ثلاث قصص
للفيلسوف المصريّ/ الأمريكيّ: إيهاب حسن
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
اللوحة، للفنان المصريّ/ الألمانيّ: صلاح الأعسر |
كستناء
كأرملٍ لم يُعقِب أولاداً، تاقَ الرجل لزيارةِ قرية
أمه الأناضولية. كانت رحلته الأولى خارجَ مصر، المضغوطةِ بين صحراءين، وقد امتلأت
أحلامه بأشجار الصنوبر الذي غبّره الثلج، جمع مدّخراته من عمله بالأرضِ طيلةَ
حياته، واستقلّ باصاً عتيقاً إلى الإسكندرية، كانت سِلال القشّ والماعزِ مقيدةً
أعلاه. وفي الميناءِ القديمِ، أنعمَ بصره في السفن على مدار الأفق، نقاطٌ تتبعُ
خيوطَ الدخانِ. المكتبةُ القديمةُ بمليون مخطوطةٍ، الفرعونُ المنتصبُ عالياً وسطَ
عجائب الدنيا السبع ـ وقد صارَ أنقاضاً على أرضية الميناء ـ كلّ ذلك يبدو غريباً عن
هدفهِ.
في المساء، نزل ليتنزّه على رصيف الميناء، فشاهد
الأولاد والبنات وهم يبحرون زُرافاتٍ منفصلةً، يهذرون وسط نعيبٍ صرخاتِ النوارس،
رشاشُ الأمواج يدعوه إلى شاطئٍ آخرَ. في وهنٍ، ترشحُ رائحةُ الكستناء المحمّص
ليستغرقَ في غفوةٍ. وقفَ جنبَ بائعٍ واشترى اثنتي عشرة حبةً من على الفحمِ، وهي لا
تزال ساخنةً بلفّتها في ورقِ جريدةٍ. لكن شيئاً وكزه فجأةً من كوعهِ، وكزه ثلاثاً،
كلّ مرةٍ أصلبَ، فسقطت الكستناء على الرصيفِ.
مهتاجاً من الغضب، استدار الرجلُ، فرأى مخلوقاً عجيباً
جانبه، لا هو أعرج ولا هو قَزم، كلّه أسمالٌ وشَعرٌ وأسنانٌ مكسورة، أدكنَ من
القرد وأعلى مرتبةً. كأن ثمة حياة على ركامٍ مشوّه، كان بشاعةً مجهولةً في هواءٍ
مجنونٍ. صرخ البائع لاعناً، وهو يرفع ذراعه؛ فانسحبَ المخلوقُ في عويلٍ غير أرضيّ،
لكأنه اختنقَ، من دون أن يكشف عن مَهمّته على الأرضِ.
في تلك الليلةِ، عاد كلّ شيء إلى فراشِ الرجل، ملأ
الفحمُ والكستناءُ عينَيه. وخرجت الكلمات من فجوة فمه وهو يبقبق كدوّامات سفينةٍ
تغرق. حين استيقظ الرجل أخيراً، أحسّ كأن شيئاً يضغط على قفصه الصدريّ، ناعماً
كيدَي أمه المعروقتَين، ثقيلاً كوحدةِ أعوامهِ. لم يلبس ملابسه، فقد رحلت سفينتهُ.
الدراجة
وراء فندقٍ فخمٍ في نيودلهي، سورٌ من الخيزران ارتفاعه
اثنتا عشرة قدماً، ليحميه من الأكواخ أو أيّ حيٍّصفيح أو فقير ـ يحمل البؤس أسماء
عديدة ـ وينبسط إلى الليل. يستقرّ ما هو محظورٌ هناك وسط الصناديقِ، علب الصفيح،
أسطح الأشرعة الممزقة، وسط جداول البراز والنيران الواطئة والظلال الساكنة وهي
تومض في الظلام.
متجاهلةً تحذيراتِ البوّاب ـ بخنجرٍ زائف في حزامه ـ
اقترحت المرأة نزهةً مسائيةً على حافة الحيّ الفقير. همست لرفيقها: لن نجادل
"علي بابا". وهما
يتمهّلان أمام شجرة تين عملاقة، لاح فجأة خارجاً من السواد جسمٌ على دراجة، كله
رُكبٌ وكيعان، غير مرئيّ تقريباً عدا عينيه بعروقهما الحمراء. اندفع حاقداً نحو
المرأة، كمن سيصدمها، قبلما ينحلّ في الهواء. فانحرفت، مترنّحةً، لكن رفيقها توصّل
إلى ذراعها قبلما تزلّ في مصرفٍ آسن.
على رغم الحرارة، كانت المرأة ترتجف. حاول الرجل أن
يحضنها بين ذراعيه، بفظاظةٍ، فارتُجّت مبتعدة. قفزت، بكتفيها المحدودبين، من دون
أن تنظر خلفها.
من ذات مكانٍ، صرخ في رأسها طائرٌ ليليٌّ ـ أهو ما كان
يرشد يدَ الشبح على مِقود الدراجة؟ نظر رفيقها حزيناً إلى ظهرها وهي تمضي. تحت
الهالة المتّسخة من نور الشارع، كانت صورتها داكنةً.
عبر السنين، كانا ينظران بحقدٍ كلٌ إلى الآخر، في
لحظاتٍ نادرة ـ حين يستقلاّن رحلةً إلى مكان فيه ماءُ صنبورٍ ملوّث، حين يسمعان
ابنهما، وقد مات في حربٍ بعيدة، ينادي عليهما من قبره ـ فيتذكّران راكب الدراجة
الشبح، ونذيره الشؤم.
إيهاب حسن |
الممرّ
كان والده من جزيرة سالونيك اليونانية، بشارب مرتجف،
وقد ترك زوجته المصرية في السويس، وجاء ليعيش في سيدني، معه آليكس وهو يتهادى في
سيره، عيناه بلون الزيتون الأخضر. ربّته زوجة أبيه وحيداً بعدما مات زوجها
اليونانيّ لاهثاً، قضى نحبه فوق فخذيها الأيرلنديتين الحليبيتين. كان الولد يجمع
الأصدافَ، نابذاً أياً مما لا تحمل الألوان، أو الشقوق النحيلة. إلامَ تشير هذه
الحقائق؟
اكشف عن سلطانك الخياليّ. تصوّر صفائح الأسى المزروعة
في أوردة آليكس، تصوّر الكروموسومات المتضاربة ـ البحّارة الفينيقيين، التجّار
اليونانيين، الصليبيين المغيرين، الفلاّحين، السُمر الخالدين كالنيل ـ كلّ ذلك
مغزول بدمه. في ضوء أستراليته المشوّهة، انظر بدقّة إلى آليكس. هل ترى الذكاء
المترنّح على الحافّة؟ نقاط الاشتباك العصبية ضمن دماغه؟
درس الطبّ ـ يناديه الجميع يا دكتور ـ وبعدما ماتت
زوجة آليكس وابنه في صدام مروّع على الطريق السريع الدائريّ حول الميناء، اعتاد
السير في شوارع سيدني، وهو يلوك ثلاث كلمات كانت على المفارق بلوحة نحاسية أنيقة:
حذار من الممرّ. يلوكها في أيّ مكان، من باراماتا إلى خليج واتسون.
يقول العجائز لقد كان آخر يوم في حياة آرثر ستيس[1]، وهو يحاول أن ينقذ
العالم. وقال الشابّ، الذي لم يسمع عن ستيس "ماذا؟"، لكن ستيس كان سِكّيراً
جوّالاً، طويلاً، محدودباً، ومعتوهاً جذّاباً ـ كلّ شيء عن ألكسندر كان شائعاً ـ وهو
جوّال أميّ على نياته، يثرثر عند بلدية "إبره"، ويكتب فحسب كلمة واحدة
جميلة "الأبدية"، وذلك في ليلة الألفية الثالثة، حيث كانت المدينة
مضاءةً بالأحرف على ارتفاع مئة قدم عبر جسر هاربر.
استحالت الكلمة المحيرة ببطء إلى نفثات دخانٍ. ولا
تزال القلّة التي عرفت الدكتور تفهم إخلاصه المستميت كي ينهي شقوق الخليقة. يغلق
الممرّ الضخم الذي يفتح مرفأ سيدني على المحيط. (كان آليكس يستشهد من هارت كرين[2] "غمزة الأبدية
الواسعة"، وقد أغرق نفسه في بحرٍ آخرَ) وقد أُغلق ذلك الممرّ في حياة
ألكسندر، حين صادوه من المياه، بفمٍ مفتوح، وتكشيرةٍ عنيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق