الثلاثاء، 1 يوليو 2014

الزمن عند باشلار : رضا عزوز

ترجمةسعيد بوخليط


إذا أردنا تحديد الصلة بين الواقع والممكن، يمكن أن نباشر ذلك بطريقتين مختلفتين: إما أن نعتبر أن الممكن يتقدم الواقع وبأن هذا الأخير تحقق للممكن، أو نعتبر الممكن كصورة رجعية للواقع، "إذن فالواقع هو الذي يقوم كممكن، وليس الممكن هو الذي أصبح واقعيا"[i].
في الحالة الأولى، يكون الواقع تجسيدا لفكرة: "تأكيد إمكانية يظهر كسابق على تأكيد حقيقة. فالممكن هو الإطار الماقبلي للواقع"


[2]. في الحالة الثانية، يكون "المفعول المركب للحقيقة التي ظهرت مرة ثم المآل الذي يلقي بها إلى الوراء"[3]. الممكن يحتوي على أكثر من الواقع ما دام أنه يفترض الواقع زيادة على فعل للفكر يلقي به إلى الوراء.
هاتين الطريقتين لتعريف الصلة بين الواقع والممكن هما على التوالي تلك التي لباشلار ثم برجسون. وتشكلان قضية فلسفية ذات أهمية كبرى. وهي قضية ليس لها فقط فائدة محض نظرية. بل لها كرهان التاريخ باعتباره صيرورة محتملة. وهي صيرورة، إذا كانت تفترض الحداثة الأساسية للحظات، وإذا كانت تقوم على مبدإ الطارئ l’accidentel، فأي صلة يمكن إقامتها بين الواقع والممكن بالنسبة للفكر التاريخي؟
من أجل التفكير في العلاقة بين الواقع والممكن داخل المعرفة العلمية، فإنه يمكن أن نحيل إلى مؤلف باشلار: La valeur inductive de la relativité حيث، بالنسبة إليه، تجعل النسبية La relativité من "الممكن نسقا، بل عندنا الانطباع أن النسبي يذهب بعيدا أكثر وهو مأخوذ بواقعية أفلاطونية حقيقية للممكن. ويميل إلى أن يختص العنصر بتنظيم للممكن غني ومنسجم"[4]. الواقع يخضع للممكن. إنه بناء متخيل للممكن. والحقيقة هي منظور لهذه الإمكانية المشيدة والمنظمة. إذن يمكننا فهم الواقع دون نسق للعلاقة. والتجريب هو تحقق لهذه الإمكانية المرتبة جدا.
إذن فالواقع يظهر عند نهاية تشييد ويمكن فصله عن الحركة التي تؤسسه: "الواقع تتم البرهنة عليه ولا يظهر".
هذا التأسيس انطلاقا من إمكانية مرتبة يعطي للفكر العلمي خاصية جمالية أكيدة. وفي الواقع، فللفكر التركيبي دائما خاصية جمالية تذهب النسبية عكس التجريبية والواقعية. إنها لا تنحصر عند مستوى الإدراك، وتستبدله بالمفهوم. على العكس من الواقعية، فإنها لا تجيب عن سؤال: "أين الواقع؟ لكن فقط عن سؤال: في أي اتجاه وبأي تنظيم للفكر يمكننا أن نعرف الأمان حين نقترب الواقع؟"[5]. إذن فإن فلسفة للعلاقة، والتي تدرس تطور المعرفة العلمية تفترض بأن الواقع يخضع للممكن. لكن ألا نجازف بإبطال كل حقيقة وجعل منها وهما؟
بالعكس من ذلك، بالنسبة لباشلار فإن "الديمومة مثل الجوهر La substance لا تبعث لنا إلا أوهاما. بل إن الديمومة والجوهر يلعب الواحد منهما بناء على الآخر من خلال تقابل يائس، حكاية الخادع المخدوع. فالصيرورة هي ظاهرة الجوهر، كما أن الجوهر هو ظاهرة الصيرورة"[6].
إذن فالجوهر نظام، نسيج علاقة، الجوهر ليس إلا "بنية من الصفات". والبنية الحقيقية للجوهر تتناول انطلاقا من مبادئ "الإمكان" أو La compossibilité.
إذا كان الجوهر غير منفصل عن نظام، فإن كل نظام يفترض الزمان. والخطاب حول الكائن هو خطاب في الزمان. لأن هذا الأخير يفترض صلة الواحد بالآخر. كما أنه لا يمكننا تناول الزمان دون ربط الوحدة بالتعدد وكذا العكس. لذلك يقوم الزمان على تعدد للأنظمة، وكذا تعدد للممكنات، هكذا يحدد الممكن الواقع، كما يحدد نظام الزمان الكائن.
هذه الصلة الضيقة بين الكائن والزمان، تعطي للكائن إيقاعات مختلفة والذي يعطي المكان لأنتروبولوجيا وكذا علاجية. فإذا كانت السعادة ترتكز على استعمال كل لحظات الزمان وكذا المساهمة في الساعة الكاملة والتي تتأتى من مجموع أفعال المبدع، فإن الحركة العلاجية تتجه إلى تحديد الإيقاع الذي نحن في حاجة إليه. العلاجية تحدد الاهتزاز، والذي لنا أن نثيره أو نهدئه، "إذن فالجوهر ليس إلا مناسبة لصيرورة، والماهية الخالصة ليست إلا زمنا جد مهتز"[7].
ما هو رهان هذا النقد لميتافيزيقا الجوهر؟ وهو نقد ليس له فقط خاصية سجالية، بل له كرهان التاريخ. لكن التاريخ يفترض ثنائية الواقع والمثال، فأحداث التاريخ تتأسس كنتيجة للتأرجح بين الواقع والمثال، الإنسان يعاني قدر عدم تمكنه من أمثلة idéaliser ما تم تحقيقه ولا تجسيد ما هو مثالي idéal. هذا التأرجح يتأتى من كون الكائن صيرورة إلا أنها ذات ثغرات ومضطربة. إنها تعدد للإيقاعات. وحدها العادة تعطينا استمرارية في الوجود، وذلك بتنسيق أفعالنا داخل منظور المستقبل. فبالعادة يكون "نظام الصيرورة مباشرة صيرورة نظام"[8]. العادة هي الاسترجاع اللانهائي، التكرار الأبدي الذي يعيد تجديد وجودنا وتطويره. بالتأكيد، فإن المثالي يضمن الاستمرارية. لكن الواقع هو انفصال للمحاولات، استئناف. إذا كانت فلسفة باشلار فلسفة للتاريخ فذلك لأنها فلسفة للفعل المبدع وللتكرار. هكذا فإن الماضي استدعاء للتقدم. وفلسفة التاريخ هي فلسفة الحياة التي تتجدد وكذا الفكر الذي يتطور.
بالنسبة لباشلار، يمكن المثالي من التطور ويضمن تجدد الفكر، وكذا القلب[9] هو الذي يسند العقل ويكفل وحدة الكائن، "القلب الصادق هو دائما نفسه"، إنه يحقق تآلف الزمان والخلود الذي لا يكتسب إلا من خلال التألم والتجاوز. إذن فالعشق "كمنقذ إلاهي […] يعطينا في نفس الإشارة السعادة والعقل وكذا وسيلة البقاء أبديا بالحقيقة والصلاح"[10]. هكذا فالعشق بالنسبة لباشلار ليس أي انفعال، بل هو حقيقة الكائن ما دام أنه مرتبط بالتاريخ كتكرار، وكإعادة أبدية.
لكن كيف للفلسفة أن تحافظ على هذه الثنائية التي هي الواقع والمثال؟ فمنذ القديم حاول الفيلسوف الإبقاء على هذه الثنائية وذلك باستعمال طرق مختلفة. الأولى هي التهكم: نعلن عن ما يجب فعله ثم التقاعس عن الاعتقاد بأنه يوجد. الثانية هي الدعابة: حيث نصف ما هو موجود مع عدم العمل بالاعتقاد أنه حقا ما يجب أن يكون. أعتقد بأن عمل باشلار يمزج بين الطريقتين، محاولا الوصول إلى هذا الزمان غير المتواصل والطارئ والذي هو شرط الصيرورة التاريخية وسر العشق. فلسفة التاريخ هي فلسفة للتهكم والدعابة.
من أجل إيضاح التهكم الباشلاري، يمكننا إعطاء نماذج متعددة، مثل هذا الاستشهاد المأخوذ من كتابه: الأرض والتأملات الشاردة للراحة "La terre et les rêveries du repos": "حقا الخمر عام، يصبح مفردا إذا وجد في المقابل فيلسوفا يعرف شربه"[11]؛ أو أيضا هذا المفهوم للمنافسة المدرسية: "أن تكون الأول، أي امتياز دوكاسي Ducassien: يظهر خلفه للآخرين"[12]. باشلار لا يمتنع أبدا عن "السعادة الشيطانية" وذلك باقتراح إسهابات من نوع "كل جسم يغطس في سائل يختبر من الأدنى إلى الأعلى ضغطا يساوي وزن السائل المنقول. إنه قانون لنفس طريقة هذا التأكيد: إذا غطست الأصابع في الحلق، فإني أحس بالغثيان"[13] معتبرا القسوة كـ"الذهان المهني للأستاذ"، فإنه لا يتردد في أن يكتب: "ليس هناك تربية رياضية mathématique دون نوع من رداءة العقل. هل هناك من سخرية أكثر تباثا وسرعة وكذا رعبا من سخرية أستاذ الرياضيات؟ متربص في زاوية من القسم، مثل العنكبوت في ركنها، إنه يترقب"[14]. هذه السخرية الباشلارية تظهر بالفعل أن العلم في حداثته هو حدث للعقل، إنه يتوقف على فعل خالص، والذي "يهجم" على مسألة، ويعيد تنظيم معرفة سابقة. حينئذ "ذكاء حي مشبع بنظرة ثاقبة وبأقوال حية"[15]. إذا كان تاريخ العلوم المزدحم بالأحداث والتي أقامت إعادة تنظيم جديد للمعرفة أو للتجربة، فذلك لأن الذكاء الإنساني يعتبر عنصر مفاجأة "الذكاء مخلب والذي يهشم وهو يخدش"[16]g



[i] - هنري برجسون، الفكر والمتحرك، ص115.
[2] - غاستون باشلار، القيمة الاستقرائية للنسبية، ص81.
[3] - هنري برجسون، مرجع سابق، ص112.
[4] - غاستون باشلار: القيمة الاستراقية للنسبية، ص82.
[5] - نفسه، ص20.
[6] - غاستون باشلار: حدس اللحظة، ص74.
[7] - غاستون باشلار: جدلية الزمن، ص136.
[8] - غاستون باشلار: حدس اللحظة، ص74.
[9] - على الأقل وجهة النظر هاته، هل تم التعبير عنها في حدس اللحظة؟
[10] - نفسه، ص95.
[11] - غاستون باشلار: الأرض والتأملات الشاردة للراحة،  ص332.
[12] - غاستون باشلار: لوتريامون، ص61/62.
[13] - غاستون باشلار، العقلانية المطبقة، ص178.
[14] - غاستون باشلار، لوتريامون، ص92.
[15] - غاستون باشلار: لوتريامون، ص146.
[16] - نفسه، ص146.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق