والأهم من ذلك،
أنه منذ تلك الفترة حكم على المشروع النقدي لطه حسين بالموت، وأصبح ينظر إليه بنفس
النظرة التي يتخذها العرب من المستشرقين، وأضحت مقولاته النقدية، يشوبها نوع من
الارتياب والشك. وهذا ما يثير التساؤل، حول حدود الوعي الليبرالي في ممارسة الفكر
العربي، ثم ما إمكانية امتداده إلى ممارساتنا اليومية ؟ خاصة إذا كانت المسألة
تتعلق بمقولات كبرى تحكم الذات العربي،
وتؤسس فهمها للعالم. مثل التراث، وما ينطوي عليه من تجليات مفهومية من أدب، وشعر،
ومشاعر، وعقائد، وسياسة... .
قلت هذا، لأن كل الدعوات
الليبرالية لدينا، وطموحاتها النظرية ستجد نفس المصير : دعوة الشيخ علي عبد الرزاق
صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، الذي شكك في البعد الديني، لمفهوم
الخلافة، مؤكدا بأن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، وإنما هي مسألة سياسية
أكثر منها دينية، وأن الخلافة لم ترد في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية. وإنما
هي قضية دنيوية ...، و بالطبع ستجر هذه المواقف على الشيخ علي عبد الرزاق الويلات،
وتعرض لنفس مصير طه حسين لكن بشكل آخر. ما
يقال عن هاتين الشخصيتين، يمكن أن نقوله على أحمد أمين، والكواكبي... أو أدونيس
...، هناك خلل إذن في بنية الذات العربية.
وأعتقد بأن أهم مواطن الخلل، ما يمكن تسميته مع
عبد الله العروي، بعدم تمكن العقل العربي من هضم أسس ومفاهيم الفكر الليبرالي.
وأضيف، بأن عدم تجذر وعي كهذا بين طيات
البنية الذهنية العربية، يتأتى من كونها لم تتعرض لهزات عنيفة، تخلخل معتقداتها،
التي تحولت مع تراكم السنين إلى اشتغالات جامدة. ذلك أن علاقتنا بالعالم ظلت
منسجمة يحكمها منطق اليقين والثبات، خاصة وأن المرجعية الدينية، تشكل إطارا
للارتياح الفكري والعقائدي. وما دام الحال كذلك، فالواقع العربي، لا يتحمل أي
مفهوم يتجاوز أفقه، بالتالي ستظل محاولة طه حسين
وغيره، مجرد أحلام رومانسية مثالية، غالبا ما تفيق على أضغات كابوس مرعب
ومخيف.
قلت كل ذلك، لأن قراءة طه
حسين للشعر الجاهلي، الجديدة في منهجها
ومضمونها، حكمتها مجموعة من الخلفيات المنهجية الجديدة عن الثقافة العربية. وتتجلى
جديتها في أنها : (أكدت فكرة ارتباط الأدب بالمجتمع وتفاعله معه وفهمه من خلاله،
وهو ثانيا نبه إلى فكرة حرية الباحث وتجرده،
وبالغ في هذا التنبيه أمدا ... عرضه لكثير من المتاعب، وهو ثالثا قدم طرق
وأساليب الغرب في دراسة الأدب والنقد فصور ما ذهب إليه "سانت بوف" من
ترتيب شخصيات الأدباء للأمة في فصائل وأنواع على نحو ما يرتب علماء النبات الفصائل
النباتية، ورسم في دقة ما ذهب إليه "تين" من أن الأديب إنما هو ثمرة
حتمية لقوانين الجنس والزمان والمكان. وأوضح كيف أن "برونتيير" طبق على فنون
الأدب وأنواعه نظرية داروين في التطور والنشوء والارتقاء)(9). النتيجة، التشكيك في وجود موضوعي لشيء اسمه الشعر
الجاهلي، إنما هو منتحل.
كيف سيبلور، طه حسين منهجه
التاريخي ؟ وما هي أهم المحددات
المفاهيمية التي سيؤطر بها منهجه ؟ يقول، مبلورا الأدوات التي يجب توافرها
لمؤرخ الأدب : (وإذا الباحث عن تاريخ الآداب ليس عليه أن يقتن علوم اللغة وآدابها
فحسب، بل لابد له أن يلم إلماما بعلوم الفلسفة والدين، ولابد أن يدرس التاريخ
القديم والحديث وتقويم البلدان درسا مفصلا، وإذ الباحث عن تاريخ الآداب لا يكفيه
من درس اللغة حسب البحث عما في القاموس واللسان وما في المخصص والمحكم، وما في
التكملة والعباب، بل لابد له مع ذلك من أن يدرس أصول اللغة القديمة ومصادرها
الأولى، وإذا الباحث عن تاريخ الآداب لابد
له من أن يدرس علم النفس للأفراد والجماعات إذا أراد أن يتقن الفهم لما ترك الكاتب
أو الشاعر من الآثار وإذا باللغة العربية وحدها لا تكفي لمن أراد أن يكون أديبا ومؤرخا للآداب حقا إذ لابد
له من درس الآداب الحديثة في أوروبا، ودرس
مناهج البحث عند الفرنج بلغة ما كتبه الأساتذة الأوروبيون في لغاتهم
المختلفة)(10). في هذا النص
الطويل، يحدد إذن الإطار الذي يجب على مؤرخ الأدب التحرك داخله، وكذا الشروط
المعرفية الواجب امتلاكها، التي نختزلها في أساس واحد هو : الموسوعية المعرفية،
للإلمام بالظاهرة الأدبية، وبكل معطياتها. فلابد إذن، لهذا الباحث أن :
1/ يتقن علوم اللغة من بلاغة، عروض،
النحو، الصرف وفقه اللغة...
2/ الإلمام بعلوم الفلسفة، علوم
الدين، علم النفس وعلم الاجتماع ...
3/ الدراية الكبيرة بالتاريخ
القديم والحديث، ثم المعرفة المفصلة والدقيقة بالمعطيات الجغرافية.
4/ الاطلاع على اللغات الأجنبية،
وذلك لمعرفة الآداب الأخرى، الوقوف عند لغة واحدة لا يكفي بالنسبة لمؤرخ الأدب.
5/ معرفة أصول اللغات القديمة،
ومعطياتها الأولى.
6/ معرفة المعطيات النفسية،
للأفراد والجماعات، والذين ينكب مؤرخ
الأدب على دراستهم، وذلك من أجل فهم آثارهم
الفكرية والأدبية...
تلك إذن أهم المبادئ، التي ألزم بها طه حسين مؤرخ الأدب، والتي كانت
متأتية لمفكر عتيد من عياره، لذا كان مؤرخا للأدب بامتياز، ذلك أنه إذا استقرأنا منطقاته
وجدناها متوفرة في شخصية طه حسين، كما عكسها
بين ثنايا اشتغالاته الفكرية. فمن المؤرخ إلى الناقد، ثم الروائي وكذا
المترجم، إلى الأديب بمفهومه القديم، المزاوج بين التكوين اللغوي القديم مع
الإلمام الواسع بالمعطيات الثقافية
المعاصرة.
كل هذا توفر لطه حسين، بفعل تتلمذه
على مدرستين :
أحدهما، تهتم بالثقافة القديمة، بالتالي
سيكون منهجها في قراءة الآداب العربية قديما كذلك. ثم أخرى
حديثة، تتمثل في المنهج الذي أحدثته الجامعة المصرية، في دراسة الآداب العربية،
ونقصد بالاتجاه الأولى، ما تلقاه طه حسين عن أستاذه "سيدي علي المرصفي"،
أحد أهم مدرسيه في الأزهر، بحيث يدين له بالكثير، حيث يقول في حقه : (أستاذنا
الجليل، السيد علي المرصفي أصح من عرفت بمصر فقها في اللغة وأسلمهم ذوقا في النقد
وأصدقهم رأيا في الأدب وأكثرهم رواية للشعر ولاسيما شعر الجاهلية والإسلام )(11).
جسد سيد علي المرصفي، المرجعية
النظرية والفكرية لفهم الآداب العربية. (فالمرصفي علم طه حسين كيف يقرأ النص
العربي، كيف يفهمه، وكيف يتمثله، وكيف يحاكيه، علمه إذا كيف يقرأ النص العربي
قراءة صحيحة وسليمة في لغته وعروضه وكيف يفهم ألفاظه ومعانيه ومستغلقاته اللغوية
والنحوية وكيف يتذوقه كلغة ومعان شعرية عربية قديمة وأساليب ستمد طه حسين برصيد هام في كتابته الأدبية) (12). واسم علي المرصفي، من بين الرموز الفكرية التي
عملت على تطوير النقد والأدب العربيين، وهو تطور حدث في الأزهر : (على يدي كل من
الشيخ سيد المرصفي، والشيخ حمزة فتح الله حين اتبع الشيخان نفس أساليب دارسي الأدب
القدماء وفي مقدمتهم " المبرد" و "القالي"
و"الجاحظ" حيث العناية في الدرس تتجه أولا إلى جمع النصوص الشعرية
والنثرية المختارة بالإضافة إلى طائفة من الحكم والملح والأخبار والأمثال,ثم
يتناولان ذلك تناولا يعني باللغة والبلاغة والتذوق وما إلى ذلك)( 13). وكانت هذه أول الخطوات الأساسية في تطوير العناية
بالآداب العربية، ستعقبها خطوات تجلت في أعمال جورجي زيدان، ومصطفى صادق الرافعي،
وجهود عباس محمود العقاد، ثم الأبحاث التي خرجت من الجامعة المصرية والتي درس بها
بعض المستشرقين من أمثال " كارلونلينو"و"فييت"....
الرافد المعرفي الثاني بالنسبة لطه
حسين، الذي فتح عيناه على المنهجيات الجديدة في قراءة الآداب العربية، يتمثل في
التأثير الذي أحدثه المستشرق كارلونلينو، الذي سيفيده في استخراج علم جديد اسمه :
تاريخ الآداب. مع تبلور، القراءة الخارجية للنص العربي. يقول عن هذا المنهج
الجديد، إن : (المذهب الذي أحدثته الجامعة المصرية في درس الآداب بمصر نافع النفع
كله لاستخراج نوع من العلم لم يكن لنا به عهد مع شدة الحاجة إليه وهو تأريخ الآداب
تأريخا يمكننا من فهم الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة فهما صحيحا، حظ الصواب
فيه أكثر من حظ الخطأ ونصيب الوضوح فيه أوفر من نصيب الغموض) (14).
ولعل في كل ذلك، من خلال تأثير الرجلين على
فكرطه حسين، يتحقق الفهم المنهجي، الذي أعطي لتاريخ الأدب في المشروع النقدي لطه
حسين، بتأسيس المنهجية التاريخية، على نظرة متكاملة تحاول الإحاطة بكافة معطيات
الظاهرة الأدبية. المرصفي،
كان بالنسبة لطه حسين مرجعا لغويا، مكنه من استيعاب الاشتغالات الداخلية للنص،
مكوناته اللغوية والأسلوبية، ونحن نعرف جيدا متانة النص العربي القديم، من حيث
بلاغته وتركيبه اللغوي المكثف، مما يجعل من الصعوبة اختراقه، مادمت لا تتوفر على
تكوين لغوي قوي. وقد تأتى هذا الشرط لطه
حسين، بفضل تتلمذه على شيوخ الأزهر، خاصة المرصفي : (لقد علمه إذا كيف يقرأ النص
العربي قراءة صحيحة وسليمة في لغته وعروضه وكيف يفهم ألفاظه ومعانيه ومستغلقاته
اللغوية والنحوية وكيف يتذوق كلغة ومعان شعرية عربية قديمة وأساليب ستمد طه حسين
برصيد هام في كتابته الأدبية (...) وتعتبر هذه القراءة أساسية في العملية النقدية التي سيتعامل معها
طه حسين في دراسته للنص الأدبي، كما تعتبر ثابتا أساسيا سيوجه مشروع كتابته
النقدية عندما يحاول البحث عن قراءة جديدة
وصحيحة للنص العربي القديم) (15).
أما الأستاذ
كارلو نلينو، فقد كان بالنسبة لطه حسين، الرافد الآخر في تشكيل منهج قراءته.
هذه المرة سيأخذ طابعا مغايرا، عن قراءة سيد علي المرصفي، حيث يحاول الإحاطة
بالظاهرة الأدبية في معطياتها الخارجية، والإلمام بسياقها البراني : (ستكون هذه
القراءة للنص العربي قراءة من الخارج، إذ سيمده بالمنهج الذي سيقدم به طه حسين
قراءته الأولى للناس في صياغة جديدة تكشف
عن أشياء ذات بال كمال قال، حتى يتمكن الناس من فهمها وتكون قريبة إليهم ولا
يشعرون بالاغتراب إزاءها كما حصل لطه حسين)(16).
تكاملت النظرة إذن، لدى طه حسين،بالتالي
بقي وفيا للبرنامج الذي خطه لكل دارس لتاريخ الأدب. قراءة لا تنفصم، ولا تجيز
الاهتمام والانكباب، على جانب دون آخر، إنه تصور متكامل.
في نص لطه حسين، سيقر بأن ما تلقاه
لدى سيد علي المرصفي و كارلونلينو، شكل بالنسبة إليه الأساس النظري والمنهجي، وكذا
الأرضية الفكرية بالنسبة لكل ما سيأتي من بعد. أو بمعنى ثان، تحدد مشروع طه حسين
النقدي، بناء على أفق فكر الرجلين. يقول
في هذا الإطار : (أحدها علمني كيف أقرأ النص العربي القديم وكيف أفهمه وكيف أتمثله
في نفسي، وكيف أحاول محاكاته. وعلمني الآخر كيف أستنبط الحقائق من ذلك النص وكيف
أصوغها آخر الأمر علما يقرؤه الناس فيفهمونه ويجدون فيه شيئا ذا بال. وكل ما أتيح
لي بعد هذين الأستاذين العظيمين من الدرس والتحصيل من مصر فهو قد أقيم على هذا
الأساس. الذي تلقيته منهما في ذلك الطور الأول من أطوار الشباب. بفضلهما لم أحس
الغربة حين أمعنت في قراءة كتب الأدب القديم، وحين اختلفت إلى الأساتذة الأوربيين
في جامعة باريس وحين أمعنت في قراءة الأدب الحديث) (17).
على هذا الأساس، تبلور مشروع تاريخ الأدب عند طه حسين،
باعتباره تصورا شموليا للمعطيات المحيطة بالظاهرة الأدبية، ومحاولة مقاربتها من
مختلف الزوايا، وكذا الحيثيات الإشكالية للمعطى الأدبي. مؤرخ الأدب حسب طه حسين، لا يكتفي، فقط بالوقوف عند حدود
التأريخ للأدب، إنما يضطر إلى الإحاطة بالمعطيات السياسية، والاقتصادية،
والاجتماعية، وكذا اللغوية للحظة
التاريخية، التي يريد العمل على موقعتها، فهذه المباحث الإنسانية الأخرى، تعتبر
مكملة لعمل المؤرخ الأدبي. ولعل هذا الفهم الذي أعطاه طه حسين، دفعه إلى تجاوز
التأسيسات المنهجية والمعرفية التي تنهض عليها بعض عمليات التاريخ الأدبي. أهمها :
* استحضار المقياس والبعد السياسي
في عملية التأريخ للأدب :
من أكبر تجليات هذا الفهم : اشتغال
هذا الربط بين السياسي والأدبي في الثقافة العربية، حيث لازلنا نؤرخ للأدب بالدولة
السياسية، هكذا نقسم العصور الأدبية على حسب العصور السياسية. ويتم ربط ازدهار
وانحطاط اللحظة الأدبية، بالاستقرار السياسي أو انحطاط الحياة السياسية. فالأدب
كان راقيا في عصر بني أمية، وفي العصر العباسي، لأن الدولة العربية في تلك الفترة
كانت قوية سياسيا، وتميزت كذلك بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، أو على العكس
سينحط الأدب، حينما تفككت هذه الدولة وضعفت ... .
ينتقد طه حسين، هذ التأويل، رافضا
تحديد الأدبي انطلاقا من السياسي، فالمسألة غير مؤكدة، يقول: (إن الحياة السياسية
لا تصلح مطلقا لأن تكون مقياسا للحياة الأدبية وإنما السياسة كغيرها من المؤثرات.
كالحياة الاجتماعية، كالعلم، كالفلسفة، تبعت النشاط في الأدب حينا آخر، فلا ينبغي
أن يتخذ واحد من هذه الأشياء مقياسا للحياة الأدبية)(18). لكن هذا
لا يعني أنه، يتغاضى أو ينكر الصلة بين الأدبي والسياسي، إنما يؤكد على ضرورة
التعامل مع تداخل المفهومين بنوع من النسبية.
* تحديد عملية تأريخ الأدب بنوع من
الدوغماطيقية :
تجلت هذه المسألة تاريخيا في
التأسيسات المفاهيمية للمشروع النقدي لرواد القرن 19 ،فنحن نعلم أن الهم المعرفي،
الذي أعطى المسوغ النظري، لرموز نقدية، مثل : تين، سانت بوف، برونتير ... بتأثير
من العلم الطبيعي، هو تحويل تاريخ الأدب إلى علم موضوعي، يتوخى تحقيق نتائج، تخلو
من الاعتبارات الشخصية والذاتية. وقد حاول كل ناقد تحقيق هذا الهدف بطريقته.
إلا أن طه حسين يرفض هذا التصور،
من خلال إيمانه بالخصوصية المعرفية والمنهجية لكل حقل من الحقول النظرية، جازما
بأن : (تاريخ الأدب لا يستطيع بوجه من الوجوه أن يكون "موضوعيا" صرفا،
وإنما هو متأثر أشد التأثر وأقواه بالذوق، وبالذوق الشخصي قبل الذوق العام) (19). مما يجعل مسألة العلمية، تأخذ فهما جديدا ومغايرا
داخل حقل تاريخ الأدب، عن اشتغالاتها في العلوم الأخرى.
* المقياس الأدبي :
في سبيل تجاوز الاشتغالات السابقة، اقترح طه حسين، فهما
منهجيا يؤسس ذاته على رافدي العلمية و الفنية، أو بمعنى آخر؛ أن ينهض تاريخ الأدب
على إطار نظري يمكنه من استيفاء حدود العلمية، التي تمكن له حيز الموضوعية. من جهة أخرى، التعبير
عن الطبيعة الذاتية للعمل الفني ؛ مما يقتضي استحضار مقولة الذوق، حيث رهان المعطى
الأدبي على ذاته. ولعل في هذا النموذج الأخير، تتحدد رؤية طه حسين، للإطار النظري
المحدد لعمل مؤرخ الأدب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1)
سامح كريم، ماذا يبقى، من طه حسين
؟ دار العلم، بيروت. الطبعة2، 1977، ص 62.
(2)
طه حسين : في الأدب الجاهلي. دار
المعارف. مصر، الطبعة 10، ص 68.
(3)
نفسه، ص 68.
(4)
أحمد بوحسن، الخطاب النقدي عند طه
حسين، المركز الثقافي العربي، ط1، 1985، ص
113.
(5)
سامح كريم، المرجع نفسه، ص 65.
(6)
نفسه، ص 66.
(7)
نفسه، ص 66.
(8)
نفسه، ص 67.
(9)
نفسه، ص 109/110.
(10)
نفسه، ص 109.
(11)
أحمد بوحسن، المرجع نفسه، ص 49.
(12)
نفسه، ص 39.
(13)
سامح كريم، المرجع نفسه، ص 108.
(14)
أحمد بوحسن، المرجع نفسه، ص 49-50.
(15)
نفسه، ص 39.
(16)
نفسه، ص 39.
(17)
نفسه، ص 38.
(18)
طه حسين : في الأدب الجاهلي، ص 39.
(19)
نفسه، ص 46.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق