الجمعة، 4 نوفمبر 2016

فــنــان الـجـــوع للكاتب الألماني: فرانـــــس كـافـكـا

ترجمة: صلاح حاتم 


في العقود الأخيرة تضاءل الاهتمام بفناني الجوع كثيراً. فبينما كان، فيما مضى، مجدياً جداً أن تقام عروض من هذا القبيل بإخراج شخصي، فإنَّه في هذه الأيام من المستحيلات. لقد كانت أزماناً أخرى. وقتئذٍ شُغلتِ المدينة كلها بفنان الجوع؛ ومن يوم جوع إلى آخر زادت المشاركة؛ كل واحد أراد أن يرى فنان الجوع مرة واحدة على الأقلَّ كل يوم؛ وفي الأيام اللاحقة كان هناك مشتركون جلسوا أياماً أمام القفص المشبّك الصغير؛ وفي الليل أيضاً كانت تجري تفقّدات لزيادة التأثير على ضوء المشاعل؛ وفي أيام جميلةً كان القفص يُحمل إلى العراء، على أنهم كانوا أطفالاً بصورة خاصة أولئك الذين كان يُعرض لهم فنان الجوع، وعلى حين لم يكن هو في نظر البالغين في أحيان كثيرة إلا تسليةً شاركوا فيها بدافع التقليد فقد تفرّج الأطفال مدهوشين، فاغري الأفواه، ممسكين بأيدي بعضهم بعضاً على سبيل الأمان، وقد قعد على قش منثور، شاحب اللون، في التريكو الأسود، بأضلاع شديدة البروز، رافضاً حتى المقعد، وقد أجاب على أسئلة، تارةً مومئاً برأسه في أدب ومبتسماً في إجهاد، كما أنه كان يمدُّ ذراعه من خلال القضبان أيضاً لكي يترك الآخرين يجسّون نحوله، على أنه كان يخلو تارة أخرى إلى نفسه ويغرق في ذهوله غير مكترث لأحد، حتى ولا لدقّة الساعة المهمة جداً له، التي كانت قطعة الأثاث الوحيدة في القفص، بل اكتفى بالنظر أمامه بعينين شبه مغلقتين، وبين الحين والآخر، كان يتجرّع جرعة صغيرة لكي يبلّل شفتيه.

وفضلاً عن النظّارة المتبدلين كان هنالك أيضاً حراس دائمون تخيّرهم الجمهور، ومن عجب أنهم كانوا عادة جزّارين، ثلاثة في آن واحد، كانت مهمتهم أن يراقبوا فنان الجوع ليلاً ونهاراً لكي لا يتناول طعاماً بطريقة ما سريّة. على أنَّ هذا لم يكن إلا أمراً شكلياً وُضع لتهدئة الجماهير، إذ إنَّ المطّلعين عرفوا حق المعرفة أن فنان الجوع ما كان سيأكل في أثناء فترة الجوع أي شيء على الإطلاق ولا بأية حال، حتى ولا بالإكراه؛ إنَّ شرف فنه يحرّم عليه هذا. والحق أنه ما كلُّ حارس استطاع أن يدرك هذا، كان هنالك أحياناً مجموعات حراسة ليليّة تهاونت جداً في القيام بالحراسة، وتعمدّت الجلوس في ركن بعيد وانهمكت في لعب الورق، بخالص النيّة ألا يضنوا على فنان الجوع بطعام خفيف، ربما استطاع أن يأتي به بحسب رأيهم من أية مخزونات سرية. وما من شيء كان أكثر إزعاجاً على فنان الجوع من مثل هؤلاء الحراس؛ فقد جعلوه مكتئباً؛ ونكّدوا عليه الصوم على نحوٍ مخيف؛ وكان يتغلّب في بعض الأحيان على ضعفه، فكان يغني في أثناء فترة الحراسة ما دام قادراً على هذا لكي يظهر للناس مبلغ ظلمهم في ارتيابهم به.على أنَّ هذا كان قليل النفع؛ فلم يعجبوا في مثل هذه الأحوال إلا بمهارته في أن يأكل حتى في أثناء الغناء. وكان أحبَّهم إلى نفسه الحراس الذين كانوا يجلسون لصق القضبان، ولم يكتفوا بالإضاءة الليلية الخافتة للقاعة، بل أضاؤوها بأنوار مصابيح الجيب الكهربائية التي وضعها المتعهد الفني تحت تصرفهم. ولم يزعجه الضوء الساطع الباهر قط، فما كان في مقدوره أن ينام على الإطلاق، إلاَّ أنه كان في مقدوره أن يعيش دائماً في شبه غيبوبة، عند كل إضاءة وفي كل ساعة وفي القاعة المكتظة الصاخبة أيضاً، وكان على أتمّ استعداد لأن يساهرهم الليل كلّه؛ وكان مستعداً لأن يمازحهم ويحكي لهم حكايات عن تجواله ويستمع إلى حكاياتهم، لا لشيء إلاَّ لكي يسهرهم ويتمكن من أن يظهر لهم المرة تلو المرة أنه لم يكن عنده شروى نقير في القفص لكي يأكله، وأنه يصوم على نحوٍ قد لا يقدر عليه أحد منهم، على أنه كان أسعد حالاً حين كان النهار يطلع وكان يؤتى لهم على حسابه بفطور دسمٍ جداً، وكانوا يرتمون عليه بشهية رجال أصحاء بعد ليلة ساهرةً على نحو شاق، لا بل إنه كان هنالك ناسٌ أرادوا أن يجدوا في هذا الفطور تأثيراً على الحراس لا يليق، على أن هذا جاوز الحدَّ كثيراً، وكان إذا سألهم المرء عما إذا أرادوا أن يقوموا بالحراسة الليلية حبّاً بالشيء ومن غير فطور، اختفوا عن الأنظار، إلا أنهم، مع هذا، كانوا يصرّون على اتهاماتهم وشكوكهم. أما هذا فقد كان جزءاً من الاتهامات التي لا يمكن فصلها أبداً عن الجوع والصوم.وما من أحدٍ كان قادراً على أن يقضي الأيام والليالي كلَّها حارساً بدون انقطاع لدى فنان الجوع؛ وما من أحد إذاً، كان قادراً على أن يعرف من نظرته الخاصة هل كانت عملية الصوم تتم حقاً بصورة مستمرة وعلى نحو سليم. على أن فنان الجوع كان وحده قادراً على أن يعرف هذا، وهو وحده كان في آن واحد المتفرج الراضي كل الرضى عن صومه وجوعه، على أنه لم يكن، لأمر ما، راضياً قط؛ ولربما لم يكن الصوم السبب في نحوله الشديد بحث أن بعضهم اضطروا، وللأسف، لأن يتخلفوا عن حضور العروض، لأنهم لم يحتملوا منظره، بل إنَّ نحوله لم يكن سببه إلا استياءه من نفسه، إذ إنه هو وحده عرف، وما من مطلّع سواه عرف كم كان الصوم سهلاً. كان الصوم أسهل ما في الوجود. لم يسكت على ذلك أيضاً، لكن الناس لم يصدقوه، وعدّوه على أحسن تقدير متواضعاً، لكن في معظم الأحيان رأوا فيه متعطشاً للدعاية أو محتالاً هان عليه الصوم لأنه عرف كيف يستسهله، وإلى هذا كانت لديه الشجاعة أيضاً لأن يعترف بذلك شبه اعتراف. وكان عليه أن يتقبل هذا كلّه، كما أنه تعوّد هذا مع مرور السنين، أمّا في أعماقه فكان هذا الاستياء يعذّبه دائماً، وما من مرة، ولا بعد أيّة فترة صوم- وهذه الشهادة كان على المرء أن يشهدها له- كان قد غادر القفص طواعية. كان المتعهّد الفني قد حدّد للصوم مدة أقصاها أربعون يوماً، وفضلاً عن ذلك لم يسمح بالصوم قط، ولا في المدن الكبرى أيضاً، وذلك لسبب وجيه. ففي أربعين يوماً استطاع المرء بحكم الخبرة المكتسبة أن يثير اهتمام مدينة أكثر فأكثر بدعاية تزداد تدريجياً، على أن الجمهور أخفق بعدئذ، فقد تبين نقصٌ جوهري في الإقبال، وطبيعي أنه وجدت في هذا الخصوص فروقٌ طفيفة بين المدن والأرياف، إلا أنّه عُدَّ قاعدةً أن تكون المدة القصوى أربعين يوماً. في مثل هذه الأحوال إذاً وفي اليوم الأربعين كان القفص المكلّل بالزهور يفتح، وكان يملأ المدرج نظّارة متحمسون وتعزف فرقة موسيقية، وكان يدخل طبيبان، إلى القفص ليفحصا فنان الجوع الفحوصات الضرورية، وكانت النتائج تعلن في القاعة بواسطة مكبّر صوت، وأخيراً كانت تأتي سيدتان شابتان سعدتا بأنَّ الاقتراع وقع عليهما بالذات، وأرادتا أن تهبطا بفنان الجوع خارج القفص بضع درجات إلى حيث أعدّت على مائدة صغيرة وجبة طعام خاصة بالمرضى مختارة بعناية فائقة. في هذه اللحظة كان فنان الجوع يمانع ويقاوم دائماً. صحيح أنه ألقى بَعْدُ طوعاً بذراعيه العظيمتين في أيدي السيدتين المنحنيتين إليه واللتين مدّتها إليه استعداداً للمساعدة، إلا أنه لم يرغب في أن يقوم. فلماذا الإمساك الآن بالذات بعد أربعين يوماً؟ كان سيتحّمل ذلك طويلاً، إلى ما لا حدَّ له. فلماذا الإمساك الآن بالذات، حيث إنه كان في أحسن حال، وإن لم يكن بعد في أحسن حالات الصوم؟ لماذا أراد المرء أن يحرمه من الشهرة في أن يستمر في صومه وأن يكون لا أعظم صوّام وفنان جوع على مدى الأزمان كلها فحسب، وربما كان هو كذلك أيضاً، بل وأن يجاوز حدود طاقته أيضاً إلى ما هو غير معقول، إذ أنه أحسَّ بأن قدرته على الصوم لا حدود لها. فلماذا لم تصبر عليه تلك الجموع التي تظاهرت بأنها معجبة به إيما إعجاب، إلا قليلاً؛ فحين احتمل أن يظل مستمراً في صومه، فلماذا أبت هي أن تعبر على ذلك؟ كما أنه كان متعباً أيضاً، وقعد مرتاحاً في القش وكان عليه الآن أن يعتدل في جلسته وينتصب قائماً ويمضي إلى الطعام الذي كان مجرّد تصوّره يسبّب له الغثيان الذي احتبسه في مشقة مراعاة للسيدتين. ورفع نظره إلى أعين السيدتين اللتين كانتا لطيفتين في الظاهر غاية اللطف والقاسيتين في الواقع غاية القسوة، وهز رأسه الذي ناء تحت ثقله العنق النحيل. على أنه حدث بعدئذ ما كان يحدث دائماً. فقد جاء المتعهد الفني، وبما أن الموسيقا جعلت الكلام مستحيلاً- فقد رفع في صمت ذراعيه فوق فنان الجوع لكأنّه يدعو السماء لتشهد عمله على هذا القش مرة واحدة وتنظر إلى هذا الشهيد الذي يرثى له ولم يكن إلا فنان الجوع ولكن بمعنى آخر، ليس إلا، ثمَّ أمسك بفنان الجوع من خصره النحيل قاصداً أن يقيم الدليل بحذر مبالغ فيه على أنَّ له علاقة هنا بشيء شبه واهٍ واهن؛ وسلّمهُ، لا من غير أن يهزه بينه وبين نفسه بعض الشيء بحيث إنَّ فنان الجوع تمايل بشدّة يمنة ويسرة برجليه وأعلى جسمه - إلى السيدتين اللتين اصفرتا في أثناء ذلك صفرة الموت ثم تحمل فنان الجوع هذا كلَّه. كان الرأس على الصدر، بدا وكأنه تدحرج إلى هناك حيث استقرّ على نحو غامض؛ كان الجسد مهزولاً؛ والتصقت ساقاه ببعضهما بعضاً في الركبتين التصاقاً وثيقاً بدافع حفظ الذات، كان ثقل الجسم كلُّه، إنَّما الثقل الصغير جداً، على إحدى السيدتين التي مدت عنقها أوّلاً على قدر الإمكان مستنجدة، متسارعة الأنفاس- فما كانت قد تصوّرت هذه الوظيفة الشرفية هكذا- وذلك لكي تحمي وجهها على الأقل من أن يحتك بفنان الجوع، وبما أنها لم تفلح في ذلك، ولم تساعدها رفيقتها الأسعد حظاً، بل اكتفت بأن حملت أمامها، وهي ترتعش، يدفنان الجوع، هذه الحزمة العظيمة الصغيرة، فإنَّها أشهقت بالبكاء وسط قهقهات النظارة المبتهجين وكان لابدَّ من استبدالها بخادم كان قد جُهِّز من زمن، ثم جاء الطعام الذي أطعم المتعهد الفني فنان الجوع قليلاً منه في أثناء غفوة أشبه بغيبوبة وسط حديث مسل كان الغرض منه صرف انتباه الجمهور عن حالة فنان الجوع؛ ثمَّ شُرب كذلك نخبُ الجمهور الذي كان قد هُمِس به إلى المتعهّد الفني، كما يقال، من قبل فنان الجوع؛ وأثبتت الجوقة كل شيء بسلام مربعٍ كبير. وتفرق الناس، وما من أحد كان له الحق في أن يستاء مما شوهد، لا أحد، إلا فنان الجوع، هو وحده بصورة دائمة.

هكذا عاش سنوات كثيرة تخللتها فترات راحة قصيرة منتظمة، في بهاء ظاهري، محترماً من العالم، ولكن مع هذا كلِّه كان في كثير من الأحيان عكر المزاج، وزاد مزاجه تعكيراً أكثر وأكثر أنَّه ما من أحد فطن إلى أن يقيم له وزناً. بم كان على المرء أن يواسيه أيضاً؟ وماذا تبقى له ليتمنى؟ وكان إذا وجد شخصاً طيب القلب رثى له وأراد أن يشرح له أنه لمن المحتمل أن يكون الصوم سبب كآبته كان من الممكن أن يحدث، ولا سيما في أثناء فترة صوم متقدمة، أن كان فنان الجوع يجيب في فورة غضب ويشرع على غير توقع من الجميع في هزّ القضبان مثل حيوان. على أن المتعهد الفني كانت لديه لمثل هذه الحالات وسيلة للعقاب أحبَّ استعمالها كان يعتذر من فنان الجوع أمام الجمهور المحتشد ويعترف أنه ليس إلا الانفعالية التي سببها الصوم ولا يمكن فهمها على ناس شباع بهذه السهولة قد تسوّغ تصرّف فنان الجوع؛ وكان يبدأ الحديث بهذه المناسبة أيضاً عن إدعاء فنان الجوع الذي يجب إيضاحه أيضاً بأن كان في إمكانه أن يصوم فترة أطول بكثير مما صامه إلى الآن؛ وكان يثني على ما يتضمنه هذا الإدعاء أيضاً من طموحٍ عالٍ وإرادة طيبة ونكران للذات عظيم؛ على أنه كان يحاول أن ينقض بعد ذلك هذا الإدعاء بعرض كافٍ لصور بيعت في الوقت نفسه، إذ أن المرء رأى فنان الجوع على الصور في يوم صومه الأربعين، في السرير، شبه ميت من الوهن والضعف. وشقّ على فنان الجوع قلب الحقيقة هذا الذي كان يعرفه حق المعرفة، إلا أنه كان يوهنه ويحطّم أعصابه دائماً. أما ما كان نتيجة إنهاء صيامه السابق لأوانه فقد أظهره الناس هنا على أنه سبب! وكان محالاً مقاومة هذه الجهالة وعالم الجهالة هذا. كما أنه كان قد أصغى السمع إلى المتعهد الفني بحسن نيّة وتلهّف عند القضبان، إلاّ أنه كان يترك القضبان المشبكة عند ظهور الصور كلَّ مرة ويرتمي على ظهره في القش متأوهاً، وكان في إمكان الجمهور المهدّأ أن يقبل من جديد ويزوره.

وكان إذا ما عاد شهود مثل هذه المشاهد بذاكرتهم إلى هذا سنوات قلائل من بعد ذلك استبهمت عليهم أنفسهم مراراً. إذ أن ذلك التغير المذكور قد طرأ في أثناء ذلك؛ وعلى نحو مفاجئ تقريباً حدث هذا؛ وربما كان له أسبابه العميقة، ولكن من ذا الذي همه أن يبحث عنها. ومهما يكن فإنَّ فنان الجوع المدلّل رأى نفسه ذات يوم من غير أنيس ولا جليس وقد تخلّى عنه الجمهور المغرق في لهوه والذي آثر أن يتدفق على عروض أخرى. ومرة أخرى انطلق به المتعهد الفني عبر نصف أوربا ليرى إذا لم يكن الاهتمام القديم سيحصل هنا وهناك من جديد؛ كل شيء بلا طائل؛ وكما في اتفاق سري كان قد نشأ في كل مكان أشبه بالنفور من عروض الصوم. وطبيعي أن هذا ما كان في الإمكان أن يحدث في الواقع هكذا على حين غرّة، وتذكّر المرء الآن متأخراً بعض البشر الذين لم يؤبه لهم في حينهم في نشوة النجاح بشكل كافٍ ولم يضطهدوا الاضطهاد الكافي، أما الآن فقد فات الأوان للقيام بشيء تجاه ذلك. صحيح أنه كان مؤكداً أنه ذات مرة أيضاً سيأتي الوقت ثانية من أجل الصوم، أما في نظر الأحياء فلم يكن هذا بعزاء. ماذا كان على فنان الجوع أن يفعل الآن؟ إنَّ ذلك الذي كانت الآلاف قد غمرته بالتهاليل واستقبلته استقبالاً رائعاً لم يستطع أن يظهر في أكشاك العرض في الأسواق الموسمية الصغيرة، ولكي يختار مهنة أخرى، لم يتأخر العمر جداً بفنان الجوع فحسب، بل إنه كان قبل كل شيء مدمناً على الصوم على مدّ التعصب الشديد. وعلى هذا ودّع المتعهّد الفني، رفيق مهنة لا نظير له، وسمح لنفسه أن يُستخدم من قبل سيرك كبير؛ ولكي يراعي مشاعره لم ينظر إلى شروط العقد إطلاقاً.

إنَّ سيركاً كبيراً يتألف من بشر متممين ومساوين لبعضهم بعضاً المرة تلو المرة ومن حيوانات وآلات يمكنه أن يحتاج إلى كل واحد وفي كل وقت، وكذلك أيضاً إلى فنان جوع، بمطالب متواضعة نسبياً بطبيعة الحال، وفضلاً عن ذلك لم يُستخدم في هذه الحالة الخاصة فنان الجوع نفسه فحسب، بل اسمه القديم المشهور أيضاً، لا بل إن المرء لم يستطيع أن يقول في طبيعة هذا الفن غير المتناقض مع تقدم العمر أن فناناً استهلك ولم يعد فيه نفع ولم يعد في أوج مقدرته يريد أن يهرب إلى وظيفة هادئة في السيرك ، وعلى العكس ، فقد أكد فنان الجوع ، وقد كان هذا جديراً بالتصديق ، إنه يصوم مثل صومه سابقاً ،لا بل إنه زعم أيضاً لم يدهش العالم دهشاً مسوغاً إلا الآن ، هذا إذا فعل المرء مايريد. وقد وعده المرء بهذا بغير مبالاة ، على أنه أدعاء لم يبعث إلا على ضحك المختصين مرعاةً لروح العصر الذي نسيه فنان الجوع بسهولة في الحماسة.

لكن في الحقيقة لم يغب عن فنان الجوع فهمه للظروف الواقعية ، وقبله كشئ بديهي أنَّ المرء لم يضعه مع قفصه في وسط حلبة السيرك على أنه فقرة مهمة قوية الأثر ، بل وضعه في الخارج في مكان يسهل الوصول إليه على مقربة من الاصطبلات .لقد أحاطت بالقفص كتابات عريضة ملونة وأعلنت ماكان بالإمكان رؤيته هناك . وكان إذا سارع جمهور المتفرجين في فترت ما بين العروض إلى الاصطبلات ليشاهد الحيةنات كان لابد له تقريباً من أن يمر بفنان الجوع ويتوقف هناك قليلاً ، ولربما كان المرء سيمكث زمناً أطول لو لم يجعل المتدافعون الذين لم يفهموا هذا المكوث في الطريق إلى الاصطبلات المنشودة ، في الممشى الضيق مشاهدة هادئة أطول مستحيلة .وكان هذا السبب أيضاً في أن فنان الجوع خاف أيضاً من جديد من مواعيد الزيارات هذه التي كان يشتاقها بطبيعة الحال على أنها مسوغ لحياته. وفي الفترة الأولى عز عليه أن ينتظر استراحات العروض وبسرور بالغ كان قد ترقب جمهور النظّارة المندفع إلى الأمام، إلى إنه اقتنع في وقت قصير جداً- كما أن خداع النفس الأشد إلحاحاً والمتعمد تقريباً لم يصمد أمام التجارب- بأنهم لم يكونوا في أغلب الأحيان على النيّة، المرة تلو المرة، بغير استثناء إلا زواراً للاصطبلات. وهذا المنظر من بعيد ظل دائماً أجمل المناظر. إذ أنهم كانوا إذا ما اقتربوا منه تعالى من حوله صراخ وسباب الفرق المتشكّله من جديد بدون انقطاع، ذلك الفريق الذي ما لبث أن صار في نظر فنان الجوع أكثر إزعاجاً، فقد أراد أن يراه بالراحة، لا من باب التفهم، بل على سبيل المزاج العناد، وذلك الفريق الثاني الذي لم تصبُ نفسه في بادي الأمر إلا إلى الاصطبلات. فإذا ما مرّت العامة جاء بعدئذ المتأخرون، على أنَّ هؤلاء الذين لم يعد محرّماً عليهم أن يتوقفوا ما دامت عندهم رغبة، قد أغذوا في السير بخطوات كبيرة، من غير نظر جانبي تقريباً، لكي يصلوا إلى الحيوانات في الوقت المناسب. ولم تكن مصادفة سعيدة متكرّرة كثيراً أن يأتي رب أسرة مع أطفاله ويشير بسباته إلى فنان الجوع ويستفيض في شرح ما كان يدور هنا ويحكي عن سالف السنين حين كان يحضر عروضاً مماثلة لكن لا مثيل له في الضخامة والعظمة، ومن ثم الأطفال، بسبب إعدادهم غير الكافي من ناحية المدرسة والحياة، فإنهم ظلوا لا يدركون شيئاً- ماذا كان الصوم في نظرهم؟-، إلا أن بريق عيونهم الفاحصة فضح شيئاً في أزمان جديدة قادمة مواتية أكثر. وربما، هكذا قال فنان الجوع في نفسه أحياناً، تحسّن كل شيء بعض الشيء لو لم يكن مقره قريباً جداً من الاصطبلات. فبذلك سهِّل على الناس الاختيار كثيراً، ناهيك بذلك أن أبخرة الإصطبلات وروائحها وجلبة الحيوانات في الليل ونقل اللحم النيء للحيوانات الكاسرة والصراخ عند إطعامها قد آذى مشاعره وأحزنه وأثقل عليه بصورة دائمة. لكنه لم يجرؤ على أن يحتجّ ويشكو لدى الإدارة؛ على كل حال فقد كان مديناً للحيوانات بهذا العدد الكبير من الزائرين الذين كان بينهم أحياناً شخص قصده، ومن كان يدري أين كان المرء سيخفيه لو أراد أن يذكرّ بوجوده ويذكّر بذلك أنه لم يكن، بالمعنى الدقيق، إلا عائقاً في الطريق إلى الإصطبلات.

على أنه عائق بسيط، عائق يتضاءل أكثر وأكثر. وقد تعود المرء الغرابة بأن أراد أن يلفت في هذه الأيام الانتباه لفنان جوع، وبهذا التعوّد كان قد نطق بالحكم عليه. وكان له أن يصوم ما استطاع، وقد فعل ذلك، لكن ما من شيء استطاع أن ينقذه، فقد كان الناس يمرون به. حاولْ أن تشرح لأحدهم فن الصوم! فمن لا يحس بهذا فلا سبيل إلى إفهامه ذلك.

لقد اتسخت الكتابات الجميلة وصارت غير مقروءة، فانتزعها المرء، ولم يخطر ببال أحد أن يستبدلها؛ فاللوح الصغير برقم أيام الصوم المؤدّاة الذي كان قد جدِّد في الفترة الأولى يومياً بعناية وإتقان، بقي من زمن اللوح نفسه دائماً، إذ أن المستخدمين أنفسهم سئموا بعد الأسابيع الأولى هذا العمل البسيط؛ وهكذا تابع فنان الجوع صومه كما كان قد حلم به في سابق الأزمان، وقد تمّ له هذا في غير جهدٍ ومشقة مثلما كان قد تنبأ به آنذاك، لكن ما من أحد عد الأيام، لا أحد، حتى ولا فنان الجوع نفسه عرف مبلغ عظمة الإنجاز، وانقبض صدره، وكان إذا توقف ذات مرة في هذا الوقت مكسالٌ ما وجعل من الرقم القديم أداة سخرية وتكلّم عن الاحتيال، فقد كان هذا بهذا المعنى أسخف كذبة استطاعت أن تخترعها اللامبالاة والخباثة المتأصلة، إذ لا فنان الجوع خدع، فقد عمل بصدق وإخلاص، بل العالم خدعه في أجره.

على أن أياماً كثيرة مرّت، كما أن هذا انتهى. وذات مرة لفت القفص نظر أحد المراقبين، وسأل الخدم لماذا ترك المرء القفص الذي ينتفع به هنا حيث هو من غير استعمال وفيه القش المتعفّن، وما من أحد عرف السبب، إلى أن تذكر أحدهم فنان الجوع بواسطة لوح الرقم. وقلّب المرء القش بعصي ووجدوا فيه فنان الجوع. سأل المراقب: "أما زلت صائماً؟ ومتى ستمسك عن ذلك؟" وهمس فنان الجوع: "سامحوني كلكم" ولم يفهمه إلا المراقب الذي وضع أذنه على القضبان. "بالتأكيد أننا نسامحك" قال المراقب ووضع إصبعه على الجبين لكي يعتبر بذلك عن حالة فنان الجوع للمستخدمين. قال فنان الجوع: "أردت دائماً وأبداً أن يعجبكم صومي. " قال المراقب مجاملاً: "وإننا لمعجبون به أيضاً." قال فنان الجوع: "لكن ما كان ينبغي أن تعجبوا به". قال المراقب: "إذاً لن نعجب به، ولم لا ينبغي أن نعجب به". قال فنان الجوع: "لأنَّ علي أن أصوم، ولا أستطيع إلا الصوم" قال المراقب: "يا للغرابة! ولم لا تملك إلاَّ أن تصوم؟" رفع فنان الجوع رأسه الصغير قليلاً، وبشفتين مزمومتين كما هي الحال في التقبيل وضع فمه على أذن المراقب لكي لا يضيع أي شيء وقال: "لأنني لم أستطع أن أجد الطعام الذي يلذ لي ويطيب. ولو أني وجدته، صدقني، لما كنت محطَّ الاهتمام ولملأت بطني مثلك ومثل الجميع" كانت هذه الكلمات الأخيرة، على أنه كان لا يزال في عينيه الكسيرتين الاقتناع الثابت، وإن لم يعد الاقتناع الأبي أنه سيتابع صومه.

قال المراقب: "هيا رتبوا الأمور"، وطمر المرء فنان الجوع والقش معاً. أما القفص فقد وضع المرء نمراً صغيراً. كان هذا راحة ملموسة حتى بالنسبة لأشدّ الحواس بلادة أن ترى هذا الوحش الكاسر يتقلّب في القفص المهجور منذ زمن. لم ينقصه أي شيء. فالطعام الذي لذّ له وطاب، جاءه به الحراس من غير تفكير طويل؛ فلا الحرية بدا أنه يفتقر إليها؛ وهذا الجسم الرشيق المزود بكل ما هو ضروري إلى حدّ التمزيق بدا أنه محمّل بالحرية أيضاً؛ وبدت أنها تكمن في مكان ما في أسنانه. لقد انبعث الفرح بالحياة من حلقه بمثل هذا الوهج القوي بحيث إنه لم يكن سهلاً على النظارة أن يقاوموه. على أنهم حملوا أنفسهم على ما تكره وتزاحموا حول القفص وكرهوا أن يتزحزحوا من مكانهم على الإطلاق.

(*) FRANZ KAFKA: Ein Hungerkuenstler . 

(*) المصدر: مجلة "الآداب الأجنبية" (دمشق-سوريا)، العدد 92، خريف 1997.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق