الأحد، 30 أكتوبر 2016

مقدمـــة كتاب:غاستون باشلار مفاهيم النظرية الجمالية


بقلم الباحث المغربي : سعيد بوخليط


أصل بهذا العمل الحالي، إلى الحلقة الرابعة من اشتغالي على شعرية غاستون باشلار، والتي مثلما يعرف القارئ المطلع، فقد وضعت لاستراتيجيتي التنقيبية منذ الإصدار الأول تسمية "باشلاريات"، سعيت معها إلى سبر أغوار مختلف حيثيات مضامين، تجليات وممكنات، مشروع باشلار الأديب والناقد الجمالي، حينما توجهت قراءاته واستلهاماته إلى النصوص الأدبية والفنية.
لكن، ومع مُنجز كتاباتي الثلاث السابقة : غاستون باشلار :عقلانية حالمة (2002) (مراكش). غاستون باشلار : نحو أفق للحلم (2006) (الرباط). ثم، غاستون باشلار : بين ذكاء العلم وجمالية القصيدة (2009) (الرباط) أحس حقيقة في قيرورة نفسي، بأني لازلت بالكاد عند بداية عتبة التراث الباشلاري الهائل، وما هيأته لحد الآن يبقى مجرد مقدمات مفهومية قصد استيضاح معجم أطروحاته الكبرى. لكن في الآن ذاته، تتعرى بكثافة وضخامة مختلف الشعب والروافد المعرفية التي استثمرها النص الباشلاري، وهو ما يلزمني ويضع على عاتقي مسؤولية فتح أوراش متعددة تنصب محتوياتها على مختلف إطارات شعرية باشلار تاريخا، تحققا ثم أفقا، وهي ترسم لذاتها ثلاثة محاور مهمة للغاية، فيما يتعلق بالدراسات الأكاديمية المنصبة على نظرية الأدب، أقصد بذلك :
* المرتكزات الإبستمولوجية للنقد الأدبي، إبان القرن التاسع عشر مع تشكلات المنهج الوضعي.
* التطورات المعرفية التي شهدتها العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وبداية توضّح ملامح القطيعة مع الممكن  السابق. لقد حدثت مجموعة تغيرات مفهومية ومعرفية، مسّت الأدب واللغة والكتابة...، تزامنت مع ظهور التيار السوريالي عقب الحرب العالمية الأولى، حيث أزاحت بيانات أعلامه النقاب عن جوانب خفية غابرة جدا في أعماق الذات الإنسانية غير تجلياته المجتمعية والاقتصادية...، وبروز مكونات أخرى مثل : الجنون، الحلم ، اللاعقل، الهذيان، اللاوعي... أصبحت معها النصوص الجديدة لا تتحمل التوابث الأدبية التي سنّها رواد النقد الوضعي فترة القرن التاسع عشر. ينبغي في هذا الصدد، إعادة استيعاب معطيات اللحظة الجمالية لناقدين أدبيين بارزين هما : مارسيل ريمون وألبير بيغان. لقد، كتب الأول مؤلفه الشهير عن بودلير "من بودلير إلى السوريالية" (1933)، حيث تمرد عن التحديد السوسيوثقافي والسيري ل "دوستايل"، "سانت بوف"، "برونتيير"، "تين" و"لانسون"... من أجل تمثل  أكثر عمقا لتجربة الشاعر الباطنية، فأرسى  بهذا دعامة موقف نقدي أدبي مختلف كليا عن ما ساد مؤسساتيا. أما، الثاني فقد ابتغى فهم المبدع انطلاقا من الخيال الحُلمي، ثم جاء كتابه : "الروح الرومانسية والحلم" (1939) كي يقدم أرضية، مكّنت الشعرية الباشلارية من حقل دلالي مولّد.
* النماذج المنهجية لما بعد باشلار ، حيث نعثر على أغلب الأسماء اللامعة، التي أغنت وأثرت البحث الأدبي والجمالي بمفاهيم ومناهج تراوحت بين التعقد النظري وإجرائية المنهج، فارتقت بالأدب إلى رحابة ولا نهائية النفس الإنسانية. هكذا، ومنذ انعتاق المقاربة النصية من شرطية التوثيق "الاستعلاماتي" كما انتهى إليه أصحاب النزعة العلموية، تماهى الإبداع ثانية مع ذاته. بالتأكيد، يستحيل استيعاب وإدراك خريطة ما سمي بالنقد الأدبي الجديد دون تفكيك أوصال الجمالية الباشلارية، باعتبارها النواة الجينية لمختلف المتواليات القيمية التي جعلت من النص في ذاته ولذاته، مرجعية مطلقة.
نلاحظ إذن جسامة المهام، فكم يحتم الأمر من نشاط دؤوب ومتابعة دقيقة لمتن مفهومي ضخم ؟؟ يحيلنا أردنا أم أبينا على حقول معرفية متعددة ومتباينة، كي نحيط عن قرب بالتطورات النوعية التي عرفها تاريخ الشعريات الحديثة. يكفي، أن نستحضر مع تضمينات كتابات باشلار لرؤى تاريخ العلم والخيمياء والأسطورة والفلسفة والتاريخ والشعر والأدب والفلسفة والأنتروبولوجيا ...إلخ.
فلا شك، أن التأويل المفهومي للخطاب النقدي الحديث، ليس أمرا هينا، نظرا لتعدد مصادره ومرجعياته وكذا البعد الفلسفي العميق الذي هيكل جسده المعرفي. لقد أصبح بديهيا اليوم، الاعتراف بأن جل النقاد ولجوا بوّابة الأدب وهم يفكرون في الفلسفة. فالنزعة الإنسانية، التي كانت بعد كل شيء نواة تأويلاتهم، لا يمكن إلا أن نعثر لها على امتداد داخل طيات المذهب الفلسفي القديم منه والحديث.
بالتالي، إن التفكير في تأملات فيلسوف وأديب مثل باشلار ، لا يمكن أن تتأتى بالسهولة التي نعتقد، نظرا لخاصيات العمق والتعدد الدلالي، ثم تداخل مجموعة سياقات معرفية في قالب فكري واحد، صاغه باشلار وفق نموذج شعري جميل. ولعل أهم مؤشر، نلتقطه عند أول اتصال به رؤيته الحالمة للعالم وتآليفاته الكوسمولوجية، تأسست معها ممارسة جدية للذات الإنسانية وتبلور مساحة أخرى بينها والآخرية بكل تمظهراتها. فالأشياء التي لا نعتد بها في حياتنا اليومية، تضطلع هنا بتمظهرات زاخرة شعرا وجمالا، وتتجرد المادة عن مستواها الحسي المبتذل كي تكتسي إيحاءات لا متناهية.
هذه الروح الحداثية المميزة ل باشلار ، جعلت منه رائدا فكريا نموذجيا، جمع بين حقلين إنسانيين يتصفان طبيعيا بالاختلاف بل والتناقض، عبر إيجاد الحلقة التي ظلت مفقودة، والمعادلة الصعبة، بين التحقق المطلق للعقلانية الإنسانية (الرياضيات) ثم الشعر باعتباره أقصى لحظات الانسياب والانفلات.
إن التغيرات المعرفية الصميمية، والهزات المنهجية التي عرفتها ثوابت العلم الكلاسيكي، ألزمت الذات العالمة كي تتموضع بشكل آخر حيال الأشياء. لأن الحقائق لم تعد نفسها والمسلمات أفرزت وضعا مغايرا. إضافة، إلى أن جرائم حربين عالميتين أودت بآلاف الأرواح البشرية ونتجت عنها خسائر مادية، لا يمكنها إلا أن تدفع مفكرا من وزن وطينة باشلار كي يتحسس حدوسه وجوارحه، ممتحنا خلاصا لهاته البشرية التي أنهكها لهاثها وراء زيف اليومي، فأفقدها ذلك عقلها، لأن الإحساس بقيم الخير والجمال تلاشى واندثر، فكان لابد من تكريس قانون بديل عن الشرائع والمنظومات المتعارف عليها. وليس أفضل بهذا الخصوص من حكايات فيلسوف إنساني حتى النخاع.
كان عليّ منذ البداية الإيمان، بأن النتائج والخلاصات التي سأصل إليها مع الدراسة الحالية، أو ما تم مع "الباشلاريات" السابقة، ستبقى في نهاية المطاف مصحوبة بهاجس الخوف اتجاه كل أشكال البتر والتضليل، التي يمكن أن تتعرض لها نصوص واستشهادات قوية خرجت عن سياقها؟. فربما، موقعي  المعرفي و "السوسيوـ اقتصادي"، لا يسمحان بحديث منساب عن متن نقدي  بحجم الذي خلفه باشلار. إن ذلك، ليس تضخيما لموضوع الاشتغال ولا تبخيسا لقدارتي القرائية، لكنه واقع فعلي يجب تبيانه على الرغم من كل شيء.
إن معلوماتي البسيطة عن المنظورات الباشلارية، لم تكن تتجاوز ـ وبشكل مدرسي تعليمي ـ بعض الأوليات التي أمدتنا بها دروس الفلسفة بالثانوية، وكذا شذرات من هنا وهناك تهم أساسا فلسفته العلمية. أما، أن يكون للرجل متنا أدبيا ونقديا بهذا الحجم، وكونه مدخلا أصيلا لأجل استيعاب مسارات النقد الأدبي المعاصر، فذلك ما كنت أجهله. لقد سعيت إلى هذا العمل، وأنا متسلح مطلقا بعشقي بكل التأسيسات التي تنبني على فكر تساؤلي، يستهدف دائما في تحققاته إلى شيء ثان غير المكتمل والجاهز. بالتالي، المصاحبة الدائمة لكل نداءات حس المغامرة والمجازفة الذي يتربص بحواسنا، نكاية بمختلف توتاليتارية التنميط الفكري والاجتماعي.
حين نطلع على الأعمال التي أنجزها باشلار ، يتبيّن بالملموس أنه فهم لا تكتمل أنسجته إلا بحصر طبيعة العلاقة التي تتموضع على  ضوئها معطيات رئيسية أهمها :
1 ـ نظرية الخيال، والتي قلب بها جذريا التقليد الفكري الغربي، وحقق  بذلك نقلة أشبه بثورة كوبرنيكية. فدراسة الخيال في ذاته، دون السعي للبحث عن علل خارجية، ألّف لبنة محورية لكل الأفق الباشلاري.
2 ـ التأكيد على البعد الأولاني والحداثي للصورة الأدبية، كمعطى مباشر وفوري لهذا المنحى الجديد الذي اختاره الخيال الباشلاري.
3 ـ نظرية الشعر والشاعرية.
4 ـ منظومة الميكانيزمات الجمالية، التي منحت باشلار قدرة فكرية حولت العناصر الكوسمولوجية الأربعة إلى روائز حالمة.
5 ـ لحظية الزمان، ذلك أنه بعد تأمل طويل في النتائج الجديدة التي أتى بها العلم، وتغيرات دلالات الزمان في الفيزياء المعاصرة، إضافة إلى صداقة حميمية مع غاستون روبنل والذي شكل كتابه "Siloë" بالنسبة ل باشلار ، ما حدث  لدى مالبرانش حين مصادفته لعمل  ديكارت : Traité de  l'homme)). قلت، بأنهما مصدران كي يكتشف باشلار في العالم انفصالية موضوعية وانحصار حقيقة الزمان في اللحظة. هذا البعد  الميتافيزيقي والأنطولوجي، يحرض على تفاعل مستمر للذات الإنسانية مع الأشياء في أفق تذويت العالم، يؤدي إلى زمانية متوترة.
إذا، أقام باشلار مدرسة أدبية، أغنت كل التجارب الشعرية التي جاءت بعده أو ما سمي اختصارا بالنقد الأدبي الجديد الذي توزعته البنيوية والموضوعاتية، ثم ساد مخلية أهم الأسماء النقدية في القرن العشرين، نذكر منهم : بولي، بارت، روسي، جون بيير ريشار، غولدمان، شارل مورون، ستاروبنسكي، غريماس، جينيت... . بعد أن تغيّا فقط متعة القراءة والتلذذ الحُلمي بالنصوص الأدبية، وجد نفسه دون أدنى تدبير قبلي أستاذا كبيرا للأدب، مثلما كان فيلسوفا وعالما مجددا لبنية التفكير العلمي. تداخل لديه عشق جامح للرياضيات والشعر، لسبب بسيط يكمن في أنه لا يمكننا فهم "ذرة الفيزياء المعاصرة بغير استحضار تاريخ مجموع صورها"، بالتالي ستمنحنا حتما نصوص الشعراء الآفاق المحتملة كي نلج هندسات أعقد النظريات العلمية، حيث يصعب بأية وجهة من الوجهات القيام بفصل معرفي بين بودلير وإينشتاين، لأن صور الأول تخلق لنا مناخا لاستيعاب معادلات الثاني.
صاحَب باشلار القصيدة الأصلية والفتية، فأمسك لها بمطلقها الذاتي،  كما أبرز للعلم فلسفته الانفتاحية القادرة على التقاط روحه ومنهجه، مما قاده إلى رفض الإبستمولوجية الديكارتية، وقطعه جذريا مع البناء الكلاسيكي، اختلاف بسيكلوجي وميتودولوجي : ((تتأسس عقلانيته تدريجيا ودون فكرة متصورة سلفا، انطلاقا من التجربة العلمية أي ممارسة  العلم وكذا التاريخ النقدي، بينما تظهر عقلانيتهم منذ البداية مثل هندسة للمفاهيم منغلقة على ذاتها ومنظومة أولية تفحص انطلاقا  منها المعطيات والوقائع))(1). هذا التدبير الدينامي، كما أرادت الصياغة المبتكرة، التأكيد عليه، جاء متماثلا مع الوازع الشاعري الذي لازم روح البحث الباشلاري سواء في العلم أو الشعر، وكذا الفلسفة اللحظية والفورية باعتبارها فكرة نظم بها باشلار ، ما يمكن تسميته ب (("قضية العلم"، بالمعنى الذي تبقى فيه المعرفة تماما غير مكتملة ومفتوحة، تنتج لحظات مميزة. يتصل العقل ب "الخيال المبدع" وتتعاقب المادية العقلانية مع "العقلانية المطبّقة". هذا،  ينمّي، ما قد نسميه ب "حقيقة الخطأ" أو أيضا مع باشلار "القاعدة البسيكولوجية للثنائية القطبية للأخطاء"))(2).
تملصت إبستمولوجية باشلار الحالمة، من أنساق الفيلسوف التقليدي، لا تنطلق من أحكام جاهزة بل تلتصق  بالمباشر، حيث ارتكاز أجهزتها المفهومية على فلسفة "مفتوحة" : ((وعي فكر يتأسس، وهو يشتغل في المجهول. إنها متيقظة لجديد مختلف شعب النشاط العلمي، أو أفضل كذلك كما كتب باشلار : بخصوص كل مفهوم تُطرح المهام الدقيقة لفلسفة العلوم ))(3). وفيما يتعلق بشعرية الأدب، فقد طور منهجا ظاهراتيا، يحافظ للصورة الأدبية عن ماهيتها الذاتية وفتوتها الآنية، فأعطانا طراز ناقد أدبي حالم. عاشق، مفتون بجمال الإبداع.
استعرض باشلار أسلوب قراءة محايثة، تقف على اللحظات الواعية لإنتاج النص، وقد تحول إلى دال لا نهائي يكتسي مع كل قراءة حقيقة مختلفة. ففي إطار تأكيده على :
ـ ضرورة تبني فلسفة بديلة للخيال، تدرسه في ذاته، دون الإحالة على منظومة رمزية خارجية.
ـ الدفاع عن أولانية الصورة وقيمتها الحداثية.
ـ تركيزه على المكونات الباطنية للنص، وهو يحلل العناصر الكوسمولوجية الأربعة تبعا لتغيرات الصورة الدينامية.
قلت، بذلك انتقل الناقد الأدبي مع باشلار ، من مجرد قارئ عادي يتوخى حقيقة موضوعية إلى مبدع ثان، وعلى منواله سيتعامل أغلب النقاد مع النص باعتباره أولا وأخيرا حقيقة حُلمية. لكن، مع ذلك، تبقى الصعوبة المنهجية قائمة، إذا حاولت جازما موضعة باشلار ، ضمن خانة نقدية وأدبية معينة، لأنه  ببساطة  كثيرا ما يتداخل لديه المفهوم بالحلم، وهو يحاول أن يبرز عبر شاعريته الطابع النوعي لكل صورة. أمر، سيتضح جليا حين تبنيه الأسلوب الظاهراتي، بهدف التماهي مع وعي المبدع.
أصبح الاهتمام بالأدب والقصيدة، مختلفا عن إطارهما الكلاسيكي، فلا يمكن آنيا فهم  المتخيل إلا بمتخيل مثله. ينصهر الفكران الشاعري والمفهومي، فتحققت معهما النواة التأويلية للناقد الجديد.
لقد استندت الظاهراتية على مركز للوعي ونقطة شعور، متشبعة بكوجيطو باشلاري يشبه كوجيطو روسو، ويقطع مع الكوجيطو الديكارتي. التموضع عند المنظور الأنطولوجي للذات المتخيلة يفرض بالضرورة إعادة بناء منطلق الصورة التي احتمت  بحقيقتها الخاصة.
الحميمية، الألفة والعشق...، وحدها منظورات، تتسامى بالناقد الأدبي إلى العمق الإبداعي للمبدع وتلمُّس الوعي المتخيل الذي تحدث عنه باشلار.
فالصورة الشعرية وعي "ساذج" و"لغة فتية"، بالتالي تجيز لنا الظاهراتية الباشلارية، احتمال التقاط حياة الصورة لحظة ولادتها، انسجاما مع معطياتها الذاتية وكذا تأملها انطلاقا من نشأتها، ولأنها كذلك، فهي بغير حاجة إلى معرفة يقينية.
انتشاء دائم، بقراءة نقدية حالمة، تتجاوز مستويات التنظير والتقعيد، كي تعانق مجددا لحظة المبدع الأولانية. تنهار، مختلف المسافات بين القارئ/الناقد والنص/ الكتابة، مع الارتقاء إلى مصدر الوعي. يطوي كل إبداع، وعيا مكثفا وبؤرة جوهرية وكذا قصدية أساسية مما يفرض إعادة تأمل حمولته في أبعادها  الحالمة، نظرا لتعدد المعاني حسب الرؤى والمقاربات النقدية. فالأدب، أكبر من أي ضبط منهجي ونظري.
إن مفاهيم مثل العفوية، الحداثة، السذاجة، الحرية، التجربة، إعادة التخيل، المعايشة الجديدة...، صاغت قاموسا باشلاريا استثنائيا كي يعبر عن مبادئ الإبداع الفني والأدبي، ولاسيما الشعر. تراهن ظاهراتيته على الوعي والتأمل الذاتيين في مقاربة العالم من أجل الحفاظ على أصالة صورة تنتج باستمرار ذاتها وتستبقي إلى اللانهائي شبابها. تحاور في كل آن المتلقي، الذي ارتقى إلى مكان الشاعر نفسه. تخلق سبل الانتقال من موقع ذات سلبية نحو انحلال مطلق بين ثنايا العملية الإبداعية.
انتقد باشلار ، التحليل النفسي لأنه اختزل الصورة  إلى رمزية وتأويلات علية، من تم فهي مجرد راسب لإدراكات قديمة تنبعث بطريقة ما في الذاكرة. ليس المطلوب فهم الصورة، لكن اقتفاء آثار ولادتها، بحيث نتبينها في كنهها بغير مسخها إلى لغة بديلة. تتمرد الصورة، على منطق الزمان العادي، كما أنها لا تمتلك ماضيا أنطولوجيا أو معرفيا مكتملا. فالأهم، إرهاف الحسّ لرنينها ودويها باعتبارها بدءا مطلقا ومماهاة فضائها بحدوس الحالة الوجدانية التي وصفها باشلار بتقمص حالة المبدع.
يتبنى الظاهراتي، وعيا ملهما، ديناميا، يحاكي به خيال الشاعر كي يصير بوسعه امتلاك ناصية صورة، تثير لديه شعورا بأنه كان الأولى به خلقها. لذا، يحقق الظاهراتي والشاعر، المهمة عينها، بحيث لا يختلفان إلا في درجات الإبداعية التي يستلهمها كل واحد منهما، وليس هناك أكثر من وصف السذاجة بوسعه تبرير هذا الانقياد المشاعري والسخاء الوجداني اتجاه الصورة الشعرية، قصد استثمار ما تزخر به من جدة وحداثه. وقد وقفت بتفصيل في مبحث "الظاهراتية الباشلارية أو حيوات الصورة الشعرية"، عند أهم ما جاء بهذا الصدد، من خلال توضيح لأهم بناءات ظاهرية باشلار مفهوما وسندا. كما، أشرت إلى الخطاطة الجوهرية لكتابيه التطبيقيين والتجريبيين لظاهراتيته، أقصد بذلك : شاعرية المكان (1957) وشاعرية حلم  اليقظة (1960).
بناء على مثول الصورة أمام الوعي، ديمومة أولانيتها، صيرورة  الوعي وكيفيات اشتغاله، ملاقاة الصورة بنوع من الصفاء، تحيين عملية الوعي، اقتسام التخّيل، تجاوز منطق التفضيلات، التماهي مع الصورة ككائن لغوي مغاير، العودة اللانهائية إلى الذات...، هكذا تستوطن الصورة الشعرية جوانيتنا، وتغرينا بأن نكون شعراء حين قراءتنا للشعر... .
صورة شعرية وخيال كوني، بدا معهما الوجود" فاكهة" هائلة، موضوع  اشتهاء يخلق نزوات واعية ولا واعية، ثم تجاوز التحديد الشوبنهاوري للعالم باعتباره تمثلا وتصورا إلى تحقق يخلق ألفة مع الذات. لقد قطعت المكونات الكوسمولوجية الباشلارية مع الحتمية المادية الفيزيائية كي تموضع أخرى حُلمية، فأقر متنه الجمالي التعامل جذريا مع حيز العناصر الكونية.
بهدف إيجاد معايير تحكم الخيال، وضع باشلار استراتيجية للعالم قياسا للعناصر الكونية الأربعة : الماء، النار، الأرض والهواء. كمحددات لأنماط الخيال، وربط الأدباء والشعراء بواحد من هذه العناصر. لذا، استقرأ باشلار بنيتها عبر تجليات المتون الإبداعية، مستعينا أيضا بحقول معرفية متعددة كالخيمياء، الأساطير والرواية...، غير أن الإدراك الجيد لنصوص الجمالية الباشلارية، قد يحصرها في الميادين التالية، من خلال السياق المنهجي الذي قامت عليه العناصر الأربعة :
1 ـ النار ß العلم، الأسطورة، الخيمياء.
2 ـ الماء ß الأسطورة، الشعر، الأدب.
3 ـ الأرض ß الخيمياء، الأدب.
4 ـ الهواء ß الشعر، الأدب.
بمعنى ثان، إن باشلار وهو يهدف إلى مقاربة كل مكون كوسمولوجي وملامسة انبثاقاته الجمالية والشاعرية، سيؤرجح مجالا مقابلا آخر سواء لاستقاء النصوص التدليلية بغية صياغة وجهة نظره، أو لأن هذا العنصر وذاك يجد مجاله التعبيري مع عامل دون غيره. احتمالات الأرض مثلا، لا يمكنها العثور على قلب وقالب، إلا في قوانين الخيمياء التي تنهض وتقوم على مبدأ تحول المعادن. هذه اللعبة، التي ستشكل أساس وكنه شاعرية الأحلام الأرضية. أما الهواء، فنتماهى معه حتما بنصوص شعرية قوية لمبدعين كبار، تجسد بامتياز هذا الحلم في العلو والتجاوز. في حين تتأرجح النار بين العلم ـ مادامت قادت إلى الكهرباء ـ الأسطورة والخيمياء، بينما، الماء في التصاقه أكثر بحدّي الحياة والموت يظل تيمة شعرية جد خلاقة... .
تتجلى الصورة، نتيجة ارتباط الخيال الذاتي بعنصر من العناصر، بحيث تعمل هاته الأخيرة على تجلية العلة المادية للصورة، فجوهر المادة يبرر شكلها الجمالي.
نموذج الخيال الكوني الباشلاري، وظيفة اللاواقع، وخلق لشاعرية مادة، استنبطها من وثائق الشعراء والأدباء ثم المضامين الحُلمية التي وفرتها أبحاثه الإبستمولوجية وكذا الصور المحبوبة بعشق، فجاءت نظريته العناصر الأربعة، ومعها دواعي إقامة فيزياء للخيال.
تلكم إذن، توطئة سريعة لأهم لبنات الجمالية الباشلارية التي توخيت فهم مبرراتها على امتداد صفحات هذا العمل.
هوامـــش :
1 – Jean Claude Margolin : Bachelard, écrivains de toujours, seuil 1977, Page 66/67.
2 – Collectif : Gaston Bachelard, l'homme du Poème et du Théorème, colloque du centenaire . Dijon, EUD 1984, Page 177.
3 – Jean Claude Margolin : Bachelard, op.cit, page 77.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق