الخميس، 10 يوليو 2014

المؤلف والنص : النقد الموضوعاتي : محمد أسامة العبد


لكل مرحلةٍ من التطور البشري جهازه الأبستمولوجي (المعرفي) ولكل مدرسة أدبية مذهبها الخاص تؤطر ضمن شبكة من العلاقات المتواشجة ضمن أدوات معرفية لها خصوصية تمتاز بها تُستغل في الرؤية والتحليل، ولكل عصر يفرز مكوناته، وعناصره وآلياته، التي تشكل نظاماً أو نسقاً لا يمكن الولوج إليه إلا من خلال هذا التشكل، فهذا التشكل يرتبط بعضه ببعض، بعضها يفضي أو يؤدي إلى بعض، فهذا ما نطق عليه جملة من العناصر أو المكونات أو الأدوات المعرفية بالمنهج الموضوعاتي.‏

جذور الموضوعاتية:‏

يمكن أن نعيد جذور المقاربة الموضوعاتية إلى الرومانسية في نزعتها التحريرية التي من شأنها أن تجعل التعبير ينطلق حراً بلا تقييد ولا بتقليد صيغ موضوعه، وقوالب مصنوعة،‏

فالطبيعة هي مصدر الإلهام، فهي لا تفرض علينا قوالب وأشكالاً حينما نستقي منها، والرومانسية لم تقتصر على الشعر وكتابة القصة والرواية وغيرها من ألوان الأدب فحسب بل إلى فنون التشكيلية والموسيقى وإلى النقد الأدبي وإلى المصنفات التاريخية.‏

فالرومانسية مذهب يسودها مذهب عام وأسلوب متميز في التعبير، فالأسلوب الرومانسي ربما اختلفت في نسجه لكن يبقى جوهرة ثابت باختلاف المبدع لأن كل مبدع مختلف عن الآخر. أما من حيث مدلولها المجازي، فهي تعبير عن حالات خاصة في التفكير وفي العواطف وفي السلوك ومظاهر الحياة ولكن تختلف هذه الحالات من حيث النوع ولكنها لا تختلف من حيث ما نكون عليه من صفات ترجع برمتها إلى الجوهر وخلاصة القول:‏

الرومانسية من حيث تقويمها تعتبر من قضايا الإنسان الكبرى، هي قضية التحرر والانطلاق وإغفال ما هو قائم من الأوضاع لكي تستقيم النفس بما أوتيت من ملكات وقدرات تخرق المجهول لتظهر الحقيقة في (اللاماوراء).‏

إذاً الرومانسية في هذه الآلية هي بمثابة التطور والارتقاء والتجدد ورفض التقليد، ومن هنا كانت الرومانسية أكثر بروزاً في تطور العمل الفني، التي نظرت إلى العمل بحد ذاته ثمرة إبداعية أصيلة بفعل الوعي الوجداني الشخصي، فالعمل الفني ينشأ من عالم متخيل خاص بالفنان، والموضوعات هي علامات أثار أو بصمات يتكفل العمل النقدي بإعادة تركيبها في المنظور الرومانسي لا ينظر إلى الخصائص الشكلية للعمل في حد ذاتها فالمنتوج الفني يقدم دلالة تؤثر على الحياة وهذه الظاهرة تتعلق بالقارئ وبالمؤلف معاً إنها مزيج بين شكل وتجربة يتوحد تكوينها وميلادها، إننا إذن ضمن تصور روحاني وديناميكي لفعل خلق وإبداع، إذ يتحقق المصير الروحاني في حركة الإنتاج.‏

مفهوم الموضوع (التيمة)‏

يجب أن نميز بين التصور الذي أنتجه التاريخ الأدبي أو الأدب المقارن أي ذاك الموتيف المشترك بين عدة أعمال، بين التصور الخاص بالنقد الموضوعاتي، فالموضوع هنا هو شبكة دلالات، أو عنصر دلالي يتكرر عند كتاب في عمل واحد أو من عمل إلى آخر، كل شيء إذن يمكن أن يصبح موضوعاً بهذا المفهوم: الشكل، الغرض، العاطفة، الأسطورة... الخ ما دام أنه يمكن أن يعتبر مؤشراً على وجود الكاتب ضمن العالم.‏

الموضوع يختلف عن الأسطورة الشخصية التي درسها جان بول فيبر أي تلك البصمة لذكرى طفولية ما في ذاكرة الكاتب أيضاً عن كل ما يسمى موتيفا ـ في النقد التحليلي النفسي من صورة أو رمز، فالنقد الموضوعاتي لا يأخذ بعين الاعتبار اللاشعور إنه يتناول عناصر النص على أنها تعبير واعٍ ومدرك للخيال، فالموضوع على اعتبار أنه مبدأ تنظيم هو نوع من الغرض الثابت، وحوله ينزع عالم مُتشكل والانفتاح على حد قول جان بيار هذا يعني أن الموضوعاتية لا يمكن أن تختزل إلى مجرد كشف للتواترات بل ترسم كوكبة للتواردات المميزة بفعل تكرارها ودلالتها، فالعمل الفني ينحو ليصبح مجموعة شبكات مترابطة في علاقة الوعي الذي يتجلى من خلالها.‏

هذا يعني أيضاً أن كل ناقد موضوعاتي يوجه قراءته وفق حدسه لأن مطاطية الموضوعات تفرض بالضرورة اختياراً ما.‏

فالناقد هو قارئ متعاطف يقيم داخل العمل الفني ويتبنى حركاته فيعيد بذلك إنتاج الوعي المعبر عنه في ذاته لا يمكن أن نتحدث إذن عن مدرسة في هذا الاتجاه، بالرغم من تصنيف أهم ممثلي هذا التيار تحت تسمية مدرسة جنيف بل يجب أن ننظر إلى هؤلاء في ممارستهم الخاصة بشكل إفرادي حتى وإن كانوا يشتركون في بعض المنطلقات الخاصة بالمنهجية.‏

1 ـ المنهجية أو الطريقة ـ‏

إن النقد الموضوعاتي بانطلاقه من الذات المبدعة التي تتحول بعملها ضمن إطار الإبداع الفني رافضاً بذلك التصور الكلاسيكي الذي يرى الكاتب سيداً لمشروعه، لكن منهجية النقد الموضوعاتي معتمداً ومتكأ على التأويل والتحليل النفسي الذي يربط الإبداع الفني بعوالمه الداخلية مظهراً تواردها، في كل تموجاتها، وبهذا يكون قد أعطى أهمية كبرى للعلاقة بين الأنا التي هي الذات الإبداعية وما يحيط بها من عوالم داخلية أو خارجية، فالنقد الموضوعاتي مدين للظاهراتية لما يعطي تميزاً لأنماط الإدراك، لأن قمة الإدراك توجد في الشعور الذي يكشف عن تعبيرية العمل الإبداعي الفني بظاهرية العلاقة ما بين سيميائية النص وإيماءات موحية ليمنح الناقد استعمال منهجه النقدي بدقة مراعياً دينامية لغة النص واختبارها، فالنقد الموضوعاتي يجري على العمل الفني الإبداعي ما يسمى أحياناً (قراءات) بمعنى أنه ينجز مسارات شخصية تهدف إلى الكشف عن بعض البيانات وإلى الإجلاء التدريجي للمعنى وهو مسار بلا حدود طبعاً.‏

2 ـ أهم التوجهات:‏

أ ـ غاستون باشلار(1884-1962) وتصوره للمخيلة‏:

L'Air et les Songes
بالرغم من كون ماسيل دايموند وألبير بيفين أصحاب ريادة الموضوعاتية فإننا يمكن أن نعتبر فيلسوف المتخيل، غاستون باشلار رائداً للنقد الموضوعاتي ففي نظره ظاهرة الوعي أسبق، فالوعي هو الذي يؤسس الذات المدركة والعالم المدرك فهما الذات والعالم يوجدان من خلال العلاقات التي تعرف كينونتها.‏

فالخيال هو وظيفة مبدعة دينامية منظمة. والصور هي مادة وشكل معاً وتتحدد باعتبارها كلية إن صور المادة في جلها ثمرة حلم. يبقى إذن تعريف طرائق هذا الحلم الشاعري وبيان كيفية تحكمه في التجربة الحسية للعالم والكتابة معاً.‏

منهجيته (طريقته)‏

إن استعمال كلمة التحليل النفسي لا يجب أن يوهمنا اللاوعي (اللاشعور) عند باشلار هو ما قبل الوعي (ما قبل الشعور) فأحلام اليقظة مركزة على موضوع الصورة والصورة‏
تتناول كوحدة تدرك فليست انبجاسها وعلاقتها مع الذات التي تخلقها فالتعليق هو‏محاولة الكشف عن كينونة الصورة "وبذلك يعاد تشكيل العالم ـ الذي تود روح الفنان أن تعيش من خلال الصورة، إن باشلار حين يعلق على الأعمال الأدبية لا يشرح.. بل إنه يمنحنا قراءة، يطور جلاء الصورة ضمن مسار تعميمي(1).‏

ب ـ جان روسيه (1910-2002):

 Forme et Signification (1962)
من بين سائر الموضوعاتيين يعتبر جان روسيه أكبر المهتمين بشكل العمل الفني ذاته واهتم أيضاً بقراءة الأشكال الأدبية لفهم دلالاتها وإدراك العملية المتزامنة للتجربة المعاشة وطريقة تحقيقها فنياً فالعمل الفني عنده هو التحقق المتزامن لبينية وفكر معاً فالشكل لا يختزل إلى مجرد بنية بل إن "جبحلة قوى، صورة مسيطرة "هاجسية" حبكة حضور أو إهداء، شبكة من التوافقات" وعليه يجب القيام بقراءة شمولية فتيحة "موضوع" النوافذ في رواية مدام بوفاري (غوستاف فلوبير) ألا تكون تيمة من تيمات أحلام اليقظة الفلوبيرية، أليست تصوراً مورفولوجياً ووسيلة للإفصاح والتعبير وبنفس المعنى ألا تكشف البنية الدائرية لـ" في البحث عن الوقت الضائع" عن دلالة العمل‏ كله (2).‏



ج ـ جان ستاروبنسكي ـ ولد سنة 1920‏

L'oeil vivant (1961) 
باعتماده على تاريخ الطب وعلم النفس التحليلي واللسانيات وتاريخ الفن والجمال والتاريخ الأدبي عامة كان جان ستاروبنسكي على غرار الموضوعاتيين يرى في العمل الفني تجلياً للوعي في العمل أثناء الإبداع وهو يلح على النظرة الفوقية (من أعلى) التي يجب أن يمتلكها الناقد ليتمكن من رصد العلاقات القائمة بين أجزاء العمل الفني مع بقاء العلاقة النقدية ويرمي إلى إقامة مسارات سرية يقترحها العمل الفني ذاته، استهداف الكل، استهداف الحميمية، إنه ذهاب وإياب جدلي رؤية بانورامية على محيط العمل على علاقاته بالوسط التاريخي، والاجتماعي، وبمشاركة التجربة الحسية والذهنية التي تتجلى في العمل الفني... تلك هي غاية النقد وأهدافه حسب ستاروبنسكي.‏


منذ 1954 وجان بيار ريشارد يطور منهجه بالمقاربة الموضوعاتية قائمة على ظاهرة الوعي والخيال... وفي محاولته في تعريف الكائن في العالم، جهد في التوقع في اللحظة الأولى للإبداع الأدبي أي: تلك اللحظة التي يولد فيها العمل من الصمت الذي يسبقه والذي يكون حاملاً له، حين يستأنس إنطلاقاً من تجربة إنسانية.‏

وجان بيار ريشارد يفضل ـ الإحساس ـ خاصة وأنه يستند إلى فينومينولوجية الإدراك (ظاهراتية) ـ وينظم قراءات كل شخصية فيها التي بإمكانها أن تحيل إلى الكل، وتبسط الإمكانات الكامنة للعالم الذي يمثله النص. الأمر يتعلق بتكشف بعض العناصر وضغطها للكشف عن التواردات، وهي نوع من الأحلام على صور النص، وبذلك يتم إجلاء العالم الخيالي للكاتب بفضل جرد واسع للأحاسيس والتعبيرات التي يحملها فينومينولوجية النص.‏
Proust et le Monde sensible

تطوره:‏

منذ صدور كتابه "بروست والعالم المحسوس" سنة 1969 ذهب جان بيار ريشارد إلى توظيف عالم النفس التحليلي، وهو نزوع بدأ يظهر عنده "خاصة باعتماده على دراسة وحدات نصية صغيرة أو موتيفات، آخذاً في التحليل، وهي بمثابة رحلة بحث عن روح في بنية النص على أن مشهد النص هو نوع من الهوام الذي يحيلنا إلى رغبة لا شعورية.‏(3).




هـ ـ جيلبر دوران (1921-2012)‏:

Les Structures anthropologiques
 de l'imaginaire
إن منهجيته تقوم على الخيال، إذ أننا لا نحيا ونموت من أجل أفكار فحسب بل أكثر من ذلك فإن حياة الإنسان مشفوعة بالصور، فيتخذ من ديناميكية الخيال عرضاً له، وهما الدوافع الموضوعية، والنزوات الذاتية من جهة والصور المنظمة على شكل كوكبات رمزية يقوم بإحصائها وإعداد ما يشبه خريطة أو سجلاً لها، وفي منحاه هذا لا شك أنه سيواجه الأساطير وفي رأيه يمكن لنا أن نثبت وجود تواصل واستمرارية بين السيناريوهات الأكثر دلالة للمثيولوجيات القديمة والانتظام الحديث للسرود الثقافية (أدب، فنون جميلة، إيديولوجيات، وتواريخ" فالبشر يعيدون الديكورات والوصفيات الدرامية للأساطير الكبرى" حينئذ تتخذ الأسطورة قيمتها الكشفية (بالمعنى التعليمي والصوفي معاً. )‏

فالنقد الأسطوري يتحدد باعتباره تحليلاً للنص الأسطوري إنه حكاية تحت الحكاية تساهم في الدلالة العامة لكل حكاية، إن منهجية دوران تستخرج التيمات الأسطورية وتنسيقاتها وتواجه الأسطورة بأساطير أخرى محددة في التاريخ، وبذلك نعقد علاقة بين الهندسة الأسطورية للعمل الفني والخيط القصصي من جهة والعالم الخيالي للقارئ من جهة أخرى، أما التحليل الأسطوري‏ فيتخذ من اللحظة الثقافية والفئة الاجتماعية موضوعاً له إذ يقتفي المعنى النفسي والاجتماعي للأساطير حينئذ سيتقاطع النقد الأدبي بالأنثروبولوجية الثقافية .(4)

----------------
(1) من مؤلفاته: التحليلي النفسي للنار ـ الماء والأحلام ـ الهواء والرؤى (الأحلام) الأرض وأحلام الإرادة. الأرض وأحلام الراحة، شعرية الفضاء 1957، شعرية أحلام اليقظة ـ شعلة الشمعة.‏

(2) ومن مؤلفاته: الأدب في العصر الباروكتي في فرنسا (1954)، الشكل والدلالة (1962)، الداخل والخارج (1968) ترسيس روائياً (1973) أسطورة دون جوان (1978) وتلتقي العيون 1981، القارئ الحميم (1986).‏

جورج بولي: هو أحد تلامذة باشلار وقد اشتغل على محاولة وصف مغامرات الوعي من خلال البحث عن تجلياتها في الأنماط الفضائية (الزمكانية) ويقترح تحقيقاً حول هذه الإجراءات من خلال التاريخ الأدبي وذلك في كتابه دراسات حول الزمن الإنساني (1949ـ 1968)، وكتابه الثاني تحولات الدائرة 1961، إنه في ذلك يقدم بحثاً عن السر، عن أصل سابق للخلق اللغوي، وكل دراسة ترحل من الذات إلى الذات مروراً بالموضوع.‏

(3) مؤلفاته :(الأدب والإحساس 1954، الشعر والعمق 1964، العالم الخيالي عند ملارمية 1961 إحدى عشر دراسة حول الشعر الحديث 1964، المنظر الطبيعي عند شاتوبريان 1967، دراسة حول الرومانسية 1971، بروست والعالم المحسوس 1974).‏

(4) مؤلفاته: (البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل 1960)،(الديكور الأسطوري لقلعة بارما (1961) وجوه أسطورية ووجوه العمل الفني، من النقد الأسطوري إلى التحليل الأسطوري" (1992).‏



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق