سأموت طلباً للشِعر الذي سينقذ العالم!
تقديم وترجمة: محمد عيد
إبراهيم
جنسبرج يلقي إحدي قصائده |
يُعدّ الشاعر الأمريكيّ ألن جنسبرج (1962 ـ 1997) عرّاب الشَعر الأمريكيّ
الجديد، ورأس جيل "البيت"، الجيل الشعري الذي أطلق صرخةً في وجه الأُطر
الأدبية التقليدية الأوربية التي كانت شائعة بأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية،
حيث كانَ على المتأملين فوقَ جبالِ المعرفة أن ينزلوا أرضاً ليعاقروا آمال العالم
الجديد الذي شرعت أمريكا آنذاك في تسنّمه استيفاءً لقيم التحرّر والعدل والإخاء،
وإن لم يأت بيُسر وسهولة كما يعرف الجميع، بل عاصرته مخاضات أليمة، فانقلب الحال
في القرن (19) من كلمة الشاعر ويتمان "الولايات المتحدة هي القصيدة
الأعظم" إلى كلام جنسبرج في القرن (20) "أمريكا، وهبتك كلّ شيء ولا شيء
عندي. لا أتحمّل عقلي، فمتى نوقف حروب الإنسانية؟"
ولد جنسبرج في نيويورك،
لأبوين يهوديين من روسيا، وعانى كثيراً في طفولته من مرض أمه العقليّ، وكان والده
شاعراً مغموراً. تخرّج في الآداب من جامعة كولومبيا، وأسّس مع جاك كيرواك ووليم
بوروز ونيل كاسيدي جماعة جيل "البيت". وكانت شقّته محطّ اللصوص فترة
شبابه، وللتخلّص من الشرطة ادّعى الجنون، وانتهى به المآل إلى قضاء أشهر بمستشفى
للأمراض العصبية. عُدّ ديوانه "عواء" مَعلَماً بارزاً للحركة.
يقول جنسبرج: "لا أحد بمقدوره أن ينقذ أمريكا، فحين تتجمّد أنفك،
يُصابُ عقلكَ بالزكامِ". وقد تركّز عمل جنسبرج حول جماليات: الصوفية وعلم
الاجتماع والبوذية والماركسية والعلاقات الحسيّة. وقد ظلّ ناشطاً سياسياً طيلة
عقدَي الستينيات والسبعينيات، يعمل بمبدأ "قوة الزهرة" في معارضة حرب
فيتنام. كما سُجن لتظاهره ضدّ نيكسون. وظلّ يكتب الشعر ويواظب على دعم الحركة حتى توفّي
متأثّراً من تليّف الكبد والسكّر والسرطان.
ونترجم هنا بعضاً من ديوانه "سندوتشات الحقيقة"، حيث نرى روحاً كبيرة
"غيّرت وجه أمريكا":
رسالة
لأننا تغيّرنا
اشتَغلنا النسيجَ المُهلهلَ
بكَينا وبُلنا معاً
أصحو صباحاً
بحُلمٍ في عينَيّ
لكنكَ ضعتَ في نيويوركَ
تذكُرني جيداً
أحبكَ أحبك
وأخوتُكَ مجانين
أتقبّلُ حالاتِ سُكرِهم
من أمدٍ طويلٍ وأنا وحدي
من أمدٍ طويلٍ وأنا أسهرُ في الفِراشِ
من دونِ أحدٍ ألمسهُ برُكبته، رجلاً كانَ
أو امرأةً سيّانَ عندي، أنا
أرغبُ في الحبّ الذي ولدتُ لأجلهِ، أريدكَ معي الآنَ
سفنُ البحورِ تهيجُ عبرَ الأطلسيّ
أعمالُ الفولاذِ الرهيفِ بناطحاتِ السحابِ غيرُ مكتملةٍ
الطرفُ الخلفيّ من سفينةِ الفضاءِ يهدرُ عبرَ بلدةِ "لكرست"
ستّ نساءٍ يرقصن معاً عارياتٍ فوقَ مسرحٍ أحمرَ
أوراقُ الشجرِ خضراءُ في كلّ باريسَ حالياً
سأرجعُ بعدَ شهرين كي أتطلّعَ في عينيكَ.
مقطع
من "أسدٌ حقيقيّ"
عدتُ إلى بيتي فوجدتُ أسداً في غرفةِ معيشَتي
هرولتُ خارجاً إلى النارِ أهربُ صارخاً أسدٌ!
أسد!
كاتبا اختزالٍ شدّا شَعرهما الأسمرَ ثم صَفَقا النافذةَ
ليُغلقاها
أسرعتُ بالعودةِ إلى "باترسون" ولبثتُ فيها يومَين.
اتّصلتُ بمحلّلي المعالجِ القديمِ
الذي صرفَني عن علاجِ تدخينِ الماريجوانا
نطَقتُ لاهثاً "لقد حدَث. هنالكَ أسدٌ في غرفتي"
"أخشى أن يكونَ نقاشي من دونِ جدوَى"، وأنهَى
المكالمةَ.
ذهبتُ إلى عاشقي القديمِ لنسكَرَ مع عشيقتهِ
قبّلتهُ وأعلنتُ عندي أسدٌ بلمعةٍ مجنونةٍ في عيني
جَرَّحْنا بعضنا في القتالِ على الأرض كَسَرتُ حاجبَه
وركلَني خارجاً
انتهيتُ بالاستمناءِ في سيارتهِ الجيبِ المركونةِ
بالشارعِ وأنا أئنُّ "أسد".
لقيتُ "جوي" صديقي الروائيَّ وأقرأني أشعارَه
البسيطةَ العاليةَ العفويةَ
أنصتُّ للأسُودِ وكلّ ما سمعتهُ كانَ: فيلٌ لبوةٌ نَسرٌ
هجينٌ وحيدُ قَرنٍ نِمالٌ
لكني تصوّرتهُ قد فهمني حقاً حين عملناها بحمّامِ "إيجنز
ويزدوم".
لكنهُ أرسلَ لي في اليومِ التالي ورقةً من جبلهِ
المدخّنِ تراجعَ
"أحبكَ يا حيوانيّ
الجنسيّ الصغيرَ بأسُودكَ الذهبيةِ اللطيفةِ
لكن لن توجدَ نفسٌ هناكَ ولا قضبانَ فحديقةُ حيوانِ
أبيكَ الغالي لا تضمّ أسداً
قلتَ أمكَ كانَت مجنونةً فلا تتوقّعُ مني أن أُنجبَ
وحشاً لعريسكَ".
مقطع
من "سُحقاً لأُذن فان جوخ"
الشاعرُ قِدّيسٌ
المالُ صفَّى روحَ أمريكا
الكونجرس تحطّمَ على شفيرِ الخلودِ
بنى الرئيسُ آلةَ حربٍ ستقيءُ وترفعُ روسيا عن "كانساس"
القَرنُ الأمريكيّ ضلّلهُ سيناتور مجنون لم يعُد ينامُ
مع زوجتهِ
فرانكو قتلَ "لوركا" ابن "ويتمان"
الجميل
كما انتحرَ "ماياكوفسكي" ليتفادَى روسيا
"هارت كرين" المعروفُ بالأفلاطونيّ انتحرَ
لينسحبَ من أمريكا الضالّةِ
بينما ملايينُ الأطنانِ من القمحِ البشريّ بكهوفٍ سريةٍ
تحتَ البيتِ الأبيضِ
بينما الهندُ تجوعُ وهي تصرخُ وتأكلُ الكلابَ المجنونةَ
المبتلّةَ بالمطرِ وجبالُ البيضِ تستحيلُ مسحوقاً أبيضَ في رُدهاتِ الكونجرس
لن يسيرَ هناكَ ثانيةً رجلٌ لا يخشَى الله من نَتَن
بيضِ أمريكا الفاسدِ...
لن ينشرَ أحدٌ كلمةً ليسَت غيرَ هذياناتِ عقلٍ لئيمٍ
لآلِيٍّ جبانٍ
يومَ نَشرِ الأدبِ الحقيقيّ للجسدِ الأمريكيّ سيصبحُ
يومَ ثورةٍ،
ثورةِ الحَمَلِ الجنسيّ...
لا أرى غيرَ القنابلِ
لا أهتمّ بمنعِ آسيا أن تكونَ آسيا
ستنهضُ حكوماتُ روسيا وآسيا ثم تسقطُ لكن آسيا وروسيا
لن يسقطا
ستسقطُ أيضاً حكومةُ أمريكا لكن كيفَ تسقطُ أمريكا
أرتابُ في أن يُسقِطَ أحدٌ أياً كانَ غيرَ الحكوماتِ
ولحسنِ الحظِّ الحكوماتُ كلّها سوفَ تسقطُ
تلك التي لن تسقطَ هي الصالحةُ
وتلك الصالحةُ لم تعد موجودةً
لكنها ستبدأ وجودَها بعدما توجَد في قصائدي
توجَد في موتِ الحكومتَين الروسيةِ والأمريكيةِ
توجَد في موتِ "هارت كرين" و"ماياكوفسكي"
حانَ الوقتُ للتكهّنِ بانتفاءِ الموتِ عاقبةً
لن يختفي الكونُ في النهايةِ
ستتفَسّخ هوليودُ على الطواحينِ الهوائيةِ للأبديةِ
هوليود التي تلصَقُ أفلامُها بحلقومِ الله
نعم ستنالُ هوليودُ ما تستحقّ
الزمنَ...
سيكتبُ التاريخُ قصيدتَه المتنبئةَ وصمتَه الفظيعَ
موسيقى روحانيةً بشعةً
لديّ أنينُ اليمامِ ورياشُ النشوةِ...
الحربُ تجريدٌ
لن يتهدّمَ العالمُ
لكني سأموتُ طلباً للشِعرِ، الذي سينقذُ العالمَ
أُذن فان جوخ على المشاعِ
لا مزيدَ من الدعايةِ للوحوشِ
وعلى الشعراء تحاشِي السياسةِ أو يستحيلون وحوشاً...
أمريكا ستتهدّمُ
شعراءُ روسيا يكافحون مع روسيا
وقد حذّر "ويتمان" من "لعنةِ الأممِ
الخرافيةِ"...
المال! المال! المال! المالُ السماويّ المجنونُ الزاعقُ
بالأوهامِ! المالُ المُجمَّعُ من لا شيءَ، الموتُ جوعاً، الانتحارُ! مالُ الإخفاقِ!
مالُ الموتِ!
المالُ ضدّ الأبديةِ! وطواحينُ الأبديةِ الجبارةُ
ستُفتّتُ صحائفَ أوهامنا!
إلى
الشاعر ليندساي
النجومُ قد خرجَت، في "فاشيل"
سقطَ الغَسقُ على طريقِ "كولورادو"
عربةٌ تزحف بطيئاً عبرَ الوادي
في النورِ المُعتمِ يدوّي الراديو بألحانِ الجاز
يشعلُ البائعُ المحَطّمُ القلبِ سيجارةً أخرى
بمدينةٍ أخرى منذ 27 عاماً خلَت
أرى ظلّكَ على الحائطِ
وكنتَ تجلسُ في الفِراشِ بحمّالتَيْ بنطلونكَ
فترفعُ يدُ الظلِّ زُجاجةَ المُطهّرِ إلى رأسكَ
ليرتمي ظلّكَ أرضاً.
مقطع
من "نفسي الحزينة"
حينَ تحمرُّ عيناي أحياناً
أشبّ على رأسِ ناطحةِ سحابِ نيويوركَ
وأحدّقُ في عالمي، مانهاتن ـ
بناياتي، الشوارعُ التي قدّمتُ فيها أمجادي،
شرفاتُ الكنيسةِ، الأسرّةُ، الشُققُ العتيقةُ
ـ بالشارعِ الخامسِ التي أحملُها برأسي،
العرباتُ الصغيرةُ، سياراتُ الأُجرةِ الصغيرةُ، الرجالُ
السائرون بحجمِ ذرّاتِ الصوفِ ـ
مشاهدُ الجسورِ، والشمسُ تشرقُ فوقَ آلاتِ بروكلين،
تهبطُ الشمسُ على نيوجيرسي حيثُ ولدتُ
مع "باترسون" حيثُ لَعِبنا بالنِمالِ ـ
غرامياتي الأخيرةُ بالشارعِ 15،
غرامياتي الأكبرُ في "لوير ايست سايد"...
وتشرقُ الشمسُ على كلّ ما عندي
بلمحةِ عينٍ في الأفقِ
في خلودي الأخيرِ ـ
المهمّ الماءُ.
حزينٌ،
آخذُ المِصعدَ وأنزلُ،
أتأمّلُ،
وأمشي على الرصيفِ أُحدّقُ في نوافذِ الخَلقِ
الزجاجيةِ، الأوجهِ،
أستفسرُ عمّن يحبّ،
وأتوقّف، مرتبكاً
أمامَ واجهاتِ العرباتِ
الساكنةِ وهي تغرقُ في أفكارٍ رزينةٍ،
يتحرّكُ المرورُ من أولِ إلى آخرِ الشارعِ الخامسِ
فينسدّ خلفي
أنتظرُ لحظةً حتى...
حانَ أن أعودَ وأطبخَ عشائي وأنا أُنصتُ إلى
أنباءِ الحربِ الرومانسيةِ في الراديو
... تسكُنُ الحركاتُ جميعاً
وأمشي في حزنِ الوجودِ السرمديّ،
وتدفُق الرقّةُ عبرَ البناياتِ،
تلمسُ أطرافُ أصابعي وجهَ الحقيقةِ،
وجهي تلطّخَ بالدمعِ في مرآةِ
نافذةٍ ـ بالغَسقِ ـ
حيثُ لا أملكُ رغبةً ـ
للحلوى ـ أو تملّكِ أرديةٍ أو مصابيحِ ظلٍّ
يابانيةٍ للحكمةِ...
مؤلمٌ هذا الفِناءُ، هذا القبرُ
هذا السكونُ
على فِراشِ الموتِ، هذا جبلٌ
رأيتهُ ذاتَ يومٍ
لم أستَعِدهُ أو أرغبْ فيهِ
داخلَ عقلي ليأتي
حيثُ تختفي مانهاتن التي أراها.
تقديم وترجمة: محمد عيد
إبراهيم
(*) نصوص تُترجم للمرة الأولى إلى العربية، حصرياً
لمدونة: غاستون باشلار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق