الحداثة
كفلسفة تنطوي على نزعة تناهض فلسفة “التنوير” التي تعتبر عصب الحداثة من حيث تأكيد
هذه الأخيرة على الدور المركزي للعقل.
خلدون
الشمعة*
رسمة لبهرام حاجو |
“هذه الدراسة
التي تتعقب أفول عصر التنوير وصمود ما بعد الحداثة في تجربة الأدب العربي المعاصر
هي بمثابة إعادة صياغة نقدية لمفهوم الخصوصية بمحمولها المعرفي والإثني، أي اختزال
الجماعات والدول بمخيالها الطائفي والقبلي والإثني، وتحجيم أبعاد هويتها الأخرى،
وهو مفهوم قد طفر ويطفر بنا على صعيد العالم العربي من حق الاختلاف إلى حق
الانتحار”.
منعطف
ما بعد الحداثة
في
عام 1971 أصدر إيهاب حسن، الناقد الأميركي المصري الأصل كتابا لافتا عنوانه “تقطيع
أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي”.
مصطلح
ما بعد الحداثة Postmodernism يعود بتاريخه إلى تلك الفترة بالذات. ولعل هذا الناقد هو أول من
أطلق هذا المصطلح للدلالة على ما أسماه في كتاب لاحق “منعطف ما بعد الحداثة”. هذا
المنعطف يؤكد على تداخل مفهومي “الحداثة” و”ما بعدها”. إذ ليس ثمة من قطع أو
انقطاع بينهما، بل منعطف يؤذن بحدوث تغيير في مسار الحداثة نفسها.
وقد
لجأ إيهاب حسن إلى الأسطورة اليونانية من أجل شرح المقصود من هذا التحول الذي طرأ
على مفهوم الحداثة. واختار لذلك أسطورة أورفيوس على وجه التحديد. لماذا هذه
الأسطورة بالذات؟ لأن دلالتها تشير إلى حالة التشظي. كانت الحداثة أو بالأحرى الأيديولوجيات
أو الأفكار الشمولية التي تستظل بها، تدّعي أن لديها حلولا جاهزة لكل المشكلات،
وأن التطور البشري يتسم بـ”الخطيّة” أي التحرك على شكل خط صاعد مستقيم في اتجاه
التقدم، وبالتالي فإن الحداثة تملك مفاتيح الحقيقة المطلقة. ولكن نزعة ما بعد
الحداثة تمثل في هذا السياق بالذات، حركة التحول من الحقيقة المطلقة إلى الحقيقة
النسبية.
الحقيقة
المطلقة تشظت على نحو يذكّر بجسد أورفيوس الذي تمزق إلى مزق وشظايا. ففي تلك
الأسطورة يبرز أورفيوس باعتباره رمزا للشاعر ذي القدرات السحرية الخلاقة التي تمثل
بعزفه على القيثارة وغنائه في مواجهة إغراء جنيات البحر من جهة، وصموده أمام رغبات
الآلهة الجبارة من جهة أخرى.
يتزوج
أورفيوس حورية خارقة الجمال تدعى “يوريدس″
ولكنها سرعان ما تموت بعد إصابتها بلدغة أفعى. وهكذا ينطلق في رحلة إلى العالم
السفلي بحثا عنها. وما أن تكتشف النسوة شدة إخلاصه لتلك الحبيبة وتعلقه بها حتى
تجتاحهن الغيرة القاتلة فيمزقن جسده إربا إربا.
الشاعر
والمأساة
أورفيوس
المعاصر كما يراه إيهاب حسن رمز الفنان الذي يرضخ لمصيره المأساوي كمبدع مقطّع
الأوصال، يمارس العزف على قيثارة بلا أوتار. لقد انهارت الحقائق الكلية ولم يعد
ثمة من يقين بل شظايا مبعثرة تحوم في كل اتجاه.
ولكن
نزعة ما بعد الحداثة هذه ليست ظاهرة أعقبت الحداثة كما يوحي المصطلح للوهلة
الأولى، وإنّما هي متداخلة معها إلى الحد الذي يمكن معه القول إن كتّابا حداثيين
من أمثال فرانز كافكا وجان جينيه وصمويل بيكيت وجيمس جويس، أعاد بعض النقاد
تعريفهم مؤخرا وصاروا يوصفون باعتبارهم كتاب نزعة ما بعد الحداثة. هناك إذن مشكلة
سياق تتعلّق بموقع كل من الحداثة وما بعدها من حيث التتابع الزمني. فالعمل الفني
ما بعد الحداثي لا يعقب العمل الفني الحداثي بالضرورة. وبعبارة أخرى فإن صفة Post أو ما بعد ليست
زمنية دائما وإنما يمكن أن تكون كذلك أو لا تكون. وهذا مؤشّر يدل على شيء من
الاضطراب في المصطلح. ولكن تطوّر السجال الذي دار ويدور بين النقاد هو الذي أسهم
ويسهم في تحديث معناه بالتدريج.
ويمكن
القول إن ما بعد الحداثة كفلسفة، تنطوي على نزعة تناهض فلسفة “التنوير” التي تعتبر
عصب الحداثة من حيث تأكيد هذه الأخيرة على الدور المركزي للعقل وإمكان تحقيق
المجتمع العقلاني المنشود.
وبالمقابل
تعترف فلسفة ما بعد الحداثة أن ثمّة قوى قاهرة تتحكم بالمجتمع ولا يمكن السيطرة
عليها. وبالتّالي فهي ترى أنه لا مجال للتفاؤل الذي تبديه الحداثة. بل إنّ رفض ما
بعد الحداثة لوجود حقائق مطلقة، خلافا لموقف الحداثة، يمكن اعتباره نتيجة من نتائج
التشظّي.
وأما
في المجالين الثقافي والفنّي فإن نزعة ما بعد الحداثة توصف بكونها انتقائية eclectic. وهذه السمة
تتجلى في اعتماد الأعمال الفنية ما بعد الحداثية على عناصر مستمدة من أجناس أدبية
متعددة وتيارات وأساليب وتقنيات مستلّة من مصادر متباينة.
وعلى
الرغم من أن بعض المؤرخين يشير إلى أن هذه النزعة بدأت في مجال الهندسة المعمارية
في مطلع القرن الماضي فإن تداولها شاع في سبعينات ذلك القرن مع انحسار حد الحداثة
وظهور ثقافة ما بعد الصناعة.
يمكن
القول إذن إن نزعة ما بعد الحداثة استمرت في استخدام بعض تقنيات الحداثة
التجريبية، ولكنّها أظهرت العداء تجاه سمات حداثة أسلوبية معيّنة كالحرص على صفاء
الشكل وضرورة البعد عن الهجنة التي يسببها المزج بين مختلف الأجناس الأدبية.
ولعل
أحد أبرز سمات النزعة ما بعد الحداثية الاعتراض على ما تدعوه بالسرديات العظمى Grand
Narratives،
أي محاولة تغيير السلوك البشري من خلال نظرية أو أيديولوجية واحدة كالماركسية أو
علم النفس الفرويدي أو البنيوية.
وأما
الفكرة المركزية التي تطرحها فتكمن في نفي وجود سردية (أي قصة لها بداية ونهاية)
تزعم القدرة على امتلاك الحقيقة (على غرار تلك التي بشرت بها النزعات التي استظلت
بالحداثة). وأساس هذه الفكرة هو الاعتقاد أن المجتمع المعاصر متشظ ومنقسم بفعل
طغيان ثقافة استهلاك السلع التي توصف بالتفاهة، وتجعل فهم ذلك المجتمع كوحدة كلية
أمرا متعذرا.
ولذلك
يرى بعض الفلاسفة المعاصرين كالألماني يورغن هبرماس أن نزعة ما بعد الحداثة تتسم
بالمحافظة، ويعلل ذلك الحكم بقوله “إنها لا تبدي مقاومة للأمر الواقع″.
الوضع
ما بعد الحداثي
ولا
شك أن أحد أبرز منظّري ما بعد الحداثة هو الفيلسوف الفرنسي ليونار الذي يساجل في كتابه
“الوضع ما بعد الحداثي” (1979) بالقول إن سرديات أشكال المعرفة سيطر عليها الخطاب
العلمي الذي يضّحي بالغاية من أجل الوسيلة. وهو يعني بذلك أن البحث العلمي الذي
يجد تمويلا ماديا أكبر هو الذي يصبح معترفا به. فكأن الوسيلة التي تمثل التمويل هي
التي تفرض مشروعية الغاية واعتمادها كحقيقة ناجزة، كما تفعل بعض شركات الأدوية
العالمية.
ثمة
مفكر فرنسي آخر يمارس الفلسفة وعلم الاجتماع هو جان بودريلار، أطلق عليه بعض
النقاد لقب كاهن ما بعد الحداثة، ولكنه يرفض هذه الصفة بقوله إنها تشير إلى وضع
ثقافي “وضيع ورجعي ومنحط” لا يزعم تبنيه.
يعتبر
بودريلار مفكرا ما بعد حداثي بامتياز. فقد قدم تحليلات تشكك بالرأسمالية المعاصرة
وثقافة الاستهلاك وأجهزة الاتصال الجماهيري mass
media.
كما أن نقده لفكرة التقدم التاريخي في الماركسية والهيغلية، وحلول وهم الـSimulation أي الواقع
الافتراضي الذي تعرضه شاشات الإنترنت، محل الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ بل
الواقع نفسه، جعله أحد أبرز المتمرّدين على طغيان النزعة الاستهلاكية المسيطرة على
الرأسمالية المعاصرة.
ففي
ثقافة تعتمد على الاستهلاك بدلا من الإنتاج لم يعد معنى الأشياء يكمن في فائدتها
بل حيازتها. كما أن الحاجة لم تعد نتيجة من نتائج الندرة، بل صارت علاقة افتراضية
زائفة ومصممة بحيث يؤدي وجودها إلى حيازة أشياء وهمية لا تشبع حاجات المستهلك.
وهكذا تصبح تجارة السلع وسيلة من وسائل السيطرة على المجتمع. والنتيجة أنه لم يعد
ثمة مجتمع بل جماهير لا تكف عن الاستهلاك.
ثمة
أطروحة نقدية لافتة لبودريلار كرّسها لتفنيد المفهوم الهيغلي/الماركسي المتعلق
بنهاية التاريخ. ففي العام 1992 الذي صدرت خلاله الطبعة الأولى من كتاب “نهاية
التاريخ والإنسان الأخير” للمفكر الأميركي الهيغلي فرانسيس فوكوياما الذي أعلن عن
“نهاية التاريخ” بعد انهيار الشيوعية والاتحاد السوفياتي وانتصار الرأسمالية، في
ذلك العام ظهر كتاب “وهم النهاية” وفيه يلاحظ المفكر الفرنسي أن تسارع الحداثة
المتمثل في تنامي قوة التكنولوجيا والاتصالات الكونية ووسائل الاتصال الجماهيري،
قد أدى إلى ظهور ظاهرة الواقع الافتراضي الذي لم يعد بالإمكان تمييزه عن الواقع.
وبهذا
المعنى كتب بودريلار دراسته “حرب الخليج لم تقع″
(1995)، وهي بحث يساجل فيه بالقول إن حرب (1991) ضد العراق كانت حربا مرسومة كواقع
افتراضي، وأن نتيجتها كانت معروفة سلفا، فضلا عن أنها عرضت على التلفزيون لكي ترضي
حاجة الطرفين المتنازعين لتبرير مشاهد ذلك الواقع. وهو يرى أن التاريخ يصل إلى
نهايته فعلا (في العالم الافتراضي) ولكن ليس على النحو الذي أشار إليه هيغل
وماركس. فبدلا من الوصول إلى أقصى مراحل التطور صار الجنس البشري يراوح مكانه.. أي
في الزمن الحاضر.
ما
هو التنوير؟
بادئ
ذي بدء أشرنا إلى عداء نزعة ما بعد الحداثة تجاه عصر التنوير Enlightenment. هذه السمة تعد
من أهم سمات تلك النزعة. فالحضارة الأوروبية الحديثة لم تكن حضارة مسيحية بقدر ما
كانت نتاج عصر التنوير.
فما
هي خصائص عصر التنوير؟..
التنوير
ظاهرة ثقافية بدأت في أوروبا القرن السابع عشر. وهناك سجالات تعكس خلافات في الرأي
حول ماهية هذا التنوير وما إذا كان مستمرا حتى الوقت الحاضر.
ثمة
فلاسفة ينتمون إلى عصر التنوير كالفيلسوف ديكارت ادّعوا أن العقل هو الذي يجعلنا
بشرا. وتبعا لذلك فإن من الممكن، بانتهاج طريقة معينة في التفكير الفلسفي، استخدام
العقل من أجل التوصّل إلى معرفة معصومة عن الخطأ. فالعقل كوني وموضوعي ومستقل
بذاته، وعندما يستخدم وفق منهج محدد يصبح تقدم العلم والمجتمع ممكنا.
وأما
روسو فكان أقل إيمانا بدور العقل والعلم من ديكارت، غير أنه ظل مؤمنا بالتقدم
السياسي. إذا سمحنا لاستقلال الأفراد العقلي بالتعبير عن نفسه، وتمكنّا من إقناعهم
بإحلال حريتهم “المدنية” محل حريتهم “الطبيعية” صار التوصل إلى المجتمع السياسي
الكامل أمرا ممكنا.
الفيلسوف
الألماني كانط، أحد أعمدة عصر التنوير، استخدم إيمانه بالفكر العقلاني من أجل
تعزيز المعتقدات الأخلاقية. وهو يرى أن بإمكان العقل العملي استنباط قوانين
أخلاقية عالمية ومطلقة تكون صحيحة دائما وبالتالي ملزمة للجميع.
هذه
الأفكار التي تعود إلى عصر التنوير منحت الأوروبيين الثقة بمستقبل التقدم العلمي
والأخلاقي والسياسي. وقد استمر تأثيرها حتى القرن التاسع عشر، وظلت مطروحة لا
تتعرض للمساءلة حتى ظهر الفيلسوف الألماني نيتشه الذي كتب يقول “في زاوية قصية من
الكون كان هناك كوكب تمكنت الحيوانات الذكية التي تقطنه من اختراع المعرفة. لقد
كانت تلك اللحظة إحدى أشد لحظات التاريخ الإنساني غطرسة وزيفا”.
وفي
رأي نيتشه إنه لا توجد سوى حقيقة “حقيقية” واحدة تتعلق بالإنسان والعالم هي “إرادة
القوة” التي لا يمكن كبح جماحها. وبعبارة أخرى فإن البشر يصنعون الحقائق بإرادتهم
المدعومة بالقوة التي تساعدهم على البقاء كجنس بشري. فالمعرفة والحقيقة أداتان
مؤثرتان، مفهومان يشيران إلى قدرة البشر على الخلق والابتكار.
ولهذا
لا يمكن أن يكونا مفهومين موضوعين نظرا لأنهما مسخرتان دائما لخدمة مصلحة أو هدف
بشري.
لم
يطور نيتشه إبستيمولوجيا (نظرية معرفة) متماسكة، بل عبّر عن آرائه بطريقة فنية
مليئة بالتشابيه والاستعارات. وهو يتفق مع الفيلسوف اليوناني هيراقليطس بأن الكون
في صيرورة مستمرة، وأنه في حالة من الفوضى والتغير تجعل أيّ شعور بالاستقرار نشعر
به هو ذاك الذي نصنعه بأنفسنا. فمعنى أن يعرف المرء هو “أن يفرض المقاييس على
عمليات فوضوية تجعل العالم مفيدا لنا وتمنحنا الإحساس بالقوة والسيطرة”.
وفي
دراسة مهمة ظهرت في عام 1873 تحت عنوان “حول الحقيقة والزيف بالمعنى الفائض عن
الأخلاق” يشير نيتشه إلى أن اللغة لا بد أن تكون استعارية (مجازية)، والدليل على
ذلك أنها عاجزة عن وصف واقع العالم بدقة. كما أن مفاهيم “الحقيقة” و”المعرفة”
مفاهيم استعارية كامنة في اللغة نفسها وبالتالي ليس بإمكانها إبلاغنا بشيء دقيق عن
العالم.
وجهة
النظر اللافتة هذه، حول العلاقة بين اللغة والعالم سبقت العديد من أقطاب القرن
العشرين من أمثال فيتغنشتاين ودريدا.
لقد
رأى نيتشه أن اللغة لاعب رئيسي في عملية خداع مستمرة للذات. فنحن نفكر بالكلمات
وبالتالي نفترض على نحو آلي أن ثمة أشياء في الخارج تشير إليها. الكلمات مفيدة لنا
نظرا لأننا نستطيع استعمالها من أجل تبسيط صورة الفوضى والتعقيدات المحيطة بنا،
ولكن هذا كل ما تستطيع الكلمات أن تفعله.
هذا
الشك بوجود الحقيقة المطلقة هو الذي جعل الباحثين في تاريخ الأفكار ينظرون إلى
نيتشه باعتباره أول مفكر طرح الفكرة المركزية في منعطف ما بعد الحداثة الذي صار
مصطلحه متداولا بدءا من سبعينات القرن الماضي.
الأدب
العربي وما بعد الحداثة
قبل
زمن غير بعيد دعيت للكلام عن الأدب العربي وعلاقته بما بعد الحداثة، فتذكرت حوارا
جرى آنذاك بيني وبين أحد الأصدقاء حول الموضوع نفسه، اختصره بالقول: إذا كانت
الحداثة إشكالية مفتوحة ذات طابع خلافي من حيث علاقتها بالأدب العربي، فكيف الأمر
بما بعد الحداثة؟ كيف ننزلق في سجالاتنا الفكرية إلى ما بعد الحداثة ونحن نعيش
مرحلة أفول عصر التنوير، مرحلة النكوص عن الحداثة نفسها؟..
الجواب
على هذا التساؤل يقتضي في تقديري أن نعاود صياغته على النحو التالي: هل الحداثة
مفهوم سابق زمنيا على مفهوم ما بعد الحداثة وبالتالي فهو نقض له أو استكمال أو
إعادة نظر؟..
قبل
كل شيء علينا أن نميز بين مصطلحين: Postmodernism أي ما بعد
الحداثية، وPostmodernity أي ما بعد الحداثة.
المصطلح
الأول نعني به النقد الفلسفي لمفهوم السرديات العظمى أي فكرة اعتبار الأيديولوجيات
والأفكار الكبرى مجرد قصص أو قطع سردية عظمى أو خطابات الماركسية والدين وجميع
الأفكار الشمولية التي تدّعي ملكية الحقيقة.
فما
نعني به هو الشرط الاجتماعي، أي الشّرط السائد اجتماعيا للعناصر المكونة لما بعد
الحداثة وهي: تكنولوجيا المعلومات والعولمة والشكل المتشظّي للحياة العامة وطغيان
النزعة الاستهلاكية وإطلاق العنان للأسواق التجارية والخوصصة.
وأمّا
المصطلح الثاني فهو يشير إلى ظهور وضع جديد ذي محمول معرفي وجمالي يشكّل تحديا
مباشرا لا لبس فيه للمؤسسات القائمة. فمما لا شك فيه أن هناك تآكلا جاريا الآن،
يطال جميع السرديات العظمى كالأيديولوجيات، والمعتقدات الدينية، ويتمثل في طغيان
التلفزيون والإنترنت والفيديو. ولهذا فما قاله الباحث الباكستاني أكبر أحمد في
كتابه Postmodernism & Islam يدعو للتأمل وقد ينطوي على شيء من الصحة. فهو يرى من منظوره
الإسلامي أن المسيحية لا تهدد الإسلام بل إن ظاهرة “مادونا” هي التي تهدده.
وبعبارة
أخرى فإن تأثير ظاهرة ما بعد الحداثة صار ماثلا في الحياة العربية نفسها، فأشكال
النزعة الاستهلاكية الغربية كما يبين عالم الاجتماع البريطاني بريان تيرنر تمارس
أثرا أكبر بكثير من المعتقدات التقليدية التي يحملها الزعماء الدينيون والنخب
الفكرية في المجتمع.
وإذا
كان هذا صحيحا أمكن القول إن الأيديولوجيا الدينية صارت تبعا لذلك تفرض بالقوة
وليس بالإقناع أو التبشير.
ولا
مراء في أن زوال الحدود بين الثقافتين الكلاسيكية العليا Highculture والثقافة
الشعبية الدنيا، وهو نتيجة من نتائج العولمة قد أدى إلى ظهور ثقافات سائدة ذات
صبغة شعبوية متأثرة بالفيديو والتلفزيون وشبكة الإنترنت وسائر منتجات التكنولوجيا
السمعية والبصرية.
وباختصار
فإنّ نزعة ما بعد الحداثة ترتبط على حد تعبير جيمسون بـ”المنطق الثقافي للرأسمالية
المتأخرة”. ولعل من الأصوب القول، كما يرى ليونار، إن “نزعة ما بعد الحداثة تمثل
الوضع العام للمعرفة في زمن تكنولوجيا المعلومات”.
ما
يهمّنا من هذه التعريفات الآن، من حيث علاقتها بالأدب العربي تحديدا هو أن مفهوم
ما بعد الحداثة يمثل تحديا على المستويات التالية:
أولا: التشكيك
بفكرة الأصالة في الأدب.
ثانيا: إزالة
الحدود بين الأجناس الأدبية.
ثالثا: إزالة
الحدود بين الأشكال الفنية.
رابعا: إزالة
الحدود بين نظرية النقد وبين الأدب نفسه.
خامسا: إزالة
الحدود بين ما يدعى بالأدب الرفيع وبين ثقافات الإعلام الجماهيري.
سادسا:
إيلاء فكرة الاختلاف أهمية استثنائية وتغليب المحلي والإثني والخاص على العالمي
المرتبط بالنزعة المركزية الأوروبية.
بالنسبة
إلى المستوى الأول لما بعد الحداثة، أي التشكيك بفكرة الأصالة، يستدعي السياق كتاب
“بدايات: المقصد والمنهج” الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1975. في هذا الكتاب
السابق على “الاستشراق” يبلور إدوارد سعيد اعتراضه النقدي على مفهوم الأصالة مفضلا
عليه مفهوما آخر هو البداية: هناك بدايات وليس أصولا. فلكل أصلٍ أصلٌ أبعد منه.
وبذلك يمكن القول على صعيد الممارسة إن التصور الآخر لدلالة مفهوم الأصالة، وهو
القدرة، على الخلق والابتكار قد حلّ محلّ مفهوم الأصالة المرتبط بالنكوص إلى الأصل
والأصول.
كما
أن المعاني التي تكوّنها الأصول الأدبية لا توصف بأنها أصيلة تبعا لما تقدم، وإنما
هي تعتمد على مصادر ونماذج يعاد إنتاجها واستغلالها.
وفي
حين أن نزعة الحداثة أو الحداثية Modernism تحديدا هي مشروع
إبداع فإن نزعة ما بعد الحداثة جاءت لتضع حدودا للكلام عن الإبداع على غير مثال
مسبق. وأحد الأمثلة على ذلك الكتاب الذي أصدره أدونيس بعنوان “الكتاب” وما يبديه
من اهتمام استثنائي بخلق هالة لاهوتية، والعودة إلى المتنبي وإعادة إنتاجه مجددا.
وكذلك كتاب كمال أبو ديب “عذابات المتنبي في صحبة كمال أبو ديب والعكس بالعكس″.
وهو نص يحاول فيه صياغة تأويل مغاير للمتنبي ولحياته، يبلغ فيه من الذاتانية أو
الإيغال بتغليب الذات على الموضوع مبلغا يجعله لا يتقمص شخصية المتنبي فحسب بل
يختلق عملية تقمص معاكس يتخيل فيه المتنبي وقد تقمص شخصية أبو ديب نفسه.
والملاحظ
أن هذا النص يستثمر تقنيات ما بعد الحداثة إلى حد بعيد. فهناك الاهتمام بالهامش
وابتداع وثائق غير ذات أصل وإنما هي مخترعة اختراعا، فضلا عن أنّ صورتها منشورة في
النص كصفحات مكتوبة بخط اليد.
وفكرة
المذكرات هذه، المنسوبة إلى المتنبي يشير فيها ماليء الدنيا وشاغل الناس إلى أن
كمال أبو ديب: “يكتب عني بهوس″.. وأن صديقه أدونيس
“يكتب عني أيضا”.. وأن هذا شيء رائع لأن شاعرا عظيما “يكتب عن شاعر آخر”.
والحال
أن النهج الذي ينتهجه أبو ديب في “عذابات المتنبي”، يقدم مثالا نموذجياً لعمل من
أعمال ما بعد الحداثة، ففيه خليط يمزج بين الواقعي والخيالي، والنثر والشعر
واللوحة، فضلا عن تقنية الكولاج أو الباستيش.
وهذه
التقنية يضمّن فيها كاتب النص نصا أو نصوصا أدبية أخرى ويشير في الوقت نفسه إلى أن
هذا ما يفعله بالضبط. وكان الروائي إدوارد الخراط قد درس في كتاب أصدره بعنوان
“الكتابة عبر النوعية” ظاهرة المزج بين جنس القصة وجنس القصيدة.
وأما
على صعيد الرواية فإن الروائي جمال الغيطاني يوظف نصوصا من عصر الانحطاط ليعيد بها
كتابة روايته “الزيني بركات” التي تتحدث عن مصر المعاصرة.
فينهج
بذلك نهجا ما بعد حداثي ليس فقط من حيث التشكيك بفكرة الأصالة أو الابتكار على غير
مثال، كما تفعل الحداثة، وإنما من حيث التأكيد على نحو لا يخلو من السخرية غير
المصرح بها على أن نصا ماضويا غير حداثي وينتمي إلى عصر الانحطاط، يصبح معبّرا عن
حاضر ما بعد حداثي أفضل تعبير.
وهناك
أمثلة أخرى كثيرة في الرواية العربية المعاصرة تؤكد على التقنيات ما بعد الحداثية
التي تقوم على استغلال علاقات التجاور Juxtaposition التي تكشف عن
المفارقة والتناقض في الواقع، وعلى تقنيات الباستيش والتضمين والمجاز.
فرواية
“اللجنة” لصنع الله إبراهيم مثلا تنتهي بصورة معبرة، وذلك على النحو التالي “مضيت
أنصت للموسيقى التي ترددت نغماتها في جنبات الحجرة.. وبقيت في مكاني مطمئنا منتشيا
حتى انبلج الفجر. عندئذ رفعت ذراعي المصابة إلى فمي وبدأت آكل نفسي”.
هذه
ربما كانت الرواية الوحيدة التي تنحو نحوا ما بعد حداثي، وتحفل بنقد النزعة
السّلَعية الاستهلاكية السائدة التي تشكل علما على “المنطق الثقافي للرأسمالية
المتأخرة” لا تجد الحل أو النهاية بمجاز يأكل فيه بطل الرواية نفسه فحسب، بل
باستحالة الخروج من حصار خانق.
وتكمن
السخرية هنا في أن الرؤية القائلة إن الثقافة السّلعية السائدة هي ثقافة تآكل
والتهام.. ولهذا فإن المجاز الذي تنتهي به الرواية يكتسب دلالة مزدوجة في هذا
السياق بالذات.
وكان
صنع الله إبراهيم قد كتب رواية أخرى هي “نجمة أغسطس″
تحدث فيها عن تجربة السد العالي وضمّنها صفحات مستلة حرفيا من رواية تاريخية
عنوانها “التاج والصولجان” للكاتب الأميركي إرفنغ ستون، مؤكدا بذلك على إمكانية
التضمين الحرفي لأعمال أخرى تبدو للوهلة الأولى ناشزة عن روايته إلى حد كبير.
والحال
أن هذه الرواية تنفي مفهوم الاكتمال الذي يحتفي به السرد الحداثي أيما احتفاء،
لتطرح بدلا منه مفهوم الهجنة المعبر عن نزعة ما بعد الحداثة بامتياز.
وإذا
نظرنا إلى قصص الأرجنتيني بورخيس التي عرفت في الأدب العربي رواجا لا مثيل له،
نستكشف مدى السخرية التي تتوفر عليها أعمال هذا الكاتب ما بعد الحداثي الذي يحتفي
به المثقفون العرب أيما احتفاء والذي يعيد استعمال النصوص السردية القديمة ومنها
نصوص مستلة من ألف ليلة وليلة ليبرز ما كان يردده دائما من أن الكتاب نسّاخ أمناء
للروح وشرّاح لأنماط أسطورية عليا كانت قائمة من قبل. وبعبارة أخرى فإن الكتّاب
على حد قوله لا يبتكرون جديدا وإنما يعيدون القول باستمرار.
وإذا
نظرنا إلى الشعر العربي الحديث متلمسين فيه عناصر ما بعد حداثية، فلا بد أن تبرز
أمامنا بوضوح تقنية “القناع″ Persona التي برع
الشعراء الرواد في استخدامها والتي تطورت عن تقنية أخرى لاقت انتشارا كبيرا ونعني
بها تقنية “الإلماعة” التي هي عبارة عن إشارة عابرة في القصيدة إلى شخصية أو حادثة
أو أسطورة أو عمل أدبي بهدف استدراج مشاركة القارئ واستدعائها.
هذه
التقنية المزدوجة بشقيها (الأكبر والأصغر) أي القناع والإلماعة، وهي تقنية تناصية Intertextual برع بها عمر أبو
ريشة والسياب والبياتي وأدونيس على سبيل تعداد القلة لا الحصر، تذكرنا من حيث
أدواتها الإجرائية بتقنيات ما بعد الحداثة.
وهكذا
يمكن القول إنه إذا كانت الحداثة إبداعا أو ابتكارا على غير مثال، كما يردد
منظروها وعلى رأسهم أدونيس، فإن نزعة ما بعد الحداثة تستحضر في أذهاننا فورا نظرية
الخطاب التي تؤكد على أن الخطابات لا تطابق الحقيقة الماثلة هنا أو هناك وإنما هي
ترتد إلى اللغة نفسها. ولهذا فإنها مجرد سرد للحقيقة من وجهة نظر نسبية بحتة.
تلك
هي ملامح من تمثيلات ما بعد الحداثة في نماذج من الأدب العربي، تعبر عن التشظي
الاجتماعي الذي أصاب المنطقة العربية، وهو تشظ يفسح مكانا لإعادة النظر في
الحقيقة، واعتبارها باسم حق الاختلاف نسبية لا علاقة لها بالسرديات العظمى.
نفسر
هذا ونقول: إن تضخم مفهوم الخصوصية بمحمولها المعرفي الديني والإثني، أي اختزال
الجماعات والدول بمخيالها الطائفي والقبلي والإثني، وتحجيم أبعاد هويتها الأخرى قد
طفر ويطفر بنا على صعيد العالم العربي من حق الاختلاف إلى حق الانتحار.
من
التناص إلى التطريس
ما
تقدم من أفكار تتصل بمفاهيم ما بعد الحداثة وبعض تمثيلاتها في الأدب العربي، لا
يفعل سوى التأكيد على فاعلية مفهوم التناص مشفوعا بأدواته النقدية المعروفة.
والمطلوب هو استحداث إطار مرجعي يستوعب ما أعتبره بمثابة مفهوم فائض على مفهوم
التناص، مفهوم يطرح مسألة النقد المبني على نص عمل سابق عليه طرحا يتجاوز فكرة الاستنساخ
وإعادة الإنتاج.
وفي
تقديري إن كتاب (Palimpsestes): (طروس) (1982) يصلح مفتاحا لتفسير علاقة العمل الأدبي بأصله وهي
ليست علاقة بالمطابقة أو عدمها، علاقة تدور في ما يدعى بـ”الفضاء الافتراضي”،
وتفضي إلى دلالة موضوعة وليست مستنسخة عن أصل.
كلمة
“طروس″ عنوان الكتاب، هي
جمع “طرْس″، وطَرَس الشيء محاه.
أما فعل طَرَّس: فيعني إعادة الكتابة على المكتوب الممحو. وهذه المعاني المستلة من
المعجم العربي هي نفسها المعاني التي يفصح عنها عنوان جينيت بأصوله اللاتينية
والإغريقية.
ويشغل
مصطلح hypertexuality أي العلاقة المتجاوزة للنص موقفا مركزيا في الكتاب. وهو يدل على
العلاقة بين النص اللاحق (hypertext) مع نص سابق
عليه (hypotext). وباستخدامه لتشبيه الطرس palimsest في تفسير تركيب
نص على نص آخر دون محوه كليا، ينهمك جينيت بتقديم دراسة شاملة لمختلف أجناس
العلاقات المتجاوزة للنص (hypertextual). ولعل أحد أبرز
هذه الأجناس التي تتصل بموضوعنا، الجنس الأدبي الذي يعتمد محاكاة نموذج يُستدعى من
قبل الكاتب من أجل خلق أو استحداث نص لاحق عليه (hypertext).
في
طليعة النماذج الذي ينطبق عليها التوصيف الآنف الذكر، رواية الكاتب العراقي أحمد
سعداوي “فرانكشتاين في بغداد” التي وصفت بأنها “استوعبت اللحظة العراقية بجميع
ملامحها، وتسلحت بكثير من الجرأة في البحث عن العلاقة الخفية التي تحكم مفردات
الواقع العراقي وتتسبب في مآسيه”.
وهذه
الرواية الفائزة بجائزة بوكر العربية (2014)، ينعقد السرد فيها على حكاية هادي
العتاك، بائع العاديات الذي يجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية في بغداد
ليصنع من تلك الأشلاء كائنا بشريا محكوما برغبة الانتقام من قاتليه.
وقد
علق الناقد السعودي سعد البازعي نيابة عن لجنة التحكيم بقوله إن اختيار الرواية
للجائزة جرى تقديرا لـ”مستوى الابتكار في البناء السردي كما يتمثل في شخصية تختزل
مستوى ونوع العنف الذي يعاني منه العراق وبعض أقطار الوطن العربي والعالم في الوقت
الحالي. وفي الرواية عدة مستويات من الرد المتقن.. وهي تعد إضافة مهمة للمنجز
الروائي العربي المعاصر”.
هذه
الرواية تستدعي مفهوم التناص الذي يرقى إلى ما دعاه جيرار جينيت بـ”التطريس″
أو تركيب عمل أدبي لاحق فوق طرس سابق عليه، وذلك في عملية استبدال افتراضي. وأما
الطرس الممحو افتراضيا فهو رواية (Frankenstein ; or
the modern Prometheus) “فرانكشتاين أو برومثيوس الجديد” للكاتبة الإنكليزية ماري شيللي
(Mary wolls tonecraft shelly) (1791 – 1851) زوجة الشاعر
الإنكليزي شيللي.
تنتمي
هذه الرواية إلى أدب الرعب Gothic الذي ازدهر في
فترة صعود الرومانتيكية في بريطانيا. وهي تروي حكاية الدكتور فرانكنشتاين، الباحث
السويسري في الفلسفة الطبيعية الذي يكتشف خلال بحثه الجامعي إكسير الحياة الذي
يمكن بواسطته جعل المادة تشعر وتتحرك.
فيقوم
تنفيذا لذلك بجمع العظام والأشلاء ليصنع منها كائنا بشريا يمنحه الحياة. وهكذا
ينجح فرانكشتاين بتجاربه في خلق وحش خارق القوة ولكنه بالغ القبح والبشاعة الجدية،
وحش سرعان ما ينقلب على خالقه ويسعى إلى التخلص منه.
هذه
الرواية التي يرى النقاد أنها تستعيد أسطورة “المتوحش النبيل” مدينة في تميزها
الوصفي لإعجاب مؤلفتها ماري شيللي بشعر كولردج وبخاصة قصيدته الشهيرة “الملاح
القديم”.
النموذج
الروائي الثاني المماثل للنموذج السابق، هو رواية عنوانها (2048) من تأليف
الجزائري بوعلام صنصال. وفي تقديري أن كونها كتبت بالفرنسية لا يحول دون انتمائها
إلى الأدب العربي المعاصر وذلك أسوة بكوكبة متعاظمة من الروائيين الجزائريين بدءا
من مولود فرعون ومرورا بمالك حداد وآخرين.
من
الواضح أن رواية (2084) تستدعي إلى الأذهان رواية الكاتب البريطاني جورج أورويل
(1984) على الفور. فالروايتان السابقة واللاحقة تشتركان بعلاقة تشابه من حيث
التصدي لموضوع خطير هو النظام التوتياليتاري. كما تتماثلان بالتطابق من حيث
العنوان المشحون بالدلالات. ولكن علاقة التطريس بين العمليتين تكتسب أهمية
استثنائية إذا ما نظر إليهما من منظور أدب ما بعد الحداثة.
فهذا
الأدب كما أشرنا يمثل اعتراضا على ما يدعى بالسرديات العظمى، أي محاولة تفسير
السلوك البشري من خلال نظرية أو أيديولوجية واحدة، فضلا عن تأكيده على عدم وجود
سردية لها بداية ونهاية وتزعم القدرة على امتلاك الحقيقة على غرار النزعات التي
استظلت بالحداثة. وبهذا يمكن القول إن سردية ما بعد الحداثة تمثل أفول تفاؤل عصر
التنوير بامتياز.
المثال
الثالث الذي يستدعي إلى الأذهان النموذج المرجعي paradigm الذي طرحه جينيت
هو رواية The Meursault investigation “تحقيق ميرسو”
لروائي جزائري آخر هو كامل داوود. هذه الرواية مبنية على علاقة “اشتباك” أكثر منها
علاقة استبدال، علاقة اشتباك برواية شهيرة من تأليف الكاتب الفرنسي ألبير كامو،
وأعني بذلك رواية L’Etranger (الغريب). رواية كامو هذه التي يقتل فيها ميرسو عربيا مجهول
الاسم، تبدأ بالجملة التالية “ماتت أمي اليوم”، بينما تبدأ رواية كامل داوود
بالجملة التالية “ماما مازالت على قيد الحياة اليوم”. في رواية كامو يقدم ميرسو
للمحاكمة وكأن محاكمته تكمن في كونه لم ينتحب في جنازة أمّه أكثر من كونه قد قتل
عربيا.
هكذا
يقدم الروائي الجزائري علاقة الاشتباك برواية كامو الذي يقتل فيها ميرسو عربيا لا
يذكر اسمه. إنه بلا هوية. ولكن روايته: “تحقيق ميرسو” تمنح قتيل رواية كامو اسما
وهوية. وبهذا المعنى فإنها تطرح رؤية لا تمحو طرس كامو بل تقدم اعتراضا نقديا على
عمل روائي عظيم ينتمي إلى ثقافة أخرى، كما أنه لا يضمن سلطان السابق على اللاحق.
*ناقد
من سوريا مقيم في لندن
*المصدر : العرب اللندنية ، العدد 10199 ، 2016/02/28
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق