الخميس، 3 يوليو 2014

باشلار و ظاهراتية الصورة الشعرية: فاضل سوداني

بقلم : فاضل سوداني 


الكلمات تحلم وتدعونا لتسميتها
شاعرية احلام اليقظة


كم من الكتب تدعونا إلى إهمالها وتركها غير آسفين في زاوية من البيت ، وأخرى نود رميها في الطريق حرقها ، ولكن قليلة هي الكتب التي توقظ فينا ذاكرة الماضي وتوهج الخيال وديناميكية التفكير والإحساس بكثافة الوجود . ومثلها تكون دائما علاجا روحيا للإنسان.
وفيلسوف مثل غاستون باشلار تناول في جميع كتبه وخاصة في كتابه ( شاعرية أحلام اليقظة ـ علم شاعرية التأملات الشاردة ) واحدة من أهم أسرار كينونة الروح ألا وهي الأحلام والشعر والتخيل الشاعري ودرسها ضمن المنهج الظاهراتي .


فاهتمام باشلار بالصورة الشاعرية متأت من إيمانه بان صورة شاعرية معينة يمكن أن تصبح لنا بداية عالم أو كون جديد تخيله الشاعر في تأملاته النهارية الشعرية الواعية ،وهذا يتطلب تحليلا يساعد على منح الصور الشاعرية
التي خلقها المبدع ، ديناميكيتها أو إذا شئنا ، ديمومتها من التأويل الشعري .


ومن اجل الوصول إلى هذا الهدف يفضل باشلار إتباع المنهج الظاهراتي ( الفينو مينولوجيا ) بسبب أن هدف علم الظاهراتية هو جعل عملية الوعي حاضرة ، وهذا يعني جعلها في حالة توتر إلى أقصى الحدود .. والظاهراتية ترفض أي وصف تجريبي للظواهر ، لان مثل هذا الوصف هو عبودية للموضوع عن طريق فرضه قانون يبقي الذات في وضع استسلامي .


فالظاهراتي يتدخل في وضع الوثائق والأدلة على محور الفهم ، ومنهج الظاهراتية لدى باشلار هو المنهج الذي من خلاله يدرس موضوعة الخيال ، كونه وعي مستقل ( بعد المعايشة ) وبهذا فانه يختلف عن الحلم مثلا . ومهمة الظاهراتية لديه هي قدرتنا على استعادة الاندهاش البريء الذي نشعر به حين تفاجئنا الانطباعات الأولى عند رؤيتنا الى شيء ما يشعرنا بالحنين كعثورنا على عش طائر مثلا.


وإذا كانت الظاهراتية التي أوجدها هوسرل تعني قصدية الوعي الذي يتجه إلى موضوع ، إذ لا وجود لموضوع دون ذات.إلا أن باشلار وخاصة في كتابه  ـ جماليات المكان ـ يتجاوز فكرة ( لا موضوع دون ذات )، ويمنح الذات موضوعها الخاص بها المستقل عن الواقع الخارجي أي أن الموضوع يتحدد من خلال وعينا وإدراكنا ومعايشتنا له ..


بمثل هذا الفهم والتحليل يحاول باشلار ومنذ الصفحات الأولى في كتابه (شاعرية أحلام اليقظة ) أن يقضي على كل التباس عندما يتقمص دور القارئ ويطرح تساؤلاته حول هدفيه الربط بين الظاهراتية كمنهج فلسفي ، لبحث في جوهره يدرس التأمل الشاعر، وبين أحلام اليقظة التي ترتكز على تأملات شعرية ووعي الشاعر . فالفيلسوف الظاهراتي يطرح شكوكه كعادة الفلاسفة في جدوى عرض المبادئ الظاهراتية من خلال مادة ترتكز على الصور في حين يمكن اللجوء إلى علم النفس الذي يصف ما يلاحظه من الظواهر . وتأكيد باشلار بان الفيلسوف الظاهراتي لا يمكن إن يتحول إلى عالم للنفس ، وخاصة في بحث يهدف إلى إعادة تحليل الصور الشاعرية برؤيا وفهم جديدين كما يبغي الفيلسوف أو الناقد الحاذق.ومن هذا المنطلق يمتلك المنهج الظاهراتي في إعادة تحليل الصور أهمية قصوى.
إذن ما هي هذه الصور والتأملات الشاعرية التي يتطلبها المنهج الظاهراتي حتى يمكنها إن تؤثر فينا ؟


ـ أن تكون الصور أصلية orginal وغير مكررة تحمل براءتها وتفردها ولم تتحول إلى كليشة مملة.


ـ إدراك كينونة الصورة الشاعرية باعتبارها تمتلك كينونتها الأصيلة و الخاصة والسابقة وبعيدة عن تأثيرنا . 


إن أهمية الرجوع إلى الأصل النفساني للصورة الشاعرية يكون من الصعوبة بمكان إذا لم نستطع إيجاد أصالة في التقلبات الكامنة في النماذج المثالية الأكثر تجذراً وتعميقاً للناحية النفسانية للاندهاش انطلاقا من قواعد الظاهراتية .
والميزة الخاصة بأي جديد هي مضاعفة غبطة ( لذة ) الاندهاش والإثارة .. وما يضيفه باشلار على الغبطة هذه ، هو أن الشعر إضافة إلى كونه يثير الاندهاش فإن هنالك غبطة الكلام ومتعة القراءة التي تجعل الإنسان متأملا في وجود لا متناهي . إذن ما هي كينونة الكلمة التي تمس أو تغير جذريا من وجوده ؟.

الكلمة فجر وملجئ أمين 


تضفي الصور الشاعرية ككينونة لغوية نورا على الوعي وملاذا له ، ومن هنا يكون من غير المجدي أن نبحث عن سوابق لاواعية لهذا الوعي ، بمعنى تناول الصورة الشاعرية في كينونتها الخاصة منقطعة عن أي كينونة سابقة .


ومن خلال تحليل صيرورة وعي اللغة في القصائد الشعرية ، فإننا نصل إلى اللغة الجديدة ، أي تلك اللغة التي لا تكتفي بالتعبير عن الأحاسيس والأفكار ، بل تحاول أن تخلق مستقبلها ، ولهذا فان أصالة وانتقاء الصورة الشاعرية الجديدة تحفز مستقبل اللغة .
وبفضل المنهج الظاهراتي لتحليل الصور الشاعرية يمكننا أن نستوعب تلك الصور الشاعرية التي تبدو غريبة عن واقعنا والتي يفرضها الشاعر علينا كونها صور لتأملاته الشعرية الشاردة منبثقة من ذاتها ، حاضرة لذاتها ، وحاضرة فينا كإشارة ضوئية منزوعة عن كل الماضي الشارد الذي ربما سبب استحضارها وتشكيلها في روح الشاعر بدون الولوج في جزئيات تاريخ حياته ومكوناته الذاتية الأخرى .


ومن اجل أن تكون مشاركتنا وتفاعلنا في صيرورة التخيل الخلاق عميقة، يجب ألا يكون انبهارنا ـ من الصور الشعرية التي لم ندركها ولم نتخيلها سابقا ـ ذات طبيعة استسلامية، لذلك فان ظاهرية الصورة تتطلب منا تكثيف ووضوح المشاركة في التحليل الخلاق.
وبما إن هدف الظاهراتي هو جعل عملية الوعي حاضرة ، إذن لا يوجد ما يسمى بظاهرية الاستسلام فيما يتعلق بالتخيل ، أي أن يكون المتلقي سلبيا. وكما يؤكد باشلار ( بان الصور تثير فينا الاندهاش ولكن إذا عشنا هذا باستسلامية ، تكون مشاركتنا في صيرورة التحليل الخلاق غير عميقة . فعمل علماء النفس يقدم بدون شك وثائق "عن حالة الإنسان " ، بيد أن الظاهراتي ، عليه أن يتدخل لوضع هذه الوثائق على محور الفهم ) .


ويعتقد باشلار بان كل وعي بشيء ، ما هو إلا نمو للوعي وإضافة جديدة لتقوية التماسك الإنساني ، إذن في كل وعي بالشيء يوجد تراكم نمو لكينونة الإنسان ، وان هذا الوعي هو عمل يظهر في اللغة الشعرية ، فإضافة كلمات جديدة على اللغة هو نشاط ينمو فيه وعي التكلم . إن علم ظاهراتية التخيل حريص على إعادة ثبات و تأكيد ديناميكية التخيل من جديد .
جماليات المكان


وعادة فان الوعي الذي يحلم أو ينام لا يعد وعيا ولهذا فان باشلار يختار الزاوية الأهم التي من خلالها يمكن دراسة التأملات الشاردة مادام يستخدم القوانين الظاهراتية . إن هذه الزاوية لا تهتم بجميع أنواع التأملات وإنما فقط التأملات الشاعرية ، فمن خلالها فقط يمكن تحقيق تطور في كينونة الوعي بسب كون هذه التأملات تكتب وتتحول إلى إبداع شعري . وبما أن الورقة البيضاء هي كون هائل فان التأملات الشاعرية هي القادرة على أن تتجسد كصور ، ويستطيع الشاعر سماع أصوات الكلام المكتوب وتلك الصور الشعرية ، وهذه الأخيرة بالذات هي التي تخلق الانبهار الفينومينولوجي ( الظاهراتي )، وبمعنى أن وجود الصورة الشعرية يكمن في الترددات التي من خلالها تكتسب الصورة الشعرية صوتية الوجود ، فالشعراء يتحدثون دائما وهم على عتبة الوجود ، ومن اجل أن نحدد وجود ( كينونة الصورة ) علينا أن نعيش ذبذباتها أو تردداتها ( انظر مقدمة كتاب جماليات المكان ) .


وإذا امتلكنا القدرة على إعادة سرد الحلم بعد الاستيقاظ ، فإننا لا يمكن أن نفعل هذا مع التأملات الشاردة وبالذات الشعرية منها ، بمعنى إن مثل هذه التأملات يجب أن تكتب ولا تسرد . ولا يمكن أن تكتب إذا لم نعيد تخيلها ونعيشها من جديد بنفس بكوريتها وحرارتها وبنفس الاندهاش والانفعال الأول وبهذا يكمن تأثير ظاهراتية الصور الخلاقة أي تأثيرها في إعادة عمل اللغة الشاعرية حتى عند القارئ ( وكأن القصيدة بغزارتها وغِِناها توقظ أعماقا جديدة في دواخلنا .... إن الترددات تخلق يقظة حقيقية للإبداع الشعري حتى في روح القارئ عندما يحاول ترجيع صورة شعرية واحدة. ومن خلال تفردها و بكوريتها ، تدفع الصورة الشعرية آلية اللغة إلى الحركة . إن الصورة الشعرية تضعنا على باب مصدر الوجود الناطق )


وإذا لمست الصورة الشعرية أعماق الإنسان ، فهذا يؤثر على التجربة البسيطة للقراءة ، لان الصورة الممنوحة لنا من خلال قراءة القصيدة ، تصبح ملكنا فعلا إذ تتجذر في دواخلنا . وفي هذا الصدد فان باشلار يكتب في كتابه جماليات المكان بأن ( إنسان آخر هو الذي منحني هذه الصورة ، ولكنني اشعر انه كان بإمكاني أن أخلقها أنا ، بل كان علي أن اخلقها بالفعل ، إن الصورة تصبح وجودا جديدا في لغتي ، وتعبر عني بإحالتي إلى ما تعبِـر عنه ، هنا يخلق مثل هذا التعبير الوجود ) .


وفي الحقيقة فان هذا يشكل الانطولوجيا التي تحكم تفكير باشلار في التحليل وطبيعة الصورة الشعرية الخلاقة والخيال الشعري . وان هذه الانطولوجيا هي لوجوس ( LOGOS ). فباشلار يعتبر كل ماهو إنساني في الإنسان هو لوجوس
( الذي يدعوه هيجل بالعقل الكوني ) . ولهذا فان الصورة الشعرية المنبثقة من (اللوجوس ) مجددة للإنسان .


ولكن إذا كان علماء النفس يعتبرون التأملات أحلام غامضة دون الغاز ، فان باشلار يعتبرها أحلام ليلية منسية في النهار ، تكون واعية وديناميكية ولا تصاب بالخمول والكسل . وبهذا بالذات وبفضل الظاهراتية ( الفينومينولوجيا ) يمكن التميز بين الحلم والتأملات الشاردة ، والذي يشكل المؤثر الحاسم هو تدخل الوعي . فمن الضروري أن نبحث عن الحلم في التأملات الشاردة بدلا من أن نبحث عن التأملات الشاردة في الحلم، لان هذه التأملات هي راحة للكينونة.

الحلم الواعي

إضافة إلى هذا فان الحالم الواعي يدخل في جوهر السعادة روحا وجسدا .
لكن من يمنحنا السعادة ، أو من يكّون سعادة الأنا ؟ .إن كل شيء يصبح جميلا بفضل التأملات الشاعرية الشاردة والتي هي تأملات كونية وهي انفتاح على عوالم أخرى أكثر جمالا وهي تعطيني تلك ( ألا أنا ) التي املكها ،وفي هذه بالذات تكمن سعادة ( الأنا ) ، أنها تسعد الحالم .إنها (( ملكيتي ، تساعدني على أن أعيش ثقتي ككائن في العالم فبمواجهة عالم حقيقي يمكننا اكتشاف كينونة (الهم ) في دواخلنا )) والشعراء يعرفون لذة التأملات الشاردة هذه .


وبما إن المخيلة قادرة على (أن تجعلنا نخلق ما نرى ) فان الشعر بالنسبة إلى باشلار يقدم وثائق لعلم ظاهراتية الروح لأنها تمتزج مع عالم الشاعر الشاعري،الذي يفرض أن تُدّرس لغة الشعراء مباشرة كما تُدَرّس لغة الروح.
إذن ما يؤكد عليه باشلار هو " كوجيتو الحالم " ، وهي إطلاقية ضرورية ، من خلالها كشف عن عوالم جديدة للشعر الخلاق ، فيتحول لديه الكوجيتو الديكارتي
( أنا أفكر إذاً أنا موجود )إلى أنا أحلم إذاً أنا موجود، ولكن بعيدا عن حلم الليل، لان هذا الحلم هو حياة سلبية للحالم، أي انه حلم بدون حالم، بمعنى إن
( أنا )أخرى أو أكثر هي التي تحلم. بعكس التأملات الشاردة والشعرية منها بالذات فإنها تحتفظ بدرجة كافية من الوعي . بمعنى إنني ( أنا ) الذي احلم وأتأمل واحدد تأملاتي الشاردة بوعي النهاري ، أي إنني أتدخل بخلق كينونتها .
وفي فصل من الجحيم يفاجئنا رامبو ( فكنت اهوي في غفوات تدوم أياما ، فإذا ما استيقظت ، لم تنقطع أحلامي البالغة التعاسة ) وبالتأكيد فانه لم يتحدث عن أحلام الليل ، وإنما عن أحلام اليقظة الشاردة وبالذات عن شاعريتها مادام انه قادر على كتابتها وتدوينها ، وهو كذلك لان الشاعر يفكر بحرية ، لذا فان جوهره كشاعر هو تكثيف الوجود . إذ أن الشعر يتوهج في تلامس الأزمنة لينتج زمنا شعريا إبداعيا جديداً .
وفي الختام نكتشف من خلال انطولوجيا تفكير باشلار بأنه عقل حيوي وديناميكي متوهج بالصور والشعر الذي هو نتاج الذاكرة والمخيلة وكوجيتو الحالم والتأملات الشاردة التي يتحكم الشاعر أو المبدع عموما بها بوعي خلاق ،لأن الحال كما يقول هيدجر( وما تبقى يصنعه الشعراء).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ غاستون باشلار . شاعرية أحلام اليقظة ـ علم شاعرية التأملات الشاردة ، ترجمة جورج سعد ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر . بيروت .
ـ غاستون باشلار، جماليات المكان ،ترجمة غالب هلسا ، المؤسسة الجامعيةللدراسات بيروت1984 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق