الأربعاء، 9 يوليو 2014

في تكسير الإرث الفلسفي باشلار والقصيدة الشعرية : حسن اغلان


يعتبر «غاستون باشلار» اهم فيلسوف في القرن 20 ذلك بأبحاثه الابستملوجية التي أسست خطاباً جديداً تم بمقتضاه القطع مع التصورات السابقة. سواء في تاريخ العلم أو في تكوين المعرفة العلمية وفتح من خلال نحته لمفاهيم إجرائية جديدة أبواباً متسعة لمفكرين آخرين في مجالات علمية متعددة. ولأن هذا الزخم المعرفي والمفاهيمي الذي حوطنا به وارتبط اسمه في أكثر الجامعات بريقاً هو المجال الابستملوجي الذي كان احد اقطابه الأساسيين، وكدارسي الفلسفة ما يهمنا من باشلار هو دراساته الابستملوجية بينما المجال الآخر الأكثر حميمية لباشلار ذاته فظل لحد قريب مغموراً وغير معروف نعني بذلك مجال الأدب باعتباره مجال المتخيل والخيال بامتياز. يقول باشلار في عبارة دالة عما نحن بصدده (انظروا إلى أرجلي، أنا فيلسوف للعلوم. انظروا إلى أجنحتي، فأنا شاعر) ص 28.

غاستون باشلار نحو أفق للحلم 
هذه القولة هي التي تشكل في نظرنا. إشكالية هذا الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه للقارئ كتاب «غاستون باشلار: نحو أفق للحلم» للباحث د. سعيد بوخليط ضمن سلسلة باشلاريات العدد رقم 2 عن دار أبي رقراق 2006. 836 صفحة من الحجم المتوسط.
يحتوي الكتاب على 3 أبواب بالإضافة إلى مقدمة ومدخل وخاتمة. تروي الابنة الوحيدة لباشلار عن رفض أبيها لإدخال الكهرباء لبيته وكأن هذا العنصر الصناعي يشوش على الغرفة المليئة بالكتب وعلى المكتب أفق الحلم الذي يؤثثه الشمعدان، وكأنه يحيل إلى النار الملتهبة بنورها أمامه إلى التأمل والانسياق وراء تاريخها السيكولوجي.

يضعنا صاحب سلسلة باشلاريات في مواجهة مع نصوص مترجمة سواء لباشلار أو لدارسيه ويضعنا في عمق السؤال بين العلم والأدب، وقد تعودنا في كتبنا المدرسية ومؤسساتنا التعليمية الفروق الهائلة بين المجالين، إننا إذن امام إشكالية تروم إلى التحريض لإعادة قراءة باشلار كلية، أي في جمعه بين هذه المفارقات بين العلم والأدب كأننا أمام كوجيطو حالم ضدا على الكوجيوط الديكارتي العاقل.

تطرح «تيريزا كاستيلاو. لاولس» في تقديم هذا الكتاب أسئلة أساسية: (في أي شيء يختلف الحلم عن التفكير؟ هل إعمال الفكر يفترض في لحظة ما انتفاء وإلغاء للحلم؟ متى يقف الحلم، حتى يعمل الفكرعلى إرساء رسومه البيانية؟ هل يمكن للحلم الاشتغال كفكر مع انتفاء نتيجة سلبية ومعكوسة؟) ص 17.

تبدو هذه الأسئلة هي الأسئلة الإشكالية التي يجيب عنها الكتاب سواء في البحث الباشلاري عن تقريب التفكير بالحلم أو وضع الحلم بنية في التفكير، إن الحلم حسب تعبير مقدمة الكتاب (نحلم باللغة ونفكر باللغة) ص 19.

وإذا كانت اللغة مجالاً من العلامات تختبر فيها تعددها شساعة افقها في القصيدة الشعرية، هذه القصيدة التي ستشكل مجالاً خصباً لنظرية الخيال كما اسسها باشلار وطورها فيما بعد أحد تلامذته «جيلبير دوران».

هذه القصيدة التي اعاد الاعتبار لها باشلار بعد ان تم رفضها وإلغاؤها من قيدوم الفلسفة «أفلاطون»، سيعيد باشلار إذن بتنبيه الفلاسفة على قراءة الشعر: «آه! كم يتثقف الفلاسفة إذا هم قبلوا بقراءة الشعراء» كما يقول. إن هذا الاحتفاء بالشعر يعتلي إلى حد تكسير الحدود بين الفلسفة والشعر وهذا ما قاله باشلار في إحدى رسائله للشاعر «لوي غيوم»: (قصيدتك فيها كثير من العمق بحيث أنها تشرف الفلسفة).

يذكرنا هذا بالدراسة الملفتة لنيتشه حين مقاربته للفلسفة اليونانية أي من حيث اعتبار الشذرات الفلسفية التي أنتجها الحكماء الأوائل كما انخرط مؤرخو الفلسفة على تسميتهم مرة بالاسم ذاك أو باسم فلاسفة ما قبل سقراط وهو نوع من الإجحاف في التسمية لذا سيعتبر نيتشه أن عمق الفلسفة مبثوث في نصوص هؤلاء، معتبراً أفلاطون مدمراً للفلسفة لكونه أخرج الفلسفة كما هي معاشة في الحياة إلى فلسفة تدرس في الأكاديمية.

لا عجب إذن أن نقدم باشلار من حيث كونه فيلسوفاً يهتم بالقضايا الكبرى في مجال الابستملوجيا والتفكير العلمي الدقيق في مجال يشتعل فيه الماء وتذوب فيه النار وتروم اللغة إلى رقصة المرايا التي تحمل جسد الشاعر في رقصته الحالمة، سيدرس باشلار إذن مجموعة من الشعراء والكتاب كبودلير وريلكه وغيوم ونيتشه وشوبنهاور وديكارت وبلزاك وشيكسبير وهوغو وإدغاربو وموريس بلونشو.

إن هذا الاحتفاء سيأخذ دلالة قوية من كتاب «حلم اليقظة ص 23» (إن من يعيش للقصيدة، عليه قراءة كل شيء).

ألا يمكن - في نظرنا - أن نعلق هذه القولة على أبواب المدارس والجامعات العربية وفي الصفحات الأولى للجرائد والمجلات لاعتبار بسيط هو أن الشعر كالماء ينساب في كل العناصر الأنطولوجية وفقدانه يعني الموت أو أليس ما يعبر عنه وينظر له باشلار في نظرية الخيال (حلم اليقظة La reverie). أي أن حلم اليقظة هو صورة شعرية تتراءى وتنكتب في صمت الإنسان كنوع من سهو لافت.

(إذا رفعت الأعين عن الكتاب لكي أرى الشمعة فإنني أحلم، عوض أن أدرس. تتموج إذن الساعات في العزلة الساهرة. صورة ساهر عن الشمعة، تكفيني لكي أبداً هذه الحركة المتوجة للأفكار وأحلام اليقظة، ص 36.

تتأسس إذن نظرية الخيال لغاستون باشلار على مفهوم الحلم «La reve» ومفهوم حلم اليقظة «Le reveie» وكأن هذا الأخير طبقة سفلية أدل عمقاً من الحلم ولكنها مع ذلك طبقة تستدعي الانتباه، لذا سيكون الشعر مجالاً خصباً للدراسة وسيكون فضاءً إجرائياً لفكر أزرار بذلة القصيدة بما هي إيحاء وإشغال استعاري ومجازي.

إن القصيدة عنده (بمثابة أفيون أو نبيذ) ص 34. و(الشاعر الجيد هو أن يجعل من هذا الخيال سفراً) ص34. إننا أمام عبور حميمي للشاعر والقصيدة معاً كما هو عبور سفر الدم في الشرايين وعبور نحو الآخر كقارئ يلتهب بشعلة الماء، تلك الشعلة التي تحيل إلى النار كعنصر أنطولوجي يتداخل مع العناصر الأخرى الماء، الهواء والأرض.

La psychanalyse du fev
وفي دراسة مهمة للنار «التحليل النفسي للنار» «La psychanalyse du fev» سنة 1939. سيقدم لنا باشلار تحليلاً علمياً لظاهرة النار قاطعاً بذلك مع التصورات اللاعلمية باعتبارها عوائق للدراسة العلمية وكأنه يرغب في تطهير موضوعة النار من التصورات التي لحقت بها منذ تاريخ ما قبل العلم إلى باشلار، لم يلمس هذاالتطهير التصورات الميتافيزيقية واللاعلمية بل كذلك تصور التحليل النفسي لها لربط النار في تفسير الأحلام بالجنس. إن باشلار - بمقتضى هذا التطهير - قام بثورة معرفية في هذا المجال، ليس لأنه أهم اكتشاف علمي حصل في التاريخ كما يقول «ليفي ستراوس» «Levy strauss». ثورة حددت وبنوع من التجاوز. المكبوتات التي صاحبتها، علماً Bن الكتب يشكل عنصراً أساسياً في المعرفة العلمية. بل كذلك للموانع الاجتماعية والثقافية التي تمنع من الاقتراب من النار وهذا ما تمثله عقدة «بروميثيوس». إن النار هنا حسب باشلار: (النار يمكن ان تحمل تعدداً قيمياً يعطيها هذه القدرة على إظهار القيمة ونقيضها في نفس الان فهي: حميمية وكونية، تضيء وتحرق، موقد وقيامة، علاج وحريق...) ص 88.

ستشكل النار إذن - وإن كانت موضوعاً منسياً في تاريخ العلم حسب باشلار - فيصلاً بين الحلم وحلم اليقظة فالنار في حضرة هذه الأخيرة تشكل (بعد تراجيديا للقدرالإنساني، يتمظهر في عقدة توحد ثلاثة معطيات إنسانية أساسية:

- عشق واحترام النار.
- غريزة الحياة.
- غريزة الموت ص 90.

كم جميل ان نعبر مع باشلار في تأمل ذواتنا مع النار وكم هو مستفز ان تخلق النار في عمقنا العميق والسطحي هذا التنافر الذي تحمله.

سيشكل كتاب «التحليل النفسي للنار» مفتاحاً لدراسة الخيال وسيتم ذلك من خلال أحد تلامذته جيلبير دوران «Gilbert Durand» الذي هيأ أطروحة الدكتوراه «الأبنية الأنتروبولوجية للمتخيل» سنة 1947.

إن جدة باشلار ليست في هذا الكتاب أو كتب أخرى مثل (الماء والأحلام) (شاعرية حلم اليقظة)، (شعلة قنديل) و(شاعرية المكان)...

بل الأسئلة التي دشن بها هذا المجال العلمي الجديد والذي أصبح مجالاً مستحباً لدارسي الشعر وهنا تتمثل هذه القوة بعبارة باشلار الدالة (لن أترك هذه السوربون بقلب مبتهج. لقد وهبت نفسي للتدريس) ص 144.

من هنا نفهم المجموعات العلمية لدارسي باشلار، سواء في البحث عما تركه باشلار أو في تطوير الأسئلة التي طرحها وكأن هcه المجموعات: مركز غاستون باشلار للأبحاث في المتخيل والعقلانية وجمعية أصدقاء غاستون باشلار تبحث بنوع من الترسيخ مطلب باشلار من الفلسفة كنوع من الزواج الكاثوليكي بين العلم والأدب.

يقول باشلار (إن محاور القصيدة والعلم هي أولاً متعارضة. كل ما يمكن أن يطمح إليه الفيلسوف هو جعل القصيدة والعلم متكاملان، وتوحيدهما كمتعارضين محكمين) ص 119.

المصدر : في تكسير الارث الفلسفي باشلار والقصيدة الشعرية 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق