الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

ثلاث قصص من فرانز كافكا


نقلها للعربية‏:‏ د‏.‏ يسري خميس في آخر ترجماته قبل رحيله بعدة أيام


1ـ بوزايدون‏(‏ إله البحر‏)

‏ يجلس إله البحر بوزايدون أمام مكتبه ويقوم بعمليات حسابية‏,‏ تقارير عديدة من مختلف إدارات المياه‏.‏ كان يمكنه أن يستعين بمساعدين كما يشاء فعنده الكثير من المساعدين‏.‏
ولأنه يمارس وظيفته بجدية زائدة فهو يقوم دائما بدراسة ومراجعة جميع التقارير والحسابات بنفسه ونادرا مايحتاج لمساعديه, لا يمكن القول إن عمله يبهجه فهو ببساطة يقوم به لأنه مكلف به فلقد حاول أكثر من مرة البحث عن عمل آخر أكثر بهجة كما يقول بل لقد قدم بالفعل طلبات عدة للبحث عن عمل جديد, لكنه رفض وظائف عديدة أكثر من مرة, فقد كانت لاتروق له مثل وظيفته الحالية لم يكن سهلا أن تجد له وظيفة أخري فقد كان من المستحيل أن تحدد له بحرا بعينه بصرف النظر عن أن الحسابات هناك ليست أقل, فلا يمكن لبوزايدون العظيم إلا أن يشغل وظيفة قيادية ولو أنك عرضت عليه عملا بعيدا عن المياه فمجرد الاقتراح يصيبه بالغثيان يضطرب تنفسه الإلهي ويهتز قفصه الصدري حقيقة علينا ألا نأخذ شكواه علي محمل الجد, فعندما يتذمر عظيم علينا أن نتراجع في مثل هذه الظروف التي لا حل لها لمجرد أن يفكر أحد في أن بوزايدون يمكن أن يترك موقعه, منذ البدء كان محددا له أن يكون إله البحر ويجب أن يظل في مكانه. أكثر مايثير غيظه ـ وهذا ضمن الأسباب الأساسية لعدم رضاه عن وظيفته ـ عندما يسمع مايقال عنه من أنه لا يكف عن التجوال بعربته وسط الأمواج ماسكا شوكته الثلاثية حتي في أثناء جولته تلك يجلس في قاع بحار العالم ويقوم بلا توقف بعملياته الحسابية باستثناء تلك الرحلة التي يقوم بها في فترات متقطعة لزيارة جوبيتر بهدف كسر الملل, رحلة يعود منها غالبا وهو في حالة حنق شديد فهو لا يكاد يري البحار والمحيطات إلا بشكل خاطف وهو في طريق صعوده المتعجل للأوليمب, في حقيقة الأمر لم يقم بوزايدون باجتيازها مرة واحدة إنه يقول دائما إنه ينتظر حتي تأتي نهاية العالم سوف تكون هناك لحظة هدوء بكل تأكيد يراجع فيها آخر فاتورة بالكاد قبل النهاية ويتمكن فيها من أن يقوم بجولة سريعة في البحار والمحيطات.

***

2 ـ راكب الجردل

استهلكت كل ما لدي من فحم, فرغ الجردل حتي آخره, الجاروف بلا معني, الفرن يتنفس برودة, الغرفة يتراكم علي جدرانها الصقيع, أمام النافذة تقف الأشجار متصلبة السماء درع فضي تصد به كل من يرغب في مساعدة منها, يجب أن أحصل علي فحم لا يصح أن أتجمد هنا من البرد خلفي الفرن الذي لا يرحم, أمامي السماء التي لا ترحم هي أيضا, لذلك يجب علي أن أركب الجردل بسرعة وأذهب لوسط المدينة أطلب العون من بائع الفحم, انه محصن ضد توسلاتي المتكررة لكن يجب أن أقنعه هذه المرة بأنني لا أملك قالب فحم واحد وأنه يعني بالنسبة لي الشمس في السماء.

يجب أن أكون كالمتسول الذي يقف علي عتبة الباب ويطلب شيئا حتي لا يموت من الجوع فتقرر طباخة السادة إعطاءه بقايا القهوة يسد بها رمقه, هكذا يجب علي بائع الفحم أمام إلحاحي وتمسكني لا تشارك في موتي ـ أن يملأ الجاروف بالفحم ويلقيه في الجردل يجب أن أحدد كيف سأذهب الي هناك سأمتطي الجردل وأمسك بحافة الجردل المستوية أهبط علي السلالم بخفة ورشاقة بينما يستقر الجردل تحتي بعظمة فخيما فاخرا كإبل تبرك علي الأرض تقف تهز جسمها تحت عصا الراعي خببت بإيقاع منتظم خلال الممر المتجمد, غالبا ماكنت أصعد حتي الدور الأول للمنزل لم أهبط قط الي مستوي باب المنزل وصعدت بصعوبة حتي وصلت الي مستوي بدروم بائع الفحم حيث كان يقبع هناك في الأسفل منكبا علي دفاتر حساباته وقد ترك الباب مفتوحا من أجل درجة الحرارة المرتفعة بشكل زائد في المكان.

ناديت بصوت مجروح من شدة البرودة يابائع الفحم! بينما تلفني سحابة من بخار اعطني قليلا من الفحم يابائع الفحم أرجوك إن جردلي فارغ لدرجة أنني ركبته وجئت به إليك كن طيبا سأدفع لك بمجرد أن أتمكن من ذلك.

وضع البائع يده علي أذنه ووجه السؤال هل سمعت جيدا؟ من خلف كتفه لزوجته التي تجلس قريبة من المدفأة تشتغل تريكو هل سمعت جيدا؟ زبون؟.
أنا لم أسمع شيئا قط ردت الزوجة باطمئنان وثقة وهي تدير ظهرها ناحية المدفأة وتواصل شغل التريكو رفعت صوتي صائحا نعم أنا زبون قديم منضبط تماما لكن حاليا ليس معي نقود نادي البائع زوجته قائلا إنه زبون يا امرأة لا يمكنني ان أخطيء لهذه الدرجة لابد أنه زبون قديم, قديم جدا الذي يتكلم معي بهذا الود.

ماذا بك يارجل؟ ردت الزوجة وضغطت التريكو للحظات علي صدرها وواصلت لا أحد هناك الممر خال كل زبائنا عندهم مايكفي من الفحم يمكننا ان نغلق المحل عدة أيام نستريح فيها لكنني أنادي هنا وأنا جالس فوق الجردل تملأ عيني الدموع من قسوة البرودة فقط, انظروا لأعلي رجاء سوف ترونني فورا, أنا لا أطلب غير جاروف واحد من الفحم ولو أنكم أعطيتموني جاروفين سوف أكون في غاية السعادة, لقد سمعت هنا وأنا فوق الجردل أن كل الزبائن عندهم مايكفيهم.

أنا قادم قال البائع وهو يستعد للصعود علي سلم البدروم لكن المرأة قطعت عليه الطريق وأمسكت بذراعه قائلة: ستظل في مكانك لن تنزل لا تكن عنيدا سأذهب أنا تذكر سعالك الحاد ليلة أمس لكنك من أجل المكسب حتي إن كان مكسبا وهميا تنسي الزوجة والأولاد وتضحي بصحتك, أنا ذاهبة فرد الزوج إذن قولي للزبون ان كل الأنواع عندنا في المخزن وسوف أقول لك السعر من هنا بصوت عال حسنا قالت الزوجة واتجهت الي الممر بالطبع سوف تراني مباشرة ناديت تحياتي أيتها البائعة جاروف فحم واحد فقط لا غير هنا في هذا الجردل وسأنصرف فورا, جاروف فحم من أردا الأنواع سأدفع الثمن كاملا بالطبع لكن ليس في الحال, ليس في الحال, أي جرس مميز لهذه الكلمات ليس في الحال وأي معني تثيره وهي تختلط بصوت أجراس الكنيسة التي عن قرب!
ماذا يريد الرجل؟ صاح البائع من المحل لا شئ أجابت المرأة لا شئ هناك إنني لا أري شيئا ولا أسمع شيئا أسمع فقط صوت دقات الساعة السادسة, سأغلق المحل البرودة فظيعة قاسية غدا سيكون يوم عمل طويل.

إنها لا تري ولا تسمع ومع ذلك تفك المريلة من علي خصرها وتهشني بها بعيدا, وقد كان لها ماأرادت بكل أسف حقيقة لقد تحلي الجردل بكل صفات الحيوان الطيب لكنه كان ضعيف التحمل والمقاومة فهو هش جدا, مريلة امرأة دفعت قدميه بسهولة من علي الأرض. أيتها الشريرة! صحت في وجهها وهي تبتعد في طريقها للمحل, بمزيج من الاحتقار والرضا, ملوحا بيدي في الجو, أيتها الشريرة! طلبت منك جاروف فحم من أردأ نوع وأنت لم تعطني إياه, وهكذا مشيت وسط جبال الجليد واختفيت بلا عودة.

***

3 ـ عودة

ها أنا قد عدت قطعت الممر ونظرت حولي إنه فناء أبي القديم, مازالت النقرة وسط ساحة الفناء, آلة زراعية قديمة غير مستعملة, أجزاؤها مكومة فوق بعضها تعوق الطريق للسلالم, قط يموء في ساحة الفناء, فوطة ممزقة ملفوفة حول عصا كلعبة تهزها الرياح, هاأنا قد وصلت. من ياتري سوف يستقبلني ؟ من تراه ينتظر خلف باب المطبخ؟ الدخان ينبعث من المدفأة قهوة العشاء تعد هل تشعر بغربة؟ هل تشعر أنك في بيتك؟ لا أدري, إنني حقيقة غير متأكد هذا بالفعل هو منزل أبي, ينتصب ببرودة قطعة جوار قطعة كما لو أن كل فرد مشغول بمايعنيه من مشاكل, تلك التي نسيت أغلبها ولم أعرف قط بعضا منها, ماذا يمكنني أنا أن أقدم لهم؟ ماذا أكون بالنسبة لهم؟ أنا ابن الفلاح العجوز, لم تواتني الجرأة أن أخبط علي باب المطبخ, وقفت أتنصت عن بعد شريطة ألا يفاجئني أحد ويري أنني أتنصت, ولأنني كنت أتنصت من بعيد, فلم أتمكن حقيقة من سماع شئ فيما عدا دقات الساعة الآتية من الحديقة بصعوبة أو ربما اعتقدت أنني أسمعها, مايحدث في المطبخ هو سر يحتفظ به الجالسون هناك ويخبئونه عني وكلما طالت مدة ترددي أمام الباب تزايد شعوري بالغربة, ماذا سيحدث لو أن أحدهم فتح الباب الآن فجأة ووجه إلي الأسئلة؟ ألا أبدو ساعتها أنا الآخر كأنني أخبئ سرا؟

ـــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق